وكان القاوقجي في تلك السنة تلغرافات تنقش على صدور الصحف، وأنباء ثورة على الإنكليز، وبطش باليهود، وبطولات نعتز بها نحن المغتربين، وكان المواطنون في الشرق الأقصى يشربون نخبه في الحانات والمآدب، ويعلقون صوره على حيطان بيوتهم. واحتملت يوما صورة فوزي فوضعتها تحت زجاج طاولتي في مكتبي التجاري، ورحت أحدق بها معجبا وأقول: «سأكتب سيرته في يوم من الأيام.»
وفي يوم من الأيام تطلعت إلى تلك الصورة فانتزعتها ومزقتها، أية سيرة؟ أي قاوقجي؟ ليس في الدنيا مخلوق أخشع أمامه بأن أتحدث عنه، سأكتب السيرة عن رجل أقل شهرة، فيكون لي عزة أني رفعته لا ميضعة أني ارتفعت به.
وحاولت بعد عودتي إلى بيروت أن أكتب سيرة البحار «إبراهيم بلطجي» قبل حادثة «الشمبوليون» بسنوات، فأبدى أحد أولاده شيئا من الخيلاء، فدفنت الفصل الأول بين أوراقي، لعلي أبعثه في المستقبل، وأبعث سيرة البلطجي إن تغلبت على غرور ومشيخات في نفسي لم تمح بكاملها بعد.
وفي إبان حرب فلسطين التقيت بفوزي القاوقجي في أحد مكاتب السراي، وكان هو في ثوب الميدان العسكري، فتكالمنا خلال دقائق عابرة، وراح يخبرني، من غير أن يعرف من أنا، أنباء القتال، وكيف أنه تلقى 14 تلغراف استغاثة من أحد الجيوش، وأية مهزلة هذه أن يستنجد جيش دولة نظامي بجيش عصابات لينقذه من مأزق جبهة لا يستطيع جيش العصابات أن ينفذ إليها. لقد حسبت حينئذ أنها ليست ميزة عسكرية أن يفضي قائد بهذه الأخبار لرجل غريب، ستكتشف في الصفحات المقبلة سر هذا البوح.
وبعد الكارثة في ربيع 1949 عاودني التحرق لكتابة السيرة، وسألت السيد كامل مروة صاحب جريدة «الحياة»، وبينه وبين القاوقجي صداقة، أن يجمعني بفوزي القاوقجي لأدون سيرته؛ فوعد كامل، وأكد لي، مثبطا همتي بقوله إنني لن أقوم بهذا المشروع الكتابي، متهما إياي بالكسل الإنتاجي.
وجاء «مؤتمر خريجي الجامعة الأميركية » في بدء هذا الصيف ، واقترحت تنظيم الكفاح على كل السويات من أجل مقاطعة إسرائيل، ومكافحة جاسوسيتها، متخذا لهذا النضال شعار «كل مواطن خفير»، ولما قطعنا في العمل شوطا اقترحت أن يكون لهذه المنظمة رئيس فخري، ما رأيكم بفوزي القاوقجي؟
فما ثنى كامل مروة على هذا الاقتراح.
وفي أحد اجتماعات «كل مواطن خفير»، جئت على ذكر فوزي القاوقجي من جديد، وبعد الانصراف، فيما نحن ننزل الدرج، اقترب مني «شمس الدين نجم» وسأل: «هل لك أن تعطيني 45 دقيقة من وقتك؟» قلت: «إن وقتي يكال بالأرطال لا بالدقائق.» - إذن فهيا بنا إلى فوزي القاوقجي في «الفيلا» على الشاطئ في «سان ميشال»، وذهبنا.
ها ... و، و، و، و... م!
إذن فكل ما سمعته عنه في هذه السنوات الأخيرة صحيح؛ «فيلا» على شاطئ «سان ميشال»! هنالك بين مقاصير اللذاذات، حيث يقيم الفجور مهرجانات الليالي، وتنتفخ علقات الخيانة بدماء الشعب متدحرجة إلى أعشاش التهتك بالكاديلاكات. على «البلاج» يقيم فوزي القاوقجي سابحا بالويسكي، متنعما بأموال نهبها تحت ستار الجهاد، مختزنا ثروات تتدفق عليه من أمراء الكويت، ومن صفقات تجارة غانمة باسم الوطنية والكفاح، متمرغا «بباشوية» خلعها عليه الملك عبد الله.
ناپیژندل شوی مخ