في الميزان الجديد
في الميزان الجديد
خپرندوی
نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
د ایډیشن شمېره
يناير ٢٠٠٤م
ژانرونه
المقدمة:
منذ عودتي من أوربا أخذت أفكر في الطريقة التي نستطيع بها أن ندخل الأدب العربي المعاصر في تيار الآداب العالمية، وذلك من حيث موضوعاته ووسائله ومنهج دراسته على السواء. ولقد كنت أومن بأن المنهج الفرنسي في معالجة الأدب هو أدق المناهج وأفعلها في النفس. وأساس ذلك المنهج هو ما يسمونه "تفسير النصوص"، فالتعليم في فرنسا يقوم في جميع درجاته على قراءة النصوص المختارة من كبار الكتاب وتفسيرها والتعليق عليها، وفي أثناء ذلك يتناول الأساتذة النظريات العامة والمبادئ الأدبية واللغوية بالعرض عرضا تطبيقيا تؤيده النصوص التي يشرحونها. والجامعات الفرنسية لا تلقى بها محاضرات ولا دروس عن العلوم النظرية التي تتصل بالأدب، فلا نحو ولا بلاغة ولا نقد؛ بل ولا تاريخ أدب فرنسي، وإنما يعالج كل ذلك أثناء شرح النصوص، ومن هنا قلما نجد في اللغة الفرنسية كتابا في النقد الأدبي النظري على نحو ما نجد في اللغة الإنجليزية مثلا.
هذا المنهج التطبيقي هو الذي استقر عليه رأيي، وإن كنت قد نظرت إلى ظروفنا الخاصة وحاجتنا إلى التوجيهات العامة، فحرصت على بسط النظريات العامة خلال التطبيق، كما اعتمدت على الموازنات لإيضاح الفروق التي لا تزال قائمة بين أدبنا وأدب الغرب. وهذا ما أرجو أن يجده القارئ في الجزء الخاص بالأدب المصري المعاصر من هذا الكتاب؛ حيث لم أكتفِ بنقد روايات أو دواوين الحكيم وبشر فارس وعلي محمود طه ومحمود تيمور وطه حسين؛ بل عالجت في كل حديث مسألة عامة كالأساطير واتخاذها مادة للشعر أو القصص، وفن الأسلوب، والأدب الواقعي، ومشاكلة الواقع في القصة، وما إلى ذلك. وفي كل حديث قدرت ما نفعله وما يفعله الأوربيون في غير مجاملة ولا تحامل.
ولقد أثارت تلك المقالات ردودًا وأحاديث، وأحسست أننا سننزلق إلى المناقشات العامة التي يصعب تحديدها في مجال الأدب، فلم أرَ بُدًّا من أن أوضح اتجاهي العام بنقد بعض النصوص نقدا موضوعيا أحاول أن أضع فيه يد القارئ
1 / 5
على ما أحس من مواضع الجمال والقبح، ووقع اختياري على بعض من قصائد وكتابات لأدباء المهجر، وأحسست في أدبهم من الصدق والألفة ما وقع في نفسي موقع الأسرار التي يتهامس بها الناس، وأكبر الظن أن الكذب في التهامس أقل بكثير منه في الجهر، ولربما كانت هذه الحقيقة النفسية هي السبب الأول في تسميتي لهذا الأدب بالمهموس. ولقد تساءل نفر من الأدباء عن سر إعجابي بهذا الأدب وافترضوا الفروض التي قد يقبل الذوق الأخلاقي السليم بعضها، بينما يأبى البعض الآخر. ولقد سجلت بعضا من أصداء هذه المناقشات في ذلك الجزء من الكتاب؛ وذلك لما نفثت فيها من حرارة الإيمان، ثم لأنها تتمم آرائي وتوضحها بما تعالج من مسائل عامة.
وفي أثناء دراستي لتلك النصوص التي تحدثت عنها وعن غيرها مما تناولت -بحكم عملي في الجامعة كمدرس للآداب- أخذ يتكون في نفسي منهج عام للنقد، ولقد ركزت هذا المنهج في جزأين من هذا الكتاب يجدهما القارئ في الفهرست تحت عنواني: مناهج النقد -تطبيقها على أبي العلاء المعرفة والنقد- المنهج الفقهي، وباستطاعة القارئ أن يلاحظ أنه منهج ذوقي تأثري وذلك على تحديد لمعاني تلك الألفاظ. فالذوق ليس معناه النزوات التحكمية، وجانب كبير منه -كما وضحت في مقالي عن الأدب ومناهج النقد- ما هو إلا رواسب عقلية وشعورية نستطيع إبرازها إلى الضوء وتعليلها، وبذلك يصبح الذوق وسيلة مشروعة من وسائل المعرفة التي تصح لدى الغير، وإن كنت لا أنكر أنه سبقني إلى تقرير ذلك كبار نقاد العرب أنفسهم كالآمدي والجرجاني على نحو ما يرى القارئ في مقالاتي عن المعرفة والنقد، ثم إنني وإن كنت أومن بأنه ليست هناك معرفة تغني عن الذوق التأثري إلا أنني مع ذلك أحرص على أن يكون الذوق مستنيرا وفي هذا المجال -مجال الاستنارة- أميز بين نوعين من المعرفة. فهناك المعرفة الأدبية اللغوية وهذه هي الأساس، فقراءة مؤلفات كبار الشعراء والكُتَّاب هي السبيل إلى تكوين ملكة الأدب في النفوس، وليست هناك سبيل غيرها، وذلك على أن تكون قراءة درس وفهم وتذوق، وأما ما دون ذلك من أنواع المعرفة كالدراسات النفسية والاجتماعية والأخلاقية والتاريخية وما إليها، فهي وإن كانت عظيمة الفائدة في تثقيف الأديب ثقافة عامة وتوسيع آفاقه، إلا أنني لا أريد أن تطغى على دراستنا للأدب كفن لغوي، وأنا مؤمن بأنه من الواجب أن يستقل الأدب بمنهجه عن غيره من العلوم، وأنه
1 / 6
من الخطر أن يطبق عليه منهج أي علم آخر أو أن يأخذ بالنظريات الشكلية التي يقول بها العلماء في الميادين الأخرى.
ولقد حرصت على أن أورد في الجزأين الآخرين من الكتاب أمثلة لنوعين دقيقين من المعرفة التي تسبق النقد وهما: "أصول النشر" و"أوزان الشعر"، فمن واجب المشتغل بالآداب أن يحيط علما بأمثال هذه المسائل؛ وذلك لأنه إذا كانت دراسة الأدب في نهاية الأمر هي تذوق النصوص فإنه لا غنى لمن يريد ذلك التذوق من أن يتأكد أولا من صحة النص الذي أمامه ومن استقامة وزنه وكيفية تلك الاستقامة إن كان شعرًا.
ولقد نظرت في هذا الكتاب عندما انتهيت منه فأحسست أن فيه ما يكفي القارئ الذي يمعن النظر ليخرج منه بالأصول العامة للأدب ودراسته، ولقد كان في هذا ما شجعني على أن أعود إلى هذه المقالات أعيد قراءتها وتنقيحها والإضافة إليها، وفقا لما تمخضت عنه تجاربي أثناء السنوات الخمس التي قضيتها بمصر، ولقد كانت تلك التغيرات أكثر ما تكون في أقدم المقالات.
ثم إن هناك مسألة نفسية دفعتني أيضا إلى نشر هذا الكتاب، وهي أن قارئ المجلة غير قارئ الكتاب. ولقد كنت مضطرًّا عندما نشرت معظم هذه الأحاديث بـ"الثقافة" و"الرسالة" إلى أن أركز ما أريد قوله حتى أفرغ منه في حدود المقال.
