أكتب ذلك ويدي ترتجف من تذكار تلك الليلة التي أحسبها أسود نقطة في تاريخ حياتي، فتمر حوادثها في ذاكرتي، فيخفق لهولها قلبي وتسري الرعدة في جسدي.
وبعد قليل شعرت بنسيم بارد هب على وجهي، فعلمت أن الباب قد فتح ثم خرج منه أحدهم وعاد فأوصده، ثم تقدم واحد مني وربما ركع بجانبي أو انحنى فوقي؛ لأني شعرت بأنفاسه تمر على خدي، وقرب إلي مصباحا أصابت حرارته وجهي وكأني به يفحص عيني، ثم ابتعد عني ووكزني برجله وأمرني بالوقوف، فتحركت لأتيقن ارتفاع الأيدي عني ونهضت مذعورا، ومن تلك الدقيقة أملت بالحياة ثانية. ثم وضعت يد على كتفي ورفعتني بلطف، وقائل يقول لي: سر مستقيما أربع خطوات. ففعلت، غير أني لم أخط خطوتين حتى لطمت جبهتي بجدار البيت، فعلمت أنها كانت حيلة منهم ليتحققوا بها صدق مدعاي. فلبثت واقفا أنتظر تتمة الأوامر، فسمعت أحدهم يقول: يجب أن تبقى على هذه الحالة إلى أن نستدعيك، وإذا أتيت بأقل حركة أو أملت رأسك نحونا تكون قد سعيت إلى حتفك بظلفك. فارتعدت فرائصي لهذا التهديد ولبثت صاغيا لما يحدث حولي.
فابتدأوا يتهامسون بأصوات منخفضة جدا، حتى إني مع كل ما بذلت من الجهد لاستماعهم لم أفقه حرفا مما فاهوا به. ثم طرق سمعي حركة أجسام عنيفة ووقع أقدام كثيرة وتبعها قلقلة مفاتيح بالأقفال ثم خشخشة ورق ورنة دراهم وبعده تمزيق أثواب. وقد شممت رائحة أوراق محترقة، وبعد قليل شعرت بهبوب نسيم بارد، فعلمت أن الباب قد فتح ثانية، ثم ازدحمت عليه الأقدام وخرج منه أناس كثيرون وكأنهم مثقلون بحمل عظيم.
وبعد أن ساد السكوت في الغرفة، سمعت صوت خطوات خفيفة وتنهد عميق، وكأن شخصا رمى بنفسه إلى كرسي، فعلمت أني لم أكن وحيدا في ذلك المكان، فسألته من دون أن ألتفت نحوه: كم من الزمن سأبقى أسيرا عندكم؟ فسمعته يتململ بكرسيه ولم يجب بكلمة، فأعدت القول: هلا يطلق سراحي قريبا؟ فإني لم أر شيئا مما حدث بينكم، فأستحلفكم بالله أن تخرجوني خارجا خوف أن يداهمني الجنون إذا بقيت على هذه الحالة. فلم أحصل على جواب، فنكصت صاغرا مستعينا بالله على هذه البلية التي جلبتها لنفسي بيدي، وساقني إليها سوء حظي. وبعد برهة أمسك ذراعي بيد قوية قادتني إلى كرسي أمرت بالجلوس عليه فأطعت، ثم قال أحدهم: أخبرنا الآن من أنت؟ ولم أتيت إلى هذا المكان؟
فشرحت لهم أمري دون أن أماطل بحرف سوى أني أخفيت عنهم اسمي الحقيقي خوفا من بث العيون علي بعدئذ، ولم أنه حديثي حتى شعرت بكأس طافحة بمادة سائلة قد وضعت بين أصابعي، وقائل يقول: خذ واشرب. فصرخت: لا، لا أريد، فما هذا إلا سم. فسمعت قهقهة ممن هو قريب مني، ثم قال: اطمئن، فهذا ليس كما توهمت، ولكن هذا - ووخزني بجبهتي بحدة - نوع آخر، فاختر لنفسك ما يحلو. ففضلت شرب ما في الكأس ولو أنه الموت بعينه، وإذ ذاك طرق سمعي صوت آخر يقول: إذا كنت رجلا حكيما فتقول غدا عندما تستيقظ من نوم طويل، لقد رأيت حلما أو كنت سكرانا، وتذكر بأنك لم ترنا، وأما نحن فقد رأيناك. ولم يأت على آخر هذه الكلمات حتى استولى علي نعاس شديد وشعرت بخدر متزايد في أعضائي حتى لم يعد بي قوة لامتلاك نفسي من السقوط، فهوى رأسي على صدري وأوشكت أن أسقط إلى الأرض لو لم تحل دون ذلك يد قوية وضعت على صدري.
وبعد أن مضى علي ردح من الزمن وأنا غائب عن الوجود، استيقظت فوجدت نفسي ملقى على فراش، فجعلت أمر يدي على وجهي متعجبا مما صارت إليه حالتي، ثم استويت جالسا وتأملت مليا بما مر علي من الحوادث، وكدت أقنع نفسي بأني لم أر إلا حلما. ولكني عندما تمددت ثانية وشعرت ما بجسدي من الضعف وبفمي من العطش، أيقنت بحقيقة ما حسبته وهما أو حلما، فوثبت مذعورا وصرخت صرخة اليائس، وقد عاودتني المخاوف، ثم عدت فجلست معتمدا رأسي بين يدي.
وعند ذلك سمعت صوت مربيتي تقول: آه يا عزيزي جلبرت. ثم تبع كلامها صوت رجل بنغمة لطيفة قائلا: لا تجزعي، فسيدك يشفى قريبا، دعني أجس نبضك يا مستر فوكهان.
فقلت: من هذا؟
قال: أنا الطبيب جورج صديقك. - اصدقني القول، هل كنت مريضا؟ وإذا كان كذلك فكم من الزمن صرفت في مرضي؟ - عدة سويعات فلا تجزع، إنما أنت مفتقر إلى الراحة، فاصمت غير مأمور والزم السكينة. فصرخت: الماء، الماء، أدركوني بالماء، فإني أكاد أموت ظمأ.
وبعد أن ارتويت قليلا شعرت بقليل من الراحة، ثم سمعت الطبيب يخاطب مربيتي بقوله: أعدي له قليلا من الشاي، وإذا طلب طعاما فلبيه، أو عرض له ألم فلا تتأخري عن إعلامي. قال ذلك وخرج، فشيعته بريسلا إلى الباب.
ناپیژندل شوی مخ