الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - إطلالة على الفلسفة الصينية
2 - كونفوشيوس
3 - مو تزو، ونقد الكونفوشية
4 - منشيوس
5 - لاو تسو، المعلم الأول
النص الكامل لكتاب الحوار لكونفوشيوس
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
الباب التاسع
الباب العاشر
الباب الحادي عشر
الباب الثاني عشر
الباب الثالث عشر
الباب الرابع عشر
الباب الخامس عشر
الباب السادس عشر
الباب السابع عشر
الباب الثامن عشر
الباب التاسع عشر
الباب العشرون
النص الكامل لكتاب منشيوس
الباب الأول: هوي ملك ليانغ «1»
الباب الثاني: هوي ملك ليانغ «2»
الباب الثالث: قونغ صن تشو «2»
الباب الرابع: قونغ صن تشو «2»
الباب الخامس
الباب السادس: الأمير ون حاكم تينغ «2»
الباب السابع: لي لو
الباب الثامن: لي لو «2»
الباب التاسع: وان جانغ «1»
الباب العاشر: وان جانغ «2»
الباب الحادي عشر: كاو تسو
الباب الثاني عشر: قاو تسو
الباب الثالث عشر: تشن شن «1»
الباب الرابع عشر: تشن شن «2»
المراجع
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - إطلالة على الفلسفة الصينية
2 - كونفوشيوس
3 - مو تزو، ونقد الكونفوشية
4 - منشيوس
5 - لاو تسو، المعلم الأول
النص الكامل لكتاب الحوار لكونفوشيوس
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
الباب التاسع
الباب العاشر
الباب الحادي عشر
الباب الثاني عشر
الباب الثالث عشر
الباب الرابع عشر
الباب الخامس عشر
الباب السادس عشر
الباب السابع عشر
الباب الثامن عشر
الباب التاسع عشر
الباب العشرون
النص الكامل لكتاب منشيوس
الباب الأول: هوي ملك ليانغ «1»
الباب الثاني: هوي ملك ليانغ «2»
الباب الثالث: قونغ صن تشو «2»
الباب الرابع: قونغ صن تشو «2»
الباب الخامس
الباب السادس: الأمير ون حاكم تينغ «2»
الباب السابع: لي لو
الباب الثامن: لي لو «2»
الباب التاسع: وان جانغ «1»
الباب العاشر: وان جانغ «2»
الباب الحادي عشر: كاو تسو
الباب الثاني عشر: قاو تسو
الباب الثالث عشر: تشن شن «1»
الباب الرابع عشر: تشن شن «2»
المراجع
فصول من الفلسفة الصينية
فصول من الفلسفة الصينية
مع النص الكامل لكتاب الحوار لكونفوشيوس وكتاب منشيوس
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970 بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنكليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971 قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
قصتي مع فكر الصين ترجع في بداياتها إلى عام 1961م عندما قرأت كتابا مترجما عن الإنكليزية بعنوان «حكمة الصين»، من منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب. وقد قدمني ذلك الكتاب إلى فكر فلسفي جديد لم نألفه في قراءتنا للفلسفة اليونانية وربيبتها الفلسفة العربية، فكر مستقل في أسلوبه ومنطلقاته وغاياته. وأكثر ما ميزه عندي خلوه من البحث في الميتافيزيك والغيبيات وتركيزه على المجتمع والأخلاق والعلاقات الإنسانية والسياسة؛ فهو فكر وجودي بالمعنى العام للمصطلح، يبدأ عند الإنسان وينتهي عنده.
بعد ذلك اجتذبتني حكمة الزن اليابانية مع قراءتي لكتاب ألان واطس الشهير
The Way of Zen ، وقادني هذا الكتاب إلى مؤلفات ت. د . سوزوكي الحكيم الياباني ومعلم الزن الأشهر في العالم الغربي. ولرغبتي الدائمة في التعرف إلى أصول الظاهرة الثقافية التي أنكب على دراستها، فقد انقلبت إلى أصول حكمة الزن في الصين، وهي بوذية الشان (أو
Chi’an
كما يكتبها الباحثون الغربيون)، والتي تكونت من الجمع بين البوذية الوافدة إلى الصين وتاوية «لاو تسو» أول فلاسفة الصين ومؤسس التاوية الفلسفية. ولكن بوذية الشان لم تحتفظ من التراث البوذي إلا بشخصية البوذا كرمز للاستنارة الروحية، ومن الشان حطت رحالي عند كتاب التاو تي تشينغ، وهو الأثر الوحيد الذي تركه لاو تسو وراءه، والذي عمل مع كتاب الحوار لكونفوشيوس على صياغة فكر تخلل الثقافة الصينية عبر تاريخها الطويل.
في عام 1998م أنجزت ترجمتي لكتاب التاو تي تشينغ اعتمادا على أربعة مراجع موثوقة عالميا، وزودتها بمقدمة طويلة عن تاريخ حكمة الصين، وبشروحات وتعليقات استغرقت نصف الكتاب تقريبا. وقد لفت الكتاب نظر المستعرب الصيني الدكتور «شوي تشينغ قوه» عميد كلية الدراسات العربية في جامعة بكين للدراسات الأجنبية (واسمه العربي بسام، على عادة أساتذة وطلاب اللغة العربية في الصين)، وكان في إحدى زياراته لدمشق، فاشتراه وقرأه في طريق عودته إلى بكين، ثم اتصل بي وعبر عن إعجابه بالكتاب ورغبته في نشره عن طريق «دار النشر باللغات الأجنبية» ببكين، بعد أن يراجع ترجمتي على النص الصيني الأصلي، فوافقت على ذلك. ثم شرعنا في المراجعة عن طريق الإنترنت، والتقينا مرة أولى في دمشق، ومرة ثانية في بكين عندما شاركت في ندوة الحوار الثقافي العربي الصيني، التي دعت إليها جامعة الدراسات الدولية ببكين، وأثمرت جهودنا في إدخال تعديلات غير جوهرية على النص العربي. وصدر الكتاب عام 2009م تحت عنوان «لاو تسي»، ضمن سلسلة التراث الصيني باللغات الأجنبية عن دار النشر المذكورة.
في ربيع عام 2012م اتصل بي الدكتور شوي تشينغ قوه هاتفيا، وقال لي إن لديهم شاغرا في الهيئة التدريسية بالكلية، وتمنى علي أن أملأه فأجبته بالقبول، وأقمت في بكين ست سنوات قمت خلالها بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب اللغة العربية في مرحلة الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط، ومادة الإسلام والقرآن لطلاب الدراسات العليا.
كان نجاح كتاب التاو تي تشينغ في طبعته الصينية ونفاد نسخها، واتفاقنا مع دار نشر أخرى على إصدار طبعة جديدة، حافزا للدكتور بسام على التفكير في عمل مشترك آخر يتناول كتاب الحوار لكونفوشيوس وكتاب تلميذه منشيوس، وهما الكتابان الرئيسيان اللذان قامت عليهما الفلسفة الكونفوشية، فقامت الهيئة العليا لمعاهد كونفوشيوس التي تعمل على نشر اللغة الصينية في العالم بدعم المشروع، وبدأت العمل في الترجمة اعتمادا على المراجع الغزيرة المتوفرة في مكتبة الجامعة. وبعد ذلك بدأت المهمة الشاقة وهي مراجعة الترجمة على الأصل الصيني، والتي استغرقت منا نحو ستة أشهر كنا نجتمع خلالها في مسكني ثلاث مرات في الأسبوع حافلة بالجدال والنقاش المثمر، وكان جل خلافنا نابعا من ميله إلى نقل المعاني المباشرة للنص الصيني، ومن ميلي إلى التعبير عن مقاصده. وعلى الرغم من أن الاتفاق لم يكن سهلا في كثير من الأحيان، إلا أننا كنا نتوصل إليه في نهاية الأمر.
لقد كان هدف الهيئة العليا لمعاهد كونفوشيوس من دعم المشروع هو وضع كتاب الحوار لكونفوشيوس وكتاب منشيوس بيد أيدي طلاب اللغة الصينية في العالم العربي خاصة وقرائه عامة، أما هدفي من هذه الطبعة التي تصدرها دار التكوين بدمشق فهو تزويد القارئ بمدخل يقدمه إلى الفلسفة الصينية؛ لذلك فقد جمعت النصين في كتاب واحد زودته بخمسة فصول: (1)
الأول: إطلالة عامة على الفلسفة الصينية، تحدثت فيها عن تاريخها وطبيعتها وأساليبها في التعبير ومدارسها. (2)
الثاني: «كونفوشيوس»، حياته وفكره. تحدثت فيها عن حياة هذا الفيلسوف وأفكاره الرئيسية التي بسطها في كتاب الحوار ومكانته في الثقافة الصينية. (3)
الثالث: «مو تزو» ونقد الكونفوشية. تحدثت فيها عن فلسفة مو تزو التي قامت على أساس من نقده لكونفوشيوس وفلسفته. (4)
الرابع: «منشيوس»، حياته وفكره. تحدثت فيها عن المعلم الثاني للكونفوشية الذي عاش بعد قرن من وفاة المعلم الأول، وعمل على شرح وتطوير أفكاره والوصول بها إلى غاياتها الأخيرة. (5)
في الخامس عدت إلى «لاو تسو» بعد عشرين سنة من صدور كتابي عنه ، وقدمته في رؤية جديدة تغني القارئ عن الغوص في ألغاز كتابه.
الفصل الأول
إطلالة على الفلسفة الصينية
بين الفلسفة والدين
إذا كانت آيات القرآن الكريم أول ما يتعلمه التلاميذ المسلمون بعد حروف الهجاء، فقد كانت الفلسفة أول ما يتعلمه التلاميذ الصينيون بعد الرموز الكتابية الصينية، وكانت الكتب الكونفوشية الأربعة هي المقررات الدراسية الأولى الموضوعة بين أيديهم. وإذا كان التلميذ المسلم يتعلم تجويد آيات الكتاب بعد تعلم قراءتها، فقد كان لدى التلاميذ الصينيين كتيب للتجويد أيضا، يتكون من جمل مختارة من الكتب الكونفوشية، تتألف كل جملة من ثلاثة رموز كتابية تم اختيارها بطريقة تجعل قراءتها تحدث إيقاعا موسيقيا يساعد على حفظها. وإذا كانت الجملة الافتتاحية في القرآن تقول: «الحمد لله رب العالمين»، فإن الجملة الافتتاحية في كتيب التجويد الصيني تقول: «إن الطبيعة الأصلية للإنسان خيرة»؛ أي إن الجملة الافتتاحية في التعليم الإسلامي تضع قارئها في لب الدين، أما الجملة الافتتاحية في التعليم الصيني فتضع قارئها في لب الفلسفة.
إن الدور الذي لعبته الفلسفة في الثقافة الصينية يعادل الدور الذي لعبه الدين في الثقافة الأوروبية والشرق أوسطية، ولعل هذا ما دفع البعض إلى اعتبار الكونفوشية (وهي الفلسفة الأكثر تأثيرا على الثقافة الصينية) دينا، ولكن الكونفوشية في واقع الحال ليست دينا، شأنها في ذلك شأن فلسفة أفلاطون أو أرسطو أو حتى أفلوطين الإسكندري الذي كانت الإلهيات محور تفكيره. وعلى الرغم من أن الكتب الكونفوشية الأربعة كانت بمثابة إنجيل للصينيين، إلا أن أيا منها لم يبشر بإله أعلى خالق للسماء والأرض، ولم يحتو على قصة للخلق والتكوين، أو على تصورات أخروية عن نهاية العالم ويوم الحساب، وعن الجنة والجحيم.
إن الدين والفلسفة يتفقان في أن جوهرهما يقوم على التفكير المنهجي المنظم في شئون الإنسان والحياة والكون، وهذا يعني أن في كل دين شيئا من الفلسفة، ولكن العكس ليس كذلك؛ لأن الفلسفة تفتقد إلى الأساطير والعقائد والعبادات التي تميز الدين؛ فهي بالدرجة الأولى أفكار، وهذه الأفكار لا تنتظم في إيديولوجيا ودوغما، كما هو حال الأفكار الدينية.
ولهذا فإن الرأي الشائع الذي يقول إن في الصين ثلاثة أديان هي: الكونفوشية والتاوية والبوذية، هو من قبيل تبسيط الأمور؛ فالكونفوشية ليست بالتأكيد دينا، أما فيما يتعلق بالتاوية، فعلينا التمييز بين التاوية الفلسفية؛ أي تاوية المعلم الأول لاو تسو ومن بعده المعلم الثاني تشوانغ تسو، والتاوية الطقسية التي تحمل ملامح الدين، والتي نشأت بعد لاو تسو بعدة قرون وادعت الانتساب إلى لاو تسو على الرغم من الفوارق الجذرية بينهما؛ فالتاوية الفلسفية تقوم على مبدأ التوافق مع صيرورة الطبيعة، أما التاوية الطقسية فتعمل أحيانا على معاكسة الطبيعة. والمثال على ذلك أن لاو تسو يرى أن تناوب الحياة والموت هو قانون طبيعي، وأن على الإنسان أن يقبل الموت مثلما قبل الحياة، أما التاوية الطقسية فقد ابتكرت تقنيات من شأنها إطالة العمر، وطمحت إلى تفادي الموت.
وفيما يتعلق بالبوذية فقد تبدت في صيغتين؛ صيغة فلسفية وصيغة دينية، وكانت الصيغة الفلسفية هي ما يراه المثقف الصيني في البوذية؛ ولهذا فقد كان من المألوف رؤية كاهن تاوي وكاهن بوذي يقومان بطقوس الجنازة لإحدى الأسر، ولا يجد أحد في ذلك غضاضة؛ لأن الصيني بشكل عام يأخذ دينه فلسفيا، إذا كان ذا دين؛ فالصينيون أقل الشعوب اهتماما بالدين، وعبر تاريخهم كانت الفلسفات الأخلاقية هي أساس حياتهم الروحية، ومن خلال الفلسفة كانوا يرضون ذلك السعي الإنساني إلى السمو فوق مجريات العالم المادي.
ونحن إذا عدنا إلى ما قبل القرن السادس ق.م. الذي أخذت فيه المدارس الفلسفية المختلفة بالتوضح، نجد أن الديانة الصينية التقليدية لم تأخذ مفهوم الألوهة المفارقة للعالم بشكل جدي، ولم يكن لديها تصور واضح عن إله يتربع على عرش الكون ويتحكم فيه عن بعد. وعلى الرغم من أن الميثولوجيا الصينية حافلة بالآلهة من شتى الاختصاصات، إلا أن هؤلاء لم يكونوا في حقيقة الأمر إلا أسلافا أسطوريين جرى رفعهم إلى مرتبة الآلهة. وتظهر السير المتداولة عن حياتهم كيف ابتدأ أمرهم كرجال صالحين على الأرض قدموا خدمات جلى لمجتمعهم، وكيف تم تأليههم وعبادتهم فيما بعد. ومما يلفت النظر في أمر الآلهة الصينية أنها لا تتمتع بشخصيات واضحة ووظائف دائمة، وهي تبدو لنا مثل كيانات شبحية تكتسب قوتها من قوة المنصب الذي تشغله؛ ذلك أن الوظيفة الإلهية هي الثابتة، أما شاغلوها فمتبدلون؛ ففي كل إقليم من الأقاليم الصينية يجري توزيع الوظائف والاختصاصات الإلهية بشكل مختلف عن الإقليم الآخر، وقد يجري في إقليم معين رفع إله إلى أعلى من مرتبته في إقليم آخر، أو تخفيض مرتبته، أو حتى صرفه من الخدمة إذا فشل في مهمته، كأن يفشل إله المطر في إنزاله لسنوات عديدة، ويغدو لا بد من إعفائه من منصبه والبحث عن بديل له. وقد عبر الفيلسوف منشيوس عن هذا الموقف الصيني من الآلهة في كتابه المعروف باسمه حيث قال: «إذا كانت حيوانات القربان في صحة جيدة، وحبوب القربان نقية، وجرى تقديم القرابين لآلهة الأرض والحبوب في وقتها، ومع ذلك فشلت في منع الجفاف والفيضانات، فإنها تستبدل» (منشيوس 14: 14).
أما المصدر الحقيقي لقوة الآلهة فهو مفهوم تجريدي عن الألوهة يتمثل في قوة السماء المدعاة «تي يين»، التي جرى تصورها كقوة تشغل الجهة العليا من قبة السماء، وهي قوة غير مشخصة لا تتمثل في شخصية إلهية معينة، ولا تتصل بالبشر عن طريق رسل يشرحون مقاصدها، بل إن الناس هم الذين يتواصلون معها من خلال تقنيات الاستخارة والتنجيم والعرافة. فإذا تجردت قوة السماء حتى من القبة الزرقاء التي اعتبرت مظهرها المرئي، فإنها تلتقي مع مفهوم التاو الذي لعب الدور الأهم في تاريخ الفكر الديني والفلسفي الصيني. وهذا المفهوم لا يتطابق مع أي مفهوم نعرفه عن الألوهة المفارقة الخالقة للعام والمتحكمة به، بل هو الخميرة الفاعلة في العمليات الجارية على مستوى الكون والطبيعة من الداخل لا من الخارج؛ فهذه العمليات لا تتطلب عنصرا خارجيا يدفعها، بل إنها تعمل وفق تلقائية شمولية يتبادل من خلالها كل عناصر الوجود الأثر والتأثير في سلسلة مترابطة لا يوجد فيها علة ومعلول.
ولقد كانت قوة السماء ركيزة الميتافيزيك الكونفوشي، أما التاو فقد كان ركيزة الميتافيزيك التاوي.
أسلوب التعبير في الفلسفة الصينية
تختلف الفلسفة الصينية عن الفلسفة اليونانية وربيبتها العربية في طريقة الفلاسفة الصينيين في التعبير عن أنفسهم؛ ففي مقابل النص المطرد الذي يستخدم الجدل والبرهان وينتقل من المقدمات إلى نتائجها، عند الفيلسوف اليوناني، فإن الفيلسوف الصيني يعمد إلى صياغة أقوال موجزة بكلمات قليلة، وهذه الأقوال تتتابع في نصه دونما رابط ووحدة في الموضوع. نقرأ في كتاب الحوار لكونفوشيوس، الباب الثاني: (1)
إذا حكمت بقوة فضيلتك، تغدو مثل نجم القطب الذي يبقى ثابتا وكل النجوم تتحرك حوله. (2)
هنالك جملة واحدة تلخص فحوى القصائد الثلاثمائة التي يتضمنها كتاب القصائد، وهي: أبعد عن ذهنك الأفكار السيئة.
أما كتاب التاو تي تشينغ فلا يتجاوز عدد كلماته الخمسة آلاف؛ أي بطول مقالة عصرية في مجلة، ومع ذلك فقد ضم بين دفتيه فلسفة لاو تسو بكاملها. وفيه نقرأ مقاطع مثل:
التاو فارغ ولا ينضبه النضح منه.
لا يسبر غوره. منشأ الآلاف المؤلفة (من مظاهر الطبيعة) (الفصل 4).
عندما يرفع الطرفان السلاح في وجه بعضهما؛
الطرف الرابح هو الذي يدخل الحرب بأسى وحزن (الفصل 69).
عندما تكون واعيا لعيوبك تتحرر منها.
الحكيم بلا عيوب لأنه يعيها (الفصل 71).
إن الفيلسوف الصيني من خلال تعبيره عن أفكاره بأسلوب الحكم، والأقوال المأثورة، وضرب الأمثلة، يعوض عن الإسهاب والتفصيل الذي يميز النثر بالإيحاء الذي يميز الشعر. وبما أن الإيحاء والإسهاب لا يجتمعان، فإنه كلما نحا التعبير نحو الإسهاب قلت إيحاءاته، وكلما نحا نحو الإيحاء قل إسهابه، وهذا هو سر جاذبية الفلسفة الصينية. ربما قام أحد الباحثين بجمع كل الأفكار التي يتضمنها كتاب التاو تي تشينغ، وأسهب في شرحها والتعليق عليها في كتاب من ثلاثمئة صفحة. إن مثل هذا الكتاب قد يساعد القارئ العادي على فهم التاو تي تشينغ، ولكنه لن يكون بديلا عنه بحال من الأحوال. وقد يرى القارئ الحصيف أن التاو تي تشينغ هو الذي يشرح هذا الكتاب وليس العكس.
خلفيات الفلسفة الصينية
الصين بلد قاري، وبالنسبة للصينيين القدماء كانت الصين هي العالم. وقد عبرت لغتهم عن ذلك عندما جعلت كلمة الصين مرادفة لكلمة العالم، أو لتعبير «كل ما تحت السماء». وقبل افتتاح طريق الحرير التجاري خلال فترة حكم أسرة هان (206ق.م.-220م)، لم يكن من عادة الصينيين مغادرة بلادهم أو ركوب البحر. وكلمة البحر لم ترد عند كونفوشيوس (551-479 ق.م.) سوى مرة واحدة، وكذلك الأمر عند منشيوس (372-289ق.م.)، ولم نسمع عن مفكر صيني ركب البحر واطلع على أحوال البلدان البعيدة، على عكس المفكرين الإغريق الذين طالما تنقلوا بين الجزر اليونانية، وركبوا البحر إلى مصر وسورية وإيران وآسيا الصغرى.
في هذا البلد القاري كانت الحياة الاقتصادية تقوم على الزراعة، وكانت نسبة العاملين في الزراعة حتى أواسط القرن العشرين نحو 80٪؛ أي إن الزراعة كانت المصدر الأساسي لثروة الأمة. أما التجارة فلم تتعد التبادلات في أسواق المدن، ولم تشكل التجارة الخارجية عبر البحار والطرق الدولية بعد أن نشط طريق الحرير سوى نسبة ضئيلة لا يعتد بها من ثروة الأمة. وقد انعكس ذلك على الآراء الاقتصادية والاجتماعية للمفكرين الصينيين الذين ميزوا بين الجذور التي هي الزراعة، والأغصان التي هي التجارة؛ لأن وظيفة الزراعة الإنتاج، أما وظيفة التجارة فالتبادل، والتبادل لا يتم قبل أن يكون هنالك إنتاج؛ ولذلك فقد اعتبر التجار بمثابة الشريحة الأدنى بين شرائح المجتمع، أما الشريحة الأعلى فهم أصحاب الأراضي، يليهم المزارعون فالحرفيون. وقد كان أصحاب الأراضي بما تتيح لهم طبيعة حياتهم أهل ثقافة، وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا يباشرون الزراعة بأنفسهم، إلا أن أقدارهم وحظوظهم كانت مرتبطة بغلة الأرض كما هو حال المزارعين؛ ولهذا فقد كان المزارعون وسادتهم يتشاركون النظرة نفسها إلى العالم، وفلسفة الحياة نفسها. ولكن بما أن علم السادة قد أعطاهم القدرة على التعبير عن مشاعر المزارع الذي لا يملك أدوات التعبير، فقد تجلت نظرة المزارع إلى العالم وفلسفته في الحياة في ما أنتجه المثقفون من فلسفة وأدب وفن.
التاوية والكونفوشية (اتفاق واختلاف)
لدينا من القرن الثالث قبل الميلاد كتاب يتضمن عرضا وافيا وموجزا للمدارس الفلسفية الصينية. ورد في أحد فصوله وصف لطبيعة الناس الذين يعملون في الجذور ؛ أي المزارعين، والناس الذين يعملون في الفروع (أو الأغصان)؛ أي التجار؛ فالمزارع حسن الطوية وبسيط وساذج، ولديه براءة الأطفال؛ ولذلك فهو مطيع وغيري. وبما أن ممتلكاته وأدوات عمله ثقيلة وصعبة النقل، فإنه لا يفكر بترك موطنه إذا تعرض لخطر خارجي. أما التاجر فخبيث وغادر وأناني؛ ولذلك فهو غير مطيع. وبما أن أدوات عمله خفيفة وسهلة الحمل، فإنه يترك موطنه إذا تعرض لخطر خارجي. ثم يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها أن الزراعة أكثر أهمية لاقتصاد المجتمع من التجارة، وأن نمط حياة المزارع يعلو على نمط حياة التاجر.
وفي الحقيقة فإننا لواجدون في هذا التقدير العالي للزراعة وللحياة الزراعية أصول الاتجاهين الرئيسيين في الفلسفة الصينية؛ وهما التاوية والكونفوشية، سواء في اتفاقهما أم اختلافهما.
في الفلسفتين هنالك مبدأ مشترك ناجم عما يراه المزارع من حركة الشمس والقمر وتبدل الفصول، مفاده أن السير في أي مجال (سواء في الطبيعة أم الإنسان) إلى أقصى مدى، سيؤدي إلى حركة عكوسية نحو نقطة المبتدى، ويتحول الشيء إلى نقيضه. هذا ما نجده في التاو تي تشينغ، وفي التفسيرات الكونفوشية لكتاب التغيرات كما تبدت في ملاحقه.
نقرأ في التاو تي تشينغ:
الكلام الكثير يقود أخيرا إلى الصمت (الفصل 51).
فورة القوة يتلوها الوهن (الفصل 55).
عندما تزيد في شحذ حد السكين،
تعمل في النهاية على انثلامه (الفصل 9).
ونقرأ في ملاحق التغيرات:
عندما يبلغ الدفء ذروته يأتي البرد،
وعندما يبلغ البرد ذروته يأتي الدفء.
عندما تبلغ الشمس أقصى مدى في الارتفاع تميل نحو الغروب، وعندما يكتمل القمر يأخذ بالتناقص.
وأيضا:
في العودة إلى المبتدى،
يتجلى عقل السماء والأرض.
وينجم عن هذا المبدأ أيضا مبدأ مشترك آخر هو الوسطية أو الاعتدال؛ لأن التطرف في كل شيء سيقود في النتيجة إلى عكس المراد. يقول لاو تسو:
من يتطاول على أطراف أصابعه لا يقف طويلا،
ومن يوسع خطاه (من أجل الإسراع) لا يمشي بعيدا (الفصل 24).
ويقول كونفوشيوس: هنالك قلة من الناس حققت الفضيلة عن طريق الاعتدال.
فلسفة الاعتدال هذه ساعدت الشعب الصيني على التعامل بحكمة مع ما واجهه عبر تاريخه من مصاعب وكوارث؛ فقد كان الصيني لا يأمن لأوقات الرخاء لعلمه أن أوقات الشدة قادمة لا محالة، ولا يأسى لأوقات الشدة لعلمه بأنها لن تدوم. ولدينا أمثولة مصاغة في قالب حكاية تعبر عن موقفه هذا. تقول الحكاية: «فقد فلاح صيني حصانه الوحيد الذي هرب ولم يعثر له على أثر، وكان سنده في أعمال الحقل، فجاء إليه جيرانه يواسونه قائلين: أية مصيبة حلت بك؟ فهز الفلاح رأسه وقال: ربما، من يدري؟ بعد عدة أيام عاد إليه الحصان ومعه ستة جياد برية أدخلها الفلاح إلى حظيرته، فجاء إليه جيرانه يهنئونه قائلين: أي خير أصابك؟ فهز رأسه وقال: ربما، من يدري؟ في اليوم التالي قام الابن الوحيد للفلاح بامتطاء أحد الجياد البرية لترويضه، فجمح الجواد ورماه عن ظهره فكسرت ساقه، فجاء إليه جيرانه يواسونه قائلين: أية مصيبة حلت بك؟ فهز الفلاح رأسه وقال: ربما، من يدري؟ بعد عدة أيام جاء ضابط التجنيد ليسوق شباب القرية إلى الجيش بعد أن تعرضت الإمارة إلى غزو خارجي، فأخذ من وجدهم صالحين للخدمة العسكرية، وعف عن ابن الفلاح لعجزه، فجاء إليه الجيران يهنئونه قائلين: أي خير أصابك؟ فهز رأسه وقال: ربما، من يدري؟»
ومغزى هذه الحكاية هو أن كل ما فينا وفي خارجنا في تغير دائم، وهذا التغير يقوم على تناوب الأضداد؛ النور والظلام، الحرارة والبرودة، الجفاف والرطوبة، الحركة والسكون، الحظ الطيب والحظ العاثر، السراء والضراء، الخير والشر ... والقائمة أطول من أن نستنفدها هنا. هذه الأضداد ليست في صراع من أجل سيادة أحدها على الآخر، بل إنها تنشأ معا ويتخذ كل منها معناه من ضده؛ فلا نور بلا ظلام، ولا حياة بلا موت، ولا خير بلا شر، والنقائص هي نسيج الوجود؛ ولذلك يقول لاو تسو:
يرى الجميع في الجميل جمالا؛ لأن ثمة قبحا.
يرى الجميع في القبيح قباحة؛ لأن ثمة جمالا.
الوجود واللاوجود ينجم أحدهما عن الآخر.
الصعب والسهل يكمل أحدهما الآخر.
الطويل والقصير يوازن أحدهما الآخر.
العالي والمنخفض يسند أحدهما الآخر .
الصوت والصمت يجاوب أحدهما الآخر.
القبل والبعد يتبع أحدهما الآخر (الفصل 2).
هذا عن الاتفاق بين الفلسفتين؛ أما اختلافهما فناشئ عن كونهما صياغة نظرية لوجهين من حياة المزارعين؛ الأول طبيعي وهو علاقة الفلاح بالأرض، والثاني اجتماعي وهو علاقة الفلاح بالعائلة.
فلقد عبرت التاوية عن رؤيتها للحياة والعالم من خلال العلاقة الوثيقة بين الفلاح والأرض التي لا حياة له بدونها؛ فالطبيعة هي التي عملت على تشكيل شخصية الفلاح وطبائعه وأخلاقه؛ فهو كما أسلفنا بسيط وبريء مثل طفل. وقد رأى فلاسفة التاوية في هذه البساطة والبراءة صورة للمجتمع الإنساني، ودعوا إلى العودة إلى الطبيعة ورذلوا المدنية، ورءوا في الطبيعي مصدرا لسعادة الإنسان، وفي المصطنع مصدرا لتعاسته. وهذا ما عبر عنه لاو تسو أفضل تعبير في الفصل الختامي من التاو تي تشينغ، حيث رسم صورة بهية لمجتمع بسيط وبريء، رأى فيه جنة الأرض:
هنالك دولة صغيرة وقليلة السكان،
لدى أهلها أدوات تسهل عملهم، ولكنهم لا يستعملونها.
يخشون على حياتهم فلا يرتحلون بعيدا.
لديهم قوارب وعربات ولكنهم لا يركبونها.
في حوزتهم أسلحة ولكنهم لا يحملونها.
يستمتعون بالطيبات ويزهون باللباس.
يسعدون في مساكنهم المريحة ويرضون بعاداتهم،
وعلى الرغم من أن الدولة المجاورة تقع على مرمى البصر،
وتسمع من جهتها أصوات الكلاب والديكة،
إلا أنهم يقضون حياتهم دون اتصال مع أهلها (الفصل 81).
وقد كان للتاوية أثر بالغ على الفن الصيني الذي انطبع بروح التاوية، فاستمدت روائعه كل موضوعاتها من الطبيعة. وفي تلك المشاهد الحافلة بالأشجار والأزهار والطيور، غالبا ما نرى رجلا جالسا في سكينة يتأمل الطبيعة، ويتفكر في المبدأ الكلي الذي يتجاوز الإنسان والطبيعة، وهذا الرجل لا يشغل سوى مساحة ضئيلة من اللوحة، كما أنه ليس شخصا بعينه؛ لأن حضوره ليس إلا تكميلا للمشهد الطبيعي، وذلك على عكس الفن الأوروبي الذي يشغل فيه الشكل الإنساني معظم اللوحة، أما المشهد الطبيعي فمجرد خلفية للإنسان المصور (لوحة الموناليزا مثلا).
كما أنتجت التاوية مدرسة شعرية استمدت موضوعاتها من علاقة الإنسان بالطبيعة، رعتها فيما بعد بوذية الشان (ويكتبها الباحثون الغربيون بصيغة
Chi’an )، والتي نجمت عن تمازج البوذية بالتاوية، ثم حملتها إلى العصر الحديث بوذية الزن، وهي الصيغة اليابانية لبوذية الشان الصينية.
يقول شاعر تاوي:
كنت أجمع الأقحوان البري تحت سياج الأشجار.
رفعت نظري وتأملت المرتفعات الجنوبية.
نسيم الجبال يهب عليلا عند الغروب،
والعصافير تتجمع عائدة إلى أعشاشها.
في كل ما حولي معان عميقة،
وعندما حاولت التعبير عنها بكلمات
ضعت في عالم اللاكلمات.
ويقول أحد شعراء الزن:
عندما تصدح الطيور على الأشجار
يحمل شدوها أفكار الحكماء الأوائل.
عندما تتفتح الأزهار البرية على ذرا الجبال؛
يحمل شذاها أعمق المعاني.
وكان معلمو الزن هم من ابتكر قصيدة الهايكو المؤلفة من ثلاثة أبيات، والتي تتخذ موضوعاتها من تفاعل النفس الإنسانية مع الطبيعة، على ما تبينه القصائد المختارة التالية:
البركة القديمة.
ضفدع يقفز.
صوت الماء.
عندما سلكت في الدرب الجبلي.
أية مفاجأة يهفو إليها القلب:
مجموعة من البنفسجات الغضة. •••
أهي زهرة ساقطة
تخفق بأوراقها عائدة إلى غصنها؟
آه! إنها فراشة. •••
اللص
تركه وراءه:
القمر في النافذة.
في مقابل تأكيد التاوية على كل ما هو طبيعي وتلقائي في الإنسان، فإن الكونفوشية تؤكد على واجباته الاجتماعية، وهي صياغة نظرية للدور الذي لعبته مؤسسة العائلة الفلاحية في النظام الاجتماعي والسياسي للصين. لقد كان على المزارعين وسادتهم أيضا قضاء حياتهم على الأرض التي تشكل مصدر رزقهم، وكان على أفراد العائلة الواحدة العمل معا في تكاتف وتعاون؛ وهذا ما أدى إلى نشوء النظام العائلي الصيني، الذي ربما كان أكثر النظم العائلية إحكاما وتعقيدا في العالم، وعليه بني النظام الاجتماعي برمته. فمن بين صيغ العلاقات الاجتماعية التقليدية الخمس التي تعبر عن واجبات وحقوق كل فرد، هنالك ثلاث منها تنتمي إلى العائلة وهي: علاقة الأب بالابن، علاقة الأخ الأصغر بالأخ الأكبر، وعلاقة الزوج بالزوجة. أما الصيغتان الباقيتان فشبه عائلية، وهما علاقة الفرد بأميره، التي نظر إليها دوما على أنها صورة للعلاقة بين الأب والابن. وعلاقة الصديق بالصديق التي نظر إليها دوما على أنها صورة للعلاقة بين الأخوين في العائلة.
هذه العلاقات الاجتماعية-العائلية كانت الموضوع الرئيسي لتعاليم الفلسفة الكونفوشية التي نظرت إلى المجتمع على أنه صورة موسعة عن العائلة، وهذه العائلة الموسعة لا تقتصر على الأحياء فقط، بل وعلى الأموات أيضا؛ ذلك أن الكونفوشية أعطت زخما لعبادة الأسلاف المترسخة منذ القدم، والتي نشأت عن الدور المركزي الذي تتمتع به العائلة في المجتمع الزراعي؛ فالسلف الأول هو رمز وحدة العائلة، وأرواح الأسلاف على الرغم من انتمائها إلى مستوى آخر للوجود، إلا أنها تبقى قريبة من العائلة، وتمد أفرادها بالعون عند الحاجة وتحميهم من الأخطار، وإليها يقدم الصيني قرابينه الرئيسية. واليوم، وعلى الرغم من تحول الصين إلى مجتمع صناعي متقدم، إلا أنني خلال سنوات إقامتي في العاصمة بكين، كنت كلما خرجت من مسكني عشية عيد الأسلاف، وجدت شابا (أو فتاة) على كل مفرق طريق جالسا على الأرض يوقد نارا لأسلاف العائلة، وخلفه سيدة عجوز ترعى الطقس وهي في جلسة صمت وتأمل.
لم تغد الفلسفتان التاوية والكونفوشية بمثابة الاتجاهين الرئيسيين في الفكر الصيني إلا بعد فترة طويلة من التطور، وخلال ثلاثة قرون فيما بين القرن الخامس وأواخر القرن الثالث قبل الميلاد، لم تكونا سوى مدرستين بين عدة مدارس متنافسة.
في المدارس الفلسفية
في عام 1027ق.م. قامت أسرة تشو
Chou
بالقضاء على أسرة شانغ
Shang ، وانتقلت معها الصين من العصر الحجري إلى عصر المعادن والتمدن، وأسست أول دولة في وسط الصين كانت عاصمتها إينانج في مقاطعة هونان الحالية. وقد استمر حكم أسرة تشو حتى عام 221ق.م.، وهي التي أسست النظام الإقطاعي في الصين؛ فقد قام ملوكها بتوزيع الأراضي التي اكتسبوها من أسرة شانغ على أتباعهم وأقربائهم، فصارت ملكية وراثية لهم، وجرى تقسيم البلاد إلى عدد كبير من الإقطاعيات (التي أدعوها في هذا الكتاب بالمقاطعات)، وبذلك تم التوحيد بين السلطة السياسية وملكية الأراضي، وصار مالكو الأرض هم سادتها من الناحيتين السياسية والاقتصادية. أفراد هذه الطبقة الأرستقراطية التي تدير المقاطعات وتدفع ما يتوجب عليها من ضرائب إلى السلطة الملكية المركزية، كانوا بحكم طبيعة حياتهم متعلمين، وكانت قصورهم بمثابة مراكز للتعليم. وقد ساعدهم في إدارة الدويلة موظفون يمتلكون معارف وخبرات في شتى المجالات، ويقدمون المشورة والمعونة لأسيادهم، كما كانوا في الوقت ذاته ينقلون هذه المعارف والخبرات إلى الآخرين؛ أي إنهم كانوا يجمعون بين وظيفة الإدارة ووظيفة التعليم.
خلال القرون الثلاثة الأولى كان النظام الإقطاعي لأسرة تشو أكثر النظم الإقطاعية في التاريخ إحكاما ونجاعة، ولكن علائم الخلل بدت عليها منذ القرن السادس، وأخذت السلطة المركزية للعاصمة تضعف لصالح أمراء المقاطعات الذين أخذوا يتصرفون وكأنهم حكام مستقلون رغم بقائهم خاضعين من الناحية الاسمية للملك. ومنذ عام 475ق.م. دخلت البلاد في فترة الدويلات المتحاربة التي كان خلالها أمراء المقاطعات يتحاربون من أجل توسيع أملاكهم على حساب بعضهم بعضا، أو سيادة مقاطعة على أخرى. واستمر الحال على هذا المنوال حتى عام 221ق.م.، عندما قامت أسرة تشن
Chin
بالقضاء على حكم أسرة تشو، فوحدت البلاد تحت سلطة مركزية قوية، وألغت النظام الإقطاعي، وصادرت الأملاك الإقطاعية التي راح يتولى إدارتها موظفون حكوميون يديرون شئون المقاطعات التي أعيد تنظيمها، يساعدهم في ذلك هيئة من المستشارين والموظفين المدنيين.