ولهذا سيرى القارئ مشاكل كثيرة عرضت لها جامعا أطرافها في جملة أو بعض جمل، ولي كبير الأمل في أن يقف عندها.
محمد مندور
1 / 7
الأدب المصري المعاصر:
النقد ووظائفه:
الآن وقد نهض جيلنا يحق لنا -بل يجب علينا- أن نحصي التراث لنرى ماذا عمل من يكبرنا سنا، وماذا بقي علينا أن نعمل؛ لنسير على بينة كما ساروا، واثقين من أن مراجعة القيم ورسم النهج وتخطيط الأفق هو دائما من عمل الشباب عند نضجه؛ إذ سرعان ما تسلمنا الحياة بطول معاشرتنا لها إلى المحافظة، اللهم إلا أن نستثني العبقريات الفذة التي تظل شابة أبد السنين. ومن البين أنه لا بد في كل نزعة ثائرة محددة من شيء من السذاجة أو ما يسميه الناس سذاجة، نستطيع معها أن نستخف بالصعوبات، وأن نعمى ولو مؤقتا عما نستهدف له من أخطار، عندما نجاهد في سبيل الحق من بأيديهم القوة والبطش.
والناظر في أدبنا الحديث يلحظ أن الجيل السابق قد نجح في شيء وأخفق في أشياء.
وأكبر ظواهر الإخفاق فيما يبدو هو خضوع ذلك الجيل لضغط الهيئة الاجتماعية، نعم إنني لا أجهل أن امتداد الزمن بالحياة كثيرا ما ينتهي بنا إلى الصلح معها، فالشيوخ عادة أكثر رضا وتفاؤلا من الشبان الساخطين المتشائمين، كما أعلم أن طول التجارب كثيرا ما يبصرنا بحدود للممكنات لم نكن نفطن لضيقها أيام حداثتنا، بل إن كل تجربة عبء يثقل خطانا. وأضيف إلى ذلك أنه قد يكون من الخير لحياتنا الاجتماعية أن ترتد هجماتنا عن بعض المقومات التي في نهوضها ضرورة لاستقامة الأمور واطرادها على نحو يشفع فيه الثبات لما عداه، وبالنفس من اليقظة ما يبصرنا بأن للحياة المادية قسوة كثيرا ما تلين أصلب العزم، وثمة الطموح وإغراء الشهرة وسحر الجاه وشهوة السلطة الزمنية وما إلى ذلك من نزعات، ولكني رغم كل هذا أتساءل: ما بال معظم كتابنا قد انتهوا بالكتابة عن "محمد"؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخر؟ ذلك ما نرجوه. ولكن ثمة أمر لا شك فيه، هو أننا قد وصلنا إلى درجة التزمت. ولكن هالني يوما أن أرى أحد كتابنا المعروفين باتساع الأفق يدعوني إلى أن أسقط من حديث لي بالراديو كلمة "حوريات" ترجمة لعرائس الغابات المعروفة في الأساطير
1 / 8
اليونانية، خوفا من أن يتهمني أحد بالمروق عن الدين لاستعمال لفظة وردت في القرآن، وأنا بصدد الحديث عن خرافات الوثنية اليونانية!!
إذن بقي لنا أن نعود إلى التقاط الأسلحة التي ألقاها سابقونا، وأنا نناضل دون حرية الرأي وكرامة الفكر البشري وتقديس حقوقه غير باغين ولا معتدين.
وكان نجاحهم أوضح ما يكون في المجال الفني؛ إذ استطاعوا أن ينتقلوا بالنثر العربي الحديث -بل بالشعر- في السنوات العشر الأخيرة من اللفظ العقيم إلى التعبير المباشر ومن الصنعة إلى الحياة: "من حديث عيسى بن هشام" إلى "دعاء الكروان". وكان "للديوان" وأمثاله من كتب سابقينا في هذا التطور فضل كبير، ولقد استطاعوا أن ينقلوا معنى الأدب وفن الكتابة، كما يفهمه الأوربيون إلى المتخلفين منا؛ بحيث لم يعد اليوم لأنصار المذهب اللفظي السقيم في بلادنا نفوذ يذكر.
وسار الزمن سيرته فلم نعد نرى "موازين" حتى أصبح النقد، إما سبابا أو إعلانا، فهذا يريد أن يحطم "الأصنام"، والجمهرة العظمى لا هَمَّ لها إلا أن تُرضي هذا أو ذاك بالإعلان عن كتبه إعلانا متنكرا في صيغة النقد الأدبي، وأكبر ظني أن معظم هؤلاء النقاد المحترفين لا يقرءون ما يكتبون عنه فيما عدا العنوان وبعض صفحات.
وليس هذا بالنقد الذي يستطيع الجمهور أن يثق به فيعمد إلى قراءة ما يستحق أن يقرأ أو رؤية ما يجب أن يرى من مسرحيات وأفلام، على نحو ما نرى في المجلات الأوربية التي تحرص -في الباب العام الذي تخصصه للنقد- على الأمانة في هداية الجمهور أمانة مستنيرة صادقة الذوق.
وليس هذا بالنقد الذي يدرس عن قريب ما يريد أن ينقد، فيولد ما فيه من معانٍ يضعها تحت بصر القارئ الذي لا يملك عادة من الوقت ولا من الخبرة ما يستطيع معه أن يستخرج من النص كل ما فيه، بل إن الناقد الحقيقي ليضيف إلى النص الشيء الكثير، يخلقه خلقا بفضل ما في الكتب الجيدة من قدرة على الإيحاء، وهذا من حقه بل من واجبه ما دام لا يتعسف فيخرج المعاني غير مخرجها أو يحملها ما لا تطيق. وفي الحق أن النقد الجيد خلق جديد؛ إذ سيان أن نحس ونفكر ونعبر بمناسبة كتاب أو بمناسبة حادثة أو مشهد إنساني، وكل تفكير لا بد له من مثير.
وليس هذا بالنقد الذي يستطيع أن يساهم في توجيه الأدب وجهة الأمانة العقلية والصدق في العبارة، وما أحوجنا إلى الأمانة والصدق في كل مظاهر نشاطنا المادية والروحية، وهما في مجال الروح ألزم. والأدب فيما أرى أقوى عامل في مراجعة القيم وتفنيد باطلها من صحيحها، والأدب أسلم مناهج حياتنا، وإنه لمن الإجرام أن ننزله منزلة السلع فنجامل هذا الكاتب أو ذاك بأن
1 / 9
نتحدث عن كتابه، كما نعلن عن "صابون النمر" أو "اسبرو الروماتيزم"، وذلك في غير نفع لأحد، فالكاتب نفسه لا يخدعه هذا النفاق، وإلا كان من الغفلة بحيث لا يستحق أن يسمى كاتبا، والجمهور قد طالت خديعته حتى استيقظ ففقد الثقة في الكثير مما يقرأ عن الكتب والكتاب.
وأنا أعلم ما في هذه الصفحات من جهد، ولكني أقدمت لغرضين: أولهما أن أكون هاديا لجمهور القراء، أسبقهم إلى قراءة ما يقع تحت يدي من الكتب. فإن وجدت فيها خيرا أظهرت ذلك الخير، ودعوت غيري إلى مشاطرتي إياه، إن لم أجد حدثت القراء عن تجربتي لعلها تنفع، ولو في تلك الحدود الضيقة التي يفيد الناس من تجارب غيرهم، وثانيهما أن أكون عونا للكاتب الجيد على أن يؤدي رسالته لدى الجمهور، سواء أكان هذا الكاتب ناشئا ينبعث عنه الأمل أم منتهيا قد وفق إلى أن يخلف على رمال الزمن وقع أقدامه.
