لقد كانت تلك الكلمة أليمة موجعة، ولكن ذكراها التي تعاوده الآن أنكى وأمر.
وشعر عند ذلك بغمز موجع في صدره، فاتكأ على يديه الضعيفتين، وهم جالسا في الفراش، وكسر مخدة واستند عليها متنهدا من الأعماق، وبدا كالمستغيث من أفكاره، ولكن ذاكرته لم ترحمه ولم ترق لحاله، فاستحضرت أمام ناظريه حادثة أخرى ليست دون سابقتها بشاعة وقبحا .. وكان ذلك وهو في أوج مجده الحكومي، وكان يترأس حفلة بمدرسة الجيزة الثانوية، فألقى كلمة استقبلت بالتصفيق والتقدير، ووزع الجوائز على المتفوقين، وغادر المنصة مودعا من كبار الموظفين إلى سيارته. وانطلقت به السيارة وقد أخذ الظلام يغشى الطرق والحقول؛ وعند منعطف الطريق انبرى له شاب - ولعله كان تلميذا - وصاح به بأعلى صوته: «كيف تضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب؟» وعرته رجفة شديدة، وتشنج جسمه فلم يلتفت نحو القاذف الخبيث، وشعر بانهيار وتفكك، فتفصد جبينه عرقا باردا، ثم غلى دمه، وعجب كيف ذاعت هذه الجملة الآثمة حتى بلغت هذا الشاب. لقد غدا قصره موردا لفضائح غير مستورة ينهل منها المتطوعون لإذاعة المخازي. على أنه كان في تلك الأيام قويا مستهترا يهضم ضميره القتيل الفضائح بغير مبالاة، فهدأ روعه وقال باستهانة وحنق: قولوا ما يحلو لكم قوله، فسأظل - وأنوفكم في الرغام - السيد المطاع والرئيس المرتجى. أما الآن في ظل النقاء والطهارة فقد امتعض وحزن وشعر بالذكريات تصليه لهيبا جهنميا .. ودخلت عند ذاك أمينة هانم فسألته برقة: «كيف حالك يا باشا؟» ثم جلست على مقعد وثير، فنظر إليها بعينيه الذابلتين نظرة غريبة لم تفهم معناها الحقيقي؛ وعجب الرجل كيف تحافظ على حسنها وشبابها حتى ليخال الناظر إليها أنها في منتصف عمرها، مع أنه لا يكبرها بأكثر من ثمانية أعوام .. ثم قال لنفسه دهشا: «رباه! .. كأني كلما زدت عاما نقصت عاما .. فمتى تذبل وتذوي وتجفل من النظر إلى المرآة؟»
الهذيان
أوشك الفجر أن يطلع، وتصايحت الديكة إيذانا بطلائع النور، فأخلدت الحجرة إلى السكون والصمت، كأنما أسلمها أنين المرض الموجع، وتأوه الإشفاق الأليم إلى الهمود. كانت ترقد على الفراش امرأة شابة يبدو من اصفرار وجهها وذبول خديها وشفتيها وتضعضع كيانها أنها تعاني وبال مرض يهتصر شبابها. وعلى فراش قريب رقد شاب في مقتبل العمر، يثقل جفنيه السهاد، ويأبى القلق أن تلتقي أهدابهما، يطالع وجه المريضة في حزن، ثم يعطف رأسه إلى مهد جديد فيجري الحنان في عينيه الذابلتين، ويتمتم في رجاء صادق: «اللهم صن حياة الأم المسكينة .. وطفلتنا البريئة.» وكان الشاب من ذوي القلوب الرقيقة والنفوس الندية بالرحمة والعطف. وكان على عهد صباه يلذ لرفاقه أن يدعوه رجل البيت؛ لما طبع عليه من النفور من المجتمعات والأندية، والاشتراك في المظاهرات التي تستهوي أفئدة أقرانه، والانجذاب نحو البيت بسبب وبغير سبب، فكان يقضي نهاره في الحديقة يسقي أشجار البرتقال والليمون، أو في السطح بين الدجاج والحمام، فإذا كان الخميس أعطى ذراعه لشقيقته، ومضيا معا إلى السينما .. ولذلك أخذ يفكر في الزواج تفكيرا جديا منذ اليوم الذي عين فيه مهندسا بمصلحة الأشغال العسكرية. وراح يقتصد من مرتبه ما يقوم بنفقات الزواج، من مهر وشبكة وهدايا وفرح كما كان يفعل شباب الجيل الماضي. فلم يكد يمضي عليه عامان خارج المدرسة حتى تزوج، ولم يدهش أحدا أن تنعطف هكذا سريعا إلى الزواج هذه النفس المطمئنة إلى الحياة البيتية منذ نعومة الصبا. ولكنه كان سيئ الحظ؛ فما كاد يستدير عام ويستقبل طفلة حتى أصيبت زوجه بحمى النفاس، فزلزل بيته الهادئ المطمئن وارتجت حياته السعيدة وقد عرف منذ اليوم الأول للمرض ما الخوف وما الإشفاق وما الجزع. واندفع إلى استدعاء أعظم الأخصائيين من الأطباء حملة الباشوية والبيكوية غير مبق على مال أو ضان بثمين، حتى اضطر إلى بيع المذياع وساعته الذهبية، ولو طلب إليه أن ينقل دمه إليها لأداه إلى آخر قطرة .. وبالغ في ذلك فطلب من مصلحته إجازة كي لا يفارق المريضة، وكان يراقب أعين الفاحصين من الأطباء ويسألهم، ويطالع وجه زوجه بعد ساعة، ويسأل العرافين ويزور أضرحة الأولياء ويفسر الأحلام، متلمسا الطمأنينة في مظانها جميعا.