على أن هذه الفترة التي اتسمت بالاضطراب السياسي كانت أخصب فترات التطور الفكري في الصين القديمة، وشهدت تشكل المدارس الفلسفية المتنافسة على يد معلمين كانوا ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية، ولكنهم فقدوا أملاكهم لأسباب متعددة (منها حروب تلك الأيام)، أو من كبار الموظفين الذين يمتلكون معارف شتى، وفقدوا مناصبهم للأسباب نفسها. وقد توزع هؤلاء في أنحاء البلاد وراحوا يكسبون معيشتهم من خلال التعليم. ومن نشاط هؤلاء تشكلت المدارس العديدة التي أطلق عليها المؤرخون الصينيون اسم المائة مدرسة لكثرتها، وهذه بالطبع تسمية مجازية، ونحن بالفعل لا نستطيع أن نتلمس سوى وجود عشرة، ستة منها كانت الأكثر فعالية في الثقافة الصينية، وهي: (1)
مدرسة اليانغ-ين التي استمدت اسمها من كتاب التغيرات الذي يقول بوجود قوتين هما قوة اليانغ وقوة الين؛ الأولى موجبة والثانية سالبة. ومن تفاعل هاتين القوتين تنشأ الآلاف المؤلفة من مظاهر الكون والطبيعة . وقد اهتم معلمو هذه المدرسة بنظرية نشوء الكون، وعلم الفلك، ومراقبة حركات الأجرام السماوية، ودورة الفصول، وتقسيم الزمن، وما إلى ذلك، كما مارسوا العرافة والسحر. (2)
مدرسة المثقفين، أو المفكرين. ومعلمو هذه المدرسة كانوا يعلمون الطقوس وكل ما يتعلق بقواعد السلوك الاجتماعي، والموسيقى، والكتب الكلاسيكية الستة المتوارثة عن القدماء، وهي: (1) كتاب التغيرات/إي تشينغ، (2) كتاب القصائد (أو الأغاني)، (3) كتاب التاريخ، (4) كتاب الطقوس (وقواعد الأدب والمعاملات)، (5) كتاب الموسيقى، (6) حوليات الربيع والخريف، وهو كتاب في تاريخ مملكة لو وضعه كونفوشيوس. وكان كونفوشيوس هو المعلم الأبرز في هذه المدرسة. (3)
المدرسة الموهية نسبة إلى معلمها مو تزو، وكانت ذات تنظيم شبه عسكري صارم ومنضبط، وتتخذ من معبد الأسلاف مقرا لها حيث يمارس أفرادها التدريب العسكري، ويقدمون القرابين للأسلاف. وكان مو تزو أبرز نقاد كونفوشيوس، وبنى تعاليمه انطلاقا من نقده هذا. (4)
مدرسة الأسماء (أو المجادلين). ومعلمو هذه المدرسة ركزوا على العلاقة بين الأسماء وحقيقتها. وقد كان هؤلاء بارعين في الجدل وفنون الكلام، ويشبهون في كثير من النواحي السفسطائيين في الفلسفة اليونانية. (5)
مدرسة التاو تي؛ أي التاو وقوته. ويرى معلمو هذه المدرسة أن كل ما حولنا متبدل ومتغير، إلا أن القوانين الكامنة وراء التغير تبقى ثابتة وغير متغيرة، وما على الإنسان لكي يعيش في سعادة سوى فهم هذه القوانين والتوافق معها في سلوكه. وكان لاو تسو مؤلف كتاب التاو تي تشينغ أبرز هؤلاء المعلمين. (6)
المدرسة الشرائعية. ومعلمو هذه المدرسة لا يثقون بالمنظومات الأخلاقية، ويرون أن نظام الدولة والمجتمع ينبغي أن يستند إلى منظومة صارمة من الشرائع والقوانين التي ترعى الدولة تطبيقها، وتضع الروادع والمكافآت التي تدفع المواطنين إلى الالتزام بها.
بعد وفاة كونفوشيوس عام 479ق.م. ولعدة قرون تالية، بقيت أربع مدارس من هذه الست؛ وهي مدرسة المثقفين، والموهيين، والشرائعيين، والتاويين، تتنافس على اكتساب المريدين وقلوب الحكام، إلى أن سيطرت الكونفوشية بشكل كامل على عموم الصين في القرن الأول الميلادي.
الفصل الثاني
كونفوشيوس
حياته وفكره
الاسم كونفوشيوس هو الصيغة اللاتينية التي استخدمها الباحثون الغربيون للاسم الصيني كونغ فو تسو. والكلمة الأخيرة في هذا الاسم (تسو أو تزو) تعني المعلم، وكانت تلحق بأسماء الفلاسفة مثل لاو تسو وتشوانغ تزو وهسون تزو، أما كلمة فو فتعني المبجل. كانت ولادته عام 551ق.م.، وهو ينتمي إلى أسرة نبيلة تصلها أواصر قربى بأسرة شانغ الملكية، ولكنها قبل ولادة كونفوشيوس كانت قد وصلت إلى حالة من العوز قادتها إلى الرحيل إلى دولة لو الصغيرة للاستقرار هناك.
معلوماتنا عن سيرة حياته مستمدة من سجلات تاريخية تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد؛ فقد عاش حياة متواضعة خلال طفولته ومطلع شبابه، ولكنه حصل تعليما عاليا بجهوده الخاصة ودون معلم نظامي، وهذا ما أهله للحصول على وظيفة إدارية في دولة لو، فكان مسئولا عن حسابات الحبوب وحيوانات القربان، وبدأ يكتسب التلاميذ كمعلم. بعد ذلك رحل إلى دولة تشي القريبة حيث قدم المشورة لحكامها، ثم عاد إلى دولة لو وتزايد تلاميذه. في سن الخمسين عين قاضيا ثم وزيرا للعدل في لو، ولكنه استقال من منصبه عندما لم يفلح في إصلاح الأمير، وغادر الإمارة وتجول لمدة 13 سنة في تسع مقاطعات باحثا عن فرصة لتحقيق مبادئه في السياسة والإصلاح الاجتماعي، ولكنه فشل، فعاد إلى موطنه حيث توفي بعد ثلاث سنوات في سن الثالثة والسبعين عام 479ق.م.
كان التعليم في الصين قبل كونفوشيوس ذا طابع رسمي، وكان المعلمون موظفين لدى الدولة يقوم كل منهم بالتعليم في مجال اختصاص الدائرة التي يرأسها، ثم جاء كونفوشيوس ليؤسس لنهج جديد، فكان أول معلم يمارس التعليم بصفته الخاصة، ودون أن يكون مرتبطا بوزارة ما من وزارات الدولة، وكانت مدرسته أقدم مدرسة في البلاد. وبذلك فقد حول كونفوشيوس مؤسسة التعليم من مؤسسة أرستقراطية تعنى بتعليم النبلاء، إلى مؤسسة ديمقراطية تعنى بتعليم كل راغب في العلم بصرف النظر عن انتمائه الطبقي. وقد روى عنه تلاميذه في كتاب الحوار قوله: «لم أمنع علمي عن أحد، من الفقير الذي أهداني لقاءه حفنة لحم مقدد، وصولا إلى من هم في أعلى المراتب.» وأوصاهم أيضا بقوله: «في تعليمكم للناس لا تميزوا بين الأفراد والجماعات،» وكان يرى أن مسئولية تعليم الرعية تقع على عاتق الحاكم ؛ فقد سأله تلميذ له قائلا: عندما يزداد عدد السكان ماذا نفعل بهم؟ أجابه: يجب أن نعمل على رخائهم. فسأله ثانية: وماذا بعد أن يعمهم الرخاء؟ أجابه: علينا أن نعلمهم. وقد بلغ من تلقوا العلم على يديه خلال حياته، وفق بعض الروايات، ثلاثة آلاف، نعرف منهم اثنين وسبعين تحولوا فيما بعد إلى معلمين أو شغلوا وظائف إدارية متنوعة لدى حكام المقاطعات. وقد قام هؤلاء بجمع أقواله التي سمعوها منه في مناسبات متفرقة، وصاغوا فلسفته على الشكل الذي وصلنا. وكانت ثلة من هؤلاء التلاميذ ترافقه خلال تجواله بين الدويلات الصينية وإقامته لفترة تطول أو تقصر في هذه الدويلة أو تلك، في بحثه عن أمير دولة قوية يتبنى أفكاره في الحكم والإصلاح ويطبقها، فيجعل من دولته نموذجا تتطلع إليه رعايا بقية الدول، وعندها يغدو قادرا على توحيد البلاد ونشلها من حالة الفوضى السياسية والفساد الخلقي والاجتماعي. وعلى الرغم من أنه كان يلقى الترحاب أينما حل، ويقدم له ولمرافقيه مسكنا لائقا وضيافة وافرة، إلا أنه لم يعثر على ضالته؛ لأن أفكاره في الحكم الفاضل كانت أكثر راديكالية من أن يقبلها أحد حكام تلك الفترة. ومع ذلك لم تفتر عزيمته، وأمضى سنوات طوالا في ترحاله قبل أن يعترف بالفشل ويعود إلى موطنه. لقد كان بمقدوره أن يتولى أكثر من منصب عال، ولكنه لم يفعل لأن ذلك سيكون على حساب قيمه ومبادئه.
وقد روى لنا تلاميذه أكثر من قصة تعبر عن تصميمه وعن مثابرته خلال تلك السنوات؛ فقد كان أحد تلاميذه واقفا عند سور المدينة فسأله الحارس: من أنت؟ فأجابه: أنا تلميذ كونفوشيوس. فقال الحارس: آه، إنه الرجل الذي يحاول إصلاح ما لا يمكن إصلاحه. وفي مناسبة أخرى شبه أحد النساك كونفوشيوس بالعازف الذي لا يستمع إليه أحد؛ فقد كان كونفوشيوس يعزف بآلة الأجراس عندما مر به زاهد يدعى إن وي حاملا دلوا، وقال: إنك حقا مصمم على المضي في عزفك . يا لعنادك! إذا لم يطرب لك أحد توقف.
يعتبر كونفوشيوس واحدا من الرجال القلائل الذين أثروا تأثيرا عميقا على الثقافة الصينية بفضل قوة شخصيته ومواهبه العقلية، كما استفادت من تعاليمه كل من الثقافة الكورية واليابانية والفييتنامية؛ فقد كان فيلسوفا سياسيا وأخلاقيا ورائدا في مجال التربية والتعليم، واستطاعت فلسفته أن تهيمن على الفكر الصيني حتى العصور الحديثة. وفي الحقيقة فإن الصيني يعتبر نفسه كونفوشيا حتى في حال انتمائه إلى الأديان الوافدة إلى الصين كالبوذية والمسيحية والإسلام. ولا أدل على ذلك من أن العلامة الصيني المسلم محمد مكين، الذي درس في شبابه اللغة العربية والإسلام في الجامع الأزهر بالقاهرة، كان أول من ترجم كتاب الحوار لكونفوشيوس وذلك عام 1936م.
تميزت شخصيته برقة الطباع والتهذيب والمرح، وعرف عنه حبه للجمال والتأنق في الملبس، وتذوقه لأنواع الفنون لا سيما الموسيقى والغناء. وقد روى عنه تلاميذه في كتاب الحوار أنه بعد سماعه لأغنية أعجبته كان يطلب من المغني الإعادة، ثم يشاركه في الغناء، ولكنه إلى جانب ذلك كان شديد القسوة في نقده لمظاهر الفساد والانحراف والترف لدى الحكام، وما يبديه وزراؤهم ومستشاروهم من تزلف وتفان بدلا من تقديم المشورة الصادقة لهم. وكان محبا للدراسة والتعلم، وكما أنفق حياته في التعليم فقد أنفقها أيضا في التعلم، ويروى عنه قوله إنه إذا صاحب ثلاثة أشخاص لا بد له من أن يتعلم شيئا من واحد منهم.
فيما يتعلق بنتاجه الفكري شاعت آراء تقول بأنه مؤلف الكتب الكلاسيكية الستة أي: التغيرات، والقصائد، والتاريخ، والطقوس (وقواعد الأدب والمعاملات)، والموسيقى، وحوليات الربيع والخريف. وفي مقابل هذه الآراء المتطرفة التي لا تستند إلى وقائع، شاعت آراء أكثر اعتدالا تقول بأنه كان مؤلفا لحوليات الربيع والخريف، التي تؤرخ لفترة من تاريخ الصين تمتد من عام 722 إلى عام 479ق.م.، من خلال رصدها لتاريخ مملكة لو وعلاقاتها مع الدول المجاورة. كما تعزو إليه التعليق على كتاب التغيرات من خلال ما يعرف بالأجنحة (أو التفاسير) العشرة للكتاب، وكذلك تنقيح كتاب الطقوس، وإضفاء لمسة تحريرية على كتاب التاريخ وكتاب القصائد. ولكن الآراء الحديثة بشأنه توصلت إلى نتيجة مفادها أن كونفوشيوس ربما كان مؤلفا لحوليات الربيع والخريف، وواحدا على الأقل من الأجنحة العشرة للتغيرات، ولكنه لم يكتب بالتأكيد بقية الكتب الكلاسيكية، ولم يكن له فضل في تحرير أو تنقيح بعضها.
لقد اعتبر كونفوشيوس نفسه معلما بالدرجة الأولى ينقل إلى تلاميذه معارف الأولين؛ ولهذا قال عن نفسه في كتاب الحوار: «أنا ناقل علم ولست منشئا.» على أن إبداعه تجلى في تفسيره لما ينقل، وإضفائه بعدا أخلاقيا عليه؛ ففي توكيده مثلا على عادة إقامة الحداد على أحد الأبوين بعد وفاته مدة ثلاث سنوات، على ما ورد في كتاب الطقوس قال: «ذلك لأن الطفل لا يترك حضن والديه إلا بعد ثلاث سنوات من ولادته، وعليه بالمقابل أن يقيم الحداد عليهما المدة نفسها.» وعندما كان يشرح بعض ما ورد في كتاب القصائد (أو الأغاني) قال: «في الكتاب ثلاثمئة قصيدة، ولكن جوهرها كلها يمكن تلخيصه في جملة واحدة: أبعد عن ذهنك الأفكار الخبيثة.» وقد سار تلاميذه على نهجه في التفسير، وأنتجوا ثلاثة عشرة مؤلفا احتوت على تعليقاتهم وشروحهم على المؤلفات القديمة تحولت إلى كتب كونفوشية تعليمية.
ولكن إبداع كونفوشيوس لم يبلغ حد التجديد الراديكالي؛ لأنه كان محافظا في تفكيره وسلوكه؛ فقد عاش في أواخر فترة الربيع والخريف التي حفلت بالاضطرابات وما صاحبها من انحلال في القيم والتقاليد، وحاول البحث عن حلول لأزمات البلاد المستعصية، فرأى أن السبيل إلى الإصلاح هو في الحفاظ على تراث الأجداد والقيم الخلقية الفاضلة للماضي. وقد روي عنه في تمجيد الماضي قوله في كتاب الحوار: «لم أولد حكيما، ولكني عشقت تعاليم القدماء، وفعلت ما بوسعي لكي أبلغ ما بلغوه.» ولذلك لم يكن يتساهل في أي انحراف عن قواعد الطقوس سواء ما تعلق منها بالشعائر الرسمية أم بقواعد الأدب والمعاملات الخاصة بكل منصب وبكل شريحة اجتماعية، ونقل عنه أقوال يشجب فيها مثل هذه الانحرافات، ومنها قوله: «إن ثمانية صفوف من الراقصات يؤدين الرقص في قصر رئيس أسرة تشي. فإذا كان يفعل ذلك فما الذي لا يتورع عن فعله؟» وهو هنا يتذمر من اغتصاب الأسر المتوسطة المكانة لطرائق في المراسم والاحتفالات خاصة بالأسر العالية المكانة؛ فالصفوف الثمانية من الراقصات كانت وقفا على الملك، أما الصفوف الستة فلأمراء المقاطعات، والصفوف الأربعة لكبار الموظفين. وفي إحدى المرات انصرف من متابعة طقس القربان الكبير، ولم تعد عنده رغبة في المشاهدة؛ لما رآه من بدع مستحدثة لم تنص عليها الشرائع القديمة.
مصدرنا الرئيسي عن فكر كونفوشيوس هو كتاب الحوار كما يدعى باللغة الصينية، أو المختارات
Analects
كما يدعوه الباحثون الغربيون. وهو يحتوي على مجموعة من أقواله وحواراته مع تلاميذه أو مع الحكام ورجال السياسة في عصره، جمعها تلاميذه المباشرون بعد وفاته، وربما ساهم في ذلك أيضا بعض تلاميذ تلاميذه. وهناك مصدران آخران أقل طولا وأهمية من كتاب الحوار أعدهما تلاميذه أيضا، وهما التعليم الكبير
The Great Learning ، وعقيدة الوسطية أو الاعتدال
Doctrine of the Mean . وتعتبر هذه المصادر الثلاثة إضافة إلى كتاب منشيوس، الذي عاش بعد أكثر من قرن من زمن كونفوشيوس واعتبر نفسه تلميذا له، بمثابة الكتب الكلاسيكية الأربعة للفلسفة الكونفوشية. كما يتجلى إبداع كونفوشيوس أيضا بتقديمه لأفكار أصيلة تتعلق بإصلاح الفرد والمجتمع.
ففيما يتعلق بالمجتمع رأى أن تحقيق المجتمع السليم يبدأ بما دعاه «تصحيح الأسماء»؛ فقد سأله تلميذ له قائلا: «إن أمير دولة وي يتوقع منكم عونه على إدارة شئون الدولة، فماذا ستكون أولوياتكم حينئذ؟» فأجابه: «علينا أولا أن نقوم بتصحيح الأسماء.» وما يعنيه كونفوشيوس هنا بتصحيح الأسماء، على ما نفهم من أقوال أخرى له في كتاب الحوار، هو أن كل اسم يحمل معاني ومضامين ينبغي أن تنطبق على حامل هذا الاسم؛ فعلى الحاكم أن يكون حاكما وفق ما يتضمن هذا الاسم من القيام بواجبات تشكل جوهره، وعلى الوزير أن يكون وزيرا، والأب أبا، والابن ابنا، والصديق صديقا ... إلخ. إن حامل كل اسم في شبكة العلاقات الاجتماعية ينبغي أن يكون جديرا بهذا الاسم وواعيا لجوهره.
وقد رأى كونفوشيوس أن الطريق الأقصر لإصلاح المجتمع هو إصلاح الحاكم والطبقة الإدارية؛ لأن الحاكم إذا انصلح كان في ذلك صلاح للمجتمع. وقد قال موجها كلامه للحكام: «إذا قومت نفسك لن تجد صعوبة في الحكم، وإذا لم تقوم نفسك كيف تقدر على تقويم الآخرين؟» وقال أيضا: «إذا قومت نفسك وجدت الرعية تنقاد إليك دون أن تصدر لها الأوامر، وإذا لم تقوم نفسك لن تلقى الطاعة من الرعية حتى لو أصدرت لها الأوامر.» وأيضا: «إذا حكمت بقوة فضيلتك تغدو مثل نجم القطب الذي يبقى ثابتا في مكانه، وكل النجوم تدور حوله.» وأيضا: «ألم يكن الملك الحكيم شون هو الذي حكم البلاد دون بذل جهد؟ ما الذي فعله شون؟ لقد هذب نفسه واستوى على العرش.»
مثل هذا التوجه إلى الحاكم بالنصح والإرشاد لم يكن مألوفا من قبل، في عصر كان فيه أصحاب السلطان يحكمون من خلال مبدأ القوة، فجاء كونفوشيوس ليستبدل مبدأ الحكم بالقوة بمبدأ الحكم بالفضيلة. وهو يرى أن نشر القيم الفاضلة لا يتم بالتعليم فقط وإنما بالتقليد، وعيش الأخلاق الفاضلة عند الحاكم أكثر نجاعة من الكلام عنها والتبشير النظري بها. وليس من المجدي في رأيه ردع المفسدين عن الفساد بالعقوبات؛ لأنهم سيعودون إلى الفساد عندما تتراخى قبضة الدولة وتعم الفوضى، والأكثر جدوى هو أن يعوا ويفهموا أن ما يقومون به غير لائق بهم كبشر. وفي هذا يقول في كتاب الحوار: «إذا حكمت بالقوانين وضبطتهم بالعقوبات فسوف يتفادون ارتكاب الجرائم دون أن يشعروا بالعار إذا هم ارتكبوها. أما إذا حكمتهم بالفضائل وضبطتهم بقواعد الأدب والمعاملات فسوف يشعرون بالعار من ارتكابها ويقومون أنفسهم.»
وأول ما يعود على الحاكم من إصلاح نفسه هو اكتساب ثقة الشعب؛ لأن الحكومة إذا فقدت ثقة الشعب فقدت مبررات وجودها. سأله أحد تلاميذه عن الأساس الذي تقوم عليه الحكومة المثلى، فقال له: «طعام وافر وسلاح وافر وثقة الشعب.» فسأله ثانية: «إذا خيرت في حذف واحد من هذه الثلاثة فماذا تختار؟» فقال: «السلاح.» فسأله أيضا: «إذا خيرت في حذف واحد من هذين الاثنين فأيهما تختار؟» أجابه: «الطعام؛ لأن الموت نصيب كل البشر، أما إذا فقدت الحكومة ثقة الشعب فلن تقوم لها قائمة (وتتداعى الدولة).» وقال في موضع آخر: «إذا حاز الحاكم ثقة الشعب فسوف يكدحون من أجله، أما إذا فقد ثقتهم فسيرون فيه طاغية.»
ولما كانت أعباء الحكم لا تقع على الحاكم وحده بل وعلى بطانته أيضا من وزراء ومستشارين وإداريين في الوظايف المختلفة، فإن على الحاكم أن يستميل الأفاضل من المثقفين لشغل الوظائف العامة، وأن يكون معياره في ذلك هو الكفاءة والفضيلة دون النظر إلى المنبت الطبقي. وكانت هذه الفكرة ثورة في عصر كونفوشيوس عندما لم يكن العامة مهيئين لشغل الوظائف الحكومية، فراح كونفوشيوس يستشهد بالملوك الحكماء الأوائل وقال: «عندما ارتقى الملك شون سدة الحكم اختار من العامة كاو ياو لمنصب الوزير الأول فاختفى المفسدون، وعندما ارتقى الملك تانغ سدة الحكم اختار من العامة آي ين فاختفى المفسدون.» وعندما سأله تلميذ له عندما تولى الوزارة عن أصول الحكم الصحيح قال له: «بادر أولا إلى تعيين موظفين أكفاء، وضع رجالا صالحين في مراكز المسئولية.»
وهكذا نجد أن فلسفة كونفوشيوس في أصول الحكم ترتكز على ثلاثة مبادئ هي: (1) الحكم بالفضيلة لا بالقوة، (2) ثقة الشعب الحاكم، (3) موظفون أكفاء وصالحون من مختلف الشرائح الاجتماعية. وهذا أعلى مستوى من الديمقراطية يمكن تحقيقه في ذلك العصر.
هذه هي الأفكار الأصلية التي قدمها كونفوشيوس لإصلاح المجتمع. وننتقل الآن إلى أفكاره الأصلية في إصلاح الفرد؛ ففيما يتعلق بتنمية الفضائل الفردية ركز كونفوشيوس على المفاهيم التالية: (1) الصلاح أو الاستقامة
Yi :
وتترجم هذه الكلمة إلى الإنكليزية عادة بصيغة
Righteousness ، وتعني عند كونفوشيوس الأعمال التي تحمل موجباتها بذاتها، أو بتعبير آخر ما يتوجب على الإنسان القيام به دون إلزام خارجي؛ أي أن تفعل ما هو صواب لأنه صواب، لا لشيء آخر. (2) ال
Yi
وال
Li :
وينجم عن مفهوم الصلاح
Yi
مفهوم آخر هو العمل دون مقابل؛ لأن الإنسان إذا فعل الصواب مع التفكير المسبق بما يعود عليه من فوائد، فإن فعله هذا ليس صلاحا ويفقد صفته الأخلاقية؛ ولهذا نجد عند كونفوشيوس تمييزا حادا بين الصلاح
Yi
والمنفعة
Li ، وهذا التمييز يتخذ أهمية قصوى في الأخلاق الكونفوشية. يقول في كتاب الحوار: «الإنسان النبيل يدفعه الصلاح، والإنسان الوضيع تدفعه المنفعة .» ونجد في حياة كونفوشيوس نموذجا حيا عن العمل دون مقابل؛ فقد وصف بأنه الرجل الذي لا يكف عن المحاولة رغم معرفته بأنه لن ينجح، وكان يعرف أن مبادئه لن تطبق، ولكنه لم يكن يكف عن المحاولة. (3) المروءة
Jen
أو
Ren :
وهي ليست فضيلة بعينها، بل إنها جوهر الفضيلة، والفضيلة المجردة التي تجعل كل الفضائل الأخرى ممكنة، ورجل ال
Jen
هو رجل كل الفضائل. يترجمها الباحثون الغربيون بصيغة التعاطف أو التراحم، والإنسانية وهي الترجمة الغالبة عندهم. وفي هذا الكتاب اقتفيت أثر العلامة الصيني محمد مكين فقلت: «المروءة» المشتقة من المرء أي الإنسان، وهي كمال الفضائل الإنسانية. والتجلي الأول والأعلى للمروءة هو المحبة؛ لأن الإنسان المحب حقا هو الذي ينجز واجباته على أتمها في حياته الخاصة والعامة. (4) الرجل النبيل:
استخدم كونفوشيوس تعبير الرجل النبيل
Chung zi
مرات قليلة بمعناه الأصلي الذي يدل على الأمير أو واحد من أفراد الطبقة الأرستقراطية، إلا أنه في معظم الأحيان حمله معنى جديدا يدل على «الرجل المتسامي» الذي حقق درجة عليا من الارتقاء النفسي والفكري؛ وبذلك فقد ألغى التطابق الذي كان قائما في المجتمع الإقطاعي بين المكانة السياسية والمكانة الاجتماعية، وصار بإمكان أي إنسان أن يغدو نبيلا إذا حقق ذلك التسامي المطلوب، والممكن تحقيقه من قبل كل فرد في المجتمع. وقد استخدم الباحثون صيغة
Gentleman
جنتلمان، أو صيغة
Superiorman
المتفوق، كمعادل لتعبير:
Chung zi
الصيني. ولكنني وجدت من الأنسب استخدام تعبير الرجل النبيل لأنه يحتوي في الواقع على المعنى الصيني القديم، والمعنى الذي أسبغه عليه كونفوشيوس.
وفي مواضع عديدة من كتاب الحوار يضع كونفوشيوس «الرجل النبيل» في تضاد مع نقيضه «الرجل الوضيع»، فيقول مثلا: «الرجل النبيل يتطور نحو الأعلى، والرجل الوضيع يتطور نحو الأسفل.» وأيضا: «الرجل النبيل مطمئن البال دوما، والرجل الوضيع قلق البال دوما.» وأيضا: «الرجل النبيل حسن المعشر ولكنه لا يتملق، والرجل الوضيع يتملق ولكنه سيئ المعشر.» (5) المرء معيار نفسه:
ليس على المرء في علاقاته مع الآخرين سوى أن يجعل من نفسه معيارا لسلوكه الأخلاقي، وذلك من خلال مبدأين في التعامل مع الآخرين؛ الأول : دعاه تشونغ
Chung ، وهو: «عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك.» والثاني: عكسه، ودعاه شو
Shu ، وهو: «لا تعامل الآخرين كما لا تحب أن يعاملوك.» وفي كتاب التعليم الكبير وكتاب عقيدة الوسطية، يورد تلاميذ كونفوشيوس تنويعات على هذين التعليمين؛ فقد ورد في كتاب عقيدة الوسطية عدد من وصايا التشونغ المصاغة بأسلوب الإيجاب، وتبدأ بما يلي: «اخدم أباك كما تحب أن يخدمك ابنك. اخدم أخاك الكبير كما تحب أن يخدمك أخوك الصغير ... إلخ.» وورد في كتاب التعليم الكبير عدد من وصايا الشو المصاغة بأسلوب النفي، وتبدأ بما يلي: «لا تعامل مرءوسيك بالطريقة التي لا تحب أن يعاملك بها رئيسك. لا تعامل رئيسك بالطريقة التي لا تحب أن يعاملك بها مرءوسوك ... إلخ.» وفي كتاب الحوار توجه كونفوشيوس بالقول إلى تلميذه شن: «اعلم يا شن أن أفكاري يضمها خيط واحد»، فقال له شن: «صدقت يا معلم.» وعندما غادرهم تساءل بعض التلاميذ عن معنى قول المعلم، فقال التلميذ تسانغ تسي: «أفكار معلمنا تتلخص في التشونغ والشو.»
الميتافيزيك عند كونفوشيوس
في هذه الفلسفة الأخلاقية التي تركز على إصلاح المجتمع والفرد لا يوجد متسع للغيبيات ومسائل ما وراء الطبيعة؛ ولهذا لم يكن لدى كونفوشيوس نظرية في نشأة الكون ومآله، وفي الموت وما بعد الموت، ولم يأت على ذكر الآلهة التقليدية في الديانة الصينية. وقد ورد في كتاب الحوار على لسان أحد تلاميذه: «لم يكن المعلم يكترث بمناقشة الظواهر الغريبة، والخوارق، وقصص الأشباح.» وعندما سأله تلميذ آخر عن خدمة الأموات أجابه: «أنت لم تعرف بعد كيف تخدم الأحياء، فكيف تستطيع خدمة الأموات؟» ثم عاد فسأله عن الموت فأجابه: «أنت لم تفهم بعد ما هي الحياة فكيف تسأل عن الموت؟» أي إن على الإنسان أن يأبه إلى حياته هذه، ولا يعبأ بما كان عليه قبلها ولا بما سيأتي بعدها؛ لأن ذلك في حكم المجهول الذي لا ينبغي أن نشغل بالنا به. والكونفوشية تتفق هنا مع التاوية في فلسفة الحياة والموت، والتي عبر عنها تشوانغ تزو المعلم الثاني للتاوية في هذا المقطع من الكتاب الذي يحمل اسمه: «الناس في الأيام الخوالي لم يعرفوا التعلق بالحياة ولا كره الموت. الولوج إلى الحياة لم يكن بهجة لهم، والخروج منها لم يكن يثير فيهم جزعا ومقاومة. بهدوء كانوا يأتون وبهدوء كانوا يمضون. لا ينسون ما كانت عليه بدايتهم، ولا يتساءلون عما ستئول إليه نهايتهم. لقد قبلوا الحياة واغتبطوا بها، ثم آلوا إلى حالة ما قبل الحياة.»
المسألة الميتافيزيكية الوحيدة التي أولاها كونفوشيوس اهتمامه في الحضور الروحي الجليل في العالم للسماء باعتبارها قوة أخلاقية شمولية تهيمن على الكل. وعلى الرغم من أن السماء منزهة عن الشخصية التي تتمتع بها الآلهة، إلا أنها ذات مقاصد في عالم البشر؛ ولذلك يتحدث كونفوشيوس مرات عديدة في كتاب الحوار عن «مشيئة السماء»
Ming ، باعتبارها قوة ذات إرادة وفعل، وعن أهمية معرفة هذه المشيئة بالنسبة للإنسان. ولما كانت معرفة مشيئة السماء تخفى علينا في معظم الأحيان، فما على الإنسان إلا أن يقوم بواجباته على الوجه الأكمل، ثم يترك الفشل والنجاح لتلك المشيئة، وهذا ما يحررنا من القلق بخصوص النجاح أو الفشل، ويجعلنا سعداء في الحالين؛ ولذلك يقول كونفوشيوس في كتاب الحوار: «الرجل النبيل سعيد دوما، والرجل الوضيع حزين.» وهذا ما يجعل مفهوم مشيئة السماء عند كونفوشيوس متطابقا مع مفهوم القدر واللوح المحفوظ في الفكر الإسلامي، والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى.
وقد كان لدى كونفوشيوس إحساس طاغ بأنه مكلف من السماء برسالته الأخلاقية، وهي التي تعمل على حمايته؛ فعندما كان مهددا من وزير في حكومة إحدى الدول قال لتلاميذه: «السماء زرعت في داخلي الفضيلة، فأي أذى يمكن أن يلحقه بي هوان تي؟» وعندما شعر بالخطر على حياته عندما كان يعبر مقاطعة كوانغ، وقلق عليه تلاميذه قال لهم: «بعد زمن الملك شون صرت قيما على الثقافة بدلا عنه. فإذا شاءت السماء للثقافة أن تضمحل فلن تصل إلى الأجيال اللاحقة، ولكن بما أنها لم تشأ ذلك فما الذي يستطيع أهل كوانغ أن يفعلوه بي؟» ويبدو أن فكرة تكليف السماء لكونفوشيوس كانت شائعة خارج حلقة التلاميذ؛ فبعد خروج أحد المسئولين العسكريين من مقابلة لهم مع المعلم قال للتلاميذ: «أيها الأصحاب، لقد ضل العالم عن صراط الحق زمنا طويلا، والآن أرى أن السماء سوف تستخدم معلمكم كناقوس ينبه كل الناس.»
مكانته التاريخية
شهدت مكانة كونفوشيوس في تاريخ الصين صعودا وهبوطا؛ فخلال حياته كان معلما بين معلمين كثر، وبعد وفاته ارتفع تدريجيا إلى مكانة المعلم الأول، وعندما حل القرن الأول قبل الميلاد خلال حكم أسرة هان التي وحدت الصين لمدة أربعة قرون، تحول إلى شخصية قدسية. ومع مطلع العصر الميلادي صارت الكونفوشية أقرب إلى الدين، وصار لكونفوشيوس كهنة يقربون له القرابين في المعابد. ولكن هذا المجد لم يدم طويلا؛ فمع نهاية عصر أسرة هان عاد كونفوشيوس إلى مرتبة المعلم الأول. مع نهاية القرن التاسع عشر وتشكيل الجمهورية التي حلت محل الإمبراطورية فقد مكانة المعلم الأول. واليوم يرى الصينيون فيه معلما متميزا، ولكنه ليس الأهم.
الفصل الثالث
مو تزو، ونقد الكونفوشية
كان مو تزو الفيلسوف المهم الثاني بعد كونفوشيوس خلال القرون الأخيرة من عصور ما قبل الميلاد، ولكن الأخبار التاريخية لا تعطينا الكثير من المعلومات عن سيرة حياته؛ فهنالك أخبار تقول إن موطنه الأصلي هو دولة سونغ، وأخرى تقول إنه دولة لو التي جاء منها كونفوشيوس. كما أن التاريخ الدقيق لميلاده ووفاته غير معروف، وكل ما نستطيع قوله بهذا الشأن هو أنه عاش في زمن ما بين عام 480 وعام 381ق.م.؛ أي خلال القرن الذي تلا وفاة كونفوشيوس؛ ولذلك فإن مصدرنا الوحيد عن حياته هو الكتاب الذي يحمل اسمه.
تمتع مو تزو في زمنه بشهرة لا تقل عن شهرة كونفوشيوس، ولكن الاختلاف بين هاتين الشخصيتين كان كبيرا حقا؛ فقد تمتع كونفوشيوس بكل صفات «الجنتلمان» الصيني الذي تسلسل من أصل نبيل، وبالتالي فقد كان لديه تعاطف مع المؤسسات التقليدية، وتقدير لقواعد الأدب والمعاملات، وميل إلى الآداب والفنون الراقية. أما مو تزو فقد خرج من عامة الشعب، وبالتالي فقد كان ناقدا للمؤسسات التقليدية، ولأدب الأرستقراطية وفنونها وطقوسها، وللفلسفة التي تسوغها؛ لأن العامة لم يكن لديهم الوقت ولا التعليم ولا المال اللازم للاستمتاع بما يستمتع به الأرستقراطيون.
يرجح الباحثون في سيرته أنه كان ينتمي إلى شريحة «الفرسان الجوالين» الذين شكلت أخلاقهم وثقافتهم خلفيته الفكرية. وقد كان هؤلاء خلال القرون الأولى لحكم أسرة تشو (وقبل أن يتحولوا إلى جوالين) عبارة عن أرستقراطية عسكرية تؤلف عماد الفرق العسكرية المقاتلة، وبعد ذلك صاروا يختارون من عامة الناس. وعندما بدأ النظام الإقطاعي بالتفكك فقد هؤلاء وظائفهم وألقابهم، وتحولوا إلى فرسان جوالين يقدمون خدماتهم لمن يطلبها لقاء أجر. وتصفهم السجلات التاريخية بأنهم صادقون في كلامهم، ومخلصون في عملهم، وموفون بعهودهم، ومسارعون إلى نجدة المستجير. وكان لهم تنظيمات عسكرية تقوم على الانضباط الصارم والطاعة العمياء للرئيس الذي كان له سلطة الحياة والموت على أتباعه.
كانت المدرسة التي أسسها مو تزو بمثابة امتداد لأخلاقيات هذه الشريحة العسكرية؛ فقد كان لديه نحو 200 من التلاميذ أو الأتباع تلقوا العلم على يديه، وفرض عليهم نظاما صارما في الحياة، فكان عليهم ارتداء ملابس عادية مما يلبسه العمال الزراعيون، وتناول وجبة واحدة في اليوم قوامها حساء الخضار، وكان بمقدوره أن يأمرهم باقتحام النار أو السير فوق حد السكاكين. كما استمرت سلطته عليهم حتى بعد خروجهم إلى الحياة العملية واستلامهم وظائف إدارية، غير أن مو تزو وجماعته اختلفوا عن بقية جماعات الفرسان الجوالين في ناحيتين؛ الأولى: هي أن الجوالين العاديين كانوا مستعدين لخوض أية حرب طالما أنهم يقبضون أجرهم، أما مو تزو وجماعته فقد عارضوا الحروب العدوانية ووقفوا إلى جانب الحروب العادلة، وكانوا على استعداد لتقديم العون إلى الدولة المستضعفة في حال تعرضها لعدوان دولة قوية. والناحية الثانية: هي أن مو تزو وضع الأسس النظرية لأخلاقيات الفرسان وصار معلما لمدرسة فلسفية جديدة.
يقال إن مو تزو تلقى العلم في البداية على يد بعض الكونفوشيين، ولكنه شعر بعد ذلك بأن الكونفوشية لم تصل إلى جذور المشاكل التي تتسبب في شقاء الناس وإنما زادتها حدة، فانشق عنها. ولربما فسر لنا هذا مشاركته للكونفوشية في بعض أفكارها؛ فقد تحدث عن «الطريق» أو «صراط حق» الذي تحدث عنه كونفوشيوس، كما قال بضرورة حصول الحاكم على ثقة الشعب كشرط لاستمراره في الحكم، وتعيينه لأصحاب الكفاءة والفضيلة في المناصب الحكومية بصرف النظر عن منبتهم الطبقي، ورفض مثلما رفض كونفوشيوس الحروب العدوانية التي تشنها بعض الدول الكبرى بغرض التوسع، ووجه اهتمامه في التكتيك العسكري نحو الحروب الدفاعية؛ ولهذا نجد في كتابه فصولا يشرح فيها كيفية تحصين أسوار وبوابات المدينة، وبناء أدوات صد الهجوم، والدفاع ضد الأنفاق وسلالم التسلق، وما إلى ذلك من متطلبات الحرب الدفاعية.