وإنه ليسرني أن أقود الجمهور خلال ما يكتب أدباؤنا الذين انتهوا إلى أوج المجد، ولكن على شرط ألا يقع هؤلاء الكتاب فريسة لنجاحهم نفسه، فتعقم نفوسهم بالزهو وتفسد أمانة عقولهم، فلا يأخذون أقلامهم بالجهد معتمدين على ما اكتسبوا من مجد أو شهوة، وكم لدينا من كتاب قد أصبحنا نحس أنهم لا يشقون في العناية بما يكتبون، ولا في التفكير فيه؛ لوثوقهم -فيما يظنون- من إقبال الجمهور عليهم، ولو كانت كتابتهم هذرًا وسخافة. وأصحاب المطابع والمجلات يقبلون بلهفة ما يقدمون إليهم؛ إذ يضمنون من ورائه الرواج المادي بفضل حمق الجمهور في تعلقه بالأسماء، أكثر من تعلقه بقيمة ما يقرأ. وفي هذا استخفاف بعقلية القراء اليقظين ذوي النظر السليم، كما أن فيه قضاء مبرما على الكُتَّاب أنفسهم، وخسارة كبيرة تنزل بتراثنا الروحي وثقافتنا الراهنة التي نريد أن نبنيها بناء أصيلا، والتي ما زلنا عند الحجارة الأولى من أساسها. وكتابنا الأفاضل يعلمون حق العلم أن أول واجباتهم إن كانوا حريصين على المجد الحقيقي، المجد الذي يفلت من طوفان الزمن، المجد الباقي لا تهريج الجماهير -هو أن يأخذوا أنفسهم بالجهد المتصل والمراقبة المستمرة والقسوة اليقظة في المقال وفي الكتاب؛ بل في الحديث إلى الناس مجرد حديث يتبدد أنفاسا، فالتفكير أمر شاق والعبارة عنه أشق.
فليحذورا إذن أنفسهم وليحذورا النجاح.
وثمة مشكلة السينما والراديو والمجلات والجرائد، والذي لا شك فيه أن هذه
1 / 10
الوسائل قد احتلت في حياتنا -بل حياة كل الشعوب- مكانا لا يدانيه مكان الكتاب. والأمر في بلادنا أوضح؛ إذ نرى الإقبال على المشاهدة والاستماع أكبر من الإقبال على القراءة، وذلك بحكم قانون أقل الجهود الذي يسيطر على حياة الكسالى من أمثالنا أشد سيطرة. والقراءة على قلتها لا تكاد تمتد إلى الكتب القوية، بل تقتصر على الجرائد والمجلات التافهة، وهذه حالة محزنة يجب التماس علاج لها، وأنا لا أشك في أن للمسألة الاقتصادية وفقر الناس دخلًا في هذه الظاهرة، ولكني أعتقد أن هناك ما يمكن عمله من الناحية الثقافية أيضا، وذلك بكسب النقد لثقة الجمهور ثم دعوته إلى القراءة، ففيها ما يرفع القلوب ويهذب الإحساسات وينير العقول ويربي الخلق، بل فيها ما يجدد الحياة ويذهب بمللها.
وأمر السينما والمسرح والراديو والكثير من المجلات متروك بين أيد أخشى ألا تستطيع أداء رسالتها، بل إنها قد لا تعرف أن لها رسالة، وهذا إجرام في حق الشعب وحق الوطن؛ ولهذا يجب أن يُعْنَى بها النقاد، فهي وإن تكن أشياء فانية عابرة محدودة الأثر في تثقيف الشعوب ثقافة حقيقية، إلا أنها واسعة الانتشار شديدة الضرر، وليس من شك في أنه من الواجب أن نساهم في تجميل حياة مواطنينا وحمايتها والدفاع عنها إلى جانب ما نستطيع أن نكتب لأنفسنا أو للخواص من الناس.
وبعد فقد حقق الجيل السابق ما استطاع تحقيقه، وها نحن بدورنا نسعى إلى أن نخطو الخطوة الأخيرة ليدخل الأدب المصري المعاصر والتفكير المصري المعاصر في التيار الإنساني العام.
وسبيل ذلك هو بلا ريب الإخلاص لأنفسنا، فلكل نفس فيما أعتقد أصالتها، ولعل في النقد ما يساعد تلك النفوس على إدراك ما تمتاز به من عناصر تنميها فتُؤتي ثمارها.
وأكبر نقص في أدبنا -على ما أعتقد- وهو بعده عن الألفة Intimacy فهو قلما يهمس. وهل لذلك من سبب غير ضعف الإخلاص فيه وغلبة المهارة عليه، سواء في الصياغة أم في التفكير.
كثير من كتابنا في حاجة إلى التواضع بل إلى السذاجة؛ ليأتي أدبهم مهموسا على نحو ما أتت معظم الآداب الخالدة.
هذا، وكثير من كتابنا على الدولة أن تنجو بهم من ضرورات الحياة؛ لكي يحسوا لأنفسهم ويفكروا لأنفسهم في هدوء واستجمام، وعندئذ سنجد أنفسنا فيما يكتبون.
1 / 11
بجاليون والأساطير في الأدب
...
بجماليون والأساطير في الأدب:
وأخيرًا أخذت الأساطير تشق سبيلها إلينا حتى رأينا كاتبا كالدكتور طه حسين يكتب في روايته "أديب": "لقد ماتت قناتنا أيها الصديق! مات ودفن فيها أو صرف عنها ذلك الإله الشاب من آلهة الأساطير الذي كان ينطلق فيها فرحا هادئا وادعا مستبشرا، يرسل البشر من حوله، جميلا ينثر الجمال عن جانبيه، مات هذا الإله الشاب فدفن في مجراه، أو طرد هذا الإله ورد عن مجراه، وفني في الإبراهيمية فأصبح ماء من الماء، وجرى لا يتميز عن غيره، لا يعرفه أحد ولا يعرف هو أحد، لا يثير في نفوس الناس حزنا ولا فرحا، ولا تجري ألسنتهم بالحديث عنه، نسيه الناس ونسي هو الناس، بل نسي نفسه أيضا، إنك لتعرف أن آلهة الأساطير لا حياة لهم إلا إذا أقيمت لهم المعابد وأقاموا هم المعابد، فإذا هدمت معابدهم فقد ماتوا أو طردوا من الأرض طردا. فقد هدم معبد هذا الإله الشاب وماتت القناة، فمات هو أو نفي من الأرض وأصبح حديثا كغيره من الآلهة الذين أصبحوا أحاديث".
ولو أنك بحثت عما خلف هذه الفقرة الطويلة من معنى لم تجد غير خبر يلقي به مواطن إلى مواطنه، فالأديب الذي نشأ في نفس القرية التي نشأ فيها طه حسين قد عاد إلى بلدته فوجد أن ترعتهم قد ردمت بعد أن كانت تنساب من الإبراهيمية إلى القرية، وحزن الأديب لزوالها أو قل حزن طه حسين الذي دل في موضع مما كتب على إلفه للأمكنة وإحساسه بها إحساسا مرهفا، واحتال الكاتب على شفاء نفسه مما تجد، فلجأ إلى الأساطير اليونانية التي خلعت على الأشياء صفات الإنسان أو صفات الآلهة. والأمر بعد سيان؛ إذ إن آلهة اليونان قد خلقهم هذا الشعب على شاكلة البشر. وعلى نحو ما جعل هوميروس من نهر الاسكامندر في الإلياذة إلها يصارع البطل "أخيل"، ترى طه حسين يجعل من قناة بلدتهم إلها شابا سرعان ما ينسى وينسينا أنه أسطورة أو إله خرافة، وإذا بالإله شاب إنسي يموت ويدفن في القناة أو على الأصح يفنى بفنائها، وإذا بالكاتب يمزج بين حياة هذا الشاب وحياة من حوله، وينفث فيه فيضا من العاطفة قد بلغ من
1 / 12
التأثير في نفس القارئ مبلغا، ما كانت الألفاظ -مهما رقت- بمستطيعة أن تصل إليه بغير هذا التشخيص.
