ترك ابن زياد سلمى مصلوبة، وهو لا يشك أنها لا تلبث أن تذعن له وتخاف بطشه، فلما عاد إلى الهيكل ورأى بقايا الوثاق ولم يجدها تملكه الذهول والغضب، وأخذ يبحث عنها بين الأساطين في الهيكل وخارجه، وأرسل رجاله يفتشون في كل مكان فلم يقفوا لها على أثر، وما زال في البحث يومين حتى مل، ولامه رفاقه على التأخير والأمر يقتضي سرعة المسير، فحمل أحماله وسار يلتمس الكوفة وهو يلتفت وراءه ولا يكاد يصدق أن سلمى خرجت من يده على هذه الصورة، ولو أطاعه رفاقه لما خرج من تدمر قبل الوقوف على مكان سلمى ولو أدى به ذلك إلى نقض أحجار تلك الخرائب حجرا حجرا.
وكان أهل الكوفة قبل وصوله قد رحبوا بمسلم بن عقيل وبايعه منهم جمع غفير، وضعف أمر الأمويين بها، فذهب عبيد الله بن زياد أولا إلى البصرة فحث أهلها على الطاعة، ثم جاء الكوفة وأهلها قد تشيع أكثرهم للحسين، وأصبحوا ينتظرون قدومه ليبايعوه ويولوه أمره، فلما سمعوا أن يزيد ولى عبيد الله رجوا أن يصل الحسين قبله لتكون الولاية له، ولكن عبيد الله وصل إلى الكوفة قبل الحسين، فدخلها وحده عليه لباس الأمراء، فكان لا يمر بمجلس أو جماعة إلا ظنوه الحسين فيقولون: مرحبا بك يا ابن رسول الله، وهو لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم فساءه ما رآه من ترحابهم بالحسين. حتى وصل إلى دار الإمارة وفيها النعمان بن بشير أميرها السابق، والنعمان يحسبه الحسين فأغلق الباب في وجهه وقال: أنشدك الله ألا تنحيت عني. فوالله ما أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي في قتالك حاجة، فدنا منه وقال له: افتح لا فتحت! فلما سمع النعمان صوته عرفه وفتح له، وصعد عبيد الله المنبر وخطب في الناس فقال: «أما بعد فإن أمير المؤمنين ولاني ثغركم ومصركم وفيأكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم كالوالد ولمطيعكم كالأخ الشقيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليبق على نفسه.» ثم نزل وأخذ يعنى بإرهاب أهل الكوفة وردهم إلى الطاعة بما عرف به من الدهاء، وأهل الكوفة ضعفاء سريعو الانقلاب. •••
أما ما كان من سلمى والشيخ فإنهما بعد أن تحققا مسير ابن زياد من تدمر خرجا وسارا يلتمسان الكوفة من طريق غير الذي سلكه هو، وكان سيرهما بطيئا والطريق وعر خطر.
وبعد أيام أشرفا على الكوفة من تل وقد تعبا تعبا عظيما، فاستراحا يوما وسلمى لا تصبر عن النزول إلى الكوفة، فلما عزما على ذلك قال الشيخ: اعلمي يا بنية أني عاهدت الله ألا أقيم بالمدن ولا أسكن العمارة، فانزلي إلى الكوفة وحدك.
فبغتت سلمى وقالت: وكيف العمل يا مولاي؟ وأين أقيم؟
قال: اذهبي إلى هذا البيت في طرف الكوفة، هل ترينه؟
قالت: نعم.
قال: إنه بيت كندية مثلك اسمها طوعة، وكانت جارية للأشعث وأعتقها، ثم تزوجها رجل آخر وولدت منه أولادا اسم أحدهم بلال. هل تذكرينها؟
قالت: نعم أذكر أني رأيتها في أثناء إقامتي بالكوفة، وأظنها تعرفني.
قال: اذهبي وأقيمي عندها، وأنا أتردد إليك في منزلها ونرى ما سيكون.
ناپیژندل شوی مخ