غير أن خلاف مو تزو مع الكونفوشية كان أكبر من أن تلطفه مثل هذه التوافقات. وقد نالت الممارسات والأفكار الكونفوشية التالية جل نقده: (1)
فقد اعترض على الجنازات الباهظة التكاليف التي كانت شائعة في زمنه بتشجيع الكونفوشيين الذين رأوا فيها تعبيرا عن بر الوالدين. ومن أقواله في ذلك: إن جنازة الشخص العادي قد تستنزف مدخرات أسرته، أما جنازة أمير الدولة فقد تفرغ خزينتها. وكان كونفوشيوس قد أوصى بالاعتدال في إقامة الجنازات، واستنكر الإسراف في المظاهر، ولكن بعض تلاميذه دافعوا عن الجنازات الفخمة، حتى إن بعض أتباعهم تخصصوا في ترتيب وخدمة الجنازات وصارت مصدر رزق لهم. (2)
كما اعترض على فترة الحداد الطويلة على وفاة الوالدين، والتي كانت تدوم ثلاثة أعوام في ذلك العصر، يمتنع خلالها الابن الأكبر عن ممارسة أي نشاط عملي، ويهجر بيته ليأوي إلى كوخ متواضع يعيش فيه حياة زهد وتنسك، عازفا عن كل متع الحياة بما في ذلك ممارسة الجنس. أما حاكم الدولة فيتنازل عن الحكم لكبير وزرائه، ويتبع الأسلوب نفسه في الحداد. وقد كان لكونفوشيوس مواقف مؤيدة لهذا التقليد، وقدم له المبررات التي ساعدت على استمراره، أما مو تزو فقد رأى فيه هدرا لطاقة الأفراد، وإفقارا للمجتمع الذي يخسر عمل المنقطعين عن الإنتاج، وإقلالا من عدد السكان بسبب العفة الجنسية التي يلتزمها هؤلاء. كما رأى فيه تهديدا لنظام الحكم بسبب عزوف الحاكم عن مسئولياته. (3)
لم ير مو تزو في الفنون الراقية التي شجعها الكونفوشيون سوى فنون مبتذلة ولا منفعة من ورائها للمجتمع ولا ثروة للأمة، بل على العكس؛ لأن الاهتمام بها مضيعة لوقت الناس والحكام، ويدفعهم إلى إهمال أعمالهم. (4)
يقول الكونفوشيوس بأن على المرء أن يعمل بدافع الواجب الخلقي لا بدافع المنفعة؛ أي أن يفعل ما هو صواب لأنه صواب فقط. أما مو تزو فيطابق بين المصلحة والمنفعة، ويرى أن كل ما هو نافع صالح، وكل ما هو صالح نافع. (5)
يؤمن الكونفوشيون بالقدر، وبأن ما يأتي به محتوم ولا يمكن تفاديه، وهذا يؤدي برأي مو تزو إلى تقاعس الأفراد وتسليم أمورهم للقدر طالما أننا لا نستطيع له ردا. (6)
يؤمن الكونفوشيون بقوة السماء باعتبارها قدرة شمولية فاعلة في عالم الطبيعة والإنسان، وينزهونها عن الشخصية، كما أنهم لا يعتقدون بقدرة الأرواح على الفعل في المجتمع الإنساني، وكان هذا أيضا رأي الأرستقراطية السياسية والثقافية، التي لم تأخذ المعتقدات الشعبية مأخذ الجد، ثم جاء مو تزو لينتقد هذه الهرطقة ويؤكد على وجود إله مشخص أعلى ذي إرادة وفعل قصدي، وهو في ذلك يعبر أيضا عن انتمائه للطبقة الدنيا في المجتمع الصيني التي كانت أقل شكا في وجود الإله الأعلى وقدرة الأرواح. وقد أوضح منشيوس (تلميذ كونفوشيوس) كيفية عمل قوة السماء كقدرة منزهة عن الشخصية في الحوار التالي:
سأل وان جانغ منشيوس: هل صحيح أن الملك ياو وهب المملكة إلى شون؟
أجابه منشيوس: كلا. ليس بمقدور أي ملك أن يهب المملكة لآخر.
قال وان جانغ: ولكن المملكة آلت إلى شون، فمن أعطاه إياها؟
أجابه منشيوس: السماء أعطته إياها.
قال وان جانغ: هل نقلت إليه السماء تعليمات مفصلة عما يتوجب عليه فعله؟
أجابه منشيوس: كلا. السماء لا تتكلم، ولكنها تعلن عن مشيئتها من خلال ما يحدث وما يقوم به البشر.
قال وان جانغ: وكيف تفعل السماء ذلك؟
أجابه منشيوس: لقد اقترح ياو على السماء شون والسماء قبلت به، ثم قام بتقديمه للشعب والشعب قبل به؛ لذلك أقول إن السماء لا تتكلم، ولكنها تعبر عن مشيئتها من خلال ما يحدث فعلا.
سأله وان جونغ: وكيف حدث ذلك من الناحية العملية؟
أجابه منشيوس: عندما كلفه بإدارة شئون الدولة قام بذلك على أفضل وجه، وكان الشعب مطمئنا وراضيا؛ وهذا يعني أن السماء قد قبلت به (منشيوس 9: 5).
وقبل ذلك ورد في كتاب الحوار لكونفوشيوس المقطع التالي الذي يعبر عن الفكرة نفسها: «قال كونفوشيوس: أتمنى لو استغنيت عن الكلام. فقال له التلميذ تسي جونغ: يا معلم، إذ لم تتكلم فما الذي ننقله عنك؟ أجابه كونفوشيوس: وهل تتكلم السماء؟ ومع ذلك فإن الفصول تترى وكل الكائنات تتوالد. هل تتكلم السماء؟»
على أن المفهوم المركزي الذي تقوم عليه فلسفة مو تزو يتمثل فيما يدعوه بالحب الشمولي، وهو الحب الذي لا تمييز فيه بين القريب والبعيد وبين من نعرف ومن لا نعرف؛ فهو يرى أن شقاء العالم يتجلى في عدد من الممارسات أهمها: (1) مهاجمة الدول الكبيرة للدول الصغيرة. (2) ظلم القوي للضعيف. (3) اضطهاد العائلات الكبيرة للعائلات الصغيرة. (4) إساءة الكثرة للقلة. (5) خداع الإنسان الماكر للإنسان الساذج. (6) ازدراء نبيل الأصل لمتواضع الأصل. وكل هذا ينجم في رأيه عن الأنانية وحب الذات، وهذه الأنانية لا علاج لها إلا بنشر مبدأ الحب الشمولي القادر وحده على علاج بؤس العالم.
فلو نظر المرء إلى الدولة الأخرى نظرته إلى دولته؛ لما حدثته نفسه بالتعدي على الدولة الأخرى. ولو نظر إلى البيوت الأخرى نظرته إلى بيته؛ لما حدثته نفسه بسرقة بيوت الآخرين، ولو نظر المرء إلى الآخرين نظرته إلى نفسه؛ لعزف القوي عن مهاجمة الضعيف، والذكي عن خداع الساذج، والغني عن ازدراء الفقير؛ فالأنانية هي مصدر كل الشرور، ولا يمكن القضاء عليها إلا بتوسيع المحبة الشخصية لتغدو محبة لا شخصية تشمل الجميع دون تمييز؛ لأنه من خلال الحب الشمولي يتحقق النفع للفرد وللمجتمع؛ فالحب الشمولي يحقق خمس منافع مرغوب بها، وهي: (1) إثراء البلاد. (2) منع الحروب العدوانية. (3) تلقي بركات الأسلاف. (4) زيادة عدد السكان. (5) استتباب الأمن.
ومن أجل الحفاظ على هذا المجتمع المثالي دعا مو تزو إلى الاعتدال الذي قال به كونفوشيوس، ولكن مع كثير من المبالغة تجعله أقرب إلى التقشف منه إلى الاعتدال؛ فالكساء ينبغي أن يقي من الحر والقر، ولكن لا ينبغي أن يكون أنيقا، والطعام ينبغي أن يكون مغذيا وإن لم يكن طيبا، والبيت ينبغي أن يقي من عوامل الطبيعة ومن اللصوص، ولكن لا ينبغي أن يكون واسعا أو فاخر الأثاث، والجميع ينبغي أن يتزوجوا لزيادة النسل وإن لم يرغبوا في ذلك. في مثل هذا المجتمع القائم على الحب الشمولي، سوف تجد الأرملة ما يلزمها من طعام وكساء، ويجد كبار السن العزاء في شيخوختهم، والأيتام الرعاية والعناية.
على أننا إذا دققنا في مفهوم الحب الشمولي الذي يدعو إليه مو تزو؛ لاكتشفنا أنه ليس الحب العاطفي الذي تسوغه الكونفوشية، بل هو حب صادر عن العقل لا عن القلب؛ لأن مو تزو كان لا يثق بالعواطف ويدعو إلى التخلص منها. وقال في إحدى المناسبات إنه يجب نبذ الفرح والغضب والمرح والحزن والحب. وبما أن هذا النوع من الحب العقلي ليس شأنا غريزيا مثلما هو الحب العاطفي، فقد لجأ مو تزو إلى الترغيب به بوسائل متعددة؛ فمن أحب الآخرين تلقى منهم حبا، ومن ساعد الآخرين حصل على مساعدتهم، ومن كرههم كرهوه بالمقابل، ومن آذاهم تلقى أذاهم؛ أي إن الحب الشمولي هو نوع من الاستثمار المربح الذي يعود على صاحبه بالخير العميم.
إضافة إلى هذا الترغيب فقد عمد مو تزو إلى نوعين من الترهيب؛ ترهيب ديني وآخر سماوي؛ فقد ركز في ترهيبه الديني على فكرة وجود الإله السماوي الأعلى، وقال إنه يحب البشرية ويراقب أعمال الناس ويأمرهم بمحبة بعضهم بعضا دون تمييز، فيثيب الذين يطيعونه بالسعد والحظ الحسن، ويعاقب الذين يعصونه بشتى المصائب والشدائد. كما أكد على وجود الأرواح ونسب إليها مؤازرة الصالحين الذين يمارسون الحب الشمولي وعداوة الصالحين. أما في ترهيبه السياسي فقد ركز على سلطة الحاكم التي ينبغي أن تكون مطلقة. ويأتي قول مو تزو بهذه السلطة المطلقة من نظريته في أصل الدولة الذي يشرحه على الوجه التالي: في مطلع التاريخ الإنساني لم يكن هنالك دولة ، وكان لكل فرد معياره الخاص في الصح والخطأ؛ فإذا كان لدينا شخص واحد فقط كان هنالك معيار واحد، وإذا كان لدينا اثنان كان هنالك معياران، وإذا كان لدينا عشرة كان هنالك عشرة، وكلما زاد الناس كثرت معايير الصح والخطأ، وراح كل واحد يسلك على هواه ويعتبر نفسه على حق والبقية على خطأ؛ وهكذا سادت الفوضى في العالم، ولم يكن هنالك فرق بين البشر والبهائم، ثم تبين للناس أن سبب هذه الفوضى هو عدم وجود حاكم، فقاموا باختيار الرجل الأكثر فضيلة والأكثر قدرة وجعلوه ابنا للسماء؛ وبذلك ولدت الدولة التي يملك ملكها وحده معيار التفريق بين الصح والخطأ، ووجب على الجميع الخضوع له (مو تزو: 2).
في مقابل هذا التفويض الذي حصل عليه الحاكم عليه أن يستغل سلطته في نشر المحبة بين الناس عن طريق تعليمهم وإفهامهم أن الحب الشمولي نافع، وأن من مصلحتهم الشخصية ممارسته؛ فالمحبة عند مو تزو لا تأتي إلا بالتعليم؛ لأن فطرة الإنسان محايدة وتتحدد توجهاتها نحو الأنانية أو المحبة وفقا للمؤثرات الخارجية؛ فهي مثل الثوب الأبيض إذا غمسته بصباغ أحمر صار أحمر، وإذا غمسته بصباغ أصفر صار أصفر. ويجب دعم التعليم بالثواب والعقاب من قبل الحاكم الذي فوضته به السماء مثلما فوضته بحكم الناس، من أجل نشر الحب الشمولي.
هذا وقد اهتم مو تزو بالجدل وخصص في كتابه ستة فصول للمسائل الجدلية والمنطقية، ولكن أسلوبه في الجدل لم يكن يعتمد على إقناع الخصم بقدر ما يعتمد على إحراجه، فلا يملك في النهاية إلا أن يوافقه على رأيه. وهو يعرف الجدل بأنه: الكلام الذي يميز بين الصح والخطأ، ويفرق بين النظام والفوضى، ويوضح مسائل التشابه والتباين، ويدقق في علاقة الأسماء بمسمياتها، ويستقصي العلائق بين الأحكام المتعددة، ويبدد الشكوك، ويفاضل بين النافع والضار. وقد طور تلاميذه من بعده فنون الجدل ووصلوا به إلى ذروة تعادل الذروة التي حققها الجدليون اليونانيون في الحقبة نفسها تقريبا.
عرفت مدرسة مو تزو باسم المدرسة الموهية نسبة إلى اسمه مو، وعرف أتباعه باسم الموهيين . وقد ازدهرت الموهية خلال القرون الثلاثة التي تلت وفاة مؤسسها، وكانت المنافس الرئيسي للكونفوشية، ولكنها أخذت بالانحدار في سياق القرن الأول الميلادي ثم اختفت بسرعة؛ فلقد كان تطرف مو تزو يناقض الاعتدال الذي كان فضيلة أساسية لدى الإنسان الصيني الميال بطبيعته إلى المحافظة على التوازن في كل شئونه.
لقد طرح كونفوشيوس برنامجا آمن بأنه سيجعل الناس سعداء، أما مو تزو فقد طرح برنامجا لعلاج شرور معينة، وفي سبيل ذلك كان على استعداد للتضحية بكل شيء بما في ذلك سعادة الناس.
الفصل الرابع
منشيوس
الاسم منشيوس هو الصيغة اللاتينية لاسم المعلم الثاني للفلسفة الكونفوشية مينغ كيه
Ming K’e . كان من رعايا دولة تسونغ في المناطق الشرقية من الصين (مقاطعة شاندونغ الحالية)، وعاش بين عامي 371 و289ق.م.؛ أي خلال أواسط فترة الممالك المتحاربة التي سادتها الحروب بين أمراء المقاطعات الصينية، وبلغ النظام الإقطاعي مراحله الأخيرة التي أدت إلى تفككه وانهياره على يد أسرة تشين عام 221ق.م.؛ أي بعد حوالي نصف قرن من وفاة منشيوس.
على أن فترة الاضطرابات هذه ترافقت مع نهضة فكرية نشطت خلالها المدارس الفلسفية، التي راح أمراء الدويلات الصينية المتنافسة يجتذبون معلميها للاستفادة من آرائهم في الحكم والسياسة، سعيا وراء التفوق على منافسيهم. وكان شوان حاكم دولة تشي أكثر هؤلاء الأمراء اهتماما بجذب المثقفين إلى عاصمته ليباهي بهم بقية الدول. وتذكر السجلات التاريخية أنه قد استضاف عددا كبيرا منهم، وبنى لهم البيوت وخصهم بالرعاية والعناية، وبرواتب كبار الموظفين دون أن يعهد إليهم بوظائف إدارية، وإنما اقتصرت مهامهم على تقديم المشورة للحكومة؛ وبذلك فقد تأسست في تشي أكاديمية علمية لعبت دورا مهما في الحياة الثقافية والسياسية لتلك الفترة.
تتلمذ منشيوس على يد بعض تلاميذ حفيد كونفوشيوس المدعو تزو تسو، وبعد أن نبه ذكره رحل إلى دولة تشي وأقام في أكاديميتها، وكان له مع شوان الملك حوارات مطولة أوردها في كتابه، ثم غادرها وتجول بين دويلات عديدة باحثا عن حاكم يتبنى أفكاره في الحكم الخيري (أو المحسن) الذي كان يدعو إليه، فكان يلقى الحفاوة والترحيب أينما حل، ولكنه لم يجد ضالته المنشودة؛ فقد تميز منشيوس عن العديد من المثقفين الذين أحاطوا بأمراء ذلك العصر، بأنه لم يكن يقدم المشورة التي ترضي الأمير وتزين له أعماله، وإنما المشورة الحقة التي تصب في مصلحة الدولة والرعية وتصحح سلوك الحاكم. وهكذا آل به الأمر إلى ما آل إليه كونفوشيوس، وعاد إلى مسقط رأسه، حيث عكف مع تلاميذه على تأليف الكتاب المعروف باسمه، والذي يحتوي على محاورات جرت بينه وبين تلاميذه، أو بينه وبين الأمراء الذين أقام عندهم خلال تجواله. وقد عد هذا الكتاب المرجع الثاني للكونفوشية بعد كتاب كونفوشيوس.
تتميز محاورات منشيوس عن محاورات كونفوشيوس بأنها أكثر طولا وتفصيلا، كما أن تعليقاته وآراءه ترد ضمن سياقات تفتقد إليها تعليقات وآراء كونفوشيوس التي يكتنفها الغموض في أحيان كثيرة؛ بسبب افتقادنا إلى المناسبات التي قيلت فيها؛ ولذلك فإن قراءة منشيوس جنبا إلى جنب مع كتاب كونفوشيوس من شأنها أن تلقي ضوءا على المواضع الغامضة لدى كونفوشيوس؛ فلقد طور منشيوس العديد من أفكار كونفوشيوس ووصل بها إلى غاياتها الأخيرة، كما عالج مسائل جديدة لم يتطرق إليها كونفوشيوس، نشأت بسبب اختلاف العصر واختلاف مشكلاته الفلسفية، وقدم ذلك كله بأسلوب أدبي راق قل نظيره عند بقية فلاسفة الصين، فما الذي قاله منشيوس؟
الطبيعة الأصلية للإنسان
لم يتحدث كونفوشيوس عن الطبيعة الأصلية للإنسان إلا مرة واحدة، عندما قال: «الناس متشابهون في طبيعتهم الأصلية، ولكن تفرقهم عاداتهم وتقاليدهم»، دون أن نعرف المناسبة وراء هذا القول، وهذا يعني أن مسألة الطبيعة الأصلية للإنسان لم تكن مطروحة أيام كونفوشيوس، ولكنها صارت موضوعا خلافيا في أيام منشيوس، وتعاملت معه ثلاث نظريات؛ تقول النظرية الأولى إن الطبيعة الأصلية للإنسان ليست خيرة ولا شريرة. وتقول النظرية الثانية إن الطبيعة الأصلية تحتوي على ميلين؛ ميل إلى الخير وميل إلى الشر. وتقول النظرية الثالثة إن طبيعة بعض الناس خيرة وطبيعة بعضهم شريرة.
وقد بنى منشيوس نظريته في الطبيعة الإنسانية انطلاقا من نقده للنظرية الأولى التي قال بها الفيلسوف كاو تزو
Kao Tzu
الذي عاصر منشيوس، وكان لفلسفته رواج في ذلك الوقت. ومفاد نظرية كاو تزو هو أن الطبيعة الأصلية للإنسان تحتوي على ميلين فقط: وهما الشهية إلى الطعام والشهية إلى الجنس. وبما أن هذين الميلين فطريان عنده لا مكتسبان، فمعنى ذلك أنه لا شر فيهما ولا خير، وإنما انصياغ لما تفرضه الفطرة.
لم ينكر منشيوس وجود هذين الميلين، وإنما أنكر أن يكون هذان الميلان هما كل الطبيعة الإنسانية؛ لأن هذه الطبيعة تتكون من طبيعتين؛ واحدة حيوانية يتشارك بها مع بقية أحياء الأرض، وتتألف من الميل إلى الطعام والميل إلى الجنس. وطبيعة إنسانية ينفرد بها ولا يمتلكها الحيوان، وهي التي يعنيها عندما يتحدث عن الطبيعة الأصلية للإنسان، وهي مصدر الخير عنده. أما الطبيعة الحيوانية فعلى الرغم من أنها ليست طيبة ولا خبيثة، إلا أنها يمكن أن تكون مصدرا للشرور إذا لم يراقبها المرء ويتحكم بها. وقد قدم منشيوس في دفاعه عن هذه النظرية عددا من الحجج، لعل أهمها ما أورده في الباب الثالث من كتابه، الفصل 6، حيث يقول: «كل البشر يتمتعون بقلب رحيم ومتعاطف يأسى لعذابات الآخرين ... وما أعنيه بقولي هذا يشرحه المثال التالي: لو أن أي إنسان رأى فجأة طفلا رضيعا على وشك السقوط في بئر (وهو يزحف نحوها)، سيتحرك في داخله شعور بالجزع والتعاطف، لا طلبا للشكر والعرفان من أبوي الطفل، ولا طمعا في مديح جيرانه وأقربائه، ولا لنفوره من سماع صراخ الطفل.
ومن هنا يمكن القول بأن الذي لا يمتلك قلبا رحيما متعاطفا ليس بإنسان، وكذلك من لا يمتلك الشعور بالخجل، ومن لا يمتلك التواضع والكياسة، ومن لا يميز بين الصح والخطأ.
إن التعاطف هو (بذرة أو) بداية المرءوة
1
والخجل هو بداية الصلاح (الاستقامة)،
2
والتواضع هو بداية قواعد الأدب والمعاملات،
3
والتمييز بين الصح والخطأ هو بداية الحكمة ... فإذا استطاع المرء رعاية وتنمية هذه البدايات، فإنها تغدو مثل بداية اشتعال النار أو انبثاق ينبوع، وإذا أكمل رعايتها فسيغدو قادرا على النهوض بأعباء حكم كل البلاد، وإذا فشل في ذلك فلن يكون قادرا حتى على القيام بأعباء والديه» (منشيوس 3: 6).
إن مفتاح فهمنا لهذا الفصل من كتاب منشيوس هو استعماله لكلمة «فجأة» في وصفه لما يشعر به المرء، عندما يرى طفلا يزحف نحو بئر ويوشك أن يقع فيه؛ فالشعور بالجزع والتعاطف قد حصل بشكل تلقائي ودونما تفكير؛ ولذلك لا يمكن إلا أن يكون تعبيرا عن الطبيعة الأصلية الخيرة عند الإنسان. ولكن هذا الإحساس الطيب الذي تولد فجأة ليس إلا بذرة أو بداية المروءة، وهو لن يتحول مع بقية البدايات التي ذكرها منشيوس إلى فضائل ثابتة إلا بالتطوير والتنمية، فتتفتح حسب قوله مثلما تتفتح الزهرة من البرعم، أو مثلما تنمو الشجرة من البذرة. ولكن لماذا يتوجب على الإنسان أن يسمح لهذه البدايات الأربع بالتفتح بدلا من الغرائز الحيوانية التي تشكل الطبيعة الأخرى؟ وجواب منشيوس على ذلك هو أن هذه البدايات هي التي تميز المرء وتجعل منه إنسانا حقا. وعلى الرغم من أن الفارق بين الإنسان والحيوان ضئيل، إلا أن الرجل النبيل يحافظ على هذا الفارق، بينما يهمله معظم عامة الناس.
على أن من يهمل هذا الفارق بين الإنسان والحيوان ليس فاقدا للطيبة الأصلية، ولكنه ضل عنها بتأثير عوامل خارجية. وهنا يسوق منشيوس المثال التالي لتوضيح فكرته: «كانت الأشجار على جبل نيوشان تنمو بوفرة، وتزداد نماء في الليل والنهار بماء المطر ورطوبة الندى فتبرعم وتورق، ولكن لقرب الجبل من العاصمة فقد وقعت أشجاره تحت ضربات الفئوس، وراحت الماشية ترعى هناك حتى جعلته أجرد، وظن الناس أنه لم تكن فيه أشجار قط، ولكن هل كانت هذه هي الطبيعة الأصلية للجبل؟» «وكذلك الأمر فيما يتعلق بالإنسان الذي لا تخلو طبيعته الأصلية من الإحسان والصلاح، وإذا حدث ذلك فلأنه ضل عن طبيعته الأصلية وصار مثل تلك الأشجار التي وقعت تحت ضربات الفئوس وفقدت رونقها الأصلي ... وعندما يرى الآخرون ذلك سيعتقدون أنه لم تكن له طبيعة طيبة فقط. ولكن هل هذه هي طبيعته الفطرية؟ إنك عندما تنمي شيئا فإنه يكبر ويزداد، وبدون ذلك فإنه يذوي ويفسد.»
بين الواجب والمنفعة
من المهام التي أخذها منشيوس على عاتقه معارضة أفكار مو تزو، وهو في الفصل الأول من كتابه ينتقد بشكل غير مباشر مبدأ مو تزو في المنفعة، القائم على أن كل ما هو نافع صالح، وكل ما هو صالح نافع، وذلك من خلال حوار جرى بينه وبين هوي ملك ليانغ الذي قصده منشيوس عله يجد عنده أذنا صاغية لأفكاره في الحكم والسياسة؛ فقد بدأ الملك حديثه بقوله: «لقد قطعت إلينا مسافة طويلة جدا، ولا بد أنك جئت لتعرض علينا ما ينفع هذه الدولة.» فقال له منشيوس: «لماذا اختار جلالتكم الحديث عن المنفعة؟ لقد جئت لأعرض عليكم مسائل تتعلق بالحكم القائم على الصلاح والإحسان. عندما يسأل جلالتك: كيف أنفع مملكتي؟ ويسأل موظفوك: كيف ننفع أسرنا؟ ويسأل العامة والمثقفون: كيف ننفع أنفسنا؟ فإن كل من في الأعلى ومن في الأسفل سوف يتنافسون لتحقيق المنفعة، وتواجه المملكة الأخطار» (منشيوس 1: 1).
ومنشيوس هنا يتابع ما بدأه كونفوشيوس في نقد مبدأ المنفعة عندما قال: «الرجل النبيل يعمل بدافع الواجب الخلقي، والرجل الوضيع يعمل بدافع المصلحة.» على أن توكيد منشيوس على التمييز بين الدوافع الأخلاقية ودوافع المنفعة وحسابات الربح والخسارة، لا يعني وجود تناقض تام بين الدافعين؛ فالإنسان الأخلاقي يعمل بدافع المنفعة وحسابات الربح والخسارة، ولكن عندما تتعارض المنفعة مع الفضيلة فإنه يضحي بالمنفعة لحساب الفضيلة. وبهذا الخصوص يقول: «السمك هو طبقي المفضل، وكذلك كف الدب، فإذا لم أستطع الحصول عليهما معا فإنني أفضل كف الدب. الحياة هي ما أرغب به، وكذلك الصلاح، فإن لم أستطع الحفاظ عليهما معا اخترت الصلاح» (منشيوس 11: 10).
يضاف إلى ذلك أننا عندما نطلب الفضيلة نجدها لأننا نبحث عن شيء موجود في داخلنا وهو من طبيعتنا الأصلية، وتحقيقه لا يتطلب سوى بذل الجهد، أما عندما نطلب المنافع مثل الثروة والجاه، فإن جهدنا وحده لا يكفي؛ لأن ما نبحث عنه موجود خارجنا، وتحقيقه يتوقف على عوامل خارجية مثل الحظ والقدر (منشيوس 13: 3). وبهذا المعنى قال كونفوشيوس من قبل: «هل المروءة بعيدة المنال؟ كلا، بل هي حاضرة هنا والآن، متى طلبتها وجدتها» (كتاب الحوار 7: 29).
بطلان مبدأ الحب الشمولي
لعل أكثر ما ناله مو تزو من نقد منشيوس هو مبدؤه في الحب الشمولي الذي لا تدرج فيه ولا تمييز، بل يبذل بالتساوي على الجميع، فيحب المرء ابن جاره مثلما يحب ابنه، ويحب ابن البلدة الأخرى مثلما يحب ابن بلدته، ومواطن الدولة الأخرى مثل مواطن دولته؛ فمنشيوس يرى، كما يرى بقية الكونفوشيين، أنه من الطبيعي أن يحب المرء مواطني دولته أكثر مما يحب مواطني الدولة المجاورة، ويحب مواطني بلدته أكثر مما يحب مواطني البلدة المجاورة، ويحب أهل بيته أكثر مما يحب مواطني بلدته، ولكنه يرى بالمقابل أن من لا يقدر على حب القريب لن يقدر على حب البعيد، والحب المتدرج يتوسع حلقة فحلقة حتى يشتمل على الجميع في النهاية، وذلك فيما يدعوه منشيوس بتوسيع دائرة الذات، أو توسيع دائرة الحب لتغدو دوائر متتابعة يحتوي بعضها بعضا. وعلى ما يقول في الباب الأول من كتابه: «دلل صغارك، ثم وسع هذا الدلال ليشتمل على كل الصغار. وقر المسنين في أسرتك، ثم وسع هذا التوقير ليشتمل على كل المسنين ... لقد أفلح القدماء لخصوصة واحدة فيهم، وهي أنهم برعوا في توسيع دائرة عطفهم ورعايتهم» (منشيوس 1: 7).
ولكن يبقى من الطبيعي بعد ذلك أن يحب المرء أبويه وأهل بيته أكثر من الجميع، وهذه عاطفة فطرية تتولد تلقائيا في النفس الإنسانية وهي جزء من طبيعتها، أما الحب الشمولي فأمر يضاف إلى هذه الطبيعة من خارجها؛ ولذلك فقد دعمها مو تزو بمؤيدات خارجية تتمثل في الثواب والعقاب الذي تفرضه السلطة السياسية والسلطة الإلهية، بينما يفترض في الفضيلة أن تبذل لذاتها ودون مؤيدات خارجية، وإلا كفت عن أن تكون فضيلة حقة.
فلسفة الحكم (الشعب يأتي أولا)
في الباب الرابع عشر من كتابه يتقدم منشيوس بثلاثة أفكار راديكالية تلخص فلسفته في الحكم والسياسة؛ فهو يرى أن الدولة تتألف من ثلاثة عناصر هي: (1) الأرض ومذابح آلهتها. (2) الشعب. (3) الحاكم. بين هذه العناصر يأتي الشعب في المقام الأول، وفي المقام الثاني الأرض ومذابح آلهتها، وفي المقام الأخير الحاكم؛ لذلك فإن من يكسب قلوب الشعب يغدو ملكا، ومن يكسب قلب الملك يغدو أمير مقاطعة، ومن يكسب قلب أمير مقاطعة يغدو وزيرا. فإذا فشل الحاكم في مهامه وجب استبداله، وإذا جرى تقديم القرابين لآلهة الأرض وفق الأصول وفشلت في منع الجفاف أو الفيضانات المدمرة، فإنها تستبدل أيضا (منشيوس 14: 14). وهذه أول مرة في تاريخ الفلسفة الصينية تطرح مسألة تنحية الحاكم بمثل هذه الجرأة والوضوح؛ فسلطة الحاكم لا تستمد مما يتمتع به من قوة، بل من حب الرعية.
وقد قال في موضع آخر: «الملك تشيه
Chieh
والملك جو
Zhou
خسرا ملكهما لأنهما خسرا الرعية؛ وسبب خسارتهما للرعية هو أنهما خسرا محبتها. إذا أردت أن تظفر بالمملكة عليك أن تكسب قلوب الناس» (منشيوس 7: 9). وقد جاهر منشيوس بآرائه هذه أمام الحكام دون مواربة، على ما نرى في هذه المحاورة: «سأل شوان ملك تشي منشيوس عن الوزراء وكيف يكونون، فقال له منشيوس: عن أي نوع من الوزراء تتحدث؟ قال الملك: هل هنالك أنواع من الوزراء؟ أجابه منشيوس: نعم. هنالك وزراء ينتمون إلى السلالة الملكية وآخرون لا ينتمون إليها. قال الملك: إذن حدثني عن الوزراء الذين ينتمون إلى السلالة الملكية. قال منشيوس: إذا ارتكب الحاكم أخطاء فادحة على هؤلاء أن يعترضوا عليه، فإذا لم يصغ إليهم عليهم أن يخلعوه. وهنا اكفهر وجه الملك وبدا عليه الاستياء، فقال له منشيوس: أرجو ألا تستاء مني يا مولاي؛ فقد سألتني وكان علي قول الحق» (منشيوس 10: 9).
ولم يجد منشيوس حتى في قتل الملك الفاسد جريمة؛ لأنه لم يسلك كملك، وبالتالي فقد تحول إلى شخص عادي، وقتله لا يعد جريمة قتل ملك (وهو أمر محرم في الثقافات الراقية)، وإنما إصدار حكم قضائي بالإعدام، على ما نقرأ في الحوار التالي: «سأل شوان ملك تشي منشيوس: هل صحيح أن شانغ تانغ (أول ملوك أسرة شانغ) نفى وقتل شيا تشي (آخر ملوك أسرة شيا؟) وأن الملك وو حمل بجيشه على الملك جو (وتسبب في موته؟) أجابه منشيوس: هكذا تقول الأخبار. فسأله الملك شوان: وهل يحل قتل الملوك؟ أجابه منشيوس: إن من يفسد في الأرض خائن لشعبه، والذي يعيق الفضيلة مخرب، وكلاهما منبوذ. لقد سمعت أن الملك وو نفذ حكم الإعدام بحق الملك جو لأنه ارتكب جريمة قتل الملوك» (منشيوس 2: 8).
وبين خلع الحاكم وقتله هنالك خيار ثالث، وهو النفي الذي يترك فرصة لمراجعة النفس والتوبة، على ما نقرأ في الحوار التالي: «قال صن تشو لمنشيوس: لقد قام الوزير ين ين بنفي ملكه الجديد تاي تشيا إلى تونغ لافتقاده إلى الإحسان والصلاح؛ فسرت الرعية بذلك، وعندما استعاد الملك طيبته أعاده الوزير إلى العرش فسرت الرعية بذلك أيضا. فهل يحق لوزير مهما كان فاضلا أن ينفي سيده بحجة افتقاده للفضيلة؟ أجابه منشيوس: نعم؛ إذا كانت دوافعه إلى ذلك مثل دوافع ين ين وإلا عد مغتصبا» (منشيوس 11: 31).
أما كيف يكسب الحاكم قلوب الرعية فمن خلال قيامه بأعباء واجبين؛ الأول تجاه نفسه، والثاني تجاه الرعية. فواجبه تجاه نفسه يتلخص في إصلاح نفسه قبل أن يفكر بإصلاح الآخرين؛ لأن في صلاح الحاكم صلاحا للرعية، وفضيلته تغدو نموذجا يحتذيه الجميع (منشيوس 8: 5).
أما واجبه تجاه الرعية فيتلخص في عنايته برخاء الناس، والرخاء هنا لا يعني بناء دولة رفاهية عند منشيوس، بل أن يكون كل رب أسرة قادرا على تأمين الحاجات الأساسية لأسرته. وقد قدم منشيوس عبر كتابه وصفات عديدة للحاكم من أجل إحلال الرخاء، ومنها قوله: «دع أشجار التوت تزرع في أرض مساحتها واحد مو ضمن سياج العائلة، ودع ربات البيوت يربين دودة القز، وسوف يكون لدى المسنين أثواب حريرية يرتدونها. دع خمس دجاجات وخنزيرين تربى بعناية في مواسم تكاثرها، وسيكون لدى المسنين لحم يأكلونه. دع رب كل أسرة يزرع مائة مو من الأرض، وسيكون لدى كل أسرة مؤلفة من ثمانية أفراد ما يكفي لمعيشتهم» (منشيوس 8: 22).
ولتحقيق هذه الغاية أشار منشيوس على الحاكم في أكثر من حوار بألا يتدخل في مواسم العمل الزراعي؛ أي ألا يأخذ الرجال من حقولهم من أجل السخرة في المشاريع العامة أو المشاركة في الحروب ، في الوقت الذي يتوجب عليهم فيه القيام بالعمل المنتج إبان موسمه. ومن ذلك قوله لهوي ملك ليانغ عندما شكا إليه تناقص عدد السكان في دولته: «إذا لم تتدخلوا في مواسم العمل الزراعي، صار لديكم من الحبوب أكثر من حاجتكم، وإذا احتطبتم في التلال والأحراش في الأوقات المناسبة، صار لديكم من الحطب أكثر مما تحرقه مواقدكم؛ عند ذلك سيغدو كل فرد قادرا على إعالة والديه في حياتهما، وتأمين جنازات لائقة لهما بعد مماتهما» (منشيوس 1: 3).
ولكي يكسب الحاكم قلوب الرعية عليه أن يكون بمثابة الأب والأم لها؛ أي إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تقوم على أساس شخصي وعلى أساس أخلاقي أيضا؛ فالإحسان الذي هو أول تجل للمروءة في السلوك يتجلى أولا في علاقة المرء بأبويه: «محبة الوالدين هي الإحسان» (منشيوس 3: 15). وما على الحاكم أن يقوم به هو توسيع دائرة المحبة التي جمعته بأبويه لتشتمل على الرعية، وبذلك يتم التأسيس لما يدعوه منشيوس بالحكم الخيري (المحسن، الرحيم). والحاكم المحسن لا غالب له في جميع البلاد، ويغدو ملكا على الكل بمشيئة السماء (منشيوس 3: 5). ومن هنا جاء لقب ابن السماء الذي يطلقه الكونفوشيون على الملك الفاضل المؤهل لتوحيد البلاد.
مثل هذا الحاكم ليس بحاجة إلى شن الحروب من أجل بسط سلطته على رعايا الدول الأخرى؛ لأن الناس سوف تتقاطر إليه من كل حدب وصوب مثلما يتدفق الماء نحو المناطق المنخفضة، وتعطيه ولاءها عن طيب خاطر؛ فحروب الحاكم المحسن هي دوما حروب دفاعية، أما الحروب الهجومية فينبغي ألا تشن إلا تحت شرطين؛ الأول: أن تكون حملة تأديبية تهدف إلى إسقاط طاغية فاسد استجابة لرغبة رعاياه. والثاني: أن يتمتع من يشن هذه الحملة بالسلطة الأخلاقية التي تخوله ذلك. وحول هذا الموضوع نقرأ في كتاب منشيوس أن أحدهم سأله عما إذا كان قد شجع دولة تشي على شن حرب ضد دولة يان، فأجابه منشيوس: كلا. كل ما في الأمر أن شن تونغ الوزير في دولة تشي سألني عما إذا كان يصح شن حملة عسكرية على دولة يان، فقلت له نعم يصح، ولكنه لو تابع سؤاله لي وقال: ومن يحق له القيام بمثل هذه الحملة؟ لأجبته: إنه الرئيس المفوض من قبل السماء. ولكن ما حدث فعلا هو أن دولة مثل يان في السوء قد شنت الحرب على يان، فلماذا أشجع هذه الحرب؟ (منشيوس 4: 8).
أفكار منشيوس السياسية هذه تأتي في انسجام مع نظريته في أصل الدولة؛ فالدولة والمجتمع المنظم يقومان على العلاقات الإنسانية؛ المحبة بين الآباء والأبناء، العواطف المتبادلة بين الزوج والزوجة، احترام الصغير للكبير، الواجبات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم ... هذه العلاقات الإنسانية هي ما يميز البشر عن البهائم، والدولة مؤسسة أخلاقية، وقد قامت لأنها كانت واجبة القيام، لا لأنها نافعة كما يقول مو تزو. ومثل هذه الدولة قامت في ماض بعيد على يد الملكين ياو وشون.
مشيئة السماء والإنسان المتسامي
كان مفهوم مشيئة السماء خلال مطلع عصر أسرة تشو التي أسست للنظام الإقطاعي، نحو 1027ق.م.، يعبر عن التفويض الذي منحته السماء للأسرة الملكية بحكم الشعب؛ أي إنها كانت مشيئة أخلاقية ذات صلة بأقدار ومصائر الإمبراطورية. بعد ذلك تطور هذا المفهوم في اتجاهين؛ فقد تم توسيع هذه المشيئة الأخلاقية لتشتمل على الأفراد أيضا، وصار كل فرد مطالبا بأن يكون أخلاقيا. كما أخذت مشيئة السماء تتطابق تدريجيا مع مفهوم القدر الذي يتحكم بمصائر الأفراد. ثم جاء كونفوشيوس فقصر مجال فعل القدر ومشيئة السماء على مسألتين هما الحياة والموت، والثروة والجاه، فقال باختصار ودون مناسبة معينة: «الموت والحياة بيد القدر، والثروة والجاه بيد السماء.» ثم جاء منشيوس فألقى ضوءا على مقولة كونفوشيوس المقتضبة هذه، وطورها عندما قال: «هنالك شيء إذا بحثت عنه وجدته، وإذا غفلت عنه أضعته، وبحثك هنا ذو جدوى لتحقيق النتيجة؛ لأن ما تبحث عنه موجود في داخلك. وهنالك شيء تستطيع البحث عنه بوسائل متعددة، ولكن النتيجة متوقفة على القدر؛ لأن ما تبحث عنه موجود خارجك» (منشيوس 13: 3). أي إن مجال فعل القدر في حياة الإنسان يقتصر (كما يقول كونفوشيوس) على الحياة والموت والثروة وبقية الأمور المادية التي يتطلع إليها المرء . وهذه الأشياء موجودة في خارجنا؛ ولذلك فإن تحقيقها لا يتوقف على مدى الرغبة فيها وسعينا في سبيلها، أما تحقيق الكمال الداخلي فمؤكد إذا بذل الإنسان غاية جهده لبلوغه؛ لأن بذور الفضائل مزروعة في داخلنا إذا بحثنا عنها وجدناها. وقد توجه تلميذ بالسؤال إلى منشيوس قائلا: يقال إن كل الناس يمكن أن يصبحوا مثل الملكين الحكيمين ياو وشون، هل هذا صحيح؟ فأجابه: نعم، لا يوجد صعوبة في ذلك، كل ما عليك فعله هو بذل الجهد (منشيوس 12: 2).