وها نحن نرى اليوم الأستاذ توفيق الحكيم يتناول أسطورة "بجماليون" اليونانية الأصل ليتخذ منها وسيلة لعلاج مشكلة نحس أنها تعني الكاتب، مشكلة الحياة التي لا يجد الفنان سبيلا إلى الصدوف عنها، مهما أصاب من نجاح، هي أبدا تلاحقه وتقتضيه حقوقها؛ وإلى هذا فطن اليونان فجرت أحدى أساطيرهم بأنه قد كان في جزيرة كريت فنان بارع عقد عزمه على ألا يتزوج ليوفر حياته على الفن، أو لأنه قد نفر من مظاهر استهتار النساء، كما رآهن بأعياد فينوس إله الحب، تلك الأعياد الصاخبة التي كانت تقام بمدينة "أماتونتوس" على الساحل الجنوبي للجزيرة؛ حيث كان معبد تلك الآلهة. وغضبت فينوس من كبريائه فألقت بقلبه حب تمثال عاجي من صنعه، اسمه "جالاتيه" واشتعلت بحواس الفنان المسكين رغبات الحياة، فضرع إلى الآلهة أن تنفث الروح بالتمثال. ورق قلب الآلهة لضراعته فاستجابت. وتزوج بجماليون من جالاتيه وكان له منها ولد هو "بافوس" مؤسس مدينة "بافوس" مدينة الحب الشهيرة بجزيرة كريت.
وشاء شيطان "الحكيم" أن يجسم جانبي النزاع في نفسه. فلجأ إلى أسطورة يونانية أخرى هي أسطورة "نرسيس" أي النرجس. وذلك أن خيال اليونان رأى النجرس ينمو دائما على شواطئ الغدران فاخترع له أسطورة. قالوا: إن النرجس كان في الأصل شابا جميلا يعرف أنه جميل، وكان يطيل النظر في مرآة المياه ليتمتع بجماله. فنسخته الآلهة زهرة لا تزال إلى اليوم تنبت على حافة المياه لتطل في صفحتها. وجاء علماء النفس المحدثون فاتخذوا من معنى هذه الأسطورة اسما لمرض نفسي هو غرام الشخص بنفسه على نحو ما يغرم بفتاة. حتى أصبحت تلك "النرجسية" Narcissisme من أبحاث المشتغلين بذلك العلم. ورأي الحكيم أن نرسيس يستطيع أن يرمز إلى تلك النزعة القوية التي تدعوه إلى الحياة وتصرفه عن الفن، فحزم أمره واتخذ من نرسيس حارسا لتمثاله، اتخذ من حياته حارسا لفنه وترك الكاتب لنرسيس الحرية في أن يلهو مع فتاة يونانية عرفت منذ عهد سوفوكليس بالحكمة هي "إيسمين". وكأني بالكاتب لا يخشى على نرسيس منها شيئا، وإنما هي ملهاة، عرضت نفسها على نرسيس فقبلها، وهي لن تؤدي به إلى الطغيان على بجماليون، لن تنصر الحياة على الفن، وفي هذا ما يحزن فلإيسمين في النفس قداسة.
1 / 13
وكم كنت أود لو التمس الحكيم لنرسيسه فتاة أخرى. إيسمن في ذكرياتي هي إيسمين سوفوكليس..إيسمين العزيزة النبيلة. وما أخالها إلا منتقمة لذكراها الخالدة، وقد زجت إلى حيث لا تدرك لوجودها معنى.
ومزج الحكيم بين بجماليون ونرسيس، فالشخصيتان هما الفنان نفسه بجانبيه: جانب الحياة التي يجب أن يأخذ منها بنصيب، كما يأخذ جميع البشر، وجانب الفن الذي يريد الكاتب أن يوفر عليه كل نشاطه، ومن ثم نرى نرسيس يهرب ذات مرة مع جالاتيه نفسها، ولا تجد إيسمين في ذلك غضاضة قوية، ولا يجد بجماليون للغيرة ألما؛ وذلك لأن إيسمين متعة عابرة، ولأن نرسيس هو بجماليون نفسه، فالأمر إذن لا يعدو انتصار الحياة في برهة من أيام الكاتب أو الفنان، وهو بعد انتصار لا يضير الفن، إذا سار الفن مع الحياة سارت جالاتيه مع نرسيس.
وهكذا تعقدت حياة بجماليون بين يدي الحكيم، حتى طال تردده بين الحياة والفن، فآنًا يفرح ويطمئن إلى جالاتيه المرأة، وآنًا يعود فيحن إلى جالاتيه التمثال.
وأما القارئ فيشهد كل ذلك بعقله، وكأن تلك الشخوص أفكار مجردة، هامدة تتحرك لمجرد علاج مشكلة تدور بالعقل.. العقل البارد الذي لا يهز.
وبدأ يتضح اتجاهان في استخدام الأساطير عندنا: فهذا طه حسين يجعل من قناتهم شابا، كان يملأ الدنيا بهجة، ثم يموت الشاب فنحزن لموته؛ وهذا توفيق الحكيم يتخذ من بجماليون ونرسيس وإيسمين رموزا لعلاج إحدى مشاكل حياة الفنان، مشاكله الجسيمة يعالجها على نحو عقلي معقد مبسط.
ولنتمهل قليلا لنرى ماذا فعل كُتَّابنا بالأساطير؟ وماذا فعل كُتاب غيرنا من الشعوب؟ لنرى بوضوح كل ما يمكن كسبه لو أننا استطعنا أن نحسن استخدام ذلك الجانب الإنساني الرائع من خرافات الأولين: يونانيين كانوا أو عربا أو هنودا، ففيها كلها ما يغذي العقل والقلب، ويفتح أمام النشاط ميادين لا حد لغناها. ونحن اليوم على أبواب تطور خطير في حياتنا الروحية والفكرية؛ إذ من كان يظن في أوائل هذا القرن أن كتابنا سيرون في إحدى ترع الصعيد إلها شابا، أو يشقون شاعرا أو كاتبا من شعرائنا أو كتابنا كالأخطل مثلا أو ابن قتبية إلى بجماليون ونرسيس، إلى فن وحياة يرواغان ويتداخلان، وهذا اتجاه يبشر بالخير، خليق بأن يجدد حياتنا، ولكن على شرط أن يكون التجديد إنسانيا عميقا جميلا، وأما
1 / 14
إذا أخذنا بالقشور والهياكل تاركين اللباب والمعاني الدفينة، فسنفقد عندئذ أصالتنا دون أن نستعيض عنها بأصالة أخرى، وإنا لندعو إلى تعميق حياتنا والمد من آفاقها. وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نظن أن تراثنا العربي يكفي اليوم ليغذي نفوسا تعلم وتحس في قرارة الإنسان وفي آيات الطبيعة أو في الصلة بينهما حقائق جميلة، لم يصل إليها التفكير العربي إلا مجزأة مفككة، أو ضائعة في خلال الألفاظ التي طالما أصبحت في أدبنا عبثا يقصد لذاته، وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نرى مضاضة في أن نأخذ عن كبار مفكري الإنسانية وأدبائها دورسا، نشد بها من قدرتنا حتى نستطيع النهوض على أقدامنا والسير مع هؤلاء الرجال جنبا إلى جنب.