وهل ينسى الليالي التي قضاها مسهدا قلقا لا يغمض له جفن، ينظر ببصر حائر إلى الوجه الشاحب على ضوء المصباح الأحمر الخافت؟ .. وكانت هي مسكينة تستحق الرثاء، تضطرب بين النوم القلق واليقظة الحائرة، وبين النزاع والهذيان، وما هذا الهذيان؟! .. إنه ظاهرة عجيبة تدل على أن الإنسان قد يخون نفسه كما يخون الآخرين. كما يصغي إليها وهي تذكر بلسان متقطع أسماء أناس وأماكن وحوادث كثيرة، وكان شاركها شهود بعضها، فجرى الابتسام على فيه، وترطب التهاب عينيه المحمرتين بنظرة حنان. وفي ذات ليلة سمعها تناديه بصوت واضح قائلة: «صابر»، فهرع إليها متسائلا: «نعيمة .. هل تحتاجين إلى شيء؟» ولكنه أدرك أنه خدع لأنها كانت مغمضة العينين يابسة الفم كما يبدو من ازدراد ريقها بصعوبة، فعلم أنها ماضية في هذيانها الذي لا ينتهي، فعاد إلى سريره، وما كاد يرقد مرة أخرى حتى سمعها تقول وكأنها تحادثه: «صابر .. أنا متألمة خجلة.» فهز رأسه المثقل المتعب، وقال لنفسه: «أنت متألمة بغير شك. أعانك الله على ما أنت فيه. ولكن مم تخجلين! إن هذا الابتلاء لا يخجل أحدا وإن كان يحزننا جميعا.» وظن أنها تألم لما يتكلفه من حولها من العناء والسهر، فرمقها بنظرة حنان ورجا أن يكون هذا الشعور من آي اليقظة والشفاء. واستدركت المرأة تقول: «زوجي أحسن الأزواج، أما أنا فشقية. لست أهلا لوفائه.» فتنهد الشاب حزنا، وتمتم قائلا بصوت غير مسموع: «أنت أهل لكل خير.» وأراد أن يناديها لعله ينتشلها من تيار أفكارها المحمومة، ولكنها حركت رأسها بعنف على الوسادة وقالت بحنق: «راشد .. كفى وابتعد عني .. ابتعد ودعني.» وكان يهم بمناداتها فاحتبس الكلام في فيه، وحملقت عيناه المسهدتان، وبدا على وجهه الذهول والإنكار. وجلس في فراشه وهو يتساءل: «راشد! من راشد هذا؟» وكان يشعر شعورا باطنيا بأنه لا يسمع هذا الاسم لأول مرة، وكأنما سبق أن آذى مشاعره. وأسند جبينه إلى كفه، وأغمض عينيه، وكأن صاحب هذا الاسم يعيش في الظلام فقد رآه وعرفه، وأحس لذلك رجفة تسري في مفاصله .. راشد أمين أو أمين راشد - لا يذكر - شاب نافسه في طلب يدها على عهد خطبته لها، ولولا أن والدها فضله هو واختاره لكان قد تزوج منها. وقد تذكر أنه رآه مرة وإن كان لا يحفظ من صورته أي أثر، ورفع رأسه مرة أخرى ونظر إليها بعينين مرتابتين لا تصدقان؛ ورغب رغبة حارة في أن يستزيدها ويستوضحها، ولكنه لم يدر كيف يحثها على الكلام. ورأى شفتيها تتحركان في ضعف؛ فدنا من حافة سريرها، وأرهف السمع وكتم أنفاسه وهو يعاني جزعا مجنونا، فسمع صوتها يقول فيما يشبه الأنين: «من يقول هذا؟ .. أف والخيانة .. راشد .. صابر .. الخيانة شيء قذر.» فشبك كفيه وشدهما على صدره بحالة عصبية كأنما يضرع إلى شيء مجهول أن يمنع كارثة على وشك الوقوع، وحول بصره من طول الجمود على وجهها، فغاب عنه ما حوله، وكبر الوجه في وهمه حتى ملأ الفراغ الذي أمامه فثقل عليه وسمج، ودوى صدى صوتها في أذنيه فصار كطنين لا ينقطع، وثقل تنفسه ويبس حلقه .. ما هذا الذي تتكلم عنه؟! ما هذه الخيانة التي أطلق الهذيان عقدة كتمانها فانطلقت خبيثة منكرة أنكى من الحمى؟! هل يكذب الهذيان؟ كيف يكذب الهذيان؟! ولكن كيف يصدق أذنيه وما بذل زوج لزوجه عشر ما بذل من الرقة والمودة، وما بذلت زوجة لزوجها عشر ما كانت تبذله له من الصفاء والإخلاص؟ فكيف انطوى هذا على أقذر ما تبتلى به الضمائر والنفوس؟ رباه! .. إنها تقول إن الخيانة شيء قذر، وإنها لكذلك، ولكن لا يفزع في هذيانه من قذارتها إلا من انغمس في بؤرتها. رباه! .. لقد ظن أن ما ابتلي به من مرض زوجه أقسى ما ابتلي به إنسان، فإذا به بلاء هين عابر لا يقاس بما هتك الهذيان أستاره، وأحس اليأس يحبس أنفاسه. وكان صابر دمث الأخلاق لين الجانب رقيق الحاشية، لا يدفعه الغضب إلى الانفعال الشديد والعدوان، ولكنه يشل حركته ويعطف اندفاع أعصابه إلى صميم نفسه فيجعله كسيارة يدفعها محركها وتقيد الفرملة عجلاتها، ولكنه بالرغم من هذا، تحول رأسه حركة عصبية إلى سرير الطفلة، وبرح فراشه في سكون، ودنا من السرير وأزاح ستاره، وألقى نظرة غريبة على الوجه الصغير المدمج القسمات، وأدام إليه النظر، والشك والألم يأكلان قلبه بقسوة، ثم تحول عنه إلى وجه زوجه كأنه يسألها ويستوضحها، ودنا من فراشها كالسائر في نومه حتى التصق به. وكانت مغمضة العينين، بادية الاصفرار والخور، تقلب رأسها ذات اليمين وذات الشمال، فألقى عليها نظرة جامدة، جرى فيها بريق القسوة جريان البرق في السحاب الداكن، وكان قبل لحظات إذا وقف موقفه هذا اضطرب جسمه من الحنان والرحمة ودمعت عيناه، ولكن قلبه تحجر هذه المرة، فمال عليها حتى نسمت عليها أنفاسه، وسألها: «نعيمة .. نعيمة .. ماذا فعل راشد؟» فلم تنتبه إليه ولم تصح. فرفع صوته وناداها وهو لا يدري: «نعيمة»، فبلغ صوته مسمعي أمها في الحجرة القريبة. وقامت المرأة من فراشها مضطربة وهي تظن الظنون، وهرعت إليه متسائلة: ما لها؟ .. هل أعطيتها الدواء؟ ولم يكن أعطاها شيئا، وكان يريد استبقاء حالة الهذيان التي تعانيها ليستنطقها ما يريد. فكذب عليها قائلا في استهانة وقسوة: «نعم، وهي بخير والحمد لله.» وعاد إلى فراشه وأسند رأسه المثخن بالجراح إلى الوسادة ليتخلص من حماته. ولبثت حماته قليلا، وفي أثناء ذلك أخلدت المريضة إلى الهدوء والسكينة كأنما راحت في نوم عميق، فبرحت المرأة الغرفة وكان يتشوق إلى إيقاظها، ولكنه خشي التي في الخارج، قضى بقية الليل مفتوح العينين محموم الرأس بالأخيلة الشيطانية وعيناه زائغتان ما بين فراش المريضة ومهد الطفلة.
