وكان يوسف رقيق العواطف متوثب الخيال دقيق الحس كجميع هواة الرسم والفنون، وكانت غريزته لا تزال راقدة في سباتها الذي فطرها الله عليها، فدبت فيها الحياة بعد أن نفخت فيها صورة سوسن من روحها العذب، وغاب عنه حينذاك أنه يمثل فصلا من رواية تكررت مشاهدها آلاف السنين، وأنه يقع في الأحبولة المنصوبة منذ الأزل لبني الإنسان، فظن أنه يكشف عالما روحيا جديدا يطير إليه على جناحي الحب. إنه ليذكر هذا الآن فيتعجب لهذا الحب الغريب، الحب الذي هو فلسفة الشباب الشاملة، والذي يتسامى إلى معارج التصوف والتجلي، وينحط إلى مهاوي القسوة والأنانية والقذارة، وتكمن خلف جميع أوجهه تلك الغريزة التي هي أمضى سلاح في يد الحياة .. واقتطفت ذاكرته صورة أخرى من الماضي الجميل لا يحسن معرفة موقعها من حوادث تلك الأيام، ولكنه يذكر جيدا أنه بعد اللقاء الأول غير مجلسه من المطبخ إلى مكان قريب من الباب، بحيث يستطيع أن يشاهد منه الحديقة طمعا أن يرى العروسة الصغيرة التي استبدت بأحلامه وأمانيه، وأنه كان يراها في صحبة أخوين لها في مثل عمرها يركبون الدراجة أو يلعبون «بالبلي»، أو يستبقون في ممرات الحديقة الرملية!
ففي جولة من جولاتهم عثروا به، فلفت منظره الغريب أنظارهم وتساءل عنه الصغيران، فأجابتهما سوسن بأنه «ابن عم زينهم» فدنوا منه، وأنعموا فيه النظر: في جلبابه الباهت، وطاقيته السوداء، وقبقابه الصغير، فجفل قلبه وهم أن يولي فرارا لولا أن صاحت به سوسن بصوتها العذب: لا تخف .. ولتبق حيث أنت؛ فلن يؤذيك أحد.
وسأله أحد الصبيين: وقد نسي اسميهما: هل أنت ابن عم زينهم؟
فأحنى يوسف رأسه أن: نعم. فسأله الثاني وعلى فمه ابتسامة: هل أنت تلميذ؟
فأحنى رأسه مرة أخرى أن نعم، مما أثار دهشة بين الثلاثة، فسأله الأول: وما مدرستك؟ - خليل أغا. - في سنة إيه؟ - في السنة الرابعة.
ثم سكت يوسف لحظة يغالب رغبة في الحديث حتى غلبته، فسأل الأخوين قائلا: وما مدرستكما؟ - الناصرية. - ولم لم تدخلا خليل أغا وهي قريبة من البيت؟
فبدت في عيني الشقيقين نظرة إنكار وقال أكبرهما: الناصرية مدرسة الأغنياء.
وقال الآخر وكان أشد صلفا: أما خليل أغا فهي مدرسة الفقراء.
وقالت سوسن: ماذا يهم بعد المدرسة إذا كانا يذهبان إليها في السيارة!
فردد يوسف عينيه بينهما، وقد غلب على أمره، واستخذى خجلا ومهانة، وكرهت نفسه الهزيمة؛ فقال بدون داع ولا مناسبة وبصوت يدل على التحدي: أنا أول فرقتي .. وأجيد الرسم إجادة فائقة .. إلي بورقة وقلم!
ناپیژندل شوی مخ