وأساس الأخذ عن الغير والإثراء به هو الفهم، الفهم العميق، وكل فهم صحيح تملك للمفهوم، ونحن نستطيع أن نتملك كل ما خلف البشر من تراث روحي، أساطير كانت أم حقائق، على ما في تلك الاصطلاحات من تحكم غير صادق في أغلب الأحيان. فكم من أساطير يصح أن تسمى حقائق! وكم من حقائق تكشف عن أساطير! والأمر بعد سيان، فما نريده هو أن نملك كل ما تصل إليه عقولنا، وسنرى عندئذ كيف ننمي هذه الثروة الروحية، بل إنها ستنمو نموا ذاتيا بما فيها من قوى كامنة، كالمال يولد بعضه بعضا ما خلصت لنا ملكيته.
هذا التملك هو سر ما وصل إليه الكُتَّاب الأوربيون من خلق جديد استقوا مادته من التراث القديم، فاليونان اتخذوا من الأساطير الشعبية التي كانت شائعة في القبائل الأندوأوربية الأولى - مادة لأَجَلِّ وأعمق ما خلف البشر من أدب وتفكير. وخلفهم في ذلك اللاتين ثم الفرنسيون في أدبهم الكلاسيكي. والأمر لا يقف عند الأدب بل يمتد إلى كل الفنون. وفي متاحف العالم أجمع لوحات لا عداد لها وتماثيل نحتت في كل الأزمنة وفي مختلف البلاد بوحي من تلك الأساطير.
وموضع العبرة فيما فعل الكتاب الأوربيون هو نفث الحياة في أساطير الأولين وتقريبها من حياتنا وتسخيرها لفهم الإنسان، فها هو برناردشو يكتب "بجماليون"، ويبلغ حرصه على الحياة ألا يتصور تمثالا من العاج أو المرمر، بل فتاة حية من دم ولحم، بائعة زهور لم تكن حياتها شيئا قبل أن يعثر بها بجماليون، كانت بائسة لا تعرف من الحياة إلا القليل، ولم يكن لها غير تلك النبرة المؤثرة، نبرة كوكني لندن، لهجة الشعب المتواضع، لهجة باعة الأسواق المشردين المنبوذين، عثر بجماليون بالفتاة، ولم يزل يلقنها نغمة الطبقة
1 / 15
الممتازة، ويبصرها بطرق حياتهم، حتى أصبحت متعة للأبصار وبهجة للنفوس. وكان بجماليون لا يحب فيها أول الأمر غير كبرياء الخالق، كبرياء الفنان الذي يحب نفسه فيما يخلق، ولكن نجاح الفتاة وإقبال الرجال عليها لم يلبث أن نفذ إلى غرائز بجماليون كرجل، فأخذ يحب الفتاة لنفسها، يحبها على غير وعي منه حتى كان يوم أدرك فيه مدى هذا الحب، أية حياة تملأ المسرحية؟ وأية إنسانية تجري في نواحيها؟ أي تميز للشخصيات؟ وأية حركة متدفقة في المواقف والأوضاع؟ ثم أية وحدة في البناء؟!
أين كل هذا من الأفكار المجردة؟ وأين كل هذا من مشكلة حياة الفنان المبسطة التي لا نكاد نراها إلا في خطوط هندسية ومقابلات بين الحياة والفن، بين المرأة والتمثال، ومن حولها شخصيات أشبه ما تكون بقطع الشطرنج أو بعرائس الخشب التي تحركها على مسارح الأطفال خيوط تجتمع كلها إلى يد واحدة، هي فكرة الفن والحياة وما بينهما من تعارض لا أكاد أفهمه في فن يسعى إلى خلق الحياة؟! وكيف يخلقها وهو يجهلها؟! يقول ديمهاميل لفتاه: "لا تنسَ أن تعيش. عش أولا. عش بكل قواك ثلاثة أشهر لتكتب ثلاثة أيام، واكتب ثلاثة أيام لتملأ ثلاث صفحات".
وإلى هذا النوع من الأدب الذي تشيع فيه الحياة يتجه إيماني بحيث لا أطمئن إلى الأدب المجرد، أدب الفكرة الذي يصدر عنه الأستاذ الحكيم، فهو أدب سهل.
نعم من السهل أن تتخذ من أشخاص الأساطير رموزا نحركها للتدليل على فكرة ما، وما هذا النوع رواية شيللي عن "بروميثيوس الطليق" ورواية أندريه جيد عن "بروميثيوس غير المحكم الوثاق"، ففي كل منهما علاج لأفكار. عند شيللي صراع بين الخير والشر، بين الآلهة والإنسان. وعند جيد بين الضمير والجسد، بين الهيئة الاجتماعية والإنسان. ولكن ثمة أشياء تشفع لشيللي وجيد. فشيللي شاعر، كتب مسرحيته شعرا وفيها من جلال الصور وندرتها وقوتها وجمالها ما يثير الخيال ويلهب النفس. وجيد مفكر عميق نافذ، رمزيته إشارات دالة وإيحاء بعيد، نلهث في متابعته. والذي لا شك فيه أن إيجاد الشخصيات ونفث الحياة فيها وتركيز طبائع البشريين بين حناياها بما تحمل تلك الطبائع من مصائر وآلام -أمر أشق وأروع وأجمل وأضمن للخلود من العبث بالأفكار، وبخاصة إذا كانت أفكارًا مطروقة قريبة المنال.
وإذا كانت الأديب لا ينجح في أن يثيرني ولا في أن يرسم أمام خيالي نماذج لي ولك، أتعرف فيها على ناحية من حياتي أو اتجاهات نفسي أو موضع من
1 / 16
مواضع قوتها أو ضعفها، فماذا إذن يستطيع حين يتناول إحدى تلك الفكر الملقاة كأعراض بمفترق الطرقات؟
ألا ليت للحكيم قدرة على الانفعال والتأثير؟! ألا ليت له قدرة شاعر كشيللي على اقتناص الصور وإيقاع الشعر، أو قدرة "شو" على نفث الحياة والإمعان في الواقع؟! ألا ليت له قلبا وخيالا يعدلان عقله؟!
ولقد كان الحكيم يستطيع -وقد عز الانفعال وعز الخيال- أن يخفف من طغيان التفكير بشيء من "الهيومر" على نحو ما رأينا أحد كتابنا الموهوبين يسمى عصارة قلبه الساخر "حصاد الهشيم" و"قبض الريح". وأما الحرص على الخلود والجهر بالرغبة فيه والتصبب عرقا في الجري وراءه، فأشبه ما يكون "ببراميل الدناييد" التي لا قاع لها. والخلود كالمرأة الجملية، الخلود كالحياة لا بد من التحفظ معه والبعد عنه وعدم التكالب عليه لنظفر به، وبهذا وحده نستطيع أن نسيطر على ما بأيدينا وأن نقوى على مواجهته في غير ما ضعف ولا تهافت. والسيطرة قوام الخلود. السيطرة على المادة التي نصوغها.
وبعد، فقد كنت أخشى أن تظل مرامي الكاتب مختفية في ضباب الأسطورة وخلف رموزها؛ ولذلك حاولت أن أودي ما أراه واجبا على كل ناقد، فاتجه جهدي إلى تقريبها من القراء وربط الشخصيات بعضها ببعض، وإيضاح المعاني التي قد تفلت من القارئ البادئ.
