وكان علي خليفة مثالا للرجل العادي الذي لا يخرج عن المألوف، وأنموذجا صادقا للأخلاق المصطلح عليها والعادات والتقاليد التي يجري بها العرف، لا يشذ إلى اليسار ولا يجنح إلى اليمين. وجد كل شيء جاهزا، فهش له وآمن به واتبعه، معتقدا مع المعتقدين، مستحسنا مع المستحسنين، ساخطا مع الساخطين، فإن عرفت جيله فقد عرفته بغير مخالطة، وأن خبرته فقد خبرت جيلا أو - وهو الأقرب إلى الحقيقة - خبرت الشطر الجامد من الجيل الذي يفتحه التاريخ إلى ما وراءه من الأحداث التي تخلق التاريخ. ولما تزوج استولت عليه الحياة الجديدة، واستبدت به، وتكشفت له حقيقته، فإذا به «رجل بيت» بكل معاني الكلمة، فالبيت مأواه ولذته، لا مقهى ولا ملهى ولا سينما ولا حانة ولا أصدقاء ولا هوية ولا أي شيء في الوجود بقادر على أن ينتزعه من أحضان بيته. وحين كان يعيش منفردا مع زوجة كانت حبيبة وأنيسة وجليسة، فلما انبثت ذريته - بنين وبنات - حابية ساعية لاعبة مشرفة على أنحاء البيت، كان له منها الحبيب والهوية والمأوى يسكن إليه.
وكانت الحياة تسير في بادئ الأمر هنيئة جميلة ممتعة، لا يكدر صفوها مكدر، ولا يظلل صفحتها البيضاء ظل من الحزن أو الفكر، ولكنها لم تلبث أن فرضت عليه ضريبتها التي لا تعفي منها أحدا من بني الإنسان، حتى صارت عنوانا عليها ورمزا لها، وباتت الشكوى منها إنكارا للحياة نفسها وجهلا فاضحا بأمرها، فمات أبوه ونما أطفاله صبيانا وغلمانا، وهجروا عشهم سعيا إلى المدارس الأولية والابتدائية ثم الثانوية، وتعددت حوائجهم، وتشعبت مطالبهم وتضاعفت نفقاتهم يوما بعد يوم، فانقلب يسر الحياة عسرا، وراحتها تعبا، وابتسامتها تجهما، وانسابت الهموم إلى كل جانب من قلبه، وطفق يردد لنفسه أن كل شيء يهون إلا أن يشقى أو يشكو هؤلاء الأبناء الأعزة.
وتذكر أن له عمة أرملة غنية تعيش بمفردها في بيت كبير تحت رعاية ممرضة، وكان يتجافاها وينفر منها من طول ما بث أبوه في نفسه، ففكر في أن يقصد إليها مضطرا.
وكانت عمته امرأة في السبعين، مات عنها زوجها - قبل أربعين عاما - وهما في زهرة العمر وميعة الشباب وخلف لها ثروة طائلة وطفلا وحيدا، وقد ترك موت الزوج في نفس المرأة آثارا عميقة مروعة تغلغلت في صميم حياتها، ولم تعف مع كر الأعوام ودوران السنين. وأقبلت على العزاء الوحيد الذي بقي لها في دنياها تمنحه كل ما في قلبها الحنون من عطف وحدب وتضحية، حتى شب طفلا جميلا، ونما شابا رقيقا نحيلا، وبدأت تفكر في أمر زواجه، كي تراه رب أسرة وتسعد بمشاهدة ذريته، إلا أن الأقدار فاجأتها بما لم يقع لها في حسبان، فتردى الابن كما تردى أبوه العزيز من قبل مصدورا ميئوسا منه، وقضى بين السعال من جانبه والتنهد والبكاء من جانبها.
انتهى كل شيء، وأقفرت الدنيا من الأمل والعزاء، وماتت حية، ودفنت مع ولدها الحبيب كل ما ميزها الله به عن الأحجار الجامدة، وصدق عليها كل ما وصفها به أخوها من قبل وما يصفها به ابنه الآن؛ فهي المرأة العجوز القاسية المجنونة التي تكره الخلق وعلى رأسهم أقاربها، وتسيء الظن بكل من يتقرب إليها، وتخال أي زائر طامعا في أموالها، وتقضي حياة الكبر طريحة الفراش مريضة القلب تسهر عليها ممرضة في بيتها المهجور كأنها مومياء في أحد معابد الكرنك الحزينة.
هذه هي عمته التي قصد إليها بعد أن اشتدت وطأة الحاجة عليه، وقد استقبلته استقبالا باردا جافا، فلم يأنس في نفسه الشجاعة أن يفاتحها فيما جاء من أجله، وبرح بيتها أشد بؤسا مما طرقه.