وعلى الرغم من أن بعض تلاميذ كونفوشيوس قد بالغوا من بعده في التوكيد على سلطة القدر، إلا أن مساهمة منشيوس في مسألة القدر تتمثل في إيمانه بأن الإنسان يساهم في صناعة قدره بنفسه. فنحن لا نعرف ما سيأتي به القدر قبل وقوعه؛ ولذلك فلا يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي في انتظار النتيجة، بل نستمر في بذل الجهد حتى النهاية، فإذا أفلحنا، ألا يكون موقفنا الإيجابي من القدر هو الذي دفع القدر في أحد الاتجاهين؟ إن القدر هو انعكاس لمقدار ما يبذله المرء في الحياة، وفي هذا يقول منشيوس: «من ينمي فضيلة القلب يعرف الطبيعة الإنسانية، ومن يعرف الطبيعة الإنسانية يعرف طريق السماء. على المرء أن يحافظ على طيبة القلب وينمي طبيعته لكي يتوافق مع طريق السماء. عليه ألا يقلب في ذهنه ما إذا سيموت شابا أم سيطول به العمر، بل أن يستمر في تحسين نفسه في انتظار ما سيأتي به القدر، وبذلك يكون صانعا لقدره» (منشيوس 13: 1).
وفي قوله أعلاه: «من يعرف الطبيعة الإنسانية يعرف طبيعة السماء»، يصل بنا منشيوس إلى المرحلة الأخيرة من مراحل تطور الشخصية الإنسانية، وهي مرحلة الإنسان الذي عرف طريق السماء وتوافق أو تطابق معها. وهذه المراحل كما يمكن أن نستنتج مما سبق شرحه حتى الآن: (1)
مرحلة الإنسان الغرائزي المحكوم بميلين فطريين هما الشهوة إلى الطعام والشهوة إلى الجنس. وفي هذه المرحلة يسلك المرء مدفوعا بغرائزه دون تفكر في عمله أو تقييم خلقي لما يقوم به، وتكون المنفعة الشخصية دوما نصب عينيه. (2)
مرحلة الإنسان الاجتماعي. في هذه المرحلة يكتشف المرء أن طبيعته تتكون من طبيعتين لا واحدة؛ الأولى: يشترك فيها مع الحيوان، وبالتالي هي طبيعة حيوانية لا إنسانية. والثانية: هي طبيعته الإنسانية التي إذا تعهدها بالرعاية تحول إلى إنسان طيب يعي مصالح الآخرين مثلما يعي مصالحه الخاصة، ولا يسعى لمصلحة تضر بالآخرين. (3)
مرحلة الإنسان المتسامي الذي يعي أن فوق المجتمع هنالك مستوى آخر للوجود يحتوي على المجتمع ويتجاوزه وهو الكون، أو السماء التي هي القوة الأخلاقية العظمى. وهذا الوعي هو ما يدعوه منشيوس بمعرفة السماء. ومن يعرف السماء ويتطابق معها يغدو مواطنا كونيا أو سماويا. وبذلك يكون منشيوس قد رفع الحاجز بين الأرض والسماء وبين القدر والطبيعة الإنسانية، وفتح قناة اتصال بين الجوهر الإنساني والسماء.
الفصل الخامس
لاو تسو، المعلم الأول
سيرته وكتابه
تبدأ الفلسفة الصينية بالمعلم الأول لاو تسو، ومع ذلك فإن الضباب يلف شخصية هذا المعلم، وكل ما استطاع قدامى المؤرخين قوله بشأنه هو أنه عاش حياة مديدة بين أواسط القرن السادس وأواسط القرن الخامس قبل الميلاد؛ أي قبل نحو قرن من سقراط المعلم الأول للفلسفة اليونانية. ولدينا خبر عن لقاء جمعه مع كونفوشيوس الأصغر منه سنا، والذي قصده عندما كان يعمل قيما على أرشيف القصر الملكي في عاصمة دولة تشو. وقد صاغ كونفوشيوس انطباعه عن ذلك اللقاء بالكلمات المؤثرة التالية: «أعرف أن الطيور تحلق في الأجواء، والسمك يسبح في الماء، والدبابات تدب على اليابسة. وأعرف أن ما يدب على الأرض يمكن الإيقاع به، وأن ما يسبح في الماء يمكن اصطياده بشص، وما يطير في الأجواء يمكن ملاحقته بسهم. ولكن هناك التنين الذي لا أعرف كيف يمتطي الرياح ويناطح السحاب فيصعد إلى السماء. اليوم رأيت لاو تسو ولا أستطيع مقارنته إلا بالتنين.»
أما عن باقي التفاصيل في حياة لاو تسو، فلا نعرف سوى أنه ترك عمله في القصر بعد أن ساءت أحوال الأسرة المالكة وسادت الاضطرابات في الدولة. وعند بوابة المدينة طلب منه رئيس تحرير الحرس أن يخط كتابا يلخص فيه حكمته، فجلس وأنجز كتاب التاو تي تشينغ، ثم اختفى ولم يسمع به أحد بعد ذلك؛ فلقد كان لاو تسو، على حد وصف أحدهم، شخصية فذة متفوقة، ولكنه أحب أن يبقي نفسه مجهولا.
كلمة «تشينغ» في عنوان الكتاب تعني كتابا كلاسيكيا، وال «تاو» هو المبدأ الأول على ما سنشرح بعد قليل، وال «تي» هي قوته. هذا الكتاب الكلاسيكي هو أقصر كتاب فلسفي في تاريخ الثقافة الإنسانية؛ فهو يتألف من خمسة آلاف شارة كتابية صينية، تكفي اليوم لكتابة مقالة في صحيفة يومية، ولكنه احتوى على فلسفة لاو تسو كلها، والسبب في ذلك أنه اعتمد أسلوبا مكثفا ومختصرا حتى بالنسبة إلى اللغة الصينية القديمة التي دون بها، والتي تتميز عن الصينية الحديثة (لغة المندارين) بشدة إيجازها؛ وهذا ما جعل منه نصا إشكاليا على درجة كبيرة من الغموض.
أخذ الكتاب بالانتشار في الثقافة العالمية منذ أن قدمت له ترجمة لاتينية إلى الجمعية الملكية بلندن عام 1788م. وبحلول عام 1844م كان مترجما إلى الفرنسية والإنكليزية، وورد ذكره في بعض مؤلفات الفيلسوفين الألمانيين هيجل وشوبنهاور. أما الفيلسوف الألماني الثالث هايدجر (1889-1976م) فقد طور خلال النصف الثاني من حياته منهجا فلسفيا يقوم على الأفكار الرئيسية للتاو تي تشينغ. وخلال القرن العشرين تتالى ظهور ترجماته إلى اللغات الأوروبية لا سيما إلى الإنكليزية. وإلى اللغة العربية صدرت في دمشق ترجمة للباحث العراقي الهادي العلوي، وأخرى في القاهرة للباحث علاء ديب، إضافة إلى ترجمتي التي صدرت عام 1998م مع مقدمة عن الفلسفة الصينية وشروح وافية على المتن. وقد اعتمدت في ترجمتي على أربعة نصوص لباحثين صينيين مرموقين، فجاءت صياغة عربية للكتاب أكثر منها ترجمة عن نص واحد. وفي عام 2008م صدر كتابي هذا بطبعة جديدة في الصين عن دار النشر باللغات الأجنبية في بكين، بعد أن قام الباحث الصيني المستعرب د. شوي تشينغ قوه بمراجعة ترجمتي على الأصل الصيني ، واتفقنا على إدخال تعديلات طفيفة عليها.
بقيت تعاليم المعلم الأول فاعلة في الحياة الفكرية والروحية للشعب الصيني، وتعاونت مع الكونفوشية على تشكيل موقف الإنسان الصيني من الكون والحياة والمجتمع، ولكن تاوية لاو تسو التي طورها من بعده تلاميذه، لا سيما تشوانغ تزو الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، والتي ندعوها اليوم بالتاوية الفلسفية، بدأت منذ مطلع العصر الميلادي بالتحول إلى ديانة تبنت العديد من أفكار الكيمياء السحرية (= الخيمياء أو السيمياء) والممارسات اليوجية، وصار لها كهنة ومعابد وطقوس وشخصيات سماوية قدسية، وكتاب مقدس جمعت فيه النصوص التاوية، وانحرفت بذلك عن الطريق الذي رسمه لها المعلم.
على أن التاوية الفلسفية تلقت زخما جديدا مد في عمرها إلى يومنا هذا؛ فبعد دخول البوذية إلى الصين في أواسط الألف الأول الميلادي، تشكلت تاوية فلسفية جديدة متسربلة برداء بوذي، هي بوذية ال «تشان» التي جمعت بين العناصر التاوية والعناصر البوذية في تركيب واحد (والاسم يكتب باللغات الأوروبية:
Chi’an )، وأبقت على تعاليم لاو تسو حية. وما زالت هذه التاوية منتشرة في اليابان وبعض أقطار الشرق الأقصى تحت اسم بوذية الزن
Zen ، التي تلقى اليوم اهتماما واسعا على النطاق العالمي، وتنتشر مدارسها في أوروبا وأميريكا الشمالية.
فما الذي قاله لاو تسو؟
في المبدأ الأول: تقوم فلسفة لاو تسو على مفهوم رئيس هو التاو. والكلمة في اللغة الصينية تعني الطريق أو الطريقة؛ فهي أقرب إلى الكلمة الإنكليزية
way
التي تتضمن المعنيين، فنقول:
This is the way to Damascus ، ونقول أيضا:
This is my way of doing things ؛ أي هذا هو الطريق إلى دمشق، وهذه طريقتي في العمل؛ فال «تاو» هو طريق الطبيعة أو الطريقة التي ينشط بها الكون، وليس اسما بل إشارة إلى المبدأ الأول أو الشمولي الذي نجم عنه كل شيء؛ فالاسم يدل على شيء محدد معروف وموصوف، أما التاو فصيرورة دائمة التدفق والجريان تأبى على التسمية وعلى الوصف أيضا، ونحن لا نستطيع وصفها إلا من خلال وصف الطريقة التي تفعل بها. من هنا فإن التاو ليس ألوهة خالقة للعالم تتحكم به من خارجه، بقدر ما هو خميرة تفعل به من داخله ، والعالم ليس مخلوقا بل هو تلقائي النشأة، وتلقائي النشأة هو تلقائي الاستمرار، إنه أشبه ببنية عضوية ليست بحاجة إلى من يديرها، وليس فيها حاكم أو محكوم ؛ لأن الكل يحدث من تلقاء ذاته وفي ترابط وتزامن مع حدوث الآخر. وفي هذا يقول تشوانغ تزو تلميذ المعلم في الكتاب المعروف باسمه: «قد يبدو أن للعالم سيدا، ولكن ما من دلائل على وجوده. لننظر إلى الجسد الإنساني بعظامه المائة وفتحاته التسعة وأجهزته الداخلية الستة، إنها متكاملة وموجودة في أماكنها الصحيحة. هل يمكن لنا وضع أسبقية لواحدها على الآخر؟ هل نضعها على قدم المساواة؟ هل هي خدم كلها لا تستطيع ضبط بعضها بعضا؟ هل تتبادل دور الخادم والسيد على التوالي؟ ألا ترى أن هنالك شيئا جوهريا مزروعا في صميم تكاملها؟»
ويقول تشوانغ تزو في موضع آخر: «في السماء حركة دائبة وفي الأرض ثبات. هل يتنازع القمر والشمس فلكيهما؟ من يحكم فوق هذه الأمور ويعمل على تنظيمها؟ من يحافظ على اتساقها وتناغمها؟ انظر إلى السحب كيف تغدق مطرها، وإلى ماء المطر كيف يرتفع ثانية ويغدو سحابا. من يحرك السحب لتعطي خيرها؟ ومن بدون جهد ابتدر هذا ويعمل على دوامه؟ رياح تهب من الجهات الأربع، أية أنفاس تحركها، ومن بدون جهد ينظم هبوبها؟ ما هي العلة؟»
إن ما يريد تشوانغ تزو قوله من وراء أسئلة العارف هذه هو أنه لا وجود لعلة خارجية لكل ما عدده من مظاهر حركية في الكون والطبيعة؛ لأن ظهور الكون وصيرورته يتبعان مبدأ نشوء الكائنات المتعضية، حيث تنبثق الفعالية الخلاقة من الداخل لا من الخارج، على غرار ما يحدث في نمو نبتة أو تفتح زهرة. من هنا فإن الفكر التاوي، والصيني عموما، لا يطرح سؤالا جديا حول من خلق العالم والكيفية التي ظهر بها؛ لأنه لو كان العالم قد خلق لكان له صانع صنع أجزاءه ثم ركبها، أما وأنه قد نما انطلاقا من مبدأ كلي يمكن تشبيهه بالقانون الأزلي، فإن السؤال عن صانعه يغدو بلا معنى.
إن كل عناصر الكون الذي يشبه العضوية الحية تتبادل الأثر والتأثير في سلسلة مترابطة لا تعرف العلة والمعلول، حيث التاو هو الخميرة الفاعلة في الباطن، والعمليات الجارية في العالم المادي هي الظاهر؛ فالتاو هو الباطن والظاهر، تجده في كل شيء، وهو المستقل عن كل شيء، على ما تنطوي عليه هذه المحاورة التي يوردها تشوانغ تزو في كتابه: «توجه المعلم الكونفوشي تونغ كاو إلى تشوانغ تزو بالسؤال قائلا: أين يوجد ذلك الذي تدعونه بالتاو؟ أجابه تشوانغ تزو: إنه في كل مكان. فقال تونغ كاو: أريد أن أعرف أين يوجد بالتحديد. أجابه تشوانغ تزو: إنه في النملة. فقال تونغ كاو: كيف يوجد في هذه الدرجة السفلى!؟ فقال تشوانغ تزو: إنه في بلاطة الأرض هذه. فقال تونغ كاو: هذا لعمري أدهى وأمر. فقال تشوانغ تزو: بل إنه يوجد حتى في روث البقر. وهنا سكت تونغ كاو وخانته الكلمات، فتابع تشوانغ تزو قائلا: عليك ألا تسأل عن أشياء محددة يوجد فيها التاو؛ لأنه لا وجود لأي شيء بدون التاو.»
ولعل أفضل ما نقرب به مفهوم التاو إلى الأذهان هو تشبيهه بالقوانين التي تحكم العالم الفيزيائي في علومنا الحديثة؛ فهذه القوانين التي اكتشفها العلم الحديث داخل المخابر وفي المنظومة الشمسية، هي قوانين فاعلة في جميع أرجاء الكون، وتتمتع بالخصائص التالية: (1)
الشمولية. فهي تسري في كل مكان وعبر كل الأزمنة من تاريخ الكون. (2)
الثبات. فهي لا تتغير بمرور الزمن، ولا تعتمد في فعاليتها على أي شيء آخر، بينما تعتمد عليها كل المنظومات الفزيائية. (3)
السرمدية. أي إنها لا زمانية على ما يتبدى من البنى الرياضية المستخدمة في وضع نماذج للعالم الفيزيائي. (4)
كلية السيطرة. فلا شيء يفلت من سيطرتها، ولا تحتاج لأن تزودها أي منظومة فيزيائية عن التغير في أحوالها لكي يقوم القانون بإصدار التعليمات الخاصة بكل حالة.
ومع وجود القوانين لا يغدو حدوث العالم معجزة؛ فقد كانت حاضرة لحظة الانفجار البدئي الكبير الذي نجم الكون عنه، وهي التي تحكمت في تشكل المجرات وتباعدها عن نقطة الانفجار بسرعات محسوبة بدقة، بحيث لو أنها كانت أقل أو أكثر بمقدار بسيط لا يمكن التعبير عنه إلا برقم رياضي متناه في الصغر؛ لانهار الكون وتحول إلى فوضى مطلقة. قد يجادل البعض في أن القوانين الطبيعية ظهرت مع ظهور العالم الفيزيائي، ولكن إذا كان الأمر كذلك فإننا لا نستطيع تفسير ظهور العالم بواسطة القوانين؛ لأنها لا تتمتع في هذه الحالة بوجود سابق على ظهور العالم، وبالتالي لا يمكن أن تكون سببا له. أما إذا كان للقوانين وجود مستقل وسابق، فإن ذلك يشرح لماذا صار العالم على ما هو عليه الآن.
إن كل عنصر في هذا الكون يبدو وكأنه نقطة المركز، تماما كما هو الحال على سطح كرة حيث تتخذ كل نقطة عليه دور المركز. وفي هذا الكون لا يوجد مسير ولا يوجد مسير؛ فهو كون تشاركي يحدث كل شيء فيه في ترابط وتزامن مع حدوث كل شيء آخر. إن أية نملة تدب على الأرض هي مركز الكون؛ فلكي تعيش هذه النملة تحتاج إلى التقاط ما يتساقط على التربة من حبوب، والحبوب تحتاج إلى التربة وإلى دورة الفصول، ودورة الفصول تحتاج إلى الشمس، والشمس إلى المجرة، والمجرة إلى باقي النظام الكوني، والعكس صحيح؛ فمنذ اللحظة الأولى للانفجار الكبير يبدو أن تنامي التعقيد على المستوى الكوني كان يسير في طريق إنتاج الحياة، وبالتالي إلى إنتاج هذه النملة.
الوجود والعدم
في الفصل الافتتاحي من التاو تي تشينغ يقدم لنا لاو تسو مفهوم التاو في ارتباط مع النظرية التاوية في الوجود والعدم:
التاو الذي يمكن وصفه بكلمات
ليس التاو السرمدي،
والاسم الذي يمكن إطلاقه
ليس الاسم السرمدي.
اللامسمى (أو العدم) هو السابق على السماء والأرض.
ثم يأتي تشوانغ تزو ليلقي ضوءا على مقولة لاو تسو هذه:
في البدء لم يكن سوى العدم،
والعدم كان بلا اسم.
فبالنسبة إلى الفكر التاوي فإن العدم والوجود هما تعبيران آخران عن اللامسمى والمسمى؛ ولذلك فإن بعض نسخ كتاب التاو تي تشينغ تضع في مقابل قول لاو تسو في المقتبس السابق: «اللامسمى هو السابق على السماء والأرض»، صيغة بديلة هي: «العدم هو السابق على السماء والأرض.» وشرح ذلك فيما يلي: إن جميع مظاهر الطبيعة عبارة عن كم وكيف وصورة، وهي تتمتع بالوجود ولها أسماء أو يمكن أن نطلق عليها الأسماء. أما التاو فليس كما ولا كيفا ولا صورة، وبالتالي فإنه لا يتمتع بوجود يشبه وجود مظاهر الكون والطبيعة. فإذا كانت هذه المظاهر موجودة فإن التاو عدم بالنسبة إليها؛ ولهذا لا يمكن وصفه أو التحدث عنه بكلام؛ فهو بلا اسم ولكنه في الوقت ذاته مصدر كل ما له اسم. وبهذا المعنى يقول تشوانغ تزو: «إن ما يجعل الأشياء أشياء ليس في حد ذاته شيئا.»
وبما أن التاو يملأ المكان ويتخلل كل حيز فإنه يمتد في المكان بلا نهاية، وبما أنه ليس هنالك من نهاية، فإن حركته عكوسية ترجع إلى نقطة البداية وتصل النهاية بالبداية في دائرة مغلقة. في هذه الحركة الدائرية تعبير عن الكمال وعن الثبات وعدم التغير، يقول لاو تسو في الفصل 25:
لا أعرف له اسما فأقول التاو.
لا أعرف له وصفا فأقول العظيم.
عظمته امتداد في المكان.
الامتداد في المكان يعني امتدادا بلا نهاية.
الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة المبتدى.
ونحن إذا أردنا تقريب هذه الحركة إلى الأذهان يمكن أن نستحضر حركة الضوء في فيزياء الكون الحديثة؛ فالكون لا نهائي ومغلق في الوقت نفسه، لا نهائي لأن المجرات تتباعد عن مركزه بسرعات خيالية، وتلك التي تقع على حوافه تخلق في هروبها على الدوام مكانا جديدا يضاف إلى مساحته، فهو مثل البالونة التي تتوسع بالنفخ، ولكنه في الوقت ذاته مغلق لأنه لا وجود لمكان خارج حواف تلك البالونة؛ فنحن إذا أطلقنا شعاعا من مصدر ضوئي وافترضنا وصوله إلى حافة الكون، فإن حركته نحو الأمام حينذاك سوف تنعكس ويرجع عائدا إلى المكان الذي صدر عنه. وإذا نظر أحدنا في منظار قادر على سبر حواف الكون، فإن أبعد ما يراه هذا الناظر هو نقرة رأسه.
وهنالك شبه آخر بين حركة التاو وحركة الضوء، يقول لاو تسو عن حركة التاو في الفصل 14:
إنه الشكل الذي لا شكل له.
إنه الصورة التي لا صورة لها.
اسبقه لا ترى له نهاية.
اتبعه لا ترى له بداية.
هذه الصورة المبدعة التي تفتق عنها حدس المعلم تضعنا في قلب نظرية النسبية العامة لأينشتاين؛ فالضوء هو الثابت الكوني والمطلق الوحيد في عالم الظواهر المادية، وهو يتحرك بسرعة ثابتة مقدارها 300000كم/ثا. وما نعنيه بقولنا إن للضوء سرعة ثابتة هو التالي: إذا كنت تقود سيارة بسرعة 100كم/سا، وأمامك سيارة أخرى تسبقك بسرعة 150كم/سا، وقست من أمامك سرعة السيارة الأمامية فإنك ستجدها حتما 50كم/سا، وهذا الرقم هو حاصل طرح السرعتين من بعضهما. أما إذا كانت السيارتان تنطلقان نحو بعضهما في اتجاهين متعاكسين، فإن سرعة السيارة الأخرى مقاسة من قبلك ستكون 250كم/سا، وهذا الرقم هو حاصل جمع السرعتين المتعاكستين، إلا أن الضوء، وعلى عكس كل ما يتحرك في الطبيعة، يسير بسرعة ثابتة بصرف النظر عن الوضع الحركي للمراقب. فإذا عمدت إلى قياس سرعة ضوء قادم إليك من مصدر ساكن، لوجدتها 300000كم/ثا. وإذا تحركت نحو مصدر الضوء بسرعة 100000كم/ثا، لوجدت أن سرعته أيضا هي 300000كم/ثا لم تتغير. ولو أنك لاحقت شعاعا منطلقا نحو الأمام، وأنت تتحرك بسرعة 250000كم/ثا لوجدت أيضا أن سرعته 300000كم/ثا لم تتغير، ولما استطعت أبدا تقصير المسافة بينك وبينه؛ أي إنك لن تستطيع أبدا رؤية ضوء ساكن لا يتحرك.
الفراغ الخلاق
ويطابق لاو تسو بين العدم والفراغ. يقول في الفصل 4:
التاو فارغ، ولا ينضبه النضح منه.
لا يسبر غوره. منشأ الآلاف المؤلفة.
ثم يطابق بين العدم والصمت فيقول في الفصل 25:
هنالك شيء بلا شكل،
سابق على السماء والأرض،
صامت وفارغ،
قائم بنفسه لا يتغير،
يملأ المكان ولا ينفد.
إنه بمثابة الأم لهذا العالم.
وهذه المطابقة بين التاو والفراغ والصمت تحضر إلى الذهن قول المتصوف المسيحي الألماني إيكهارت (ت1328م): لا شيء يشبه الله في هذا العالم مثل الصمت.
وكما يتصف فراغ التاو بأنه «حالة فعالية » منتجة، لا حالة عطالة، كذلك هو حال الفراغ في عالم الظواهر المادية. يقول في الفصل 11:
اجمع أقطار العجلة الثلاثين عند المركز
وانظر كيف يعطيك اللاشيء حركة ودورانا.
اعجن الطين واصنع منه إناء
وانظر كيف يهيئ لك اللاشيء في داخله استعمالا.
ارفع جدرانا واصنع أبوابا ونوافذ
وانظر كيف يجهز لك اللاشيء بين الجدران سكنا.
ما تحصل عليه هنا هو شيء،
ولكن بفضل اللاشيء يكتسب الشيء وظيفته.
يعطينا لاو تسو هنا أمثلة عن فعالية اللاشيء أو الفراغ في الحياة العملية؛ فالدولاب يدور على محوره بفضل الثقب الفارغ الذي تلتقي عنده أقطار الدولاب، والإناء لا يصلح للاستعمال إلا بفضل الفراغ الحادث في داخله، والغرفة لا تصلح للسكن إلا بفضل الفسحة الخالية بين جدرانها. هذا الفراغ المنتج يشبه المنفاخ الذي يعطيك قدر ما تشاء من الهواء لأنه مجوف.
الفضاء بين السماء والأرض يشبه المنفاخ.
فارغ ولا ينضبه النضح منه.
كلما حركته أنتج أكثر فأكثر (الفصل 5).
كما أن للفراغ دورا هاما في السعي الروحي للإنسان، وعلى قلب المريد أن يكون فارغا لكي يحل فيه التاو. إن فراغ القلب (= الذهن) هو كل ما تسعى إلى تحقيقه تقنيات التأمل الباطني لمختلف المدارس تاوية كانت أم بوذية أم هندوسية أم تصوفية إسلامية، حيث يصرف المتأمل ذهنه عن كل ما يحيط به من تبدلات وتغيرات، ويركز على الثابت الذي لا يتغير. وهذا ما يدعوه لاو تسو بتثبيت القلب على الفراغ، أو تأمل الفراغ:
أتأمل الفراغ، ألبث في سكون.
الآلاف المؤلفة تنشأ في تواقت معا،
وأنا أرقب دورانها (الفصل 16).
وأيضا:
العارف بالتاو في سالف الأزمان
كان صلبا كجلمود خام،
مجوف وفارغ كالوادي
لا يرغب في الامتلاء،
ولأنه غير ملآن يبلى ويتجدد على الدوام (الفصل 15).
وأيضا:
الكلام الكثير يقود أخيرا إلى الصمت.
ثبت قلبك على جوهر الفراغ (الفصل 5).
إن التاو الذي يطلبه المريد هو بلا خصائص، وما لا خصائص له ليس موضوعا للمعرفة التقليدية القائمة على شحن الذهن، بل لمعرفة ليست بالمعرفة تقود إلى التطابق معه، وهذا لا يتأتى بالتعليم التدريجي الذي يقوم به شيخ المريد، وإنما يحصل دفعة واحدة وفي لحظة استنارة مفاجئة، تشعر فيها مرة واحدة وإلى الأبد بأن الكون واحد. وفي هذا يقول تشوانغ تزو: «عندما يصل عالمك الداخلي حالة السكون التام فإنه يشع نورا سماويا. من يشع بنوره السماوي يشعر بذاته الحقيقية، ويقبض على الأبدية في الحاضر. عندما يقبض على الأبدية في الحاضر تسقط عنه عناصره البشرية وتسنده خصائص السماء.»
المبدأ الكلي والبشر
بما أن التاو ليس إلها خالقا للكون يسيره من موضع مفارق، فإن التاوي لا يتعامل معه باعتباره سلطة عليا يتوجب عليه إظهار الطاعة لها، والشكر والامتنان على عطاياها، والتقرب إليها بالعبادات والقرابين، طلبا لنعمتها أو ردا لنقمتها؛ ولذلك لم يكن لدى التاوية الفلسفية معابد ولا كهان ولا كتب مقدسة، بل شيوخ يعلمون الطريقة من خلال التوجيه والتدريب لا من خلال الكتب. وقد عبر أحد شعراء الزن عن هذا الموقف اللاديني للطريقة بقوله:
خذ إليك واحدة من هذه الأعشاب،
انصبها في محرابك بدلا عن تمثال بوذا.
ونحن هنا أمام توجيه روحي يستغني عن البوذا نفسه كشفيع للخلاص، أو عن يسوع المسيح الذي قال: ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي (إنجيل يوحنا 14: 6).
وقد عبر لاو تسو عن هذه العلاقة الحرة بين المبدأ الكلي والبشر بقوله:
الآلاف المؤلفة تظهر وتختفي بلا توقف.
الذي يعطيهم الحياة لا يدعي امتلاكا.
يعينهم ولا يطلب عرفانا.
يكمل عمله ولا يدعي فضلا.
العمل ينجز ثم ينسى؛
ولذا فإن أثره يبقى (الفصل 2).
وأيضا:
التاو يسري يمنة ويسرة وفي كل مكان.
جموع المخلوقات تعتمد عليه ولا يفرض سلطانا.
يكمل عمله ولا يدعي فضلا.
يطعم ويكسو ولا يدعي امتلاكا (الفصل 34).
أي إن عطاء التاو يشبه عطاء الطبيعة التي تهب خيراتها دون مقابل، ودون أن تجعل من نفسها سلطة على من تعيلهم.
في الأخلاق
هذه العلاقة بين المبدأ الكلي والبشر تستتبع نوعا آخر من الأخلاق غير التي تقول بها الأديان الإلهية؛ فالإنسان في هذه الأديان لا يتمتع بوازع خلقي أصلي، وهو لا يتبع سبل الخير إلا امتثالا للأمر الإلهي، وطمعا في ثواب أو تفاديا لعقاب، بينما يرى لاو تسو أن الفضيلة مزروعة في صميم نظام الطبيعة والنفس الإنسانية، وما على الإنسان إلا أن يضع نفسه في توافق مع هذا النظام لكي يسلك بشكل أخلاقي دون قصد منه، أو حاجة إلى اتباع منظومة أخلاقية مفروضة من قبل سلطة ما، إلهية كانت أم زمنية. وفي هذا يقول:
رجل الفضيلة لا يشعر بفضيلته؛
ولذا فإنه رجل فاضل.
البعيد عن الفضيلة مشغول بها دوما؛
ولذا فإنه رجل غير فاضل (الفصل 38).
ويقول تشوانغ تزو: «كان الناس في الأيام الخوالي مستقيمين في سلوكهم دون أن يعرفوا أن في ذلك استقامة. كانوا يحبون بعضهم بعضا دون أن يعرفوا أن في ذلك خيرا. كانوا مخلصين دون أن يعرفوا أن في ذلك صدقا. كانوا يساعدون بعضهم دون أن يعرفوا أن في ذلك تعاونا؛ لذا فإن أعمالهم لم تترك أثرا ولا نملك سجلات عن شئونهم.»
ويقول لاو تسو:
إذا اتبعت طريق السماء؛
تبذل الحسنة لا السيئة.
إذا اتبعت طريق السماء؛
تؤدي العمل ولا تطلب عرفانا (الفصل 73).
عندما تبذل الحسنة دون أن تشعر بأنك محسن، ودون التفكير بأجر مادي أو معنوي؛ فإنك تتشبه بالتاو الذي يفيض بنعمه دون مقابل.
لذلك، ومن أجل إتاحة الفرصة أمام الإنسان لكي يتلمس منابع الخير في داخله، علينا ألا نضع له لوائح بالمعايير السلوكية على طريقة الكونفوشية وبقية المدارس الأخلاقية، وهذا معنى قوله:
إذا استبعدت الفقهاء والعارفين؛
يفيد الناس أضعافا مضاعفة.
إذا ألغيت تعاليم الاستقامة وأفعال الخير؛
يعود الناس إلى محبة بعضهم بعضا.
إذا أوقفت تقدير الشطارة والكسب؛
يختفي اللصوص وقطاع الطرق.
المعرفة وفعل الخير والشطارة
هي زينة خارجية لا تكفي في حد ذاتها.
اكشف عن جوهرك غير المصقول.
كن مثل الجلمود الخام،
وتخلص من التعاليم (الفصل 19).
وهذا ما يحيلنا إلى آراء لاو تسو في المعرفة.
في المعرفة
أقوال لاو تسو في المعرفة لقيت الكثير من سوء الفهم، وفسرت على أنها تدعو إلى نبذ المعرفة. ولإزالة هذا اللبس ألفت النظر إلى أن التاو تي تشينغ يحتوي على خطابين في المعرفة؛ الأول: موضوعه معرفة التاو. والثاني: موضوعه المعرفة العامة التي تقود الإنسان إلى فهم محيطه الطبيعي وتحسين أحوال المجتمع المادية والمعنوية. ففي معرفة التاو يقول:
في طلب العلم تبذل في كل يوم أكثر،
وفي طلب التاو تبذل في كل يوم أقل (الفصل 48).
وأيضا:
الذي لا يتكلم لا يعرف،
والذي يعرف لا يتكلم (الفصل 48).
وأيضا:
تخل عن المعرفة تدع عنك الهم والقلق (الفصل 19).
ويقول تشوانغ تزو: «لا ينتمي التاو إلى مجال المعرفة ولا إلى مجال غير المعرفة. المعرفة فهم زائف واللامعرفة جهل أعمى. هل تريد فهم التاو؟ إذن انظر إلى السماء الفارغة.» وأيضا: «من يتصدى للإجابة عن سؤال بخصوص التاو لا يفهم التاو؛ لأنه ما من سؤال حول التاو وما من أجوبة ... التاو يعرف بدون مفاهيم وبدون تفكر عقلي، ويمكن مقاربته بالمكوث في اللاشيء، بطلب اللاشيء. الحكيم يعلم مبدءا لا سبيل إلى التعيبر عنه بكلمات.»
إن تعبير «التعليم بدون كلمات» الذي يرد مرارا في الأدبيات التاوية لا يعني عدم التعليم، وإنما عدم استخدام نصوص مكتوبة في تعليم المريد، بل تدريبه على تحقيق حالة «الصحوة» أو «الاستنارة» بمجهوده الخاص؛ ولذلك قال أحد معلمي الزن لتلميذ جديد سأله عما يتوجب عليه أن يتعلمه أولا: «هل انتهيت من تناول غدائك؟» أجابه: «نعم.» فقال له: «إذن اذهب واغسل قصعتك.» وقال معلم آخر لتلميذ جديد سأله عن طبيعة البوذا: «إنها ثلاث كيلات من الأرز.» وقال معلم ثالث في جوابه على أسئلة مماثلة لتلميذ جديد إن عليه أن يقوم بما كان يقوم به في حياته العادية، ثم أضاف: «واغسل فمك كلما ذكرت البوذا.»
وفيما يتعلق بالنوع الثاني كان للاو تسو أقوال عديدة، ومنها: لكي تعرف لا تحتاج إلى تعلم ودراسة.
التعلم والدراسة يبعدانك عن المعرفة (الفصل 81).
لا يوجد في مقولة لاو تسو هذه، ولا في أشباهها، ما يدعو إلى رفض المعرفة على إطلاقها، بل إلى رفض ذلك النوع من المعرفة القائم على اتباع سنن السابقين ودراسة ما كتبوه؛ أي رفض السبيل الكونفوشي إلى المعرفة الذي يبتدى في أقوال كونفوشيوس نفسه. ومنها على سبيل المثال: «أنا ناقل علم أكثر مني منشئا. أثق بالتعاليم القديمة وأنعم بها» (الحوار 17: 1). «الرجل النبيل الذي هذب نفسه بقواعد الأدب والمعاملات (التي نص عليها كتاب الطقوس)، لا يمكن أن يخرج عن جادة الصواب» (الحوار 6: 27). «إن من لم يدرس الفصل الأول والثاني من كتاب القصائد القديم، هو في طريق العلم أمام جدار» (الحوار 17: 10). «قضيت نهارا بطوله دون طعام وليلة بطولها دون نوم وأنا أفكر، ولكنني لم أخرج من ذلك بشيء. الأفضل من ذلك هو الدراسة والتعلم» (الحوار 15: 31).
فالكونفوشيون يشغلون أنفسهم بالمعرفة التقليدية التي يفرض الإنسان من خلالها أفكاره على الطبيعة، وهم في ذلك مثل اللاهوتيين المسيحيين الذين لم يجادلوا غاليلو فيما توصل إليه من حقائق بخصوص النظام الشمسي استنادا إلى المنطق العلمي، وما توصلوا إليه أنفسهم من حقائق مغايرة، وإنما جادلوه استنادا إلى ما قاله أرسطو قبل أكثر من 1500 سنة. أما التاويون فينكبون على دراسة الطبيعة لتبوح بأسرارها. وفي هذا يقول العلامة جوزيف نيدهام، الذي عاش ردحا من حياته في الصين خلال القرن العشرين، وعكف على دراسة ثقافتها في كتابه الموسوعي «العلم والحضارة في الصين»، ما يلي: «إن التاويين من خلال خبرتهم المباشرة بالطبيعة، قد قدموا للعلم الصيني أكثر بكثير مما قدمته الكونفوشية؛ فقد حفلت الأدبيات التاوية بمعلومات وافرة عن النباتات والمياه والرياح وسلوك الحيوانات والحشرات، اعتمد مدونوها على الاستقصاء والملاحظة المباشرة المتحررة من النظريات المسبقة، وكان شعارهم في ذلك: «ابحث عن الأسباب»؛ فلكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة سبب، وإن لم نكن الآن قادرين على معرفته. والبحث عن الأسباب كان دوما وراء الاكتشافات العلمية الكبرى في تاريخ الإنسانية. وقد قادتهم هذه المعرفة القائمة على الملاحظة إلى إجراء التجارب، وصارت المعرفة التجريبية سمة الفكر الصيني قبل أوروبا بزمن طويل، وتجلت هذه المعرفة التجريبية بشكل خاص في الكيمياء والتعدين. كما كان التاويون على دراية بعلم الحركة، أو الميكانيك، حتى إن أحدهم صنع إنسانا آليا يتحرك (وكان بمثابة النموذج الأبكر للروبوط)، وصنع آخر طائرا خشبيا قادرا على الطيران لمسافة قصيرة.»
ويورد نيدهام شاهدا من التراث الصيني يعبر عن المعرفة التجريبية والتعلم من الطبيعة؛ فقد رفض الفنان هان الذي صار فيما بعد أعظم رسامي الخيول في عصره، عرض أحد أباطرة أسرة تانغ (618-900م) بالتتلمذ على أيدي أشهر الرسامين في الصين، وفضل بدلا من ذلك قضاء وقته في حظائر الخيول الملكية، يراقب عاداتها وطباعها وأدق تفاصيل حياتها.
وقد عبر الأدب التاوي عن حكمة الطبيعة هذه على طريقته. يقول شاعر تاوي:
عندما تصدح الطيور في ذرا الأشجار
تحمل معها أفكار الحكماء القدماء.
عندما تتفتح الأزهار في أعالي الجبال
يحمل شذاها أعمق المعاني.
وتقول أبيات من شعر الزن:
الصنوبرة العتيقة تنطق بالحكمة المقدسة،
وهذا الطير ينبئ بالحقائق الخالدة.