ولقد تفضل الأستاذ الحكيم فأهداني كتابه، فلم أجد ردا للتحية خيرا من أن أقربه لقرائه الكثيرين المعجبين، وأما ما بسطت من رأي يتجه إلى نوع من الأدب يخالف منحى بجماليون فقد كان الإيمان رائده.
1 / 17
سوء تفاهم وفن الأسلوب:
لعل دراسة الأساليب أشد أبواب النقد تخلفا في أدبنا الحديث. ولعل تأثرنا بالأدب الأوربي كان أضعف في هذا الاتجاه من تأثرنا بالتفكير الأوربي، والذي يبدو لي هو أن هذه الظاهرة كانت من أكبر الأسباب التي عمت معنى الأدب عندنا وأنزلت الاضطراب بمنهجه؛ وذلك لأن الأدب كما قال لانسون: "هو المؤلفات التي تكتب لكافة المثقفين، وتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورا خيالية أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية". فهو إذن غير التفكير الفلسفي، وهو غير التاريخ وغير النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية، وإذا كان النقاد يجمعون على أن محاورات أفلاطون مثلا أو كتب برجسون أو تاريخ فرنسا لمشليه تدخل في الأدب؛ فذلك لأن في "صيغاتها ما يثير صورا خيالية أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية". وهذه حقيقة هامة يجب أن تستقر في نفوسنا حتى لا يذهب جهد أدبائنا فيما لا أدب فيه ولا ضمان معه للخلود. الأدب صياغة.
والناظر في أدبنا الحديث يجد عدة أنواع من الأساليب؛ فثمة أسلوب طه حسين الذي يعرفه الجميع، أسلوب سمح تسلم الصفحة منه عند أول قراءة كل ما تملك، فلا تشعر بالحاجة إلى أن تعود تستوحيها جديدا، ولكنك رغم ذلك تحمد للكاتب يسره، أسلوب واضح الموسيقى، يكشف في سهولة عن أصالته، فيقلده الكثيرون بوعي منهم أو بغير وعي، ولكنه مع ذلك موسيقى نفس. أسلوب عذب.
"إن السعادة لخير ما يحقق مذهب "أنشتين" في النسبية. فكل شيء في الحياة من لذة وألم نسبي.. وليست اللذة والألم يعتمدان على الشيء الخارجي فحسب، بل هما نتيجة تفاعل بين الشيء الخارجي والنفس، ويختلف هذا التفاعل اختلافا كبيرا باختلاف النفوس، فليس الألم من الحر والبرد يعتمد على درجة الحرارة وحدها؛ بل إن صح أن يكون الترمومتر مقياسا لحرارة الجو فلا يصح أن يكون مقياسا لألم النفس من الحر، وليس لهذه الحال ترمومتر مشترك يتساوى فيه
1 / 18
الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص؛ ولذلك ترى من يموت من الحر ومن يموت من الضحك من الحر" "فيض الخاطر ج١ ص٣٤٢، ٣٤٣".
تقرأ هذا الأسطر لأحمد أمين فتخرج منها بفكرة "أن الألم واللذة أمران نسبيان، وأنهما نتيجة لتفاعل بين النفس وما يحيط بها".
ثم تنظر فإذا الكاتب يعرض لك نفس الفكرة بعدة طرق، ويحتال على نقلها إليك بكافة أوجهها فتهم بأن تصيح: وما عملي أنا إذن؟ ولم لا يترك لي حظ تنمية فكرته فأشاركه عمله وأجد من لذة الجهد الشخصي ما يغريني بقراءته؟ لم لا يترك فكرته مركزة فتحتفظ بقدرتها على الإيحاء؟ إننا لا نريد "الفكة" بل نريد "جنيهات صحيحة". وفي هذه التشبيه على ابتذاله ما يوضح حقيقة هذا الأسلوب، فالجمل بسيطة صغيرة ليس فيها من التماسك والتداخل ما يجري في التفكير، وفي العبارة ذلك "السيل الموسيقي" الذي يميز بين الأساليب تبعا لطبيعته، أسلوب يترك القارئ في موقف سلبي؛ لأن الكاتب لم يترك له شيئا، أسلوب جزئيات لا موج فيه، أسلوب واضح، ونحن في حاجة إلى ظلال وأسرار ولو من حين إلى حين، أسلوب تجاور لا بناء، أسلوب تعليمي.
ثم أسلوب الزيات: "نشأ بين لداتة من أطفال القرية، كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام، فكان لا ينفك ضاربا هذا بعصا أو قاذفا ذاك بحجر، أو خاطفا لعبة من بنت أو سارقا شيئا من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجار والمجان. فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم" "الرسالة ٤٦٤".
شيء أشبه ما يكون بأسلوب "المقامات"، وأنا لا أكره المقامات بل أعدها كنزا ثمينا في ترثانا الأدبي لم نعرف بعد كيف نتذوقه، ولكن الزيات لم يقصد إلى كتابة "مقامة" بل مقالة يصور فيها رجلا لقيه فعلا في الحياة، فما هذه الصنعة التي تخرج التصوير من الواقع الحي إلى الأدب المصنوع؟ ومن منا يقرأ جملا كهذه ثم يتصور أو يصل إلى أن يتوهم أن هذا الرجل موجود؟ ولو أن ذلك كان ممكنا لما سأل القراء الزيات عن حقيقة ذلك الرجل، كما رأيناهم يفعلون على صفحات "الرسالة"، وأين هذا من الأسلوب القصصي أو التصويري الذي يجعلك تتوهم الخيال حقيقة أراد المؤلف أم لم يرد؟ ولكم من ورائي قاضاه الناس؛ لأنهم رأوا أنفسهم فيما صور! ولكم من ورائي يصر قراؤه على أنه هو نفسه بطل روايته رغم احتياله عى الواقع وحرصه على تعميته! بل إن من الروائيين الخياليين من يحتال بعدة طرق حتى يعطيك ما
1 / 19
يسمونه بالفرنسية "وهم الحقيقة" L'illusion du reel فما بال الزيات إذن يأبَى إلا أن يفسد بالصنعة نغمات الواقع؟ ثم لم كل هذه "السمترية"؟ وفيمَ اصطناع "البرجل والمسطرة"؟ ومتى كان الأسلوب هندسة من هذا النوع التخطيطي؟ أما من نزوة الشيطان الأدب تكسر هذا الاتساق؟ أما من نفضة قلم تتلف قليلا من هذا الكمال المضني: "زنبور بين النحل أو ثعبان بين الحمام"، "ضاربا هذا بعصا قاذفا ذاك بحجر"، "خاطفا لعبة من بنت أو سارقا شيئا من بيت"، "في خدمة الفجار والمجان، يخدم أولئك بتدبير الجرائم وهؤلاء في إعداد الولائم"، يا لله! ولِمَ لا يخطف لعبة من ولد وهو مجرم كبير؟ ولم لا يسرق من حقل وذلك أيسر من السرقة من بيت؟ وهل هو حقيقة لم يخطف إلا من بنت؟ ولم لا يسرق إلا من بيت؟ أم هو مجرد أدب وصناعة؟ وهو يخدم المجرمين بتدبير الجرائم، ولكن لم لا يخدم المجان بإعداد المقاصف؟! وهل الوليمة أشهى من المقصف أم هي ضرورة السجع؟
أسلوب الزيات المصنوع صنعة محكمة، صنعة كاملة؛ ولكن الصنعة تبعدنا عن الحياة. ولكن الكمال يمل. وهناك في أساليب كبار الكتاب ما يحسبه البلاغيون والنحويون ضعفا وعيبا، ولكنه أمارة الأصالة ودليل الطبع. وإذا كان في جلال أسلوب "شكسبير" أو "فليري" ما يسمونه كسر البناء Rupture de Syntaxe، فكيف لا يطمئن جهد الزيات حتى يقيم الموازين ويقيس المسافات؟!