وقلب مسألته على جميع الوجوه فلاح له أن يشتغل بالتجارة وهو حل لا بأس به، ولكنه شديد الخطورة بالنسبة لموظف حكومي. ولكنه لم ييأس واستعان بالكتمان والخفاء وبخبرته التجارية التي اكتسبها في أول عهده بالحياة العملية، فاتجر في العطارة ونجحت تجارته، وأقبلت عليه الحياة رغدة، ولكن حال النجاح لم تدم، فساءت الأمور وركدت السوق النافقة، فجزع واشتد جزعه، ولعبت يداه في الدفاتر بغير الحق، ولم ينفعه تلاعبه شيئا، وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، واضطر - تحت تأثير الخسران - إلى زيارة عمته مرات وفاتحها - على رغم تردده - في طلب المعونة، ولكنها كانت أشد عليه من حظه ومن الأقدار جميعا، فرفضت أن تمد له يدا أو أن تعيره أذنا صاغية. وفي ذلك الوقت بلغت الأمور شدة الفيضان الذي لا يكون وراءه إلا الانفجار والهلاك؛ فالعمة في أشد حالات الشذوذ وسوء الطبع والمرض، وعلي أفندي على شفا جرف هار من الخراب والدمار، والتجار متذمرون جزعون، يطالبون ويلحفون ويطبعون على آذانهم فلا يسمعون، وقد عينوا له أول أبريل كآخر منزع في قوس صبرهم، فإن لم يسدد دينه ويسو حالته أشهر إفلاسه، وليكن ما يكون بعد ذلك من رفته من وظيفته أو إيداعه السجن .. كل هذا ينتظره في أول أبريل! وما بينه وبين أول أبريل إلا أيام معدودات .. وقد نفدت حيلته وسدت في وجهه المنافذ! .. ثم ماذا يكون من أمر هذه الأسرة التي هي ثمرة حياته ومحيا آماله؟! هذه الأسرة التي تعيش سعيدة مطمئنة غافلة عما يهددها من الشقاء والبأساء، اللهم إلا ربتها الصابرة القانتة التي تشارك الزوج أحزانه، وتبادله همومه، وتكتم في قلبها الكبير ما لو أطلقته لأحرق الدنيا بأسرها من شدة ما به من هول، ولأحرق أول ما يحرق هؤلاء الأبناء السعداء الذين يمرحون سادرين كالأفراخ اللاعبة الغافلة عن القط الرابض لها من قريب .. وذكر في شدة حزنه أبناءه، فهرعوا إلى مخيلته في صورة تفيض حياة وجمالا. وكان حسين ومحمد في المدرسة الثانوية فتيين ناميين يحملان طلعة والدهما ورقة أمهما، وهمام وحافظ وياسين في المدرسة الابتدائية وهم حياة البيت يحيا ويمتلئ هرجا ومرجا ما داموا فيه، ويسكن سكون المقابر إذا غابوا عنه، وزينب أو زوزو في المدرسة الأولية هوية الأسرة ولعبتها، صبوحة الوجه، سوداء العينين، مرسلة الشعر، كانت بنتا بين ستة ذكور كالياسمينة وسط باقة من الورد الندي، حبيبة إلى كل قلب، عزيزة على كل نفس، حتى لكأن هذه الأسرة لم يتزاوج فيها الوالدان ويولد الأبناء إلا ليهيئوا المقام لزوزو؛ حيث كانت حسن الختام ونقطة الانسجام.
فماذا يكون من أمر هذه الأسرة من بعده، بعد أن يرفت من وظيفته ويزج به في السجن؟ أواه! دون ذلك ويمكن المستحيل وتقع المعجزات والخوارق!
ولم يجد مناصا من أن يذهب مرة أخرى إلى عمته علها تلين بعد طول التصلب والصلف والقسوة، فسار في طريقه إليها - وكانت تقيم على مدى منه قريب في شارع محمد علي - مهموما متضايقا يعمل ألف حساب لتلك الزيارة الاضطرارية الثقيلة.
يا لله من هذه المرأة! ما لها لا تموت؟ إن حياتها فرض ثقيل عليها وعليه، وإنها كالبنيان المتهدم ينعق فيه ناعق الخراب والمرض. ورغم هذا فذيول الحياة لا تزال متشبثة بها. إن سعادة نفوس عزيزة رهن بموتها فلم يبقي الله عليها؟ والمضحك المؤلم أنها قد تموت فجأة بداء قلبها بعد اليوم الأول من أبريل بساعات معدودات أو بعد القضاء عليه وعلى أسرته القضاء المبرم. وقد ينفذ هذا القضاء العجيب كما ينفذ أمثاله كل يوم وكل حين مما تحتار في تعليله العقول، وقديما وقف موسى الكليم حياله جزعا لا يستطيع معه صبرا! وطرق الباب ودخل حيث قابلته الممرضة بابتسامة صفراء ذات معنى، فسألها: كيف حالها؟
ناپیژندل شوی مخ