كما قدر التاويون العمل اليدوي ومارسوه بأنفسهم، واعتبروه وسيلة للبحث عن أسرار الطبيعة، وهذا التقدير هو الذي أتاح للمخترعين الصينيين تقديم خدمات جلى للإنسانية. أما الكونفوشيون فقد ترفعوا عن العمل اليدوي، واعتبروه من شئون العامة، على ما نجده في أقوال عديدة لكونفوشيوس نفسه تنم عن الطبيعة الأرستقراطية لفلسفته؛ فقد سأله سائل عن الزراعة، فقال له: لماذا لا تسأل فلاحا عجوزا؟ ثم عاد فسأله عن البستنة، فقال له: لماذا لا تسأل بستانيا عجوزا؟ (الحوار 13: 4). وفي حادثة أخرى سمع كونفوشيوس من تلاميذه أن رجلا قال فيه: ما أعظم كونفوشيوس وما أعمق تعاليمه! ومع ذلك فإنه لم يشتهر بحرفة من الحرف. فعلق كونفوشيوس على ذلك ساخرا: أية مهنة أتخذ؟ هل أغدو حوذيا أم نبالا؟ أعتقد أنني سأغدو حوذيا (الحوار 9: 2).
فلسفة التغيرات
قادت ملاحظة الطبيعة والتعلم منها إلى ملاحظة التغير الدائم الذي يحكم الكون ونظام الطبيعة؛ فعندما يبلغ الصيف أوجه يأخذ بالانحدار نحو الخريف، وعندما يبلغ الخريف أوجه يبدأ بالانحدار نحو الشتاء، وعندما يبلغ الشتاء أوجه يبدأ بالصعود نحو الربيع. وفي تتابع الفصول هذا نجد أن الحرارة بعد أن تصل أقصى مدى لها في الارتفاع تتحول تدريجيا إلى برودة، والبرودة بعد أن تصل أقصى مدى لها في الانخفاض تتحول تدريجيا إلى حرارة. ثم إن الشمس عندما تصل أقصى مدى لها في الصعود نحو خط الهاجرة في كل سنة، تبدأ بالانحدار نحو الجنوب. كل شيء يتحول إلى نقيضه في حركة عكوسية ترجع به إلى نقطة المبتدى، وكل شيء يحتوي في صميمه على بذرة من نقيضه تنمو تدريجيا. وهذه أطروحة رئيسية لدى كتاب الإي تشينغ أو التغيرات، ومن بعده التاو تي تشينغ:
في الحركة العكوسية يتجلى عقل السماء والأرض (ملاحق كتاب التغيرات).
بالعودة إلى الخلف يتحرك التاو،
باللين ينجز عمله،
عظمته امتداد في المكان.
الامتداد في المكان يعني امتدادا بلا نهاية.
الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة المبتدى (لاو تسو: 25).
هذه الحركة العكوسية هي أساس كوزمولوجيا (= نظرية نشوء الكون) كتاب التغيرات؛ ففي البدء كان التاو عدم ينطوي على حالة فعالية، ودارة مغلقة يتصل أولها بآخرها. حالة الفعالية هذه أنتجت في داخل الدارة قوة موجبة هي ال «يانغ» دارت على نفسها، وعندما بلغت الأوج أنتجت قوة سالبة هي ال «ين» دارت على نفسها، وعندما بلغت القاع عادت فأنتجت ال «يانغ». ومن تتابع دوران القوتين على بعضهما نتج التمايز من حالة اللاتمايز الأولى، وظهرت إلى الوجود الآلاف المؤلفة من مظاهر الكون والطبيعة. يقول لاو تسو في الفصل 40:
التاو أنجب الواحد (= اليانغ)،
الواحد أنجب الثاني (= الين)،
الاثنان أنجبا الثالث (= الوحدة بينهما)،
الثالث أنجب الآلاف المؤلفة،
الآلاف المؤلفة تحمل الين على الكتف،
وتعانق اليانغ بالذراعين،
الآلاف المؤلفة ناتج تمازج هاتين القوتين.
في كتاب التغيرات جرى تمثيل دائرة التاو بصريا على الشكل التالي:
في هذه الدائرة خط على شكل حرف
S
يقسمها إلى نصفين؛ نصف داكن اللون فيه دائرة صغيرة بيضاء يمثل قوة الين، والنصف الآخر أبيض وفيه دائرة صغيرة سوداء يمثل قوة اليانغ، وهما يبدوان مثل سمكتين متعاكستين تدوران على بعضهما. إن مظاهر الكون التي نتجت عن فعالية القوتين لا تختلف عن بعضها بالماهية، بل بما تحتويه من كموم اليانغ والين، فإذا غلب اليانغ كان الناتج ذا طبيعة موجبة؛ السماء، النار، الهواء، الجفاف، الذكر ... إلخ، وإذا غلب الين كان الناتج ذا طبيعة سالبة؛ الأرض، الماء، الشجرة، الرطوبة، العتمة، البرودة، الأنثى ... إلخ. أما عن الدائرة الصغيرة البيضاء في النصف الظليل والدائرة الصغيرة السوداء في النصف الأبيض، فللدلالة على أن كل ما له صفة اليانغ يحتوي على بذرة ين، وكل ما له صفة الين يحتوي على بذرة يانغ، وهذه البذرة يمكن أن تنمو وتحول كلا منهما إلى نقيضه؛ فجذع شجرة مقطوع على سبيل المثال يبدو وكأنه ين صرف، ولكننا إذا أحرقناه بالنار أظهر كل خصائص اليانغ؛ أي إن العالم في الرؤية التاوية هو عالم «فعالية». وما نراه من ظواهر المادية والحياة ليس إلا تبد لفعالية خفية غير مادية، وهذا ما توصلت إليه فيزياء الكم الحديثة، عندما وجدت بالتجربة أن المادة ليست إلا تبد لفعالية الطاقة على المستوى الذري وما دون الذري.
وفي كتاب التغيرات يرمز للكم الذي تحتويه الظاهرة من قوة الين بخط متقطع، وللكم الذي تحتويه من قوة اليانغ بخط متصل على الشكل التالي:
وقد تم جمع هذين الرمزين في أزواج للدلالة على اختلاف ما تحتويه الظاهرة من هذين الكمين، ونتج عن ذلك أربعة رموز هي كل الاحتمالات لاجتماع خطين متصلين أو متقطعين أو مختلفين:
ولكن التعقيد الذي يميز اجتماع الكموم أدى إلى إضافة خط ثالث إلى كل زوج من هذه الأزواج، ونتج عن ذلك ثماني مجموعات هي كل الاحتمالات الممكنة لاجتماع ثلاثة خطوط:
ثم التقت هذه المجموعات كل اثنتين في واحدة، ونتج عن ذلك أربعة وستون رمزا هي كل الاحتمالات الممكنة لاجتماعها، وهذه الرموز هي صور لكل ما يجري في السماء وعلى الأرض. ولكن هذه الصور ليست ثابتة بل متحولة، ويمكن أن ينقلب خط واحد سالب إلى خط موجب لكي يقع التغير في المجموعة، كما هو الحال في هاتين المجموعتين:
تحتوي المجموعة الأولى اليمنى على ستة خطوط سالبة، وهي تمثل الأرض المتلقية، كما تمثل فصل الخريف عندما تكون قوى الطبيعة هاجعة، ولكن تغيرا حصل في الخط المتقطع العلوي، وحوله إلى خط متصل أدى إلى ظهور المجموعة اليسرى التي تمثل الرعد والحركة المحرضة في باطن الأرض عند تبدل الفصول.
وحدة الأضداد
ينتج التغير الدائم على مستوى الكون والطبيعة والإنسان ثنائيات تؤلف نسيج الكون، وهذه الثنائيات على كونها نقائض وأضداد، إلا أن تناقضها أشبه بتناقض قطبي المغناطيس اللذين لا وجود لأحدهما إلا بالآخر؛ ولذلك فإن الفكر التاوي والصيني عموما، يرى إلى الأقطاب في توازنها وتعاونها لا في صراعها. فالوجود ينجم عن العدم، والعدم يتخذ معناه من الوجود، وكذلك الأمر في ما لا يحصى من الثنائيات. يقول لاو تسو في الفصل 2:
يرى الجميع في الجميل جمالا؛ لأن ثمة قبحا.
يرى الجميع في القبح قباحة؛ لأن ثمة جمالا.
الوجود واللاوجود ينجم بعضهما عن بعض.
الصعب والسهل يكمل بعضهما بعضا.
الطويل والقصير يوازن بعضهما بعضا.
العالي والمنخفض يسند بعضهما بعضا.
الصوت والصمت يجاوب بعضهما بعضا.
القبل والبعد يتبع بعضهما بعضا؛
لذلك فإن الحكيم لا يتدخل في مسار الأشياء،
ويعلم بدون كلمات.
لذلك على الإنسان أن يعي هذه الوحدة في التناقض، ويعمل على التوافق معها، تاركا الطبيعة تأخذ مجراها دون إصدار حكم أخلاقي بشأنها؛ لأنه لا خير ولا شر في كل ما يحدث. يقول تشوانغ تزو: «إن الموت والحياة يعملان في خدمة بعضهما، فلماذا اعتبر أحدهما خيرا والآخر شرا؟ الحياة جميلة لأنها غضة وطرية، والموت كريه لأنه نتن وعفن، ولكن العفن والنتن يعود فيتحول إلى ما هو غض وطري، وبعدها يحدث التحول العكسي.»
فالعاقل الذي يتفهم طريق الطبيعة يقدر التغير وما ينتجه من ثنائيات، فلا يطلب أحد قطبي الثنائية ويرفض الآخر؛ لأن التوفيق بينهما يتم من خلال العمليات السماوية. العاقل يساوي بين صيغة «إن» وصيغة «ليس» ويترك القسمة بينهما إلى السماء. يقول لاو تسو في الفصل 20:
بين ال «نعم» وال «لا»
هل الفرق كبير؟
بين الخير والشر
هل المسافة بعيدة؟
ويقول تشوانغ تزو: «النفي ينشأ عن الإثبات والإثبات ينشأ عن النفي؛ لذلك فإن الحكيم يصرف ذهنه عن الفوارق ويستمد رأيه من السماء. إن «هذا» هو أيضا «ذاك»، و«ذاك» هو أيضا «هذا ». هل من فرق بينهما؟ هل ليس من فرق بينهما؟ عندما لا نكرس هذا وذاك باعتبارهما نقيضين نفهم جوهر التاو. النفي والإثبات يتمازجان في الواحد اللانهائي.»
عندما نصف شيئا ما بأنه كبير لأنه أكبر من أشياء أخرى، فإن كل الأشياء في العالم تبدو كبيرة. وعندما نصف شيئا بأنه صغير لأنه أصغر من أشياء أخرى، فإن كل الأشياء في العالم تبدو صغيرة. والجدلية التاوية تخلص من هذا القول بأن كل الأمور نسبية؛ فلا الصغير صغير بشكل مطلق، ولا الكبير كذلك. إن حالة القطبية التي تميز وجود الأشياء تشف عن حقيقة مفادها أن صفات هذه الأشياء ليست ملازمة لها، بل إنها معرضة للتحول إلى نقيضها. ويبدو لنا هذا جليا عندما نحاول ممارسة الفعل على صفة ما لتغييرها. يقول المعلم:
إذا أردت ضغط شيء
عليه أولا أن يكون ممطوطا.
إذا أردت إضعاف شيء
عليه أولا أن يكون قويا.
إذا أردت حني شيء
عليه أولا أن يكون مستقيما.
إذا أردت أن تأخذ من شيء
عليه أولا أن يكون مليئا (الفصل 36).
هذه القطبية ليست وقفا على مظاهر الطبيعة، وإنما تتعداها إلى الإنسان الذي تتداول حياته أحوال العسر واليسر، والشدة والفرج، والأتراح والأفراح. فإذا حل به العسر ظن أنها خاتمة المطاف، وأن الحال سيبقى على ما هو عليه، وإذا حل به اليسر ظن أنها أيضا خاتمة المطاف. أما العاقل الذي يعي الثنائيات فيلبث ساكنا هادئا في كلا الحالتين؛ فلا يفرح إن حل به خير، ولا يجزع إن حل به شر؛ لأنه:
في قلب الكارثة يقبع حسن الطالع،
وتحت حسن الطالع تجثم الكارثة،
والناس متحيرون في هذا طويلا (لاو تسو: 58).
وخلاصة ما يتعلمه المرء من مراقبته لتداول الأقطاب في الطبيعة والحياة هو: «أن يعرف متى يتوقف.» ومن يعرف متى يتوقف لا يصل في كل ما يقوم به إلى المدى الأقصى، كي لا يحصل على نقيض ما يطلبه لأنه:
عندما لا تتوقف عن صب الماء في الوقت المناسب
يطفح الكيل بمائه.
عندما تزيد في شحذ حد السكين
تعمل في النهاية على انثلامه (لاو تسو: 9).
فلسفة اللافعل
يقول لاو تسو في الفصل 63:
ليكن فعلك من خلال اللافعل،
ونشاطك من خلال عدم التدخل.
وأيضا:
التاو ليس من شيمته الفعل،
ومع ذلك لا يترك شيئا بحاجة إلى إتمام (لاو تسو : 37).
ولدينا أبيات من شعر الزن متداولة في كل الأبحاث التي تتناول حكمة الزن، يعبران أفضل تعبير عن مبدأ اللافعل التاوي:
أجلس هنا لا أفعل شيئا.
الربيع يأتي،
والعشب ينمو من تلقاء ذاته.
فهل يعني مبدأ اللافعل، أو
wu wei
بالصينية، عدم القيام بشيء؟ إن الجواب على هذا السؤال متضمن في قول لاو تسو أعلاه بأن التاو «لا يترك شيئا بحاجة إلى إتمام». ومن لا يترك شيئا بحاجة إلى إتمام إنما «يفعل» ولكن بطريقة خاصة؛ فهو لا يجهد نفسه ولا يمارس القسر على الأشياء؛ ولذلك فقد قال في الفصل 8 عن التاو: «لأنه لا يجهد نفسه يصيب هدفه.» ولذلك فإننا إذا طابقنا بين تعبير «اللافعل» وتعبير «اللاجهد» نزيل كل لبس يتعلق بمفهوم اللافعل التاوي، الذي يتضمن عدم معاكسة الطبيعة بل الإفادة من خصائصها، ومن يتوافق يحصل على أفضل النتائج بأقل جهد ممكن. صحيح أن العشب ينمو من تلقاء ذاته على ما يقوله شاعر الزن أعلاه؛ فهذه سنة الطبيعة عندما يأتي الربيع، ولكن الفلاح أيضا يعمل وفق سنة الطبيعة عندما يعمل في الأرض لإنتاج القمح الذي يحفظ حياته؛ لأنه لا يمارس القسر على الطبيعة، بل يستفيد من خصائصها.
هذا ويجد لاو تسو في حركة الماء أفضل مثال عن تحقيق الغاية بدون جهد؛ فالماء يتدفق دون كد من منبعه ويجري بيسير وسهولة إلى مصبه، وإذا جوبه بتله التف عليها أو بسد صنع بحيرة. يقول لاو تسو في الفصل 4:
التاو يشق طريقه في العالم
مثلما تشق الأنهار طريقها نحو البحر.
وأيضا:
الخير الأسمى يشبه الماء.
الماء يسقي ألوف الحيوات بلا جهد،
يوافيها في أماكن لا يرتادها أحد.
وهو في ذلك يشبه التاو:
لأنه لا يجهد نفسه ليصيب هدفه (الفصل 8).
ويقول تشوانغ تزو: «إن تدفق الماء لا ينجم عن جهد يبذله، بل عن خصيصة كامنة فيه، ومثله فضيلة الرجل الكامل. السماء بطبيعتها عالية، والأرض بطبيعتها صلبة، والشمس والقمر بطبيعتهما منيران. هل اكتسبت هذه خصائصها أم إنها كامنة فيها؟»
ومثل الماء أيضا الإنسان إذا تماثل مع التاو في سلوكه . يقول لاو تسو:
عندما تتبع طريق السماء
فإنك تربح دون عناء،
تحصل على بغيتك دون سؤال،
تحقق النجاح دون طلب (الفصل 73).
وتعبر رياضة الجيدو اليابانية ورياضة التاي شي الصينية عن فضيلة اللاجهد التاوية هذه. تقوم رياضة الجيدو على الإفادة من قوة الخصم نفسه من أجل إيقاعه على الأرض، وكل لاعب يؤدي أقل عدد من الحركات دون ممارسة الجهد لكي يجعل الخصم في وضع يسهل معه الإخلال بتوازنه. أما رياضة التاي شي التي ابتكرها تاوي يدعى جانغ سان سينغ؛ فرياضة فردية قوامها تنفيذ حركات مركبة وبطيئة جدا لا جهد فيها ولا قسر، تهدف إلى سريان قوتي اليانغ والين في الجسم الإنساني؛ أي إنها تتبع المبدأ الذي يقوم عليه العلاج بواسطة الإبر الصينية، عندما يتم غرس الإبر في المسارات غير المنظورة للطاقتين، والتاي شي ما زالت منتشرة في الصين، وبإمكان السائح أن يرى العشرات من الرجال والنساء يمارسونها في الحدائق العامة كل على حدة غير آبه لما يجري من حوله.
وقد قرن لاو تسو فضيلة اللاجهد بالإفادة من قوة الخصم في الفصل 68، حيث قال:
المقاتل الصنديد لا يظهر عنفا،
والمجلي في المعارك ليس غضوبا،
والمنتصر على عدوه ليس منتقما،
والبارع في القيادة يظهر تواضعا.
هذا ما يدعى بالإفادة من قوة الطرف الآخر.
هذا ما يدعى بالتماثل مع السماء.
فلسفة اللين
أقوال لاو تسو في فلسفة اللين تبدي تناقضا مع كل ما عرفته البشرية عبر تاريخها، ومنها:
ألين الأشياء في العالم
يقوى على أقسى الأشياء في العالم (الفصل 38).
وأيضا:
القوي والضخم يقع تحت اللين والرقيق.
اللين والرقيق يقوى على القوي والضخم (الفصل 76).
ثم يعمد لاو تسو إلى تقديم الأمثلة الحية على صدق مقولته من حياة الطبيعة:
لا يوجد في العالم أرق وألين من الماء،
ولكنه الأقدر على مقاومة القوي والصلب (الفصل 78).
وقدرة الماء على مقاومة القوي والصلب تتمثل في تفتيته لشواطئ البحر الصخرية وتحويلها إلى ذرات رمل دقيقة، وفي جبروت الأمواج العالية والسيول الجارفة ومساقط المياه.
ثم يتتبع مظاهر اللين والصلابة في الطبيعة ليجد أن اللين هو شعار الحياة والصلابة شعار الموت.
الجسد الحي رقيق ولين،
وكذلك العشب الأخضر والشجر الغض؛
ذلك أن القسوة والصلابة من علائم الموت،
والرقة واللين من علائم الحياة؛
لذا فإن القوة لا تجدي،
والشجر اليابس يقع نهبا لفئوس الحطابين. (الفصل 76).
وبما أن اللين هو خصيصة من خصائص ال «ين»، وأيضا خصيصة من خصائص المرأة التي يغلب فيها ال «ين» على ال «يانغ»، فإن على الرجل الذي يغلب فيه ال «يانغ» على ال «ين» أن يقلد في جنوحه إلى اللين دور المرأة.
المرأة تحصل على بغيتها بالسكون.
عندما تلجأ المرأة إلى السكون
تتخذ الوضعية السفلى،
من يتخذ الوضعية السفلى يتفوق على الآخر.
من يتواضع أمام الآخر يتفوق عليه (الفصل 61).
نلاحظ هنا كيف قرن لاو تسو اللين بالتواضع؛ ولذلك يقول في موضع آخر:
اعرف الذكر،
والعب دور الأنثى؛
تغدو مثل مسيل نهر جار.
اعرف الآباء، والعب دور المتواضع؛
تغدو مثل مسيل واد عميق (الفصل 28).
وقال في التواضع أيضا:
يغدو النهر ملكا على كل الجداول
لأنه أوطأ منها منسوبا (الفصل 66).
وأيضا:
عندي كنوز ثلاثة أحرص عليها؛
الكنز الأول هو الرحمة،
الكنز الثاني نكران الذات،
الكنز الثالث العزوف عن صدارة الناس.
وفي الحقيقة فإن اللين والتواضع ما زالا إلى يومنا هذا سمة لشخصية الإنسان الصيني، وهذا ما يلاحظه كل من عاش في الصين ردحا من الزمن، وخالط أهلها من كل المستويات الاجتماعية.
في الحكم والسياسة
فلسفة لاو تسو في الحكم والسياسة هي امتداد لفلسفته في اللافعل واللين والتواضع. يقول في الفصل 17:
أفضل الحكام من شابه الظل عند رعيته،
يليه الحاكم الذي يحبون ويحمدون،
فالذي يخافون ويرهبون،
فالذي يكرهون ويحتقرون.
فالحاكم التاوي يفعل ما خلال اللافعل، ولا يتدخل في شئون الرعية إلا بالحد الأدنى، تاركا الأمور تسير في المجتمع سيرها في حياة الطبيعة، حتى إذا اتخذ كل مساره التلقائي دون تلقين أو قسر، ساد التناغم في المجتمع مثلما يسود في عالم الطبيعة؛ لذلك فإن أفضل الحكام من شابه الظل عند رعيته فلا يشعرون بوجوده أو وطأته، يليه الحاكم الذي يحبون ويمدحون ويشعرون بوجوده، فإذا ازداد تدخله في شئونهم صاروا يخافونه ويرهبونه، وإذا جنح إلى الطغيان صاروا يكرهونه ويحتقرونه. ولعل أفضل ما يحققه الحاكم الظل هو أن يبدو وكأنه ليس له يد فيما تحقق.
فإذا أكمل مهمته وأتم عمله
تقول الرعية: لقد حصل ذلك من تلقاء ذاته (الفصل 17).
ويقول في الفصل 66:
إذا اعتلى الحكيم قمة السلطة
لا يشعر بسلطته أحد،
وإذا سار في مقدمة الركب
لا يشعر بوجوده أحد؛
ولهذا يعطيه الناس ولاءهم عن طيب خاطر.
وأيضا:
عندما تكون الحكومة غافلة
يتسم الشعب بالبساطة.
عندما تكون الحكومة يقظة
يتسم الشعب بالخبث (الفصل 58).
والغفلة التي يقصدها المعلم هنا هي الإقلال قدر الإمكان من التدخل في شئون الرعية، وعدم الإكثار من الشرائع والنظم والقوانين والعقوبات الرادعة. إن غفلة الحكومة تترك الناس على طيبتهم وبساطتهم الأصلية، أما يقظة الحكومة وتشديد قبضتها على الرعية فتفسد طيبة الناس وتدفعهم إلى الخبث والتحايل على القانون مهما بلغ من شدة العقوبات الرادعة.
وللمعلم في مسألة القوانين والعقوبات الرادعة قول يحتوي على تناقض ظاهري:
كلما كثرت القوانين والشرائع
كثر اللصوص وقطاع الطرق (الفصل 57).
فلاو تسو هنا يتحدى قناعتنا التي ترسخت عبر التاريخ بأهمية العقوبات التي تنص عليها القوانين، وبدورها في ردع من يفكر بالخروج على القانون، وهو ينظر إلى المسألة من زاوية مختلفة تماما، فإذا لم يكن هنالك في الأصل قوانين لن يكون لدينا بالمقابل خارجون على القانون، إن كل ما سنته الولايات المتحدة من قوانين لمكافحة الاتجار بالمخدرات عبر تاريخها لم يؤد إلا إلى التوسع في تلك التجارة، وكل ما قامت وتقوم به حكومات أميريكا اللاتينية من مكافحة صناعة الكوكائين، لم يؤد إلا إلى ازدهارها وزيادة تدفق شحنات الكوكائين على أميريكا الشمالية. وفي بعض دول شرق وجنوب شرق آسيا وصلت عقوبة الاتجار بالمخدرات حد الإعدام دون أن يرتدع أحد من العاملين بهذه التجارة. وعلى حد قول لاو تسو:
عندما يفقد الناس خوفهم من أي شيء،
فبأي شيء تخيفهم؟ (الفصل 72).
وأيضا:
عندما يفقد الناس خوفهم من الموت،
لماذا تهددهم بالموت؟ (الفصل 74).
ولدينا من تاريخ الصين أمثلة على فشل التطرف في سن القوانين والعقوبات الرادعة؛ ففي أواسط القرن الرابع قبل الميلاد بدأت دولة تشن بمشروع طموح يهدف إلى التوسع الدائم على حساب بقية الدويلات المتحاربة وصولا إلى توحيد البلاد، وقام رجل الدولة المتميز شانغ يانغ بإصلاحات في بنية الجيش والمجتمع بالاعتماد على أفكار المدرسة الشرائعية، التي يقول معلموها بأن نظام الدولة يجب أن يقوم على منظومة صارمة من الشرائع والقوانين التي يرعى الحاكم تطبيقها مستعينا بأشد العقوبات الرادعة. وقد قام ملك تشن بإلغاء ألقاب النبالة التقليدية المستمدة من النسب، وما يتمتع به حاملوها من مزايا معنوية ومادية، وأعاد توزيع تلك الألقاب وفقا للمنجزات الحربية، فكان على النبلاء استعادة مراكزهم السابقة في ميادين القتال، وإلا تم إنزالهم إلى مستوى العامة.
على أن التوسع العسكري ترافق مع زيادة معدلات الجريمة وانتشار اللصوص وقطاع الطرق لا يردعهم عن غايتهم رادع، وكلما تشددت السلطة في تطبيق العقوبات ارتفعت معدلات الجريمة. وعندما أفلحت الأسرة الحاكمة في تشن أخيرا في توحيد الصين وتشكيل أول إمبراطورية حقيقية في تاريخ الصين عام 221ق.م.، أعلن الإمبراطور الأول المدعو تشن شي هوانغ أنه أسس لأسرة إمبراطورية سوف يدوم حكمها ألف عام، ولكن حكم هذا الإمبراطور تميز بالطغيان والاستبداد، وعندما توفي بعد عشر سنوات، شاعت الاضطرابات في الدولة وقامت ثورة شعبية عارمة ضد خليفته انتهت بالقضاء على أسرة تشن عام 206ق.م. قبل أن تكمل عقدين اثنين فقط من حكمها، وجرى رفع حاكم دولة تشو المدعو ليو بانغ إمبراطورا، وقد أسس هذا الحاكم لسلالة إمبراطورية جديدة حكمت لأربعة قرون قادمة هي أسرة هان.
عندما دخل ليو بانغ مدينة شي آن عاصمة أسرة تشن، أعلن بيانه السياسي الذي ندد فيه بكل وسائل القمع السابقة، وألغى القوانين التعسفية التي سنتها أسرة تشن ولم يبق منها إلا على ثلاثة قوانين فقط. وكان على المحاكم أن تستخدم روح هذه القوانين لا حرفيتها، وتتعامل مع كل جريمة وفق ظروفها وملابساتها الخاصة. ويقول مؤرخو تلك الفترة إن الأمن والاستقرار ساد البلاد بعد ذلك لمدة طويلة من الزمن.
كل هذا يأتي في اتفاق مع قول لاو تسو على لسان الحاكم المثالي الذي يدعوه بالحكيم:
لا أقوم بأي فعل، والناس يتغيرون من تلقاء ذاتهم.
أميل إلى حال السكون، والناس ينصلحون من تلقاء ذاتهم.
ألزم عدم التدخل، والناس ينعمون من تلقاء ذاتهم.
أتحرر من الرغبات، والناس يصيرون بسطاء كالجلمود الخام (الفصل 57).
ومن أهم ما يتمتع به الحاكم من صفات هو التواضع:
في حكم الناس وخدمة السماء
على الحكيم أن يتبع نكران الذات (الفصل 59).
وأيضا:
من أراد أن يحكم أمة
عليه أن يتضع أمامها،
ومن أراد أن يقود شعبا
عليه أن يسير وراءه أولا (الفصل 66).
وينطبق على الحاكم أيضا قوله:
من يظهر نفسه لا يبدو للعيان،
من يعتبر نفسه دوما على حق لا ينال الرضا،
من يتفاخر لا يحوز المكانة،
من يتبجح لا ينال الاعتراف (الفصل 24).
وتواضع الحاكم يتحول إلى تواضع لدولته أمام الدول الأخرى:
على الدولة الكبيرة أن تكون مثل سرير النهر؛
حيث تلتقي كل مياه الأرض.
إنها للبقية مثل المرأة؛
عندما تلجأ المرأة إلى السكون تتخذ الوضعية السفلى.
الدولة الكبيرة عندما تتخذ الوضعية السفلى؛
تكسب الدولة الصغيرة (الفصل 61).
وبما أن الحرب امتداد للسياسة فقد رأى لاو تسو أن على الحاكم ألا يلجأ إليها مضطرا، وأن يعجل في إنهائها قدر المستطاع؛ فهي أشبه بالعملية الجراحية ذات الهدف المحدد، وليست سبيلا إلى تحصيل الأمجاد الشخصية أو القومية:
حيثما تعسكر القوات ينبت شجر الشوك،
وفي أعقاب الجيوش الجرارة يذوي الحصاد.
إذا كان لا بد من الحرب فعجل في إنهائها.
عجل في إنهائها ولا تتفاخر،
عجل في إنهائها ولا تتبجح،
عجل في إنهائها ولا تروع الناس (الفصل 30).
وأيضا:
السلاح أداة شؤم لا يلجأ إليها النبلاء،
فإذا كان لا بد منها فاستخدمها في حياد.
لا يوجد مجد في الانتصار،
تمجيد الانتصار يعني الإعلاء من شأن القتل،
ومن يعلي من شأن القتل لا مكان له في المملكة.
على الحرب أن تقاد كما الجنازة،
وعند الانتصار علينا أن نقيم طقوس الحداد (الفصل 31).
هذه الكلمات هي أصدق ما قيل في الحرب عبر تاريخ البشرية، وتجعل من لاو تسو نبيا للإنسانية لا مجرد حكيم صيني.
لقد نقل لاو تسو تعاليمه للبشرية وهو يعرف أنها أكثر راديكالية من أن يعمل بها أحد؛ فلذلك آثر أن يبقي نفسه مجهولا، ولم يسمع به أحد بعد تدوينه للتاو تي تشينغ:
كلماتي سهلة الفهم والتطبيق،
ومع ذلك لا أحد يفهمها أو يعمل بها؛
لذلك فإن الحكيم يلبس الثوب الخشن،
ويستر تحته حجرا كريما (الفصل 70).
النص الكامل لكتاب الحوار لكونفوشيوس
الباب الأول
1: 1
قال المعلم: أليس مما يسر أن تتعلم وتمارس ما تعلمته دائما؟ وأليس مما يفرحك أن يقصدك الأصدقاء من أماكن نائية؟ إذ لم تكترث حين لا يقدرك الناس، أليست هذه سمة الرجل النبيل؟
التعليق:
الرجل النبيل (أو الكامل الفضيلة) هي ترجمة للتعبير الصيني
junzi
الذي يعني في الأصل ابن أمير أو واحدا من طبقة النبلاء. وقد استخدم كونفوشيوس هذا التعبير في كتاب الحوار بمعناه الأصلي أحيانا، إلا أنه في معظم الحالات حمله معنى خاصا؛ فهو الشخص الذي حقق تقدما على طريق تهذيب النفس، وتنمية الإحساس بالعدالة، وبر الوالدين، واحترام كبار السن، وصدق المعاملة مع الأصدقاء ... إلخ. وعلى الرغم من أن متطلبات مرتبة الإنسان النبيل الكامل الفضيلة كما يصفها كونفوشيوس تبدو صعبة التحقيق من قبلنا، إلا أننا نجده يطلق هذه الصفة أحيانا على أحد معاصريه أو على أحد مريديه على سبيل الإطراء، وهذا ما يجعل معنى التعبير غير محدد بالطريقة التي نرجوها.
1: 2
قال التلميذ يو تسي: من النادر أن تجد من هذبوا أنفسهم في العلاقات الأبوية والأخوية يعمدون إلى تحدي رؤسائهم. والذين لا يعمدون إلى تحدي رؤسائهم لا يثيرون الشغب. إن الإنسان النبيل هو من يضع الأساسيات في بؤرة اهتمامه، وعندما تترسخ هذه الأساسيات يتوضح طريق الفضيلة. لعل بر الوالدين واحترام الإخوة الكبار من الأساسيات اللازمة لتحقيق المروءة
ren .
التعليق:
ربما كانت كلمة
ren
معبرة عن أكثر المفاهيم أهمية في فكر كونفوشيوس. وقد جرت ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية بعدة صيغ؛ مثل الإنسانية، الطيبة، النزوع إلى عمل الخير، الإيثار ... إلخ. ولكنها في الواقع مفهوم عصي على الترجمة؛ لأنها لا تدل على نوع معين من الفضائل أو الخصائص الإيجابية، بقدر ما تشير إلى قدرة داخلية لدى كل البشر على فعل الخير. إنها الخصيصة التي تجعل من الإنسان إنسانا وتميزه عن غيره من الأحياء، وهي المنبع الداخلي غير المنظور لكل مظاهر وتبديات الفضيلة؛ الحكمة، الإخلاص للأخوة، التبجيل، الكياسة، المحبة، الإخلاص ... إلخ. وكل هذه عبارة عن وجوه أو وظائف لل
ren . ومن خلال بذل الجهد على التمرس في وظائف ال
ren
يمكن للفرد تنميتها وتوسيعها حتى يبلغ مرتبة الرجل النبيل، أو حتى مرتبة أعلى هي مرتبة الرجل الحكيم، وهو لقب قلما أسبغه كونفوشيوس على أحد نظرا للقيمة العالية التي يعزوها إليه.
وقد اخترنا في ترجمتنا هذه لكتاب الحوار استخدام كلمة «المروءة» كمقابل للكلمة الصينية
ren ؛ فالمروءة كما ورد في القاموس المحيط هي من: مرو مروءة فهو مريء؛ أي ذو مروءة وإنسانية. وورد في قاموس المنجد أنها كمال أخلاق الرجولة.
1: 3
قال المعلم: من يبذل معسول الكلام وعلى وجهه دوما ابتسامة، يندر أن يكون صاحب مروءة.
1: 4
قال التلميذ تسنغ تسي: في كل يوم أحاسب نفسي ثلاث مرات فأسأل: هل قصرت في عون الآخرين؟ وهل كنت موضع ثقة في علاقتي بالأصدقاء؟ وهل غفلت عن تطبيق ما تعلمته؟
التعليق:
كان هذا التلميذ وزميله الآخر يو من أبرز تلاميذ كونفوشيوس، وكان لهما تأثير على بقية التلاميذ.
1: 5
قال المعلم: على من يحكم مملكة ذات ألف مركبة حربية (= متوسطة الحجم) أن يهتم جديا بأشغال أهلها، وأن يفعل ما يقول، ويقتصد في النفقات، ويبذل محبته لمواطنيه، ويستخدمهم تبعا للفصول.
التعليق:
استخدام المواطنين تبعا للفصول أمر مهم في مجتمع يقوم اقتصاده على الزراعة، وتكتسب فيه نشاطاتها أهمية بالغة؛ مثل الزرع، والعناية بالأرض، وحصاد المحاصيل في أيام معينة؛ فخلال الفترة المعروفة بفترة الربيع والخريف في التاريخ الصيني، فترة الدويلات المتحاربة، كان أمراء الحرب الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الخاصة، غالبا ما ينتزعون المزارعين من أراضيهم في مواسم عملهم الزراعي من أجل تجنيدهم في حروبهم، أو استخدامهم في المشاريع العامة.
1: 6
قال المعلم: على اليافع عندما يكون في البيت احترام والديه، واحترام الكبار في السن عندما يكون خارجه، وعليه أن يكون جادا وموضع ثقة، ومحبا للجميع، ومقتربا من أصحاب المروءة، وإذا كان لديه فضلة من طاقة بعد ذلك فليوظفها في دراسة الآداب والفنون.
1: 7
قال التلميذ تسي هسيا: إذا كان بمقدورك تقدير الفضيلة في الآخرين بدلا من المظهر الحسن، وبذل قصارى جهدك في خدمة والديك، والتفاني في خدمة أميرك، والصدق في تعاملك مع أصدقائك، إذا فعلت ذلك كله؛ فإني أقول إنك بالتأكيد شخص متعلم وإن قال بعضهم غير ذلك.
التعليق:
إن التعلم في التقاليد الكونفوشية أمر لا يقتصر على الدراسة الأكاديمية وحفظ المعلومات، على الرغم من أهميتها. إنه التعبير عن المروءة من خلال السلوك اليومي.
1: 8
قال المعلم: إذا لم يتحل الإنسان النبيل بالرزانة فإنه يفقد هيبته أمام الآخرين. وإذا تعمق في الدراسة فلن يبقى منغلقا جاهلا. إنه يضع الولاء والإخلاص في المقام الأول، ولا يتخذ من الأصدقاء من هو دونه في الخلق الكريم، وعندما يخطئ لا يتردد في تصحيح خطئه.
التعليق:
إن الرجل النبيل يرتكب الأخطاء مثل غيره أحيانا، ولكن ما يميزه عن الآخرين هو أنه يسارع إلى تصحيح خطئه حالما ينتبه إليه.
1: 9
قال التلميذ تسنغ تسي: إذا جرت العناية بالوالدين حتى النهاية، وخدمة أرواح الأسلاف على الدوام؛ عادت الفضيلة عند الناس إلى سموها الأصلي.
1: 10
قصد التلميذ تسي جين زميله تسي كونغ وسأله: «كلما وصل معلمنا إلى بلد عرف أموره وأساليب إدارته، فهل طلب المعلم معرفة هذه المعلومات أم إنها أعطيت له عن طيب خاطر؟» فقال تسي كونغ: «إنه يحصل عليها من خلال ما يتمتع به من دماثة وطيبة ورزانة وبساطة وتواضع. أليست طريقته في الحصول على المعلومات تختلف عن طرائق الآخرين؟»
التعليق:
لا يحتاج الكونفوشي لأن ينقب ويبحث ويضغط على الآخرين من أجل الحصول على معلومات؛ لأن الآخرين ينفتحون أمامه بشكل طبيعي بسبب دفئه وصدقه.
1: 11
قال المعلم: احكم على الإنسان بهمته إذا كان والده حيا، واحكم عليه بأعماله إذا كان والده ميتا، وإذا لم يحد عن سبيل والده القويم لمدة ثلاث سنوات كان جديرا بلقب الابن البار.
التعليق:
يلعب بر الوالدين الدور الأهم في تنمية الفرد للخصائص الإنسانية في شخصيته. ويرى كونفوشيوس أن البشر إذا رعوا هذا الميل الفطري جيدا، فإنه سيؤثر إيجابيا على كل أشكال الفضيلة الإنسانية.
1: 12
قال التلميذ يو تسي: في تطبيق قواعد الأدب والمعاملات
Li ، المهم هو التناغم. وهذا ما قام به الملوك القدماء على أفضل وجه، فحرصوا على التناغم في الصغيرة والكبيرة. ولكن الحال ليست كذلك دائما، كأن يراعى التناغم لذاته من دون أن يقترن بقواعد الأدب والمعاملات.
التعليق:
قواعد الأدب والمعاملات
Li ، وتترجم إلى الإنكليزية
، تتعدد معانيها في الصينية القديمة؛ ولذا لا يمكن ترجمتها بكلمة واحدة؛ ذلك أن معناها الأساسي يعني الطقوس والمراسم التي عرفتها مجتمعات شرق آسيا، ومنها طقوس الزواج وطقوس الجنازة، والطقوس الزراعية المتنوعة، وطقوس البلوغ والمراهقة، وطقوس تتويج الملوك، وغيرها. وقد كان كونفوشيوس خبيرا في الأداء الصحيح لجميع أنواع الطقوس.