وبعد فهذه كلها وغيرها أنواع من الأساليب، وأنا وإن كنت أعتقد أن أيا منها لم يبلغ بعدما نرجوه في لغتنا من خلق أساليب تجمع بين الموسيقى والإيحاء والطبيعة، على أن تكون الموسيقى خفيفة دفينة عميقة لا تُحاكى، وأن يكون الإيحاء عن غنى وتركيز لا عن غموض وعجز عن تملك الفكرة، وأن تكون الطبيعية نتيجة لجهد طويل وصناعة مستترة وتثقيف محكم، كالضوء الداخلي يشع دون أن يعشى الأبصار، أو كالرجل اللبق، يعرف كيف يلقي الناس ويحييهم ويحادثهم في يسر، طال إلفه له حتى أصبح كالطبع المفطور -أقول: إنني رغم ذلك مغتبط بوجود هذه الأساليب المختلفة، مؤمن بأن أصحابها قد ساهموا وسيساهمون في تربية أذواق الناشئين ليحققوا ما يمكن أن يكون جيلهم قد عجز عنه، وما قد يعجز عنه جيلنا نحن أيضا؛ لأننا لا نزال حديثي عهد بفن الأساليب، ولا بد لنا من أن نتتلمذ في ذلك زمنا ما لكبار كتاب أوربا الذين لم نأخذ عنهم -كما قلت- سوى التفكير.
وأما الأسلوب الذي لا أستطيع أن أقبله والذي أرجو أن نحيد عنه فهو الأسلوب
1 / 20
الذي يشبه أسلوب بشر فارس في "سوء تفاهم"، وأنا إذ أقول "الأسلوب" أقصد إلى كل هذا النوع من الأدب، وهو بعد أسلوب له نظائره في كل الآداب، ولقد حاربه دائما خير النقاد والكتاب، هو أسلوب الشويعر "تريسوتان" في كوميديا موليير "النساء العالمات" أسلوب المتحذلقات في كوميدياه الأخرى "المتحذلقات المضحكات". وهو قد يسمو قليلا فيصل إلى أسلوب "ماريفو" المسمى "بالماريفوديه" Marivaudage، ولقد يبلغ بأصحابه الغرور أن يسموه "الأسلوب الفني" كما فعل جونكور وأخوه. انظر إلى هذين الأخيرين يقولان في وصف مدام جوفزيه Gervaisais بطلة رواية لهما وهي في مجلس أصدقاء: "هنالك وقد أحسست في دلال بالجهد من حمل رشاقة قدها: أكتاف مضناة ورقبة فرعاء، أخذت تنصت في رفق وبلبها شرود، حتى لكأنه لا ينصت منها غير ابتسامة وجهها إلى ذلك الحديث المهشم الذي كانت تتبادله تلك الحلقة الضيقة التي جلست على مقاعد كستها طنافس صورت عليها فضائل الدين".
لننظر في القصة الأولى من المجموعة، وعنوانها "قصة ستكمل" على نحو ما كتب شوبيرت "سمفونية ناقصة؟؟! " وهي قصة رجل تافه متسكع مغرور، نحس أن الكتاب يسلم له بأنه ملك مسيطر على قلوب النساء! وأنه يستطيع بتصنيع البرود والقسوة والسفسطة أن يسبي الحسان! ثم امرأة يشعرنا بأنها ستخضع لهذا الرجل رغم أنفها؛ لأنه واسع الحيلة خبير بالفتيات! الرجل في عقلية ما يسمونه بالفرنسية "بالجيجولو" والمرأة "عاهرة"، والقصة تبتدئ بالمرآة تنظر فيها المرأة، وكم في المجموعة كلها من مرايا! وعند بطل القصة "أن روح الرجل مصباح كهربي، زره تحت ضغط أصبع المرأة". و"المصباح الكهربي" و"الزر" أشياء حديثة رأيناها جميعا، ولكن ماذا نقول في "البطلة" التي أرسلت خادمها إلى صندوق البريد بأسفل السلم لينظر هل جاءها خطاب من صاحبها العزيز أم لا؟ و"هبط الخادم ومعه قلب هبط ثم صعد الخادم واجما فلم يصعب القلب". أين ذهب؟ ذلك ما لم يحدثنا عنه المؤلف! أهذا هو أسلوب القصة التي هي "حنية من صدر الحياة تنتزع" كما يقول الكاتب نفسه في أحد أحاديثه الذي حرص على أن يصدر كتابه ببعض فقراته بعد أن "نشرته مجلة المكشوف البيروتية" العدد ٢٣٢ - ١٤/ ١١/ ١٩٤١، ونقلت صفوته "المقتطف" عدد فبراير سنة ١٩٤٢، و"الثقافة العدد ١٦٢" ٣/ ٣/ ١٩٤٢، وفي الفرنسية Journal d.Egypte القاهرة ١٤/ ٢/ ١٩٤٢. ما هذا القلب الذي يهبط ثم يجرؤ إلا يعود فيصعد؟ والمؤلف
1 / 21
يستطيع بلا ريب أن يحمل بطله على أن يطلب إلى المرأة أن تكون "برقا يلتوي في سماء مغبرة". وأما أن يلعب بالقلب كرة القدم فهذا ليس أدبا ولا أسلوب أدب.
والقصة الثانية "طبق فول" تبتدئ أيضا بالمرأة، هكذا "كانت المرآة لا يعوزها سوى الصفاء، وفي الأشياء ما يعوزه الأهم. فيعجب كيف يكون؟ إني أعرف برلمانا يفتقر الحين بعد الحين إلى ثقة الأمة". وأنت تعجب لهذه المهارة المسرفة التي تجمع بين صفاء المرآة وثقة الأمة بغير رابطة إلا أن تكون هذه النقط الدقيقة التي وضعها المؤلف بين جملتيه! والمرآة العاشقة توحي إلى المؤلف "بأن الإحساس السخي ولد في زرقة سماء لم يرد وصفها في كتاب، ثم هبط على جناح التفدية حتى سمرة الأرض، فضاع خيره في الأزقة القاتمة والسهول البائرة بين براثن الجشع وقهقهات الاستخفاف". وهذا لا ريب بؤس بشري يدعو إلى الحزن؛ إذ فيه أكبر "استخفاف" بالمعنويات. فقد كنا نقول "السماء الزرقاء" و"الأرض السمراء" فأصبحنا اليوم نسمع "زرقة سماء" و"سمرة الأرض" ولِمَ لا؟ أليس في ذلك تجديد؟ أليس فيه تجريد للصفة وإضافة للموصوف؟ ألم ترَ له شبيها عند الفحول؟ أليس هو "الأسلوب الفني" العزيز المنال؟ ومع ذلك يمجه كل ذوق سليم! ثم إن بطل القصة "يركز أوتاد نهاره في المطعم وينصب خيمة الليل في القهوة" أي إنه "بلغتنا" ينفق نهاره في المطعم وليله في القهوة، ولقد تكون لليل خيمة وإن كنت أظنها أكبر من أن تحويها قهوة وأرفع من أن تطمئن إلى الصخب، وأما "أوتاد النهار" فذلك ما لا علم لي به وإن كنت أعلم أن الخيمة هي التي تحتاج إلى أوتاد.