وحين سفور الصبح عاودت اليقظة المريضة، وبدا عليها أنها لا تحس شيئا حتى اهتدت عيناها إليه فدبت فيها حياة ضعيفة، وقالت بصوت غدا من وهنه كالصفير: «ما الذي أيقظك؟ لماذا ترهق نفسك هكذا؟» فرد عليها بنظرة جامدة، وكانت تبدو ذاك الصباح أشد هزالا وشحوبا ولاحت في عينيها نظرة الوداع المخيفة، وكان يشغل باله شيء واحد أسهده الليل، ولم يجهل أن إثارته خطر يهدد بالقضاء عليها، ولكنه لم يحس سواه ولم يبال غيره، وكان يشعر نحوها ما عندئذ بحنق وكراهية ورغبة في الانتقام؛ فقال بلهجة جافة: «تكلمت الليلة الماضية كثيرا، فشرقت وغربت، وأجرى الهذيان على لسانك كلاما يحتاج إلى إيضاح.» فلم تفهم شيئا ونظرت إليه بعينين لا تعبران عن شيء سوى الذهول المطلق، وأراد أن يسترسل ولكن منعه عن الاسترسال صراخ الطفلة فجأة، فما لبثت أن هرعت إلى الحجرة حماته والمرضعة فنكص على عقبيه مغضبا وهو يقول لنفسه: «الطفلة الملعونة تداري فضيحة أمها وأبيها!» وغادر البيت يهيم على وجهه ومضى يحدث نفسه: «كان ينبغي أن أعلم كل شيء وقد أتيحت لي فرص، لماذا أفر من صراخ الطفلة؟ أو من ظهور جدتها؟ الحقيقة أني ضعيف .. ضعيف .. دائما يندى قلبي بالحنان وبالعطف، فما كان أجدر بي أن أكون ممرضة .. أما رجلا فلا .. لست رجلا ولست زوجا .. فأمثالي نساء كاملات، أو رجال مغفلون .. ومع هذا هل أنا في حاجة إلى دليل جديد؟ دمرت حياتي وانتهى كل شيء.»
وقضى النهار ضالا لا يقر، يتردد الألم في صدره مع أنفاسه. وعاد مع الأصيل إلى البيت، فوجدها أسوأ حالا وأشد هزالا، وأقبلت عليه حماته تسأله أين كان وتقص عليه ما قاله الطبيب، فلم ينفذ من قولها إلى صدره، وعاف الرد عليها بتاتا، بل لذ له أن تقول إن الحالة سيئة. فلتتألم كما يتألم، ولكن كيف يفهمها أنه يعلم كل شيء؟ كيف يحادثها في هذا الموضوع الخطير وأمها لا ترضى بمفارقتها في مثل تلك الحال الخطيرة؟ .. واشتد به الحنق فاعتزم أن يمنع عنها الدواء ليعاودها الهذيان سريعا فيسمع منه ما امتنع منه سماعه في اليقظة؟ وملأ الفنجان ماء خالصا ووضعه على فم المريضة فازدرته بامتعاض .. وعاد إلى فراشه يرقب الفرصة، ولكن زوجه لم تنم في تلك الليلة ولم تهذ واشتد عليها الألم الموجع فباتت تئن وتشكو وتضطرب. واستدعى الطبيب عند منتصف الليل فعاينها ولكنه لم ينصح بشيء، وهمس في أذنه بأن الحالة جد خطيرة .. وبعد هذا التصريح بنصف ساعة احتضرت المريضة وفاضت روحها.
وخلا إلى نفسه وكان الذهول مطبقا على حواسه جميعا؛ لأن الموت والخيانة الزوجية انتظما تجاربه الشخصية معا في ساعة واحدة دون عهد سابق بهما. وماتت نعيمة ولم يحزن لموتها، ولكن حادثة الموت أذهلت نفسه الرقيقة المرهفة؛ على أن الحقيقة لم تغب عنه، فقال: «لم تمت كما يظنون .. أنا قتلتها .. قتلتها لأني منعت عنها الدواء ليلتين متواليتين هما أشد ليالي المرض .. فأنا قتلتها.» وجعل يردد: «أنا قتلتها.» فكان يشعر لها بوقع غريب في نفسه يمتزج فيه الخوف بالارتياح. ثم قال مرة أخرى: «وقتلتني هي حيا، وألصقت اسمي قسرا بطفلة إنسان سواي .. ولكني قاتل فلست إذن مغفلا.» وأسند رأسه إلى يده وراح في تأمل طويل، وقد سرت في جسده قشعريرة البرد والخوف.
كيف انقضت الأيام التي أعقبت الوفاة؟ .. انقضت في ألم وقلق ومخاوف لا يمكن أن تتمثل لعقل إنسان، ثم أعلن عن رغبته فجأة في السفر إلى لبنان انتجاعا للصحة والراحة، كان في الحق يفر من أفكاره وطفلته. ومضى إلى الإسكندرية واستقل السفينة، والظاهر أن نفسه الرقيقة تعرضت في البحر لأزمة عنيفة هدت كيانها وأتلفت أعصابه، فاستشعر اليأس من الدنيا جميعا .. وألقى بنفسه في اليم خلاصا من عذابه وآلامه، محتفظا بأسراره لقلبه ولبطون الأسماك.
وكان يترحم عليه المترحمون فيقولون: «ما رأينا إنسانا يحب زوجه كالمرحوم صابر، فلا هو صبر على فقدانها ولا احتمل الدنيا بعدها، فقضى على نفسه بعد موتها بأيام .. رحمهما الله!»
ناپیژندل شوی مخ