ولكن تعبير
Li
في الحوار يكتسب معنى أوسع من معنى الطقوس؛ لأنه يتضمن أنماطا أبسط من السلوك اليومي المتلون بالطقوسية والمتعلق بالعلاقات الإنسانية المتبادلة؛ مثل الطريقة التي نخاطب بها الآخرين وفقا لسنهم ومركزهم وجنسهم؛ أي حسن السلوك وما يتضمنه من التصرف المناسب في كل موقف. ومثال على ذلك أنني قد أضرب بكفي على ظهر زميلي ممازحا، ولكني لا أستطيع فعل ذلك مع أستاذي أو طالب في صفي لا أعرفه جيدا.
وفي المحاورات يؤخذ تعبير
Li
في علاقته مع ال
ren ، حيث ال
ren
هي الفضيلة الإنسانية الأساس، أما ال
Li
فهي تبدي ال
ren
في العالم الواقعي.
1: 13
قال الأستاذ يو تسي: عندما يقترن وعدك بالإنصاف يمكن الوفاء به. وعندما تظهر رزانتك وفقا لقواعد الأدب والمعاملات تتفادى الخزي والعار، وإذا كانت عواطفك صادقة تجاه عائلتك فسوف تغدو سلفا صالحا.
التعليق:
إن كلمة الإنصاف هي المعادل للكلمة الصينية
yi ، والتي تترجم إلى الإنكليزية بصيغة
fairness
أو
righteousness ، ويمكن ترجمتها إلى العربية أيضا بصيغة إنصاف أو عدل أو استقامة أو صلاح، وذلك تبعا للسياق. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم لا يرقى من حيث الأساس إلى مستوى مفهوم
ren ، إلا أنه أيضا عبارة عن وظيفة داخلية عند الإنسان تتيح له فعل الشيء المناسب في الموقف المناسب، وإعطاء كل شخص ومكان وشيء حقه. وفي كتاب الحوار تستخدم في الحديث عن شخص في موقع القوة أو السلطة؛ مثل الأستاذ أو المشرف أو القاضي أو رب العمل أو أي رئيس حلقة اجتماعية، فهؤلاء وأمثالهم عليهم أن يتصفوا بالإنصاف.
1: 14
قال المعلم: عندما يأكل الإنسان النبيل فإنه لا يتخم معدته، وعندما يسكن فإنه لا يتوخى الراحة التامة. إنه مجد في عمله، وحذر في كلامه، يطلب صحبة الأخيار لكي يقوم نفسه على الدوام، ومثل هذا الشخص ندعوه محبا للتعلم.
1: 15
قال تسي قونغ للمعلم: «ما رأيك في فقير لا يتذلل وغني لا يتكبر؟» فأجابه: «نعم الشخصان هما، ولكن الفقير القانع بفقره والغني الذي يسلك وفق قواعد الأدب والمعاملات أفضل.» فقال تسي كونغ: «هل تشير هنا إلى ما ورد في سفر الأغاني: مثل من يصقل أخلاقه كمثل صانع العاج يقطعه ويبرده، أو كصانع الزبرجد ينحته ويصقله؟» فقال المعلم: «الآن أصبح بإمكاني مناقشة سفر الأغاني معك؛ لأنني عندما أتحدث أمامك عن أمر واحد فإنك تستنتج البقية.»
1: 16
قال المعلم: لا يهمني جهل الآخرين بي، وإنما يهمني ألا أجهل الآخرين.
الباب الثاني
2: 1
قال المعلم: إذا حكمت بقوة فضيلتك تغدو مثل نجم القطب الذي يبقى ثابتا في مكانه وكل النجوم الأخرى تدور حوله.
التعليق:
هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها كونفوشيوس لمسألة الحكم. وهنا لا بد من القول بأن الباحثين في الفكر الصيني يركزون بشدة على التمييز بين المفهوم الكونفوشي عن الحكم المطلق والمفهوم التاوي عن الحكم من خلال عدم التدخل، الذي يؤدي إلى عدم شعور المحكومين بسلطة الحاكم. ولكن هنالك العديد من المقاطع الكونفوشية الشبيهة بالمقطع أعلاه، والتي تلمح إلى أسلوب الحكم من خلال استلهام الحاكم للمبدأ الداخلي للفضيلة دون بذل الكثير من الجهد غير الضروري، وذلك على مبدأ «اللافعل» التاوي
wu wei ، وهذا ما يدفعنا إلى الاحتراز في التعميم عندما نتحدث عن الفوارق بين الكونفوشية والتاوية.
2: 2
قال المعلم: يمكننا بعبارة واحدة أن نلخص فحوى القصائد الثلاثمئة التي تضمنها سفر الأغاني، وهي: صفاء الذهن.
التعليق:
سفر الأغاني هو واحد من الكتب الأدبية الكلاسيكية التي احتوت على 305 قصائد صينية قديمة. وكان للكتاب مكانة خاصة عند كونفوشيوس الذي يعزو إليه البعض القيام بتنقيحه، وغالبا ما اقتبس منه في حواراته واستخدم مادته في تعليم تلاميذه.
2: 3
قال المعلم: إذا حكمت الرعية بالقوانين وضبطتهم بالعقوبات؛ فسوف يتفادون اقتراف الجرائم، ولكنهم لا يشعرون بالعار من اقترافها. ولكن إذا حكمتهم بواسطة الفضائل وضبطتهم وفقا لقواعد الأدب والمعاملات؛ فسوف يشعرون بالعار من ارتكابها ويقومون أنفسهم.
2: 4
قال المعلم: في سن الخامسة عشرة وجهت قلبي نحو العلم، وفي الثلاثين وقفت على قدمي بثبات، وفي الأربعين لم تعد لدي حيرة، وفي الخمسين عرفت مشيئة السماء، وفي الستين كانت أذني صاغية لكل ما يقال عني ولا أنزعج، وفي السبعين صار بمقدوري أن أتبع هوى نفسي دون أن أتجاوز حدود القواعد.
التعليق:
يمكن اعتبار هذا المقطع تعبيرا عن مراحل الارتقاء الروحي لكونفوشيوس؛ ففي قوله: «وجهت قلبي نحو العلم» لا يعني أنه أخذ يدرس ويراكم المعلومات، بل إنه وجه قلبه نحو معرفة طريق الحق الذي يسمو بعقله. يدلنا على ذلك قوله لاحقا في الباب 4: 9: «ثبت قلبك على التاو.» وقوله في الباب 4: 8: «إذا أدركت التاو في الصباح، فإنني أتقبل الموت راضيا في المساء.» والتاو هنا هو صراط الحق، أو الطريق الذي يقودنا إلى إدراك الحقائق. وفي قوله: «وقفت على قدمي بثبات»، يعني أنه قد فهم الطقوس وقواعد الأدب والمعاملات، وراح يسلك وفقها؛ يدلنا على ذلك قوله في الباب 8: 8: «رسخ نفسك في قواعد الأدب والمعاملات.» وفي قوله: «لم يعد لدي حيرة»، يعني أنه بلغ الحكمة؛ يدلنا على ذلك في موضع آخر: «الحكيم متحرر من الحيرة.» وفي قوله: «عرفت مشيئة السماء»، يعني عرف أنه مكلف من السماء بالحفاظ على تقاليد الثقافة، على ما ورد في الحوار 9: 5. وفي قوله: «صار بإمكاني أن أتبع هوى نفسي»، يعني أنه لم يعد بحاجة إلى مرشد في سلوكه، وهذه أعلى درجات الارتقاء الروحي.
2: 5
سأل رجل الدولة مونغ إيتسي كونفوشيوس عن بر الوالدين، فقال المعلم: «هو عدم المخالفة.» بعد ذلك، وعندما كان التلميذ فان شي يسوق العربة بكونفوشيوس قال له المعلم: «لقد سألني مون إيتسي عن مضمون بر الوالدين، فقلت له عدم المخالفة.» فقال فان شي: «وماذا تعني بذلك؟» فأجابه المعلم: «في حياة والديك اخدمهما وفق قواعد الأدب والمعاملات، وبعد مماتهما ادفنهما وقدم لروحيهما القرابين وفق القواعد ذاتها.»
2: 6
سأل مونغ وو كونفوشيوس عن بر الوالدين، فقال المعلم: إن الابن البار لا يحزن إلا لمرض والديه.
التعليق:
عندما نفترق عن والدينا مدة طويلة، علينا أن نهدئ خواطرهما بإخبارهما أننا في صحة جيدة.
2: 7
سأل التلميذ تسي يو كونفوشيوس عن بر الوالدين، فقال المعلم: في هذه الأيام يعتقد الناس أن بر الوالدين هو في تأمين الطعام لهما. ولكن ألا يؤمن كل واحد العلف لأحصنته وكلابه؟ فما الذي يميز الإنسان عن الحيوان إن لم يحترم والديه؟
2: 8
سأل تسي هسيا كونفوشيوس عن بر الوالدين، فقال المعلم: ما يهم في البر هو ما تنم عنه تعابير وجهك. ينبغي ألا تفهم البر على أنه جهد جسدي تبذله في سبيل الوالدين، أو تأمين الطعام والشراب مما تيسر لديك.
التعليق:
المقصود بتعابير الوجه هنا هو ما ينم عن المحبة والاحترام والعرفان.
2: 9
قال المعلم: لطالما تحدثت مع التلميذ يان هوي طول النهار دون أن يخالفني أو يجادلني في شيء وكانه غبي، فإذا تولى عني ورصدت سلوكه تبين لي أنه يستوعب ما سمعه مني ويطبقه؛ فعرفت أنه ليس غبيا.
2: 10
قال المعلم: انظر إلى أعمال الشخص وتبصر في دوافعه، وراقب ما يستريح إليه وما يرضيه. وهيهات أن تخفى عنك طبيعة أحد، هيهات.
التعليق:
يعتقد البعض أن بإمكانهم النجاح في إخفاء الخطط الماكرة التي تدور في أذهانهم، لكن صدق الداخل ينعكس على الخارج، فإذا كان الشخص مخادعا تبين ذلك للجميع، وإذا كان طيبا ومخلصا لن يخفى ذلك على أحد.
2: 11
قال المعلم: إذا راجعت ما تعلمته وبنيت عليه معرفة جديدة؛ غدوت جديرا بأن تكون معلما.
2: 12
قال المعلم: الرجل النبيل ليس مثل الأداة.
التعليق:
الأداة تستخدم لأداء وظيفة معينة، أما عقل الرجل النبيل فليس ضيقا ومحصورا في أداء وظيفة واحدة، ولا يقتصر على رؤية معينة للعالم.
2: 13
سأل تسي قونغ كونفوشيوس عن شخصية الرجل النبيل، فقال المعلم: هو الذي تسبق أفعاله أقواله، وبعد ذلك يسلك وفق ما قال.
2: 14
قال المعلم: الرجل النبيل عادل ولا يتحيز، والرجل الوضيع متحيز ولا يعدل.
2: 15
قال المعلم: التعلم من غير تفكير يسبب الحيرة، والتفكير من غير تعلم يسبب الضياع.
2: 16
قال المعلم: إذا جرى انتقاد الآراء الخاطئة؛ تزول المضرة ...
2: 17
قال المعلم: يا تشونغ يو، سأعطيك درسا في المعرفة: إذا عرفت شيئا فقل أعرفه، وإذا جهلت شيئا فقل أجهله. هذا هو طريق المعرفة.
التعليق:
أي أن تكون متأكدا مما تعرف ومتأكدا مما لا تعرف. إن القبطان الذي فقد معرفته بموضعه في البحر أفضل حالا من القبطان الذي يعتقد خطأ أنه يعرف موضعه.
2: 18
كان تسي جانغ يدرس لكي يرتقي في سلك الخدمة المدنية، فقال له المعلم: استمع كثيرا ثم ضع جانبا ما تشك فيه، واحترس عندما تتحدث عما تبقى؛ تقل أخطاؤك في الكلام. لاحظ كثيرا ثم ضع جانبا ما يثير ريبتك واحترس في العمل بما تبقى؛ تقل ندامتك. عندما تقل أخطاؤك في الكلام، وتقل ندامتك على أعمالك؛ تحصل على مبتغاك.
2: 19
سأل الأمير آي حاكم مقاطعة لو كونفوشيوس: كيف أكسب ولاء الرعية؟ فأجاب المعلم: إذا رفعت المخلص وتخلصت من المخادع تنقاد لك الرعية، وإذا رفعت المخادع وتخلصت من المخلص لا تنقاد لك.
2: 20
سأل الأمير جي كانغ تسي : «كيف أكسب احترام الرعية وولاءهم وأجعلهم يخلصون في العمل لي؟» فقال المعلم: «عاملهم بالجد والوقار تكسب احترامهم. كن بارا وعطوفا تكسب ولاءهم. قم بترقية الكفء وعلم عديم الكفاءة يخلصوا في العمل لك.»
2: 21
سأل أحدهم كونفوشيوس: «لماذا لا تسعى إلى منصب حكومي وتعمل في السياسة؟» فقال كونفوشيوس: «ألم تقرأ في كتاب السجلات التاريخية عن المبرة؟ إنك من خلال كونك إنسانا بارا بوالديك، ومحبا لإخوتك، تساهم في السياسة. وإذا كان هذا مساهمة في السياسة، فلماذا يسعى المرء إلى منصب حكومي؟»
2: 22
قال المعلم: إذا لم يكن الشخص موضع ثقة فلأي شيء يصلح؟ إذا فقد المسمار من عارضة النير في عربة كبيرة أو صغيرة، فكيف يمكن جرها؟
2: 23
سأل تسي جانغ كونفوشيوس: «هل بمقدورنا أن نعرف ما ستئول إليه الأحوال بعد عشرة أجيال من الآن؟» فقال المعلم: «لقد أقامت أسرة شانغ أنظمة حكمها على أنظمة أسرة ين، وما أضافته أو أسقطته معروف. ثم أقامت أسرة جو أنظمة حكمها على أنظمة أسرة شانغ، وما أضافته أو أسقطته معروف؛ لذلك وتبعا للمتغيرات والثوابت، فإن أحوال الأسر المتتالية لأسرة جو يمكن معرفتها ولو بعد مئة جيل.»
2: 24
قال المعلم: من قدم القرابين إلى غير أرواح أسلافه؛ فهو متملق. ومن عرف الصالحات ولم يعملها؛ فهو جبان.
الباب الثالث
3: 1
قال كونفوشيوس في معرض حديثه عن سيد أسرة جي: كانت ثمانية صفوف من الراقصين يرقصون في قصره. فإذا تجرأ على مثل هذا الأمر، فما الذي لا يتورع عن فعله؟
التعليق:
يتذمر كونفوشيوس هنا من استخدام الأسر المتوسطة المكانة لطرائق في المراسم والاحتفالات خاصة بالأسرة الملكية، وقد كانت الصفوف الثماني من الراقصين وقفا على الملك، وسنجد فيما بعد أن سيد أسرة جي قد حاز على نصيب وافر من نقد كونفوشيوس لقيامه بأمور مشابهة، تخالف قواعد الأدب والمعاملات في نظر كونفوشيوس.
3: 2
الأسر الثلاث (المتنفذة في مملكة لو) استخدمت «قصيدة يونغ» في مراسم سحب آنية القرابين، فقال كونفوشيوس: ورد في قصيدة يونغ: «كم هو جليل ابن السماء في إشرافه على مراسم القرابين،
السادة الأمراء واقفون أمامه في غاية الاحترام.»
كيف يمكن لمثل هذه الكلمات الخاصة بالمناسبات الملكية أن تستخدم في قاعات الأسر الثلاث؟
التعليق:
يتابع كونفوشيوس هنا نقده للأسر المتوسطة المكانة لاستخدامها مراسم خاصة بالأسرة الملكية.
3: 3
قال المعلم: إذا كان الشخص بلا مروءة
ren ، فعلى أي شاكلة تكون آداب معاملاته؟ وعلى أي شاكلة تكون موسيقاه؟
3: 4
سأل لين فانغ كونفوشيوس عما هو أساسي في الطقوس، فقال المعلم: يا له من سؤال! الاقتصاد في الطقوس أفضل من الإسراف، والحزن الصادق في المأتم أفضل من الإفراط في المظاهر.
3: 5
قال المعلم: إن قبائل الشرق والشمال البربرية وإن سادها ملوك، ليست بمستوى شعبنا حتى عندما نكون بلا ملوك.
التعليق:
هناك عدة تفاسير لهذا المقطع عبر التاريخ، ووفقا للتفسير الأكثر شيوعا، إن كونفوشيوس هنا يشير إلى الفرق في الرقي الحضاري إبان عصره بين ممالك الصين الوسطى والشعوب التي تقيم حولها.
3: 6
مضى سيد أسرة جي لكي يقدم القرابين إلى جبل تاي، فقال المعلم لتلميذه ران يو (الذي كان موظفا لدى عائلة تشي): ألا تستطيع ردهم عن ذلك؟ فأجابه يو: كلا، لا أستطيع. فقال المعلم: وا أسفاه! هل يعني ذلك أن إله جبل تاي أقل معرفة بالطقوس من لين فانغ الخبير بها؟
التعليق:
جبل تاي هو الأول بين خمسة جبال مشهورة في الأدبيات الصينية لما كانت تحظى به من تبجيل ديني. ووفقا للتقاليد القديمة فقد كان تقديم القرابين إليها وقفا على الملوك أو من ينوب عنهم من الأمراء؛ ولذلك فقد كان تقديم رئيس عائلة جي القرابين لجبل تاي اغتصابا لحق ليس له.
3: 7
الرجل النبيل لا يتنافس مع أحد. فإذا كان لا بد من المنافسة فلتكن في رماية السهام، فإن صعد إلى موضعه انحنى لمنافسه باحترام، وإن نزل من موضعه شربا معا نخب الغرامة. هذه هي منافسة النبيل.
3: 8
اقتبس تسي هسيا من سفر الأغاني الأبيات التالية:
يا للسحر في ابتسامتها،
والصفاء في عينها الحوراء!
جميلة دونما زينة تجملها.
ثم سأل كونفوشيوس عن مقصود الأبيات، فقال المعلم: «إن الصورة الجميلة ترسم على سطح أبيض.» فقال تسي : «إذن هل تأتي الطقوس (قواعد الأدب والمعاملات) لاحقا وليس أولا؟ فقال كونفوشيوس: «آه يا شانغ - الاسم الآخر لتسي هسيا - لقد ألهمتني. الآن أستطيع أن أناقش معك سفر الأغاني.»
التعليق:
من بين الكتب الستة القديمة يبدو أن كونفوشيوس كان يعطي قيمة خاصة لكتاب سفر الأغاني لما له من فعالية في التعليم.
3: 9
قال المعلم: يمكنني أن أروي عن قواعد الأدب والمعاملات في عصر أسرة هسيا، ولكن لا تقدم إمارة تشي المتحدرة منها دليلا، ويمكنني أن أروي عن قواعد الأدب والمعاملات في عصر أسرة ين، ولكن لا تقدم إمارة سونغ المتحدرة منها دليلا؛ ذلك لأن الكتب والحكماء فيها غير كافية. ويجب أن يكون هناك ما يكفي من الشواهد حتى أتأكد مما أرويه.
3: 10
قال المعلم: في طقس الأضاحي الكبير (بدولة لو)، أنصرف بعد إراقة سكائب الخمر الأولى، ولا تبقى عندي رغبة في المشاهدة (لما أرى فيه من قشور الطقس).
التعليق:
ينتقد كونفوشيوس هنا مجددا عدم التقيد بقواعد الطقوس، وقيام أمير دولة لو بممارسة طقس ليس من حقه ممارسته.
3: 11
سأل أحدهم كونفوشيوس عن معنى طقس الأضاحي الكبر، فقال المعلم: لا أدري، ولكن إذا وجد من يعرف ذلك يغدو قادرا على رؤية العالم كله كما يرى هذه، وأشار إلى كفه.
التعليق:
يدعي كونفوشيوس أنه لا يعرف؛ وذلك استنكار لما يجري فيه من تعد على سلطات الملك. فإذا استعاد الملك سلطانه يغدو قادرا على إعادة توحيد البلاد التي مزقتها منازعات أمراء المقاطعات.
3: 12 «تقديم القربان للحضور»، يعني أن تقدم قربانا لأرواح الأجداد على أنها حاضرة أمامك. وفي هذا قال المعلم: إذا لم أقم بنفسي بتقديم القربان، فكأنني لم أقدم قربانا قط.
3: 13
سأل الوزير وانغ سون تشيا كونفوشيوس عن رأيه في القول المتداول: «من الأفضل أن تقدم قربانك لإله الموقد في المطبخ بدلا من إله مصلى العائلة؟» فقال المعلم: ليس الأمر كذلك؛ لأنك إذا جدفت بحق السماء فلن تنفع الصلاة لأي إله.
التعليق:
كان كونفوشيوس يرغب في تعيينه مستشارا لأمير دولة وي، فسأله الوزير في دولة وي عن معنى هذا القول الساخر الذي يفيد بأن الصلاة إلى الإله الذي يطعم الإنسان خير من الصلاة لسيد ذلك الإله، ويقصد من ذلك بأنه قادر على عونه في مسعاه أكثر من الأمير نفسه.
3: 14
قال المعلم: لقد سارت أسرة جو الملكية على خطا الأسرتين السابقتين وازدهرت في عهدها الثقافة؛ ولذا فإني الآن من أتباع أسرة جو.
3: 15
عندما دخل كونفوشيوس المعبد الكبير سأل عن كل شيء، فقال أحدهم: «من قال إن كونفوشيوس أستاذ في الطقوس؟ ها قد دخل إلى المعبد وسأل عن كل شيء.»
فقال كونفوشيوس: «ما فعلته هو الطقوس بذاتها.»
3: 16
قال المعلم: في فن النبالة (= رماية السهام) ليس المهم أن يخترق السهم جلد الهدف؛ لأن الرماة يتفاوتون في القوة البدنية (المهم هو دقة الإصابة)، هذه سنة الأقدمين.
3: 17
أراد تسي كونغ (تلميذ كونفوشيوس ووزير مملكة جو) إلغاء طقس قربان الشاة المتعلق بإثبات أهلة الشهور، فقال له كونفوشيوس: إذا كنت حريصا على الشاة فأنا حريص على القواعد.
التعليق:
كان من عادة الأمراء تقديم قربان شاة عند هلال كل شهر، ثم إعلان ذلك رسميا للناس.
3: 18
قال المعلم: إذا خدمت أميرك بطاعة واحترام، قال الناس إنك متملق ومتزلف.
التعليق:
ما يقصده كونفوشيوس هنا هو العكس؛ أي بذل الطاعة والاحترام للأمير ليس تزلفا.
3: 19
سأل الحاكم دينغ عن الطريقة التي يعامل بها الحاكم وزراءه، والطريقة التي يخدم بها الوزراء حاكمهم، فأجاب كونفوشيوس: على الأمير أن يتعامل مع وزرائه وفق قواعد الأدب والمعاملات، وعلى الوزراء أن يخدموه بالإخلاص والتفاني.
3: 20
قال المعلم: تعبر قصيدة كوان جوي عن بهجة دون خلاعة وحزن دون تفجع.
3: 21
سأل الأمير أي التلميذ زاي وو عن الحرم المقدس المحيط بمعبد إله الأرض، فقال زاي: «لقد زرع فيه عاهل أسرة هسيا شجر الصنوبر، وزرع فيه حكام أسرة ين شجر السرور، وحكام أسرة جو البلوط لكي يثيروا الرهبة في قلوب الناس.» فقال كونفوشيوس بعد أن سمع ذلك: «لا تناقش ما تم فعله، ولا تنتقد ما انقضى، ولا تضع الملامة على ما مضى.»
3: 22
قال المعلم: كان قوان جونغ (الوزير الأول في دولة تشي) محدود الكفاة، فسأله أحدهم: «ألم يكن قوان جونغ مقترا؟» فقال المعلم: «كان عنده ثلاثة قصور، ولا يحتاج أحد من موظفيه الاشتغال بوظيفة إضافية لكسب الرزق، فكيف يمكن اعتباره مقترا؟» فقال السائل: «هل كان عارفا بقواعد الأدب والمعاملات ؟» قال كونفوشيوس: «كان أمراء الدولة يضعون ستارة طقسية أمام أبوابهم، وكذلك فعل قوان جونغ. وكان أمراء الدولة إذا استقبلوا ملوكا أجانب نصبوا قاعدة خاصة ليضعوا عليها أكوابهم طقسيا، وكذلك فعل قوان جونغ. فإذا قلت إن قوان جونغ كان عارفا بقواعد الأدب والمعاملات، فمن الذي ليس عارفا بها؟»
التعليق:
كان قوان جونغ رجل دولة من الطراز الأول، ولكن كونفوشيوس لامه لأنه كان قادرا على عون سيده على توحيد البلاد، ولكنه لم يفعل.
بخصوص تعبير «ثلاثة قصور»، أو
San Gwei
باللغة الصينية، هناك اختلاف في ترجمته بين الباحثين، وبعض المترجمين تركوه بصيغته الصينية.
3: 23
عندما كان كونفوشيوس يتحدث مع رئيس الجوقة الموسيقية لإمارة لو، قال له: على حد علمي في الموسيقى، فإن المقطوعة ينبغي أن تبدأ بافتتاحية تشارك فيها كل الأدوات في انسجام مع بعضها، وبعد ذلك تنساب في حرارة واضحة وتستمر محافظة على النقاء والوضوح دون تقطعات حتى النهاية.
3: 24
طلب أحد قادة حرس الثغور مقابلة المعلم قائلا: «إذا مر بي رجل نبيل فإني لا أفوت فرصة اللقاء به.» فأدخله التلاميذ، وعندما خرج بعد المقابلة قال لهم: «أيها الأصحاب لا تحزنوا من فشل معلمكم (في عالم السياسة). لقد ضل العالم عن صراط الحق زمنا طويلا، والآن أرى أن السماء سوف تستخدم معلمكم كناقوس ينبه كل الناس.»
3: 25
قال المعلم: كانت مقطوعة شاو الموسيقية في غاية الجمال والجودة، ومقطوعة وو في غاية الجمال لا في غاية الجودة.
3: 26
قال المعلم: عندما تمارس السلطة بدون سماحة، وتقام الطقوس بدون احترام، وتشيع الجنازات بدون حزن؛ فهذه أمور لا أقدر إلا رفضها.
الباب الرابع
4: 1
قال المعلم: حسن الجوار من حسن المروءة. وإنه ليس من الحكمة السكن في جوار يفتقد أهله إلى المروءة.
4: 2
قال المعلم: من افتقر إلى المروءة يضل إذا طالت عليه الضراء، ويتمادى إذا طالت عليه السراء. ذو المروءة مستريح إليها، والحكيم يتكئ عليها.
4: 3
قال المعلم: ذو المروءة هو الذي يكون محقا في محبة الآخرين ومحقا في كراهيتهم.
4: 4
قال المعلم: السعي إلى المروءة يبعدك عن سبل الشر.
4: 5
قال المعلم: الثروة والرفعة يقصدهما الجميع، ولكن إذا لم تبلغهما بالطرق المشروعة لا تقبلهما. الفقر والضعة يكرههما الجميع، ولكن إذا لم يكن تفاديهما ممكنا بالطرق المشروعة، ارض بهما. إذا غفل الرجل النبيل عن المروءة كيف له أن يستحق هذا اللقب؟ الرجل النبيل لا يغفل عن المروءة ولو هنيهة؛ إنه يلازمها في حله وترحاله، ولا يفارقها حتى في أوقات الشدة والضيق.
4: 6
قال المعلم: لم أر شخصا يحب المروءة حقا، أو يكره نقيضها حقا؛ لأن الذي يحب المروءة حقا لا يسمو عليه إنسان آخر. وإذا كره نقيضها فسوف تتجنبه ما استطعت. هل هنالك من شخص كرس نفسه للمروءة يوما واحدا؟ أنا لم أر شخصا تعوزه القدرة على ذلك، ربما يوجد ولكنني لا أعرفه.
4: 7
قال المعلم: أخطاء الناس تدل على طبائعهم، ونحن من ملاحظتنا لأخطاء الآخرين نتعرف على طبائعهم.
4: 8
قال المعلم: إذا أدركت صراط الحق صباحا، فإني أتقبل الموت راضيا في المساء.
4: 9
قال المعلم: إذا رغب مثقف في طلب الحق ولكنه يخجل من الملبس الخشن والمأكل المتواضع، فلا يستحق أن تناقشه موضوع الحق.
التعليق:
المثقفون هم شريحة متعلمة تخصص أفرادها بالكتب الكلاسيكية القديمة، وعمل بعضهم على تعليمها، وعمل آخرون في الوظائف الحكومية.
4: 10 : قال المعلم: الرجل النبيل في تعامله مع شئون العالم لا يتعصب لشيء أو على شيء آخر، وإنما يفعل ما يوافق الحق.
4: 11
قال المعلم: الرجل النبيل يحن إلى الفضائل، والرجل الوضيع يحن إلى منشئه. الرجل النبيل يسعى للعدالة، والرجل الوضيع يسعى لمصلحته.
4: 12
قال المعلم: إذا كان نشاطك موجها دوما لتحقيق مصالحك الشخصية؛ كثر الحاقدون عليك.
4: 13
قال المعلم: إذا كان بمقدورك حكم البلاد بمبدأ الإيثار، فلن تجد مشقة في الحكم. وإذا لم تحكم البلاد بمبدأ الإيثار، فما فائدة قواعد الأدب والمعاملات؟
4: 14
قال المعلم: لا يهمني أن أتقلد منصبا مرموقا، بل يهمني ما يؤهلني لذلك المنصب. ولا يهمني عدم معرفة الناس بي، بل يهمني أن أكتسب ما يجدر بهذه المعرفة.
4: 15
قال المعلم لتلميذه زنغ شن: «اعلم يا شن أن أفكاري يضمها خيط واحد.» فقال التلميذ: «صدقت.» وعندما غادره المعلم تساءل بعض التلاميذ عن معنى قوله، فقال شن: «أفكار معلمنا تتلخص في أمرين هما: الإخلاص والمعاملة بالمثل.»
4: 16
قال المعلم: الحق هو دافع الرجل النبيل، والمنفعة هي دافع الرجل الوضيع.
التعليق:
الحق (أو الاستقامة)
yi (وبالإنكليزية
Righteousness )، هي ما يتوجب على المرء فعله دون مقابل، وبتعبير آخر أن نفعل ما هو صواب لأنه صواب.
4: 17
قال المعلم: عندما تقابل شخصا صالحا، فكر في أن تكون مثله. وعندما تقابل طالحا، فكر في نفسك لتجنب عيوبه.
4: 18
قال المعلم: في خدمتك لوالديك، لا جناح عليك إذا حاولت من آن لآخر إصلاحها بلطف، فإذا لم يصغيا إليك ثابر على احترامهما ولا تنفر منهما، فلا تتذمر وإن أصابك هم وحزن.
4: 19
قال المعلم: ما دام والداك على قيد الحياة من الأفضل ألا تذهب في سفر بعيد. فإذا كان لا بد من ذلك ليكن سفرك إلى جهة يعرفانها.
4: 20
قال المعلم: إذا توفي والدك ولم تحد عن سبيله القويم لمدة ثلاث سنوات كنت جديرا بلقب الابن البار.
4: 21
قال المعلم: لا يمكنك إلا تذكر عمر أبويك دائما. إن فيه مصدر بهجة لكبر السن، ومصدر قلق لقرب الأجل.
4: 22
قال المعلم: الناس في الأيام الخوالي كان قولهم لا يسبق عملهم خشية ألا يكونوا عند كلامهم.
4: 23
قال المعلم: نادرا ما يخطئ الإنسان بسبب أنه كان محتاطا لنفسه.
4: 24
قال المعلم: الرجل النبيل يتأنى في أقواله ويسرع في أعماله.
4: 25
قال المعلم: رجل الفضيلة لا يشعر بالوحدة؛ لأنه لا يعدم الأصدقاء من حوله.
4: 26
قال المعلم: في خدمة أميرك حذار أن تكون علاقتكما حميمة أكثر من اللازم؛ لأنه يجلب لك الذل. وفي تعاملك مع الصديق حذار أن تكون علاقتكما حميمة أكثر من اللازم؛ لأنه يؤدي إلى النفور.
الباب الخامس
5: 1
قال كونفوشيوس عن التلميذ كونغ يه جانغ: إنه جدير بالزواج على الرغم من أنه سجن في إحدى المرات وكان بريئا. ثم زوجه من ابنته.
5: 2
قال كونفوشيوس عن التلميذ نان يونغ: إنه لن يعدم وظيفة في الخدمة المدنية إذا ساد صراط الحق في الدولة، وإذا لم يسد الحق فإنه يتفادى العقوبة والإهانة، ثم زوجه من ابنة أخيه الأكبر.
5: 3
قال كونفوشيوس عن تسي جيان: إنه رجل نبيل، ولكن إذا كانت دولة لو تفتقر إلى الرجال النبلاء، فمن أين له هذه المكارم؟
5: 4
سأل تسي قونغ كونفوشيوس: «ماذا تقول عن شخصيتي؟» فقال كونفوشيوس: «أنت إناء.» فقال تسي: «ما نوع هذا الإناء؟» قال كونفوشيوس: «إناء قربان مرصع بالجواهر.»
5: 5
قال أحدهم: إن التلميذ ران يونغ رجل ذو مروءة ولكنه يفتقر إلى قوة البيان. فقال المعلم: وما فائدته من قوة البيان؟ إذا خاطبت الناس دوما بكلام منمق فسرعان ما ينفرون منك. لا أدري ما إذا كان ران يونغ رجل مروءة، ولكن لماذا يتوجب عليه أن يكون فصيحا مفوها؟
5: 6
حث كونفوشيوس تلميذه تشي دياو كاي على تولي منصب حكومي، فأجاب: لست واثقا من قدرتي على تولي هذا المنصب. فسر المعلم بجوابه.
5: 7
قال المعلم: «إذا لم تجد أفكاري القبول من الناس، فسوف أركب طوفا إلى ما وراء البحر، وأظن أن الذي سيرافقني هو أنت يا تسي لو.» لسماعه ذلك شعر تسي لو بالسرور، فقال له المعلم: «إنك تفوقني في الشجاعة والمغامرة، ولكنك تفتقر إلى التأني في الحكم على الأمور.»
5: 8
سأل مونغ وو بو كونفوشيوس عما إذا كان تسي لو رجل مروءة، فقال المعلم: «لا أدري.» ثم سأله مرة ثانية فأجاب: «باستطاعته أن يتولى شئون التجنيد في مملكة ذات ألف عربة حربية، ولكني لا أعرف ما إذا كان رجل مروءة أم لا.» بعد ذلك سأل مونغ وو بو المعلم عما يقوله في ران تشيو، فأجاب: «إن بمقدوره حكم إقطاعة تحتوي على 100 عائلة أو عشيرة عندها 100 عربة حربية، ولكن لا أدري ما إذا كان رجل مروءة أم لا.» بعد ذلك سأل مونغ وو بو عن كونغ شي جيه، فأجاب: «بمقدوره أن يقف في وسط البلاط ويتفاوض مع الضيوف الأجانب وهو لابس وشاحه الرسمي، ولكني لا أدري ما إذا كان رجل مروءة أم لا.»
5: 9
سأل كونفوشيوس تسي كونغ: «من الأفضل بينكما، أنت أم يان هوي؟» فقال تسي كونغ: «كيف أجرؤ على مقارنة نفسي بيان هوي؟ إذا سمع النقطة الأولى من مسألة مطروحة عرف المسألة برمتها، أما أنا فإذا سمعت النقطة الأولى فلا أعرف إلا النقطة الثانية.» فقال المعلم: «حقا إنك دون مستواه، وأوافقك على ذلك.»
5: 10
تساي يو نام وقت الضحى، فقال كونفوشيوس: الخشب العفن لا يصلح لأن ينحت، والجدار المصنوع من تراب وروث لا يمكن أن يبيض، فلماذا نهتم بلوم تساي يو؟ في الماضي كنت أصغي لما يقوله الآخرون، ثم أتوقع منهم أن يسلكوا تبعا لذلك، أما الآن فإني أصغي لما يقوله الآخرون ثم أراقب سلوكهم. لقد تعلمت ذلك من سلوك تساي يو.
5: 11
قال المعلم: لم أقابل حتى الآن رجلا قوي العزيمة حقا.» فقال أحدهم: «وماذا عن شين جانغ؟» فقال المعلم: «شين جانغ تحكمه رغباته، فكيف يكون قوي العزيمة؟»
5: 12
قال تسي كونغ: «لا أفعل بالآخرين ما لا أحب أن يفعلوا بي.» فقال كونفوشيوس: «يا تسي قونغ، إنك لم تحقق ذلك بعد.»
5: 13
قال تسي كونغ: يحدثنا المعلم عن آرائه في الثقافة والكلاسيكيات، ولكنه لا يحدثنا عن طبيعة الإنسان وطريق السماء.
5: 14
كان تسي لو إذا سمع تعليما من المعلم ولم يطبقه بعد، يخشى الاستماع إلى تعليم جديد.
5: 15
سأل تسي كونغ: «كيف حصل الموظف كونغ ون تسي على لقب المتعلم
wen ؟» فقال المعلم: «كان ذكيا ومحبا للتعلم، كما كان لا يجد غضاضة في سؤال من هو دونه قدرا؛ ولذلك حاز على لقب المتعلم.»
5: 16
تحدث المعلم عن الوزير تسي تشان فقال: كان له أربع من خصال الرجل النبيل؛ فقد كان متواضعا رزينا في سلوكه الشخصي، محترما لرؤسائه، رءوفا في تعامله مع الرعية، وعادلا في استخدام الشعب.
5: 17
قال المعلم: كان الوزير يان بينغ جونغ حسن المعشر، وكلما طالت معرفة الناس به، زادت محبتهم له.
5: 18
قال المعلم: صنع تسانغ ون جونغ بيتا للسلحفاة التي يقتنيها، وعلى تيجان أعمدة ذلك البيت صور تلال تزينها نباتات عدس الماء، فهل فقد الرجل كل تعقل؟
التعليق:
كان تسانغ ون جونغ مسئولا كبيرا في دولة لو، وكونفوشيوس هنا يلومه لأن الاحتفاظ بسلحفاة وفق هذه الطريقة الطقسية كان وقفا على الملوك.
5: 19
سأل تسي جانغ: «لقد عين تسي ون وزيرا أول ثلاث مرات، ولكنه لم يبتهج بذلك، وصرف من الخدمة ثلاث مرات، ولم يحزن لذلك، بل نقل إلى خلفه كل ما يتعلق بشئون الحكم خلال ولايته، فماذا تقول فيه؟» قال المعلم: «كان صاحب إخلاص.» فقال: «هل كان صاحب مروءة؟» قال المعلم: «لا أعرف شيئا فعله يجعله كذلك.»
ثم قال تسي جانغ: «عندما اغتال الموظف الكبير تشوي نسي أمير دولة تشي، ترك الوزير تسين ون تسي ممتلكاته من الأربعين جوادا وخرج من الإمارة. وعندما وصل إلى إمارة أخرى قال: إن القائمين على الحكم هنا يشبهون تشوي تسي. ثم ترك هذه الإمارة وواصل سيره حتى وصل إلى إمارة ثالثة، فقال: إن رجال الحكم هنا يشبهون تشوي تسي أيضا. فتركها. فماذا تقول فيه؟» قال المعلم: «إنه عفيف النفس.» فقال: «هل كان رجل مروءة؟» قال المعلم: «لا أعرف شيئا فعله يجعله كذلك.»
5: 20
كان جي ون تسي يتفكر في كل أمر ثلاث مرات قبل أن يقوم به. فلما بلغ كونفوشيوس ذلك قال: تكفيه مرتان.
5: 21
إذا ساد طريق الحق في الدولة كان رجل الدولة نينغ وو تسي يبدي ذكاء، وإذا غاب طريق الحق كان يتظاهر بالغباء. ربما كان بمقدور الغير أن يباريه في الذكاء، ولكن ليس بمقدور أحد أن يباريه في التظاهر بالغباء.