ومؤلفنا لا يكتفي بالإسراف والتكلف، والجمع بين ما لا صلة بينه، وزج الملاحظات الاجتماعية أو الأخلاقية أو السياسية حيث لا محل لها؛ بل يأبَى إلا أن يعقب على معظم فقراته، مستخرجا العبر النادرة. فبطلة "طبق فول" تلبس "معطفا منزعجا على كتفها وحذاء له كعب، طوله طول أنفها.. التناسب مع شرائط الفتنة"! وهكذا ندرك في الكاتب حرصه على التفاصيل وإقامة النسب بين طول كعب الحذاء وطول أنف امرأته المسكينة! ونحس بسخريته اللطيفة الفنانة تطالعنا من ثنايا تعقيبه الرابع "المنزعج": "التناسب من شرائط الفتنة؟! " ونظر لطيف أفندي إلى المرآة "طبعا؟! " "بمؤخرة عينه يلومها على عكس وجهه وقد تنبه أن الماء لم يحيه بعد" ومعنى الجملة الأخيرة فيما أظن "أنه لم يكن قد غسل وجهه"!
1 / 22
وفي القصة الثالثة "السفينة" يصف المؤلف أثاث حجرة فإذا بها "طنافس، لو قصدت بها إلى أمريكا الشمالية فبعتها لرجعت وفي قبضتك ما يجذب فريقا من نواب أمة راقية" فانظر إلى المرور من الوصف إلى هذه الحقائق السياسية الدفينة، ثم تصور قيمة هذه الطنافس، أليست غالية جدا؟! "وأمينة" بطلة القصة تستند إلى "شطء" النيل: أمينة "نيل آخر" وبودي أو لو جعلها "جدولا"، ليستريح الكاتب فلا يعود يدهش عندما يرى سفينة تسير في النيل ويتساءل: "هل تستأذن الماء في الجريان أو تعتذر إليه عن شقه؟ " وهذه أشياء ما أشك في أنها قد فاتت السفينة، وأملي أن تفوت السفن كلها إلى يوم الدين وألا يلاحظ ذلك أحد!
وقد يغلب الكاتب شعوره الإنساني فيشرك القارئ معه: "أيها القارئ الجوعان مع رقة حال، أنت أدرى بفضل الخبز الكثير" فأي رقة وأية إنسانية وأي فهم لحقائق النفوس! "والبورش" التي هي شربة خضار روسية "حساء تلتقي فيه ألوان البقول بعد تبعثرها في الحقل -تلتقي هالكة في لحد واحد" واللحد هو "القدر" أو "الصحن" الذي تقدم إليك فيه؛ ولكن الصحن البائس أصبح "لحدا" يشعرك ببؤس صاحبه وينشر في الجو تلك الرومانتيكية النادرة المؤثرة!!
والمؤلف يرى رجلا جالسا إلى جواره على مقعد بأحد شوارع باريس أمام مسرح فيخيل إليه "أن يحمله إلى داخل الأوبرا؛ لأن يكون أخف محملا على سمعه وضربانا في قلبه". من أن يثقل على الرجل فيقص عليه مأساته، ثم يرى في الأقصر بائع عقود "في عينيه سلم أضواء من الأبيض حتى الأرجواني، فكأنما طول تحديقه إلى عقوده وهو يزينها للناس ترك في مقلتيه بريق الأحجار، إلا أنه بريق كاذب". فهل رأى أحد بصرا أحَدَّ من هذا البصر الذي يرى سلم أضواء في عيني هذا البائع النصاب؟ وهل نفذ أحد إلى نفسية هؤلاء الباعة نفاذ مؤلفنا الذي ترجم لنا نفاقهم وكذبهم وخداعهم بألوان أعينهم، وفسر وجود كل تلك الألوان بها هذا التفسير الرائع؟!
وأخيرًا، كم جلس مؤلفنا مع صديقه زكي في قهوة "تعدت على استقلال الشارع وليس فيها امرأة"؛ وذلك لأنه قد وضعت بعض كراسيها على الرصيف، وهذا طبعا اعتداء على "استقلال الشاعر"! وما نسمع نحن باعتداء على الاستقلال حتى نغضب وتثور عزتنا القومية، خصوصا وأنه ليس لهذه القهوة المعينة ما يشفع لها وقد خلت من النساء.
وبعد فقد قال الأديب الصادق الذوق المرحوم طه إبراهيم في كتابه القيم
1 / 23
"تاريخ النقد عند العرب" في معرض الحديث عن مذهب أصحاب البديع كأبي تمام ومن نحا نحوه: "إن صاحب البديع يفكر مرتين: مرة للفكرة ومرة لتحويرها والتطلف بها حتى تسكن للبديع. من المعلوم أن الصياغة حركة ذهنية عند الكاتب والشاعر، فإن تعقدت هذه الحركة لم يكن لنا أن ننتظر إلا عبارات معقدة وإلا نفسا فاترا، كلما هم باطراد وقف به الحرص على الزخرف، وحال بينه وبين الجيشان والاسترسال تلمس المحسنات؛ ولذلك فإن التكلف أول ظاهرة في مثل هذا الشعر".
وهذا الحكم دون ما يستحق أسلوب بشر فارس وأدبه؛ وذلك لأنه لا يفكر مرتين فقط بل عشر مرات. والأصالة ليست في الإغراب، ولا في تسمية الأشياء بغير أسمائها، ولا في تضخيم التوافه، ولا في التكلف الثقيل المعيب، وإنما الأصالة في النفس وموسيقاها، الأصلة في الطبع واسترساله، فهل ترانا نؤدي خدمة إلى بشر فارس، عندما نقول له هذه الحقائق التي يجب أن يسمعها من رجل مخلص كان يود أن يستمتع بما في قصصه أمثال "خريف" و"مبروك" من واقعية مؤثرة، وبما في "قيثارة مغترب" من جو شعري نافذ، وأخيرا بما في "رجل" من رمزية موحية.
وموضوع هذه القصة جدير بالنظر لما نحسه جميعا من أن التطلع إلا ما لا قبل لنا به خليق بأن يقتل فينا العنصر الإنساني. نعم كنت أود أن أستمتع بكل ذلك وحاولت أن أستمتع، ولكن التكلف أتلف عليَّ متعتي، التكلف البادئ في كل شيء حتى في عناوين القصص وطريقة كتابتها "بخط المؤلف" ووضع "المشتمل" أي الفهرست"، وحتى في استشهاد الكاتب بنفسه وتقفيته عنوان الكتاب بجملة من روايته "مفترق الطرق" وكتابة عنوان المجموعة باللغتين العربية والفرنسية، ثم في الإهداء إلى "من هذبني فشعرت".
وأخيرا في شرح مذهبه في القصة نقلا عن حديث له أوردنا أسانيده في أمانة كما أوردها المؤلف نفسه. وهذه توافه يجب أن يسمو فوقها الأدب، وأنا لن أمل تكرار ما سبق أن قلته عن وجوب التواضع والإخلاص وصدور الأديب عن طبعه وترك الطنطنة إلى الهمس الصادق، كما أني على ثقة من أنه ستظر عندئذ في أسلوب بشر فارس تلك الموسيقى التي حطمها التكلف واحتباس النفس والانتقال من المحسوس إلى المعنوي انتقالا مصطنعا، كما ستظهر وحدة النسيج ويختفي ما نراه عنده اليوم من تنافر بين الألفاظ المهجورة الثقيلة النغمة، والألفاظ التافهة المبتذلة التي تشبه العامية.
1 / 24