وكان يخشى ألا تتنازل وترد عليه، ولكنه سمعها تقول: نعم. - أي مدرسة؟ - لامير دي دييه. - إنه اسم غريب.
فافتر ثغرها عن ابتسامة ظريفة يرى وميضها الآن منيرا في ظلام السنين المنطوية، وقالت: إنها مدرسة فرنسية. - ألا تتعلمين اللغة العربية؟
فضربت بقدميها الأرض، وقالت: بلى .. يدرسها لنا شيخ .. هي ثقيلة كريهة .. هل تحبها أنت؟ - إني أذاكرها برغم صعوبتها، وأحفظ النحو حفظا جيدا .. وأحب الشعر .. لماذا تكرهينها؟
هي ثقيلة جدا، وقلما تستطيع ذاكرتي أن تحفظ شيئا من قواعدها، ومدرسها رجل ثقيل الدم يضع على رأسه عمامة مضحكة.
فاضطرب وصعد الدم إلى وجهه، وذكر طاقيته السوداء، وما عسى أن تقول عنها، ثم قال: كثيرون يؤثرون العمامة على غيرها. - هي في نظري على كل حال مضحكة .. ثم إن هذا الشيخ قذر .. لمحت مرة يده فرأيت أظافره سوداء كالطين.
وهنا قبض يديه، وود لو يخفيهما.
ومن ذاك اليوم كان إذا نوى الذهاب إلى القصر قص أظافره، وخلع طاقيته، ولبس الحذاء بدلا من القبقاب. ومضت الأيام وهو على تلك الحال، يرنو بالنظر، ويسعد بالحديث الذي لا يمس الهوى، ويعاني حبا مكتوما ينمو يوما بعد يوم، وكانت سوسن تستأثر بحياته جميعا، الظاهرة والباطنة، اليقظة والغافلة، فكانت مثار أحلامه حين العمل وحين اللعب، ولدى اللقاء ولدى الغياب، وأوقات الفرح وأوقات الحزن، وعند الصحة وعند المرض، وكانت آخر فكر مودع عند النوم، وأول خاطر مرحب عند الاستيقاظ. وكان حبه طاهرا ساميا ارتفع به من العالم الصاخب إلى حيث يطلع على العالمين كما تطلع الآلهة على المخلوقات، إلا أنه لم يخل من الألم واليأس، بل الحقيقة أن الألم واليأس كانا من مقوماته الأولية؛ لأنه لم يغفل لحظة عما يفرق بين طبقتيهما، ولم ينس الحقيقة المرة التي جعلت أباه يقدمه لسوسن، فيقول: «هذا خادمك يوسف» فهو خادمها ما في ذلك من شك ، وهو وأهله من المحسوبين عليها والعائشين على فتات مائدتها.
حقا إن الحب من دوافع النشاط والاجتهاد والتطلع إلى المجد، ولكنه شك في قدرة الحب على خلق معجزة عظيمة، مثل ربط آنسة جميلة كسوسن بابن خادمها البائس يوسف ابن زينهم.
كانت تلك الأفكار السوداء تعصر قلبه عصرا، وتسكب السم في دمه والمرارة في ريقه، وبلغ به الحزن أنه كان يرمق أباه أحيانا بنظرات الغضب والسخط؛ لأنه كان القضاء الذي حكم عليه بالضعة، وأنزله حيث هو من الذل والهوان.
ولكن كانت تمسه السعادة في لحظات أخرى، فيسأل نفسه: لم ترضى بالحديث معي؟ لم تداعبني وتسألني؟ لماذا لا تتعالى عن مصاحبتي؟ لماذا تبسم في وجهي تلك الابتسامة المشرقة التي تقتل اليأس وتهلك الأحزان؟ أليست هي على كل حال إنسانة قبل أن تكون سوسن ربيبة المجد والشرف، أليست تخضع لسنن الحياة المستبدة الغامضة التي لا تميز بين كبير وصغير؟
ناپیژندل شوی مخ