5: 22
عندما كان كونفوشيوس في إمارة جين قال: حان الوقت لأعود، حان الوقت لأعود. التلاميذ في بلدي طموحون أذكياء، وبارعون في فن الكتابة، ولكنهم لا يعرفون كيف يكبحون أنفسهم.
5: 23
قال المعلم: كان بو يي وأخوه شو جي لا يتذكران خطايا الآخرين، ولذلك قل المتذمرون عليهما.
التعليق:
كان هذان الشخصان وزيرين توأمين في الأيام السالفة واشتهرا بالعفة والفضيلة.
5: 24
قال المعلم : من الذي نسب الاستقامة إلى وي شن كاو؟ لقد سأله أحدهم قليلا من الخل، فمضى إلى جيرانه وطلب منهم بعضه وأعطاه إلى سائله على أنه خله.
5: 25
قال المعلم: ثلاثة أمور كان تسو تشيومينغ يستحي منها؛ الكلام المعسول، والوجه المتصنع، والمجاملة المفرطة. وكذلك أنا. وكان يستحي أن يشبه من إذا كره أحدا أخفى كراهيته، وأظهر له الصداقة، وكذلك أنا.
5: 26
كان يان يوان وتسي لو يجالسان المعلم، فقال لهما: «ليخبرني كل منكما برغبته.» فقال تسي لو: «أرغب في أن يكون لي عربات وأحصنة، ومعاطف من الفراء الخفيف أشرك بها أصحابي ولا أهتم إذا أتلفوها»، وقال يان يوان: «أرغب في ألا أفتخر بفضائلي، ولا أتباهى بمآثري.» بعد ذلك قال تسي لو: «وماذا عنك أيها المعلم؟» فقال كونفوشيوس: «أرغب في منح الأمان للشيوخ، والثقة للأصدقاء، والحدب على اليافعين.»
5: 27
قال المعلم: وا حسرتاه! لم أقابل بعد أحدا يعرف أخطاءه ويحاسب نفسه في السر.
5: 28
قال المعلم: في مزرعة تعيل عشر أسر، لا بد من وجود رجل وفاء وإخلاص مثلي. ولكني أشك في أن يوجد فيها رجل مولع بالعلم مثلي.
الباب السادس
6: 1
قال المعلم: التلميذ ران يونغ (= جونغ قونغ) جدير بالإمارة.
التعليق:
كان هذا التلميذ من أسرة متواضعة، وما يريد المعلم قوله هنا هو أن المناصب الحكومية ينبغي أن تكون للكفء بصرف النظر عن منبته الطبقي.
6: 2
سأل جونغ قونغ عن تسي سانغ بوتسي، فقال المعلم: «لا بأس به؛ لأنه لين العريكة.» قال جونغ قونغ: «لا بأس في أن يكون المرء لين العريكة في معاملة الناس، ولكن لين العريكة لا يكفي في حد ذاته.» أجابه المعلم: «أنت على صواب.»
6: 3
سأل حاكم آي كونفوشيوس: «من هو الأكثر ولعا بالتعلم بين تلاميذك؟» فقال كونفوشيوس: «كان عندي تلميذ محب للتعلم اسمه يان هوي، لم يكن يصب جام غضبه كيفما اتفق، ولم يكن يكرر الخطأ نفسه مرتين. من المؤسف أنه مات شابا، وبعد موته لم أقابل رجلا محبا للتعليم مثله.»
التعليق:
عندما يتحدث كونفوشيوس عن التعلم فإنه يقصد به الارتقاء الأخلاقي.
6: 4
عندما تم تكليف تشي هوا بالذهاب في مهمة إلى دولة تشي، طلب ران يو كونفوشيوس أن تعطى أم تشي هوا ملء فو (مقياس وزن) من الأرز، فقال المعلم: أعطوها ذلك. فطلب ران يو أن تعطى أكثر، فقال المعلم: أعطوها ملء يو (مقياس وزن أكبر من الأول). ولكن ران يو أعطاها ملء بينغ (مقياس وزن أكبر من الثاني)، فقال المعلم: عندما شد تشي هوا الرحال كانت خيول عربته سمينة، وكان يضع عليه حلة من الفراء الفاخر. لقد سمعت أن الرجل النبيل يساعد المحتاجين، ولكنه لا يزيد من ثراء الغني.
6: 5
أوكل المعلم إلى التلميذ يوان سي وظيفة الخازن، وخصص له مكافأة مقدارها تسعمئة يو من الحبوب، ولكن يوان سي لم يقبلها، فقال له المعلم: لا ترفضها. خذها إن شئت وانفع بها أهل قريتك.
6: 6
قال كونفوشيوس في جونغ قونغ: يمكن أن ينجب ثور الحراثة العادي عجلا ذا لون أحمر لا شية فيه وقرنين قويين، وإن لم يصلح هذا العجل للقربان، فهل ستنبذه الجبال والأنهار؟
التعليق:
ولد جونغ قونغ في أسرة وضيعة، ولكن جونغ قونغ (أي ران يونغ) كان يتحلى بصفات حميدة فأعجب كونفوشيوس، الذي أورد هذه الملاحظة، ليقول بأنه يشبه هذا العجل الجميل، وأن الخصائص الشخصية أهم من النسب.
6: 7
قال المعلم: كان يان هوي قادرا على تثبيت فكره على المروءة ثلاثة أشهر دون فتور، أما تلاميذي الآخرون فلربما قدروا على ذلك لبضعة أيام لا أكثر.
6: 8
سأل جي كانغ تسي: «هل بمقدور جونغ يو استلام منصب حكومي؟» فقال كونفوشيوس: «إنه رجل حازم، فلماذا لا يستطيع ذلك؟» ثم سأل جي كانغ تسي: «هل بمقدور تسي استلام منصب حكومي؟» فقال كونفوشيوس: «تسي رجل عاقل، فلماذا لا يستطيع ذلك؟» ثم سأل بعد ذلك: «هل بمقدور جيو استلام منصب حكومي؟» فقال كونفوشيوس: «تشيو رجل موهوب، فلماذا لا يستطيع؟»
6: 9
أرسل حاكم إقليم تشي المستبد رسوله إلى مين تسي تشيان يطلب منه إدارة إقطاعية له، فقال مين تسي تشيان للرسول: أنقل له بكل أدب رفضي لعرضه. ولو أن أحدا جاءني بالطلب ثانية، فلسوف ألجأ إلى الضفة الأخرى لنهر وين (البعيد) وأعيش هناك.
6: 10
أصيب التلميذ بونيو بمرض عضال، فعاده المعلم ومد يده من الشباك وشد على يده قائلا: إن الموت هو قضاء وقدر! كم هو شنيع أن يصيب مرض عضال مثل هذا الرجل الكريم! كم هو شنيع أن يصيب مرض عضال مثل هذا الرجل الكريم!
6: 11
قال المعلم: كم هو فاضل التلميذ يان هوي! إنه يأوي إلى كوخ متواضع، ويكتفي بقصعة أرز ونصف قرعة من الماء. يطيق من شظف العيش ما لا يطيقه الآخرون وهو سعيد. كم هو فاضل حقا!
التعليق:
في الأدبيات التاوية والكونفوشية ترد كلمة
xian
التي وصف بها التلميذ يان هوي بمعان متعددة مثل: صالح، وودود، وذكي، وشجاع، ولكنها في الوقت نفسه مصطلح يدل على شخص وصل مرتبة عالية من التطور المعرفي والأخلاقي، وبشكل عام تدل على شخص يكاد أن يكون كاملا دونما صفة قدسية، فهو فاضل أو حكيم.
6: 12
قال التلميذ ران جيو لكونفوشيوس: «لا أعتقد يا سيدي أنني قادر على السير في طريقك هذا، ليس لأنني راغب عنه، ولكن لقلة قدرتي عليه.» فقال المعلم: «إن من تنقصه القدرة يصل إلى منتصف الطريق، فلماذا تضع لنفسك حدا؟»
6: 13
قال المعلم لتسي هسيا: كن مثقفا من نمط الرجل النبيل لا من نمط الرجل الوضيع.
6: 14
لما تولى تسي يو حكم ولاية ووجينغ، قال له المعلم: «هل وفقت إلى رجال أكفاء يعملون من أجلك؟» فأجاب تسي يو: «عندي سيد يدعى تان تاي ميه مينغ. إنه لا يسلك طرقا مختصرة في العمل، ولا يدخل إلى منزلي إلا لبحث أمر من أمور العمل.»
6: 15
قال المعلم: لم يكن مونغ جيفان من المتفاخرين؛ فعندما انهزم الجيش سار في مؤخرته ليحمي المقاتلين المنسحبين. ولما شارف على دخول بوابة المدينة، ساط حصانه وقال للمراقبين: «لا تظنوا بي الشجاعة لأني كنت آخر الواصلين، إنما حصاني كان بطيئا.»
6: 16
قال المعلم: إذا لم يكن لديك طلاوة حديث الكاهن جو تو، ووسامة الأمير سونغ تساو؛ من الصعب أن تنجو من فتن هذا العصر.
6: 17
قال المعلم : هل يستطيع أحد الخروج من غير المرور عبر باب؟ إذن لماذا لا أحد يتبع صراط الحق؟
6: 18
قال المعلم: إذا غلب الطبع على التطبع (في التنشئة) صار الناشئ جلفا. وإذا غلب التطبع على الطبع صار الناشئ متبجحا. وإذا جمع بين الطبع والتطبع غدا رجلا نبيلا.
6: 19
قال المعلم: يولد الناس على الاستقامة، فإذا فقدوها فإن الحظ وحده هو الذي يجنبهم البلايا.
6: 20
قال المعلم: من يعرف العلم هو دون من يحبه، ومن يحبه هو دون من يسعد به.
6: 21 : بمقدورك أن تعلم المعارف العليا لمن هم فوق المتوسطة في النباهة، ولكن ليس بمقدورك أن تعلم هذه المعارف لمن هم دون المتوسط في النباهة.
6: 22
سأل فان جيه عن الحكمة، فقال المعلم: «هي العمل على تأمين العدالة للناس، أو احترام الآلهة وأرواح الموتى، ولكن مع البقاء على مسافة منها.» ثم سأل أيضا عن المروءة، فقال المعلم: «ذو المروءة يجهد ويكد أولا، ثم يحصد النتائج.»
6: 23
قال المعلم: ذو الحكمة يستمتع بمشهد الماء، وذو المروءة يستمتع بمشهد الجبال. ذو الحكمة نشيط، وذو المروءة هادئ ورائق. ذو الحكمة مبتهج وذو المروءة معمر.
6: 24
قال المعلم: إمارة جي تحتاج إلى تغيير واحد لكي تبلغ مرتبة إمارة لو، وإمارة لو تحتاج إلى تغيير واحد لكي تبلغ الصراط القويم.
6: 25
قال المعلم: إذا كان الإناء المربع المسمى ب «قو» (gu)
بلا زوايا، فأي إناء هو؟ أي إناء هو؟
التعليق:
ال «قو» هو إناء طقسي ذو زوايا قائمة، ولكنه تحول تدريجيا إلى إناء مدور بلا زوايا. وقول المعلم هنا غامض وفيه أكثر من تفسير، ولكن يبدو أنه يشير إلى فكرة تصحيح الأسماء، ومفادها أن الاسم ينبغي أن يتطابق مع المسمى؛ فالأب لا يستحق هذا الاسم إذا لم يقم بواجبات الأبوة على أتمها، وكذلك الابن، والصديق، والحاكم ... إلخ. وقد قام منشيوس بعد ذلك بالتأكيد على هذه الفكرة، وقال إن أي إصلاح في المجتمع يجب أن يبدأ بتصحيح الأسماء.
6: 26
سأل تساي وو: «إذا أخبر أحدهم رجل المروءة بأن رجلا سقط في قاع البئر، هل يهرع إليه وينزل في البئر أيضا؟» فقال المعلم: «أعجب لما تقول. إن الرجل النبيل يهرع إلى البئر ولكنه لا يدع نفسه يسقط فيه، ربما يمكنك خداعه ولكن لا يمكنك أن تعامله كغبي.
6: 27
قال المعلم: الرجل النبيل الذي تعمق في دراسة سجلات الثقافة، وأدب نفسه بقواعد الأدب والمعاملات، لا يمكن أن يخرج عن جادة الصواب.
6: 28
زار المعلم الأميرة نان تسي (المعروفة بعلاقاتها الغرامية مع رجال القصر)، فاستاء من ذلك التلميذ تسي لو، فقال المعلم شارحا موقفه: لتعاقبني السماء إذا ما ارتكبت خطيئة، لتعاقبني السماء.
6: 29
الاعتدال فضيلة عليا، ولكنه غاب عن سلوك الناس منذ زمن بعيد.
6: 30
سأل تسي كونغ: «ماذا تقول في من أحسن إلى الناس جميعا وأعانهم على الرزايا؟ هل هو صاحب مروءة؟» فقال المعلم: «بل أكثر من ذلك. إنه إنسان كامل، وهذه مرتبة لم يبلغها حتى ياو وشون (عاهلان حكيمان في قديم الزمان). إن رجل المروءة عندما يجعل قدميه راسختين يرغب في أن يكون الآخرون كذلك، وإذا رغب في النجاح لنفسه يرغب في أن يرى الآخرين ناجحين. إن طريق المروءة هو أن تجد لنفسك قدوة من حولك وتحذو حذوها.»
الباب السابع
7: 1
أنا راوية أكثر من كوني منشئا. أثق بالتعاليم القديمة وأنعم بها. وإني لأشبه في ذلك الصالح القديم الشيخ بنغ.
التعليق:
الشخصية التي يشير إليها كونفوشيوس أعلاه غير موثقة خارج هذا النص.
7: 2
قال المعلم: ألزم الصمت وأفكر. أدرس ولا أشبع، أعلم الآخرين ولا أتعب. هل تصعب علي هذه الأمور؟
7: 3
قال المعلم: التقصير في تهذيب الأخلاق، والإهمال في طلب العلم، والتقاعس عن اتباع الحق، والتهاون في نبذ الرذائل؛ كلها أمور تؤرق مضجعي.
7: 4
كان المعلم في وقت فراغه مسترخيا وطلق المحيا.
7: 5
قال المعلم: وا حسرتاه! لقد بدأت بنيتي تضعف بسرعة، ولم أر الأمير تشو في الحلم منذ مدة طويلة.
التعليق:
كان كونفوشيوس يعتبر الحكيم تشو في قديم الزمان قدوة صالحة، وكان يراه في الحلم إبان شبابه دوما. وقال كونفوشيوس هذا الكلام وهو في ال 68 من عمره.
7: 6
قال المعلم: ثبت عزيمتك على صراط الحق، والزم الفضيلة. اعتمد على مروءتك وتنعم بدراسة الفنون القديمة الستة.
التعليق:
الفنون القديمة الستة هي: الآداب، والموسيقى، والرماية، وقيادة العربات الحربية، والخط، والحساب.
7: 7
قال المعلم: لم أمتنع عن تعليم أحد، حتى الفقير الذي أهداني قليلا من اللحم المجفف.
7: 8
قال المعلم: لا أعنى بتعليم تلميذ غير متلهف للمعرفة، ولا أفصح له إذا لم يكن راغبا في التعبير عن أفكاره، ولا أعيد الدرس لمن لا يتوصل إلى قياس الزوايا الثلاث للمربع اعتمادا على الزاوية التي قستها له.
7: 9
كان المعلم لا يشبع إذا أكل بجانب شخص في حداد، ولا يترنم في نفس اليوم الذي بكى فيه.
7: 10
قال المعلم ليان هوي: «ليس غيري وغيرك إذا دعي إلى الخدمة شمر عن ساعديه، وإذا استغني عنه توارى واحتجب.» فقال تسي لو: «إذا أوكلت إليك مهمة قيادة جيش كبير، من الذي تختاره مساعدا لك؟» قال المعلم: «لن أختار رجلا يهاجم نمرا بدون عدة، أو يعبر نهرا على الأقدام فيعرض نفسه للموت دون ندامة، وإنما أختار من يلزم الحذر ويحسب للأمور حسابها قبل أن يشرع بالعمل.»
7: 11
قال المعلم: إذا كانت الثروة ممكنة لمن يطلبها، فسوف أجنيها ولو بمهنة السائس والسوط في يدي، ولكن بما أن الأمر ليس كذلك فسوف أزاول عملا أحبه.
التعليق:
الثروة والفقر أمران متعلقان بالقدر عند كونفوشيوس.
7: 12
ثلاثة أمور كان المعلم يحتاط في التعامل معها وهي: الصيام، والحرب، والمرض.
7: 13
عندما كان المعلم في إمارة تشي استمع إلى قطعة من موسيقى الشاو، وبعده لم يتذوق اللحم مدة ثلاثة أشهر، وقال: كيف للموسيقى أن تبلغ هذا الحد من الإبداع؟
7: 14
راديو يو سأل: «هل ينصر معلمنا حاكم إمارة وي؟» (وكان هنالك صراع على السلطة في القصر)، فقال تسي كونغ: «سوف أذهب لسؤاله عن ذلك.» ثم دخل إلى غرفة الطعام وسأله: «أي نوع من الرجال كان كل من بو يي وشو جي في رأيك؟» فقال المعلم: «كانا فاضلين قديمين.» فسأل تسي كونغ: «ألم يتذمرا من شيء؟» قال المعلم: «إذا كنت تنشد المروءة ووجدتها، فلم تتذمر؟» فخرج التلميذ وقال لزميله: «إن معلمنا لا ينصره.»
التعليق:
نجد هنا أسلوبا يتكرر في كتاب الحوار، يعتمد على شرح قضية من خلال قضية أخرى مختلفة تماما؛ فالتلميذ هنا لم يسأل كونفوشيوس عما إذا كان ينصر حاكم وي، وإنما تقدم بسؤال آخر عن الشقيقين بو يي وشو جي اللذين اشتهرا بالعفة والنزاهة، وبعد أن قتل الحاكم الذي عملا تحت إمرته على يد حاكم غاز، قاما بالصوم الطوعي رفضا لخدمة الحاكم الجديد حتى الموت جوعا.
7: 15
قال المعلم: إني لأجد سعادتي في العيش على قليل من الأرز، وشربة ماء بارد، وساعدي أتوسدها للاستراحة. أما الثروة والجاه مما يمكن تحصيله بطرق منحرفة فأشبه بسحاب عابر في نظري.
7: 16
قال المعلم: إذا استطعت أن أزيد في عمري سنين وعمرت إلى الخمسين، لسوف أبدأ في دراسة كتاب التغيرات (إي كينغ) فأتحلل من الأخطاء.
7: 17
كان المعلم يتحدث باللغة الأدبية الفصيحة عندما يتحدث عن سفر الأغاني، وكتاب التاريخ، وقواعد الأدب والمعاملات.
7: 18
سأل أمير شيه التلميذ تسي لو عن كونفوشيوس فلم يجبه، فقال المعلم لتلميذه: لماذا لم تقل له إنه رجل إذا أكب على الدراسة نسي طعامه، وفي متعته بها ينسى همومه، ويتجاهل أن الشيخوخة تدب في أوصاله؟
7: 19
قال المعلم: لم أولد عارفا، وإنما عشقت تعاليم القدماء، وفعلت ما بوسعي لكي أبلغ ما بلغوا.
7: 20
لم يكن المعلم يكترث بمناقشة الظواهر الغريبة، والخوارق، واضطرابات العقل وقصص الأشباح.
7: 21
قال المعلم: إذا اجتمعت مع ثلاثة أشخاص سيكون عند أحدهم ما أتعلم منه؛ لأنني أقتدي بما عند الآخرين من فضائل، وأتفادى ما عندهم من نقائص.
7: 22
قال المعلم: السماء زرعت في داخلي الفضائل، فأي أذية يمكن أن يلحقها بي هوان طي.
التعليق:
هوان طي كان مسئولا كبيرا في إمارة سونغ، وكان يريد بالمعلم شرا.
7: 23
قال المعلم لتلاميذه: يا أولادي، أتظنون أني أخفيت عنكم شيئا؟ ما من شيء أخفيته عنكم، وما من شيء أفعله إلا مبسوط أمامكم، هذا ما أنا عليه.
7: 24
كان المعلم يدرس تلاميذه أربعة أمور وهي: الثقافة القديمة، وقواعد السلوك، والإخلاص، والأمانة.
7: 25
قال المعلم: لم يتسن لي أن ألتقي برجل كامل ، ولكني أقنع بلقاء رجل نبيل. وقال: لم يتسن لي لقاء رجل فضيلة حقة، ولكني أقنع بلقاء رجل إخلاص ووفاء، ومن الصعب أن يكون الرجل صاحب فضيلة حقة إذا تظاهر بامتلاك شيء وهو لا يمتلكه، أو بامتلاء وهو خالي الوفاض، أو بفخامة وهو في عوز.
7: 26
في صيد السمك يستخدم المعلم السنارة بدلا من الشبكة، وفي صيد الطيور لم يكن يطلق السهم على طائر عائد إلى عشه.
7: 27
قال المعلم: ربما كان هنالك ناس قادرون على الإبداع بدون علم أو معرفة، أما أنا فلست كذلك. أنا أصيغ السمع وأختار الجيد فيما أسمعه لأتبعه، وألاحظ بدقة ثم أتأمل وأتفكر. وهذا هو المستوى الثاني من مستويات المعرفة.
التعليق:
من أجل مستويات المعرفة راجع الفصل 16: 9.
7: 28
كان من الصعب التفاهم مع أهل قرية هوشانغ بسبب جلافتهم. وعندما التقى كونفوشيوس بشاب من تلك القرية تحير تلاميذه جميعا، فقال لهم المعلم: خذ الآخرين على ما هم عليه حين يأتون إليك، ولا تأبه لما سيكونون عليه حين ينصرفون، فلماذا التعنت؟ إذا جاءك أحدهم بقلب سليم تقبل طهارته، ولا تفكر فيما كان عليه.
7: 29
قال المعلم: هل المروءة بعيدة المنال؟ كلا بل هي حاضرة هنا والآن، متى طلبتها وجدتها.
7: 30
سأل وزير العدل في إمارة تشن كونفوشيوس عما إذا كان الأمير جاو يعرف قواعد الأدب والمعاملات، فقال المعلم: «نعم، إنه يعرف.» وعندما انصرف كونفوشيوس أقبل الوزير على التلميذ وو ماجي وسلم عليه بالانحناء قائلا: «لقد سمعت أن الرجل النبيل لا ينحاز، ولكن يبدو أنه ينحاز؛ فلقد تزوج الأمير امرأة من أسرة وو، وبما أنها تحمل اسم عائلته نفسها (وهذا لا يجوز في الأعراف الصينية) فقد غير اسمها ودعاها بالأميرة وو مانغ تسي. فلو كان الأمير يعرف قواعد الأدب والمعاملات، فمن الذي لا يعرفها؟» فنقل التلميذ إلى المعلم هذه الملاحظة فقال: «كم أنا محظوظ! لأنني كلما ارتكبت خطأ وجدت من ينبهني إليه.»
7: 31
إذا كان المعلم ينشد لحنا مع أحد وأعجبه إنشاده، طلب منه إعادة اللحن من أوله، ثم صاحبه في الإنشاد.
7: 32
قال المعلم: ربما كنت مساويا لغيري في تحصيل الآداب، ولكني لم أبلغ في سلوكي مرتبة الرجل النبيل.
7: 33
قال المعلم: «لا أجرؤ على الادعاء ببلوغي رتبة الحكيم أو رجل المروءة. لست أكثر من رجل يكدح في سبيل ذلك دونما كلل، ويعلم غيره دونما تعب . هذا ما أنا عليه.» فقال التلميذ كونغ شي هوا: «مثل هذه الصفات لا نستطيع نحن المريدين اكتسابها.»
7: 34
مرض المعلم مرضا شديدا، فقال له التلميذ تسي لو أنه سوف يصلي من أجله، فسأله المعلم: «هل هنالك صلاة لهذا الغرض؟» قال تسي لو: «نعم؛ فقد ورد في مراثي الأقدمين هذا الدعاء «أصلي من أجلك لأرواح الملأ الأعلى والملأ الأسفل»،» فقال المعلم: «لا عليك؛ فقد تلوت هذه الصلاة مدة طويلة، وما زلت على ما تراني الآن.»
7: 35
قال المعلم: التبذير يقود إلى العجرفة، والتقتير يقود إلى البخل. من الأفضل لك أن تكون بخيلا لا متعجرفا.
7: 36
قال المعلم: الرجل النبيل مطمئن البال رحب الصدر، والرجل الوضيع قلق البال دوما.
7: 37
كان المعلم صارما في لطف، ومهيبا من غير عنف، ودمثا هادئا.
الباب الثامن
8: 1
قال المعلم: يمكننا القول إن تاي بو قد بلغ أعلى مراتب الفضيلة؛ فلقد تنازل عن الحكم لأخيه ثلاث مرات، والمواطنون لا يعرفون كيف يثنون عليه.
8: 2
قال المعلم: الكياسة التي لا تنجم عن قواعد الأدب والمعاملات هدر للجهد. والحذر الذي لا يبنى على قواعد الأدب والمعاملات جبن. والشجاعة من غير قواعد الأدب والمعاملات تهور. والصراحة من غير قواعد الأدب والمعاملات فظاظة. عندما يكون الحاكم طيبا مع بطانته، فإن الرعية ترنو إلى المروءة، وإذا لم ينس أصدقاءه القدامى زالت الجفوة بين الناس.
8: 3
عندما اشتد المرض على السيد تسنغ تسي، دعا إليه تلاميذه وقال لهم: اكشفوا عن قدمي وكفي؛ ففي سفر الأغاني يقول الشاعر:
حذر ومحترس،
كأنه على شفا هوة عميقة،
أو يطأ على جليد رقيق،
هكذا أنا أيها التلاميذ. وأعلم الآن أنني وصلت بر الأمان.
8: 4
عندما اشتد المرض على السيد تسنغ تسي، عاده مونغ جنغ تسي، فقال له تسنغ تسي: عندما يشرف الطائر على الموت يغدو شدوه حزينا، وعندما يشرف الإنسان على الموت ينطق بأقوال حسنة. إن الصراط الذي يثمنه الرجل النبيل ذو ثلاثة أوجه:
في سلوكه وتصرفاته يتفادى الطيش والعجرفة،
وفي مراقبته لما يظهر على وجهه من تعابير يتوخى الصدق،
وفي كلامه يتفادى الغلاظة والبذاءة،
أما ما يتعلق بأوني القرابين، فهنالك اختصاصيون يؤدونها عملهم.
8: 5
قال السيد تسنغ تسي: في الأيام الخوالي كان عندي صديق يتمتع بالخصال التالية: كان يتعلم ممن لا مقدرة له، مع أنه صاحب مقدرة. وكان يستفسر من لا علم له مع أنه كثير العلوم. كان ممتلئا ولكنه يبدو فارغا. ويتعرض للأذى دون أن يرد بمثله.
8: 6
قال الأستاذ تسنغ تسي: إن رجلا يمكن أن يعهد إليه بالعناية بولد يتيم، ويمكن أن يحمل مسئولية إمارة ذات مائة لي (= مقياس للمساحة)، ويمكن أن يواجه الخطوب العظام دون أن تفتر عزيمته، هل هو رجل نبيل؟ حقا إنه لرجل نبيل.
8: 7
قال الأستاذ تسنغ تسي: لا يمكن للمثقف إلا أن يكون واسع الأفق وقوي العزم؛ لأن عبأه ثقيل وطريقه طويل. المروءة هي عبؤه، أفليس عبؤه ثقيلا؟ عليه أن يحمله حتى الممات. أفليس طريقه طويلا؟
8: 8
قال المعلم: دع نفسك تسمو بالشعر، وتسلح بقواعد الأدب والمعاملات، وهذب نفسك بالموسيقى.
8: 9
قال المعلم: من الممكن أن تجعل العامة يعملون وفق الصراط، ولكنك لن تجعلهم يفهمونه.
8: 10
قال المعلم: الرجل الذي يتمتع بالجرأة ولا يطيق الفقر سوف يتمرد. الرجل الذي يفتقر إلى المروءة ويتعرض للبغض والإهانة، سيغدو متمردا.
8: 11
قال المعلم: حتى ولو كنت في وسامة ومواهب الأمير جو، فإن أحدا لن ينتبه إليك إذا كنت متعاليا وبخيلا.
8: 12
قال المعلم: إنه لرجل نادر ذلك الذي أقبل على تعلم شيء مدة ثلاث سنوات، دون أن يفكر في كسب رزقه بالمنصب الرسمي.
8: 13
قال المعلم: كن رجل إخلاص راسخ، محبا للعلم، مثابرا على نشدان صراط الحق. لا تدخل مملكة تكتنفها المخاطر، ولا تقم في مملكة يسود فيها الاضطراب والعصيان. عندما يسود صراط الحق اظهر وانشط، وعندما لا يسود اعتزل عن الشئون العامة. عندما يسود صراط الحق في بلدك من العار أن تكون فقيرا ومغمورا، وعندما لا يسود صراط الحق في بلدك من العار أن تكون غنيا ومرموقا.
8: 14
قال المعلم: لا تتدخل في شئون منصب غير منصبك.
8: 15
قال المعلم: بعد أن استلم المايسترو تشيه قيادة الأوركسترا، كان لختام مقطوعة قوانجو عذوبة شنفت أذني.
8: 16
قال المعلم: هنالك ثلاثة أحار في كيفية التعامل معهم: طائش غير مستقيم، وغبي غير حذر، وساذج غير صادق.
8: 17
قال المعلم: تعلم وكأنك تنشد هدفا بعيد المنال، كأنك تخشى فقدان ما حصلت عليه.
8: 18
قال المعلم: ما أسمى الطريقة التي حكم بها كل من شون وياو (ملكان ملحميان). لقد أدارا البلاد دون أن يرفع أحدهما إصبعا.
التعليق:
نلاحظ هنا اتفاقا بين كونفوشيوس ومعلم التاوية لاو تسو، وكذلك تلميذه من بعده تشوانغ تسو، فيما يتعلق بمفهوم وو-وي
wu-wei ؛ أي اللافعل وعدم التدخل في مسار الأشياء، والذي يجد تطبيقه في مجال السياسة، وذلك بحكم البلاد بأقل قدر ممكن من التدخل بشئون الرعية.
ولكن هناك فهما آخر للجملة الثانية لهذا المقطع، يمكن ترجمتها بهذا الشكل: «كانا يديران البلاد ولا يعتبرانها ملكهما الخاص.»
8: 19
قال المعلم: ما أروع الطريقة التي حكم بها ياو! لقد كان من السمو بحيث إنه قارب السماء في سموها وتماثل معها. كانت فضائله بلا حدود ويجل عنها الوصف، ومنجزاته رائعة، ونظمه ممتازة.
8: 20
لقد نجح الملك شون في حكم البلاد وإلى جانبه خمسة وزراء، أما الملك وو فقد كان إلى جانبه عشرة وزراء. وقد علق كونفوشيوس على ذلك قائلا: كم هو صحيح المثل القائل: «إن النوابغ نوادر»! من المفترض أنه في زمن ياو وشون كان الأكفاء كثر، ومع ذلك لم يجد شون سوى خمسة وزراء، أما ياو فلم يجد سوى تسعة وزراء إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بين وزرائه العشرة امرأة. وعلى الرغم من أن أسرة جو قد حكمت على ثلثي البلاد إلا أنها بقيت على تبعيتها لأسرة شانغ. لكم كانت فضائل جو عميمة.
8: 21
قال المعلم: كان الملك يو بلا مثالب؛ فقد كان طعامه وشرابه في غاية البساطة، وكان كاملا في تقواه وخدمته لأرواح الأسلاف، يرتدي خشن الملابس في حياته العادية وأفخرها في المناسبات الطقسية، يسكن في بيت متواضع ويجهد في حفر الترع وقنوات الري، وإني لا أجد فيه نقصا أو عيبا.
الباب التاسع
9: 1
كان المعلم نادرا ما يذكر المنفعة في معرض حديثه عن القدر أو المروءة.
9: 2
قال رجل من أهل داهسيانغ: «ما أعظم كونفوشيوس! وما أعمق تعليمه! ومع ذلك فإنه لم يشتهر بحرفة ما.» فقال المعلم لتلاميذه لما سمع ذلك: «أي مهنة أتخذ؟ هل أغدو حوذيا أم نبالا؟ أظن أني سأغدو حوذيا.»
التعليق:
الرجل النبيل ليس اختصاصيا في مجال محدد؛ كأن يكون شاعرا، أو موسيقيا، أو حوذيا، بل هو صاحب عقل شمولي قادر على فهم واستيعاب كل المجالات والحكم عليها.
9: 3
قال المعلم: القلنسوة الكتانية الطقسية هي ما نصت عليه قواعد الأدب والمعاملات، ثم جرت العادة على لبس قلنسوة حريرية بداعي الاقتصاد. وإني لمتبع عادة الناس هذه. كما نصت قواعد الأدب والمعاملات على الانحناء قبل الدخول إلى قاعة استقبال الحاكم، أما الآن فإن الانحناء يتم بعد الارتقاء إليها، وهذا في رأيي قلة تهذيب؛ ولذلك فإني أبقى على العادة القديمة ولو خالفت الناس اليوم.
4: 9
هنالك أربعة أمور امتنع عنها المعلم: تكوين الأفكار المسبقة، والاستبداد بالرأي، والعناد، والأنانية.
9: 5
تعرض الملك للخطر عندما كان يعبر منطقة كوانغ، فقال (لتلاميذه): بعد وفاة الملك وين صرت قيما على الثقافة بدلا عنه. فإذا شاءت السماء للثقافة أن تضمحل فلن تصل إلى الأجيال القادمة، وإذا لم تشأ السماء ذلك، فما الذي يستطيع أهل كوانغ أن يفعلوه بي؟
9: 6
سأل أحد الوزراء تسي كونغ: «هل كان معلمكم إنسانا كاملا؟ وما أكثر مواهبه!» فأجابه: «لقد أرادته السماء أن يكون رجلا كاملا، وجعلته متعدد المواهب والمهارات.» فلما سمع المعلم ذلك قال: «ما الذي يعرفه ذلك الوزير عني؟ في سن الفتوة كانت أسرتي فقيرة فتعلمت عددا من المهارات العادية، ولكن هذه المهارات ليست ضرورية للرجل النبيل.»
9: 7
قال لو: سمعت من معلمنا قوله: عندما لم يكن عندي وظيفة حكومية تعلمت عددا من المهارات.
9: 8
قال المعلم: هل ترون أنني رجل واسع المعرفة؟ لا. لم يكن لي علم بأي شيء. ولكن حتى لو توجه إلي بالسؤال شخص ساذج تحريت المسألة من بدايتها إلى نهايتها، ولا أخفي عنه أي شيء مما توصلت إليه.
9: 9
قال المعلم : لم يظهر طائر الفينيق في البلاد، ولم يخرج النهر الأصفر مخططا (فيه رموز كتاب التحولات). وأظن أنني قد انتهيت.
التعليق:
وهذه من علامات ظهور حكيم جديد يحيي سنة الأولين، ولكن عدم ظهور هذه العلامات يعني بالنسبة لكونفوشيوس بعد أن تقدم في السن أنه فشل في مسعاه.
9: 10
كان المعلم إذا مر به شخص في حداد، أو شخص في لباس المراسم، أو أعمى، قام له ولو كان صغير السن، وإذا مر بأحدهم أسرع في خطوه.
9: 11
تنهد ين يون معبرا عن إعجابه وقال: إذا رفعت نظري إلى تعاليم المعلم أراها ترتفع أكثر فأكثر، وإذا نفذت إليها وجدتها أكثر متانة، وإذا رأيتها أمامي فإذا بها تنتقل إلى ورائي. لقد أخذ بيد تلاميذه خطوة فخطوة، فوسع آفاقنا بالآداب، وهذب سلوكنا بقواعد الأدب والمعاملات. ولا أقدر على الانسحاب من الدراسة حتى إذا رغبت في ذلك. وقد استنفدت كل قواي، وخيل لي أني قادر على الوقوف على قدمي لاتباع تعاليمه، ومع ذلك لم أستطع إليها سبيلا.
9: 12
لما اشتد المرض على المعلم طلب تسي لو من تلاميذه أن يتخذوا دور الحرس الرسمي (لكي يدفن دفنا احتفاليا على طريقة الشخصيات البارزة التي لها حرس رسمي). وبعد فترة شفي المعلم من مرضه فقال لتسي لو: لطالما كنت مخادعا. إنك تحاول أن توحي بأن لدي حرسا رسميا، ولكن من ترانا نخادع بذلك؟ هل نخادع السماء؟ إني أفضل الموت بين تلاميذي على الموت بين حرس رسمي. إذا لم أنل جنازة رسمية فهل سأموت في الشوارع؟
9: 13
قال تسي كونغ: «إن لدينا هنا قطعة يشم ثمين (يعني بذلك مواهب المعلم)، فهل نخبئها أم نعرضها للبيع لمن يقدر قيمتها؟» (يعني حصول المعلم على وظيفة رسمية). فقال المعلم: «نبيعها، نبيعها. إني في انتظار من يقدرها ويدفع قيمتها الحقة.»
التعليق:
في قوله: «يقدرها ويدفع قيمتها الحقة»، لا يعني كونفوشيوس العائد المادي من وراء الوظيفة الحكومية، بل تقدير مواهبه والإفادة منها في الحكم.
9: 14
رغب المعلم في أن يقيم بين القبائل التسعة في الشرق، فقال أحدهم: «إنها منطقة سيئة فكيف تقيم فيها؟» فقال المعلم: «إذا أقام رجل نبيل في مكان فهل سيبقى المكان سيئا؟»
9: 15
قال المعلم: عندما عدت من إمارة وي إلى إمارة لو وجدت أن الأداء الموسيقي قد تحسن، وصارت الأغاني الملكية والمزامير تنشد وتعزف في المكان والزمان المناسبين.
9: 16
قال المعلم: في الحياة العامة أقوم بخدمة الحاكم والوزراء، وفي الحياة الخاصة أقوم بخدمة الوالدين والإخوة الكبار، وبطقوس الجنازات على أتمها، ولم يسبب لي شرب الخمور إزعاجا، فمن أين تأتيني المتاعب؟
9: 17
وقف المعلم على ضفة النهر متأملا وقال: إن الزمن يمر مثل هذا النهر، يجري ويجري في الليل وفي النهار دون توقف.
9: 18
قال المعلم: لم أجد أحدا يحب الفضيلة مثلما يحب النساء الحسان.
9: 19
قال المعلم: تشبه عملية التعلم صنع تلة من التراب، إذا توقفت قبل إفراغ القفة الأخيرة، ستبقى التلة دوما غير مكتملة. أما إذا أفرغت القفة الأولى على السهل، وثابرت على عملك، ستكتمل التلة في النهاية.
9: 20
بين تلاميذي من لا تفتر همته عندما أعلمه؟ إنه يان هوي.
9: 21
في معرض حديثه عن يان هوي، قال المعلم: يا أسفي على وفاته! كان يتقدم دوما ولا يتوقف.
9: 22
قال المعلم: من الزرع نوع ينمو ولا يزهر، وآخر يزهر ولا يثمر.
9: 23
قال المعلم: علينا إجلال حديثي السن. من يدري؟ لعلهم يغدون مساوين لنا في قادم الأيام. أما من بلغ منهم الأربعين أو الخمسين ولم ينبه ذكره؛ فلا يستحق منا ذلك.
9: 24
قال المعلم: لا أعتقد أن هنالك من لا يصغي إلى اللوم الصادق، ولكن المهم ما يلي اللوم من تغيير ذاتي. ولا أعتقد أن هناك من لا يسر عند سماع الكلام الطيب؟ ولكن المهم هو التبصر بعمق في معانيه. إذا أصغيت إلى اللوم الصادق ولم تغير من نفسك، وارتضيت بالكلام الطيب دون تبصر في معانيه، فلا أستطيع أن أنفعك بشيء.
