أمرك ثم أطبقت عليهم السماء والأرض، لجعلت لهم من بينهما مخرجا، وإنى أقسم بعزّتى لأعلّمنّهم أنه ليس لهم محيص «١» ولا ملجأ إلّا طاعتى واتّباع أمرى، فلما سمع بذلك إرميا رحمهم، وبادر إليهم فقال: إن لم تطيعونى أسركم بخت نصّر وقتلكم، وآية ذلك أنى رأيت موضع سريره الذي يضعه بعد ما يظفر بمصر ويملكها. ثم عمد فدفن أربعة أحجار فى الموضع الذي يضع فيه بخت نصّر سريره، وقال: يقع كلّ قائمة من سريره على حجر منها، فلجّوا فى رأيهم، فسار بخت نصّر إلى قومس بن لقاس ملك مصر فقاتله سنة، ثم ظفر بخت نصّر، فقتل قومس وسبى جميع أهل مصر، وقتل من قتل.
فلما أراد قتل من أسر منهم وضع له سريره فى الموضع الذي وصف إرميا ووقعت كلّ قائمة من سريره على حجر من تلك الحجارة التى دفن؛ فلما أتى بالأسارى، أتى معهم إرميا. فقال له بخت نصّر: ألا أراك مع أعدائى بعد أن أمنتك وأكرمتك! فقال له إرميا:
إنّما جئتهم محذّرا، وأخبرتهم خبرك، وقد وضعت لهم علامة تحت سريرك، وأريتهم موضعه؛ قال بخت نصّر: وما مصداق ذلك قال إرميا ارفع سريرك فإنّ تحت كلّ قائمة منه حجرا دفنته، فلما رفع سريره وجد مصداق ذلك، فقال لأرميا لو أعلم أن فيهم خيرا لوهبتهم لك. فقتلهم وأخرب مدائن مصر وقراها، وسبى جميع أهلها، ولم يترك بها أحدا حتى بقيت مصر أربعين سنة خرابا ليس فيها ساكن؛ يجرى نيلها، ويذهب لا ينتفع به. فأقام إرميا بمصر واتّخذ بها جنينة وزرعا «٢» يعيش به. فأوحى إليه: إنّ لك عن الزرع والمقام بمصر شغلا، فكيف تسعك أرض وأنت تعلم سخطى على قومك، فالحق بإيليا حتى يبلغ كتابى أجله. فخرج منها أرميا حتى أتى بيت المقدس، ثم إن بخت نصّر ردّ أهل مصر إليها بعد أربعين سنة، فعمروها، فلم تزل مصر مقهورة من يومئذ.
وحدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم وأبو الأسود، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن أبى قبيل عن عبد الرحمن بن غنم الأشعرىّ، أنه قدم من الشأم إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له عبد الله بن عمرو، ما أقدمك إلى بلادنا؟ قال: أنت، قال: لماذا؟ قال:
كنت تحدّثنا أن مصر أسرع الأرضين خرابا، ثم أراك قد اتّخذت فيها الرباع وبنيت فيها
1 / 52