9: 25
قال المعلم: ضع الولاء والإخلاص في المقام الأول، ولا تتخذ من الأصدقاء من هو دونك في الخلق الكريم، وعندما تخطئ لا تتردد في تصحيح خطئك.
التعليق:
سبق أن ورد قول بنفس المعنى في 1: 8.
9: 26
قال المعلم: من الممكن أن يسلب من الجيش الجرار قائده، ولكن لن يقدر أحد على سلب الرجل البسيط إرادته.
9: 27
هنالك من يقف بثياب خلقة بين جمع يلبس الفراء الفاخر دونما حرج. إنه يو (تسي لو)، وكما ورد في سفر الأغاني:
لا يحسد أحدا،
ولا يطمع في شيء،
فهل بإمكانه أن يفعل إلا الخير؟
عندما سمع يو هذا القول راح يترنم به على الدوام، فقال له المعلم: بهذه الخصال وحدها لن تكمل خلقك.
9: 28
قال المعلم: إذا حل الشتاء عرفنا أن الصنوبر والسرو لا تتساقط أوراقهما.
التعليق:
يرمز الصنوبر والسرو اللذان لا تتساقط أوراقهما وتبقى خضرتهما في الشتاء القارس إلى عزة النفس التي لا تلين ولا تتزعزع في الظروف القاسية؛ لذا يعتبران من الأشجار المحببة لدى الشعب الصيني.
9: 29
قال المعلم: الحكيم لا يقع في الحيرة، وصاحب المروءة لا يقلق، والشجاع لا يخاف.
9: 30
قال المعلم: من الناس من تجالسه للدراسة، ولكنك لا تستطيع السير معه على الصراط. وهنالك من تستطيع السير معه على الصراط، ولكنك لا تستطيع أن تقف معه راسخا. وهنالك من تستطيع أن تقف معه راسخا، ولكنك لا تستطيع الاتفاق معه على مخططات المستقبل.
9: 31 «عندما تهز الريح أوراق الحور،
فتتمايل وتدور،
لا أملك إلا أن أفكر بك،
ولكن كم هو المزار بعيد.»
قال المعلم في تعليقه على هذه الأبيات: لم يكن مشتاقا إليها حقا، وإذا كان مشتاقا حقا فلن يفكر ببعد المسافة.
الباب العاشر
10: 1
إذا أقام كونفوشيوس في بلدته تراه هادئا قليل الكلام. فإذا وجدته في معبد الأسلاف أو بهو الأمير تراه فصيحا ودقيقا.
10: 2
إذا تحدث مع صغار الموظفين كان صريحا ومرتاحا، وإذا تحدث مع كبار الموظفين كان جديا ورسميا. وعندما يحضر الحاكم تبدو عليه علائم الإكبار والإجلال مع رباطة جأش.
10: 3
فإذا دعاه الحاكم للعناية بضيف مهم اكتسى وجهه بتعابير جادة، ومشى مسرعا نحو مكان الاستقبال، يسلم على الواقفين بيمينه وشماله بإشارات اليد، فتتمايل أذيال ثوبه من الأمام ومن الخلف. يتقدم نحو الضيف بخطوات حثيثة. وعندما ينصرف الضيف يقوم بإخبار الأمير بعد أن يختفي عن النظر.
10: 4
وإذا عبر باب البلاط انكمش وانحنى كأن الفتحة ضيقة عليه. وبعد دخوله لا يقف في الوسط ولا يطأ العتبة. ولدى مروره أمام مجلس الأمير ترتسم الجدية على ملامحه ويتحرك بحذر بخطوات قصيرة، ويبدو كأنه عاجز عن الكلام. فإذا دخل قاعة الاستقبال رفع أذيال ثوبه وحبس أنفاسه. وإذا انصرف ووضع قدمه على الدرجة الثانية استرخت ملامحه وبدا راضيا، حتى يصل إلى آخر الدرج، وعندها يسرع الخطا كأن ذراعيه أجنحة، ويعود إلى موضعه بكل رزانة.
10: 5
فإذا حمل صفيحة اليشم في المراسم الاحتفالية انحنى بتبجيل كأنه لا يقدر على حملها، وأمسك بها من الأعلى ومن الأسفل بطريقة طقوسية وعلى وجهه تعابير جادة وقلقة، ثم يسير قدما بخطوات متثاقلة. وفي احتفال قبول الهدايا يكتسي وجهه بتعابير أنيسة. وفي الاجتماعات الخاصة كان يبدو مسترخيا ومرتاحا ودونما قلق.
10: 6
الرجل النبيل لا يرتدي ثوبا مزينة أطرافه باللون البنفسجي أو الأحمر. وفي البيت لا يرتدي ثوبا أحمر أو داكن الحمرة. وفي الجو الحار يرتدي صدرية مصنوعة من الألياف النباتية، ولكن لدى خروجه من البيت لا بد من ارتداء قميص خارجي. وفي الشتاء يلبس فوق فرو الحمل الأسود معطفا أسود، وفوق فرو الأيل معطفا أبيض، وفوق فرو الثعلب معطفا أصفر. وفي لباس المنزل، يكون كمه الأيمن أقصر من الكم الأيسر (من أجل تسهيل أداء الأعمال المنزلية). وفي السرير، ينبغي أن يكون اللحاف بقدر قامته ونصفها، وتكون المخدة مغطاة بفرو الثعلب الكثيف. وبعد انقضاء فترة الحداد يمكنه ارتداء الزينات. وينبغي أن يكون الثوب المنزلي أصغر من الثوب الرسمي. ولا يمكن لبس الفرو الأسود ولا القلنسوة السوداء في مراسم التعزية. ولا بد من لبس ملابس التشريف لدى زيارة قصر الأمير في أول كل الشهر.
10: 7
وكان في صيامه يلبس ثيابا من الكتان ويغير عادته في المأكل والمجلس.
10: 8
كان يتوخى الرز المقشر دقيقا واللحم المفروم جيدا، ولا يتناول الحبوب المحمضة، ولا اللحوم الفاسدة، ولا يأكل من الطعام ما هو حائل اللون أو كريه النكهة، أو غير الطازج أو المقدم في غير ميعاده، أو المقطع بطريقة خاطئة، أو المطبوخ بدون توابل ملائمة. ولا يأكل من اللحم ما يتجاوز كمية الرز، ولا يشرب من الخمر إلا بالقدر الذي لا يسكره، ولا يتناول ما يباع في السوق من اللحم المقدد والخمر. يأكل قليلا من الزنجبيل ولا يكثر منه.
وإذا شارك في مراسم رسمية لتقديم القربان، وزع لحوم القربان على الحضور في اليوم نفسه، ولا يأكل نصيبه من اللحم إذا مضت عليه ثلاثة أيام.
لا يحاور الناس إذا أكل، ولا يتحدث إذا أوى إلى سرير النوم.
إذا لم تكن السجادة مستقيمة لم يكن يجلس عليها.
10: 9
إذا كان في مجلس شراب، فإنه لا يترك المجلس إلا بعد انصراف كبار السن. وإذا شارك في طقس طرد الأرواح الشريرة، كان يرتدي الملابس الاحتفالية ويقف على السلم الشرقي.
10: 10
إذا طلب من أحد تلاميذه أن يذهب في مهمة إلى بلد آخر، ودعه بالانحناء أمامه مرتين قبل أن يسافر.
10: 11
في أحد الأيام أرسل إليه جي كانغ بعض الأدوية هدية فقبلها باحترام. ولكنه قال: لا أعرف شيئا عن هذه الأدوية ولذلك لا أجرؤ على تناولها.
10: 12
كان المعلم في البلاط عندما شب حريق في إسطبله. وعندما عاد وعرف بما جرى سأله: هل أصيب أحد بأذى؟ ولم يسأل عن الأحصنة.
10: 13
إذا أرسل الأمير هدية من طعام مطبوخ استقام في مجلسه، ثم ذاقه مرة واحدة. وإذا أرسل إليه لحما نيئا طبخه، ثم قدمه لأرواح أسلافه. وإذا أرسل إليه حيوانا حيا استحياه واعتنى به. وإذا جلس إلى مائدة الأمير وقدم الأمير من كل صنف لأرواح الأسلاف، كان أول من يذوقها.
10: 14
إذا مرض وجاء الأمير ليعوده، اضطجع ورأسه نحو الشرق، والتحف برداء البلاط وعليه الحزام.
10: 15
إذا استدعاه الأمير هب لتوه دون أن ينتظر تجهيز عربته .
10: 16
إذا دخل معبد الأسلاف الكبير سأل عن كل شيء.
10: 17
إذا توفي أحد أصدقائه ولم يكن لديه من يقوم بشعائر الجنازة قال: أنا أتكفل بها. وإذا أرسل إليه صديق هدية، حتى وإن كانت عربة وجيادا، يقبلها دون انحناء إلا إذا كانت لحم قربان.
10: 18
إذا نام لم يكن يستلقي على ظهره مثل جثة. وإذا كان في البيت لا يضع عليه ملابس فاخرة.
10: 19
إذا رأى أحدا في ملابس الحداد تغيرت ملامحه حتى وإن كان من معارفه. وإذا واجه أحدا بالملابس الرسمية أو أعمى عبر عن احترامه حتى وإن كان ممن يلاقيهم دائما. وإذا واجه أحدا في حداد وكان في عربته أحنى رأسه، وكذلك الأمر إذا واجه حامل جداول الإحصاء. وإذا قدم له على المائدة طعام شهي تغيرت ملامحه وقام واقفا، كما كانت ملامحه تتغير إذا سمع قصف الرعد أو ريحا صرصرا.
10: 20
إذا صعد إلى العربة وقف منتصبا وهو يمسك بحزامها، فإذا استقر في العربة فإنه لا يلتفت أو يتكلم بصوت عال ولا يشير بيديه.
10: 21
بطرفة عين حلق الطائر وارتفع، حام ثم انضم إلى رف الطيور، فقال المعلم: طائر بري على جسر الجبل. يا للتوقيت المدهش! تسي لو رمى له طعما، ولكنه هدل ثلاث مرات ثم حلق دون أن يأكله.
التعليق:
معنى هذا المقطع غامض، وقد اختلف المترجمون والشراح بشأنه. ويرى بعضهم أن المعلم يرمز بالطائر إلى نفسه لأنه ظل مترددا في خوض غمار السياسة.
الباب الحادي عشر
11: 1
قال المعلم: الريفيون يكتسبون فهمهم للموسيقى والشعائر بشكل مبكر، والأرستقراطيون يكتسبونها بشكل متأخر. ومن وجهة نظر عملية أنا أفضل الاكتساب المبكر.
11: 2
قال المعلم: لم أعد أرى أحدا من تلاميذي الذين علمتهم في إمارة تشن وإمارة تساي.
11: 3
قال المعلم: بين تلاميذي كان يان يوان فاضلا في السلوك، وكذلك مين تسي تشن وران باي نيو وجونغ كونغ. وامتاز بالفصاحة كل من تساي وو وتسي كونغ، وفي الإدارة والسياسة ران يو وتسي لو، وفي الأدب تسي يو وتسي هسيا.
التعليق:
يعتبر هؤلاء التلاميذ النوابغ العشرة من بين تلاميذ المعلم .
11: 4
قال المعلم: هووي ليس بذي فائدة لي. إنه يعجب دوما بكل ما أقول.
11: 5
قال المعلم: إن مين تسي تشن لولد بار حقا بوالديه، فما يقوله الناس عن بره لا يختلف عما يقوله والداه وإخوته.
11: 6
كان نان يونغ يتلو مرارا قول الشاعر في كتاب القصائد: «الخدش في لوح حجر اليشم الكريم يمكن محوه بالصقل، أما خدش الكلمة فلا يمكن محوه.» فزوجه كونفوشيوس من ابنة أخيه الأكبر.
11: 7
سأل جي كانغ تسي: «من الأكثر حبا للعلم بين تلاميذك؟» فقال كونفوشيوس: «إنه يان هووي. لقد أحب العلم ولكنه مات في شرخ الشباب، ولم أجد بعد ذلك له مثيلا.»
11: 8
عندما توفي يان يوان طلب أبوه من كونفوشيوس أن يأخذ عربته ليبيعها ويشتري تابوتا خارجيا للمتوفى. فقال له كونفوشيوس: الابن هو الابن سواء كان مجليا أم لا. عندما توفي ولدي «لي» صنعنا له تابوتا داخليا فقط؛ لأنه لم يكن من اللائق أن أبيع عربتي وأمشي على قدمي عندما كنت موظفا في القصر الملكي.
11: 9
عندما توفي التلميذ يان يوان صرخ المعلم: يا لقساوتها! لقد قتلتني السماء، لقد قتلتني السماء.
11: 10
عندما توفي يان هوي بكى المعلم دون توقف، فقال له التلاميذ: «لقد أفرطت في البكاء يا معلم!» فقال كونفوشيوس: «هل أفرطت؟ ولكن إذا لم أبك من أجله، فمن أجل من أبكي؟»
11: 11
عندما توفي يان هوي رغب التلاميذ في إقامة جنازة مهيبة له، فقال له المعلم ألا يفعلوا، ولكنهم أقاموا تلك الجنازة المهيبة، فقال كونفوشيوس: لقد عاملني هوي مثل أب له، ولكنكم لم تتركوا لي فرصة معاملته مثل ابن. ولست أنا المسئول عن ذلك، إنما بعض تلاميذي.
التعليق:
أي إن التلاميذ بإقامتهم لتلك الجنازة الفخمة عارضوا رغبة كونفوشيوس بجنازة متواضعة تناسب حالة التلميذ المتواضعة، والتي أقام مثلها لابنه عند وفاته، على ما رأينا في موضع سابق من كتاب الحوار.
11: 12
سأل جي لو عن خدمة أرواح الموتى، فقال المعلم: «لم تعرف أن تخدم الأحياء، فكيف تستطيع خدمة الأرواح؟» فقال لو: «هل بإمكاني أن أسأل عن الموت؟» فقال كونفوشيوس: «لم تفهم ما هي الحياة، فكيف تستطيع أن تفهم الموت؟»
التعليق:
يظهر هنا موقف كونفوشيوس الرافض للتعامل مع المسائل الميتافيزيكية؛ فالمهم بالنسبة إليه هو هذه الحياة، ومعظم تعاليمه تدور حول القيم الحياتية.
11: 13
إذا وقف مين تسي إلى جانب معلمه بدا هادئا ومتزنا . أما تسي لو فيقف وقفة القوي الصارم. وران يو وتسي كونغ يقفان وقفة أنس ودماثة. فسر بهم المعلم ولكنه قال: أمثال تسي لو لا يموتون موتا طبيعيا.
التعليق:
توفي تسي لو خلال أحداث الصراع على السلطة في دولة وي عام 480ق.م.
11: 14
أراد المسئولون في إمارة لو هدم بيت خزينة الدولة وتشييد بناء جديد في مكانه، فقال مين تسي تشن: «لماذا لا نحافظ على نمطه القديم ولا نغيره.» فقال المعلم: «هذا الرجل قليل الكلام، ولكنه إذا تكلم أصاب.»
11: 15
قال المعلم (مستنكرا): «ما هذه الموسيقى التي يعزفها تسي لو على بابي؟» لسماعهم ذلك، أخذ التلاميذ ينظرون بازدراء إلى تسي لو، فقال له المعلم: «لقد ارتقيت إلى القاعة الكبرى، ولكنك لم تلج الغرفة الداخلية.»
التعليق:
أي إن تسي لو يسير على الطريق الصحيح، ولكنه ما زال بعيدا عن الوصول.
11: 16
سأل تسي كونغ: «أيهما أفضل، شيه أم تشانغ؟» فقال المعلم: «إن شيه مفرط وتشانغ مقلل.» فقال تسي كونغ: «إذن شيه هو الأفضل.» فقال كونفوشيوس: «الإفراط كالتقليل.»
11: 17
على الرغم من أن رئيس أسرة تشي أكثر ثروة من أمير جو، إلا أن تشيو راح يحصل له الضرائب ليزيد في ثروته. فقال كونفوشيوس: تشيو لم يعد بين تلاميذي؛ لذلك اقرعوا الطبول وهاجموه إذا شئتم أيها التلاميذ.
التعليق:
المقصود هنا أن على التلاميذ أن يتنصلوا من تشيو كزميل سابق لهم ويلوموه على سلوكه.
11: 18
قال المعلم: إن جاي ساذج، وشان بطيء، وشيه متحيز، وتسي لو خشن، وهووي غزير العلم ولكنه لا يمتلك ثروة ادية، وتسي لم يكتب له الثراء وكان عليه أن يجاهد في سبيل ذلك، وغالبا ما أصاب سعيه.
11: 19
سأل تسي جانغ عن سبيل الإنسان الطيب، فقال كونفوشيوس: الإنسان الطيب لا يسير على خطى القدماء، ومع ذلك لا يصل إلى الغرفة الداخلية.
التعليق:
يقصد المعلم أنه على الإنسان عدم تقليد السابقين فقط؛ لأن ذلك لا يكفي لبلوغ الإنسان الطيب منزلة الإنسان الكامل؛ لذا قال المعلم إنه (الإنسان الطيب) لم يصل إلى الغرفة الداخلية.
11: 20
قال كونفوشيوس: عليك تقدير من هو صادق في الكلام، ولكن عليك التأكد هل هو رجل نبيل حقا أم يعطي انطباعا بذلك فقط؟
11: 21
سأل تسي لو عما إذا من الأفضل له وضع ما يسمعه من تعاليم موضع التطبيق، فقال له كونفوشيوس: «لديك أب وأخ أكبر فاستشرهما. لماذا العجلة في التطبيق؟» ثم إن ران يون سأله السؤال نفسه، فقال له كونفوشيوس: «عليك وضعه موضع التطبيق دون انتظار.» وهنا قال كونغ تسي هوا: «لماذا نصحت تسي لو بالاستشارة، ونصحت ران يون بالتطبيق دون انتظار؟» فقال كونفوشيوس: «لأن ران يو لديه ميل لعدم المتابعة؛ ولذلك فقد دفعته للتطبيق عاجلا، أما تسي لو فعنده جرأة زائدة؛ ولذلك لجمته.»
11: 22
عندما تعرض المعلم للخطر في كوانغ، كان هووي يسير في المؤخرة، فالتفت كونفوشيوس باحثا عنه وقال: «ظننت أنك مت.» فقال هووي: «كيف أجرؤ على الموت وأنت يا معلمي حي؟»
11: 23
سأل جي تسي ران المعلم عن جونغ يو وران تشيو، وهل يمكن عدهما بين الوزراء المهمين، فقال المعلم: «لقد ظننت أنك ستسألني عن رجال مهمين، ولكنك لم تسأل إلا عن هذين. ولكن بما أنك سألت أقول لك إن الوزير الحقيقي هو الذي يخدم سيده وفق صراط الحق، فإذا لم يقدر على ذلك استقال من منصبه. إن جونغ يو وران تشيو وزيران عاديان.» فقال جي تسي يان: «هل يعني ذلك أنهما يفعلان ما يؤمران؟» أجاب المعلم: «إلا إذا أمرا بقتل الوالد أو الأمير.»
11: 24
قام تسي لو بتزكية تسي كاو لحكم مقاطعة في أمام كونفوشيوس، فقال المعلم: «إنك بذلك كمن يؤذي ولد أحدهم» (وذلك بتحميله مسئوليات لا تتناسب ودرجة تحصيله العلمي). فقال تسي لو: «سيكون لديه شعب لإدارته ومذابح على المستوى الوطني للاهتمام بشعائرها. لماذا يتوجب على الشخص قراءة الكتب ليعد متعلما؟» فقال كونفوشيوس : «لأجل مثل هذا الكلام أنا لا أحب زلاقة اللسان.»
11: 25
كان تسي لو، وتسانغ تسي، وران يو، وكونغ تسي هو، يجالسون المعلم، فقال لهم كونفوشيوس: «تناسوا لبعض الوقت أنني أكبركم حتى بيوم واحد وتعالوا نتحدث. أنتم تقولون دوما إنني لا أقدر مواهبكم ، ولكن افترضوا أنني أقدر مواهبكم فعلا، فما الذي ستفعلونه إذا قيض لكم استعمالها؟»
قال تسي لو: «أود أن أكون حاكما على دويلة غير صغيرة واقعة تحت تهديد جيوش دول أكبر منها محيطة بها، وتشكو أراضيها من المحل والجفاف، فأجعل شعبها بعد ثلاث سنوات بلا خوف وقادرا على تدبير شئونه بنفسه.»
ضحك كونفوشيوس لما سمع، ثم استدار إلى تسانغ تسي وقال: «وماذا عنك؟» فقال: «إذا أعطيت حكم أرض مساحتها بين ستين وسبعين لي، أو بين خمسين وستين لي، فإني سأجعل أهلها بعد ثلاث سنوات مكتفين، ولا يحتاجون شيئا. وفيما يتعلق بشئون الموسيقى والطقوس فلسوف أعتمد على رجل نبيل للعناية بشئونها.»
ثم توجه كونفوشيوس بالكلام إلى ران يو قائلا: «وماذا عنك يا ران يو؟» فقال: «لا أعتقد أنني قادر على القيام بما افترض الزميلان أنهما سيقومان به مع رغبتي في ذلك. إنني أطمح إلى أن أكون مساعدا ثانويا في الخدمة الشعائرية مع الأمير في قاعة الأسلاف أو في مقابلاته الرسمية، مرتديا العباءة والقلنسوة.»
بعد ذلك قال كونفوشيوس مخاطبا زين ديان: «وماذا عنك يا ديان؟» فوضع ديان قيثارته التي كان يلاعب أوتارها على الأرض، ثم وقف وقال: «ما أرغب في القيام به مختلف تماما عن زملائي الثلاثة.» قال كونفوشيوس: «وما الضرر في ذلك؟ هات ما عندك.» قال ديان: «أود، في ذروة فصل الربيع والكل في ثيابهم الربيعية، أن أصطحب ستة شباب وستة أو سبعة صبيان، ونتوجه للسباحة في نهر يي
yi ، ونستمتع بالهواء العليل إبان حفل رقصة الاستسقاء، ثم نعود أدراجنا ونحن نغني وننشد.»
تنهد كونفوشيوس وقال: «هذا شيء جميل. أنا معك يا ديان.» وبعد انصراف الثلاثة قال ديان: «ما هو رأيك فيما قاله زملائي؟» فأجابه كونفوشيوس: «لقد عبر كل منهم عن رغبته .» فقال ديان: «لماذا ضحكت بعد سماع رغبة تنسي لو؟» فأجابه كونفوشيوس: «لأن حكم الدولة لا يتم إلا بقواعد الأدب والمعاملات، وكان كلامه مفتقرا إلى التواضع؛ لهذا ضحكت.» قال ديان: «ولكنه لم يكن يتحدث عن دولة.» فأجابه كونفوشيوس: «هل سمعت بمساحة مقدارها ستون أو سبعون لي وليست دولة؟» قال ديان: «ولكن يو أيضا لم يتحدث عن دولة.» فأجابه كونفوشيوس: «من غير النبلاء يقوم بخدمة معبد الأسلاف أو يجتمع مع الأمير؟ وإذا كان يو مساعدا ثانويا في هذه الخدمة، فمن يكون المساعد الرئيسي؟»
الباب الثاني عشر
12: 1
سأل يان يوان عن المروءة ومعناها، فقال المعلم: «هي في ترويض النفس والتزام قواعد الأدب والمعاملات. إذا تحقق ذلك؛ فإن العالم كله سوف يئول إلى المروء. إن المروءة تأتي من داخلنا لا من خارجنا.»
فسأل يان يوان ثانية: «هل أستطيع السؤال عن كيفية تحقيق ذلك؟» قال كونفوشيوس: «لا تنظر إلى ما هو غير لائق، لا تستمع إلى ما هو غير لائق، لا تتحدث بما هو غير لائق، لا تفعل ما هو غير لائق.» قال يان يوان: «مع أني لست على جانب كبير من الفطنة، إلا أنني سوف ألتزم هذا التعليم.»
12: 2
سأل جونغ كونغ عن معنى المروءة، فقال المعلم: «عندما تكون في الخارج تصرف مع الآخرين وكأنك تستقبل ضيفا مهما. وإذا كنت مسئولا واستخدمت الناس، افعل ذلك وكأنك تشارك في احتفال طقسي كبير. عامل الناس كما تحب أن يعاملوك. عش حياتك الخاصة والعامة دون أن يمتعض منك أحد.» فقال جونغ كونغ: «على الرغم من أني لست على جانب كبير من الذكاء، فإني سوف ألتزم هذا التعليم.»
12: 3
سأل سيما نيو عن معنى المروءة؟ فقال المعلم: «صاحب المروءة يحترز في الكلام.» فقال سي ما نيو: «هل تقول إن المروءة هي مجرد الاحتراز في الكلام؟» قال كونفوشيوس: «عندما يشعر الإنسان بصعوبة تحقيق أمر ما، ألا ينبغي أن يحترز في التحدث عنه؟»
12: 4
سأل سيما نيو عن خصائص الرجل النبيل، فقال كونفوشيوس: «الرجل النبيل متحرر من القلق والمخاوف.» فقال سيما نيو: «هل التحرر من القلق والمخاوف هو كل ما يتطلبه تحقيق مرتبة الرجل النبيل؟» قال كونفوشيوس: «إذا تأملت ذاتك ولم تجد لديك ما تخجل به، كيف لا تكون حرا من القلق والمخاوف؟»
12: 5
تحدث سيما نيو بانزعاج قائلا: «الكل عندهم إخوة، وأنا وحدي ليس عندي أخ.» فقال تسي هسيا: «ورد في قول مأثور:
الموت والحياة في يد القدر،
والثروة والجاه في يد السماء.
إذا كان الرجل النبيل محترما للآخرين لا يخطئ بحقهم، وملتزما بقواعد الأدب والمعاملات، فإن كل الناس في المعمورة إخوة له، فلماذا يهتم لعدم وجود الإخوة؟»
12: 6
سأل تسي جانغ عن معنى البصيرة، فقال كونفوشيوس: إن من لا تطاله الافتراءات التي تتسرب فيه كالماء، ولا تهزه الاتهامات التي تحيط به كالهواء، يمكن بالتأكيد عده متبصرا، ويمكن حقا وصفه بالمتسامي.
12: 7
سأل تسي كونغ عن أسس الحكم، فقال المعلم: «طعام واف، وسلاح وافر، وثقة الشعب.» فقال تسي كونغ: «لو خيرت في حذف واحد من هذه الأسس فأيها تختار؟» قال المعلم: «السلاح.» قال تسي كونغ: «ولو خيرت في حذف واحد من هذين الاثنين فأيهما تختار؟» قال كونفوشيوس: «الطعام؛ لأن الموت نصيب لكل البشر، أما إذا فقدت الحكومة ثقة الشعب فلن تقوم لها قائمة.»
12: 8
قال الوزير جي تسي جانغ: «جوهر النبالة هو المطلوب في الرجل النبيل، فلماذا التركيز على المظاهر الخارجية؟» فأجابه تسي كونغ: «يا للعجب! أنت تتحدث عن الرجل النبيل، وعربة تجرها مجموعة جياد لا تجاري في سرعتها سرعة لسانك. فاعلم أن الجوهر هو المظهر والمظهر هو الجوهر. إذا نزعنا الشعر عن جلد النمر ألا يبدو مثل جلد كلب أو شاة؟»
12: 9
توجه حاكم آي إلى يو ريو بالسؤال: «لقد مرت علينا سنة مجاعة، ولا يوجد عندي دخل كاف لإدارة الدولة، فماذا أفعل؟» قال ريو: «افرض ضريبة العشر.» قال الحاكم: «حتى ضريبة العشرين لا تكفي، فما بالك بضريبة العشر؟» قال ريو: «إذا كانت الرعية في غنى لن يكون أميرها في فاقة، وإذا كانت الرعية في فاقة كيف يكون أميرها في غنى؟»
12: 10
سأل تسي جانغ عن سبيل اكتساب الفضيلة والتخلص من الأوهام، فقال كونفوشيوس: أسس نفسك على الإخلاص والثقة، وتحل بالنزاهة، تعظم فضيلتك. إذا تمنيت لشخص البقاء إذا أحببته وتمنيت له الفناء إذا كرهته، فإنك بذلك تتمنى لنفس الشخص البقاء والفناء؛ فهذا هو الوهم وتبلبل الذهن.»
12: 11
سأل الأمير جنغ في مملكة تشي كونفوشيوس عن سبيل الحكم، فقال كونفوشيوس: «على الحاكم أن يكون حاكما، والوزير وزيرا، والأب أبا، والابن ابنا.» قال الحاكم: «صدقت. إذا لم يكن الحاكم حاكما، والوزير وزيرا، والأب أبا، والابن ابنا، فكيف يمكن العيش حتى لو كانت هناك غلال؟»
التعليق:
يتحدث كونفوشيوس هنا عما دعاه في موضع سابق بتصحيح الأسماء. ومفاده أن على الاسم أن يطابق المسمى؛ فالابن لا يستحق اسم الابن إذا لم يقم بواجباته تجاه أبويه على أتمها، وكذلك الوالد، والحاكم، والصديق ... إلخ.
13: 12
قال المعلم: كان يو يقضي بين المتخاصمين بجملة واحدة، ولم يترك وعدا قطعه إلا وفى به في نفس اليوم.
12: 13
قال المعلم: إني في الاستماع إلى القضايا الحقوقية لست أفضل من غيري. ما نحتاج إليه فعلا هو عدم وجود قضايا حقوقية.
التعليق:
يرى كونفوشيوس أن كثرة المتخاصمين في المحاكم تدل على فشل الحاكم. والحاكم الصالح هو الذي تخلو المحاكم في عهده من المتخاصمين.
12: 14
سأل تسي جانغ عن أصول الحكم، فقال المعلم: الزم عملك دون كلل، واحمل أعباء السياسة بإخلاص.
12: 15
قال المعلم: إن التبحر في دراسة الآداب التي توسع آفاق العقل، وتهذيب النفس بقواعد الأدب والمعاملات، من شأنهما إبقاؤك على جادة الصواب.
12: 16
قال المعلم: الرجل النبيل يساعد الآخرين على الخير ولا يحضهم على الشر، والرجل الوضيع يفعل العكس.
12: 17
سأل جي كانغ تسي كونفوشيوس عن أصول الحكم الصحيح، فقال: الحكم الصحيح في استقامة الحاكم، فإذا كان الحاكم مستقيما فمن يجرؤ على الفساد؟
12: 18
تضايق جي كانغ تسي من انتشار السرقة، واستشار كونفوشيوس فيما يمكنه فعله، فقال له: إذا لم يكن الحاكم طماعا لن يقدم أحد على السرقة ولو كوفئ على ذلك.
12: 19
سأل الأمير جي كانغ تسي كونفوشيوس عن أصول الحكم الصحيح قائلا: «هل أقتل الفاسد وأتقرب من الصالح؟» فقال كونفوشيوس: «لماذا اللجوء إلى القتل عند ممارسة السياسة؟ إذا ملت نحو الصلاح انصلحت الرعية. إن طبيعة الرجل النبيل مثل الريح، وطبيعة العامة مثل العشب، والعشب ينحني إذا هبت عليه الريح.»
12: 20
سأل تسي جانغ عما ينبغي أن يكون عليه المثقف شاغل الوظيفة لكي يعد متميزا. فقال كونفوشيوس: «ماذا تعني بقولك متميزا؟» أجاب تسي جانغ: «أعني أن يكون مشهورا في البلد وفي العشيرة.» قال كونفوشيوس: «هذه شهرة وليست تميزا. المتميز يتمتع بشخصية مستقيمة ومحبة للعدالة. وهو يصغي باهتمام إلى كلام الناس، ويراقب تعابير وجوههم، ويعاملهم بتواضع؛ هكذا يغدو متميزا في بلده وفي عشيرته. أما صاحب الشهرة فيتظاهر بالمروءة ويفعل ما ينافيها، ولا يرى في ذلك ضيرا، هكذا ينال شهرة زائفة في بلده وفي عشيرته.»
12: 21
عندما كان فان جي يتمشى مع المعلم بين مذابح رقصة الاستسقاء، قال له: «هل لي في سؤال عن كيفية دعم الفضيلة في النفس، واستئصال الضغائن، وتبديد الضلالات؟» قال المعلم: «سؤال جيد. لو أنك أديت واجباتك دون أن تسأل عن جزائها، أليس في ذلك دعم للفضيلة في نفسك؟ ولو أنك كافحت ضد شرورك الخاصة قبل شرور الآخرين، أليس في ذلك استئصال للضغائن؟ ولو أنك في لحظة غضب نسيت نفسك وأهلك، أليس هذا هو الضلال بعينه؟»
12: 22
سأل فان تشي عن المروءة، فقال كونفوشيوس: «هي في محبة الإنسان.» ثم سأل ثانية عن المعرفة، فقال المعلم: «هي معرفة الإنسان.» ولكن فان تشي لم يفهم المقصود، فقال المعلم: «إذا رفعت مكانة المخلص، ينقاد غير المخلص وينصلح.» ثم انصرف فان تشي ورأى تسي هسيا فقال له: «سألت المعلم عن المعرفة فقال: إذا رفعت مكانة المخلص، ينقاد غير المخلص وينصلح، فما معنى هذا؟» فقال تسي هسيا: «كم هي عميقة كلمات معلمنا. عندما ارتقى الإمبراطور شون سدة الحكم، اختار من الرعية كاو ياو لمنصب الوزارة فاختفى المفسدون. وعندما ارتقى الإمبراطور تانغ سدة الحكم اختار من الرعية إي يين فاختفى المفسدون.»
12: 23
سأل تسي كونغ عن الصداقة، فقال المعلم: انصح أصدقاءك بصدق وصراحة ، وأرشدهم إلى الطريق القويم، فإذا وجدت منهم صدودا فاسكت ولا تعرض نفسك للمهانة.
12: 24
قال تسانغ تسي: الرجل النبيل يتخذ من علمه وثقافته وسيلة لاكتساب الأصدقاء، ومن خلال أصدقائه ينمي مروءته.
الباب الثالث عشر
13: 1
سأل تسي لو عن سبل الحكم الصحيح، فقال كونفوشيوس: «اجعل من نفسك مثلا للرعية، وابذل ما بوسعك من أجلهم.» فسأله ثانية: «هل هنالك شيء آخر؟» قال كونفوشيوس: «لا تفتر في ذلك.»
13: 2
سأل جونغ كونغ، عندما تولى إدارة شئون أسرة جي، عن أصول الإدارة، فقال كونفوشيوس: «اجعل نفسك مثلا للموظفين، واعف عن الجنح والجرائم الخفيفة، وضع رجالا صالحين ومقتدرين في مراكز المسئولية.» فقال جونغ كونغ: «وكيف أجد أمثال هؤلاء الرجال؟» قال المعلم: «اخترهم من بين الذين تعرفهم، والذين لا تعرفهم، والذين نبذهم الآخرون.»
13: 3
قال تسي لو: «إن أمير وي يتوقع منكم عونه على إدارة دولته، فما هي أولوياتك؟» قال كونفوشيوس: «علينا أن نبدأ بتصحيح الأسماء.» فقال تسي لو: «هل أنت جاد فيما تقول؟ وما أهمية ذلك؟» أجاب كونفوشيوس: «إنك لساذج حقا. الرجل النبيل لا يتسرع في إصدار الأحكام بخصوص قضايا لا يفقهها. إذا لم نبدأ بتصحيح الأسماء فإن الكلام لن يوافق حقيقة الأشياء. وعندما لا يوافق الكلام حقيقة الأشياء، فإن الأمور لا تسير على ما يرام، وعندما لا تسير الأمور على ما يرام لا تزدهر الموسيقى والطقوس، وإذا لم تزدهر الموسيقى والطقوس فإن العقوبات لن تتناسب مع الجرائم، وإذا لم تتناسب العقوبات مع الجرائم لا تعرف الرعية كيف تتصرف. من هنا فإن على ما ينطق به الرجل النبيل أن يتطابق مع واقع اللغة، وأن يتطابق قوله مع فعله؛ لأن الرجل النبيل لا يلقي الكلام على عواهنه.
13: 4
سأل فان تشي عن الزراعة، فقال له كونفوشيوس: الفلاح العجوز يعرف أمور الزراعة أكثر مني. ثم قال فان تشي إنه يود تعلم البستنة، فقال له كونفوشيوس: البستاني العجوز يعرف أمور البستنة أكثر مني. وبعد أن انصرف فان تشي قال كونفوشيوس للتلاميذ: إن فان تشي عديم المعرفة، أليس كذلك؟ إذا كان المسئولون في الدولة يقدرون قواعد الأدب والمعاملات، فإن الرعية لن تبدي لبعضها قلة الاحترام. وإذا اتصف المسئولون بالعدل والنزاهة، فإن الرعية ستقتدي بهم، وإذا اتصفوا بالأمانة مالت إليهم عواطف الرعية. إذا كانت هذه طريقتهم في الحكم؛ فإن الناس سوف تتوافد إلى مملكتهم وهم يحملون أطفالهم على ظهورهم، فلماذا علي أن أهتم شخصيا بشئون الزرعة؟
التعليق:
يؤكد كونفوشيوس هنا مجددا على أن الرجل النبيل ليس أداة تصلح لمهمة واحدة، ولكنه مستودع معارف ينفع بها الناس جميعا.
13: 5
قال المعلم: ربما كان هنالك رجل يحفظ عن ظهر قلب القصائد الثلاثمئة التي يحتويها كتاب سفر القصائد، ولكن إذا عهدت إليه بمنصب حكومي فشل في عمله، وإذا أرسلته في مهمة دبلوماسية عجز عن معالجة الأمور بنفسه، فماذا أفاد ذلك الرجل من علمه؟
13: 6
قال المعلم: إذا قومت نفسك وجدت الآخرين ينقادون من غير أن تأمرهم، وإذا لم تقوم نفسك لن تلقى الطاعة ولو أمرتهم.
13: 7
قال المعلم: إن حكومة إمارة لو وحكومة إمارة وي هما بمثابة الأخ الأكبر والأخ الأصغر.
التعليق:
أي إنهما صنوان في السوء.
13: 8
قال كونفوشيوس: كان كونغ تسي جينغ المسئول في إمارة وي بارعا في الاقتصاد المنزلي؛ فعندما صار لديه بعض المال قال: هذا يكفيني. وعندما ازداد ماله قليلا قال: هذا حسن. وعندما صار غنيا بعض الشيء قال: هكذا لقد اكتمل الأمر.
13: 9
كان ران يو يقود عربة المعلم في رحلة إلى دولة وي، وعندما وصل قال كونفوشيوس: «ما أكثر عدد السكان هنا!» قال ران يو: «عندما يزداد عدد السكان ماذا نفعل لهم؟» قال المعلم: «يجب أن نعمل على رخائهم.» قال ران يو: «وماذا بعد أن يعمهم الرخاء؟» قال المعلم: «علينا أن نعلمهم.»
13: 10
قال المعلم: إذا استخدمني أحد الحكام لضبطت الأمور في شهر واحد، وقومت كل معوج في ثلاث سنين.
13: 11
قال المعلم: هنالك قول مفاده أنه لو قيض للصالحين حكم دولة مدة مائة عام لاختفى العنف وألغيت عقوبة الإعدام. وإنه لقول حق.
13: 12
قال المعلم: حتى إذا اعتلى كرسي الملك رجل فاضل، فإن المروءة لن تسود إلا بعد مضي جيل كامل.
13: 13
قال المعلم: إذا قومت نفسك لن تجد صعوبة في الحكم، وإذا لم تقدر على تقويم نفسك، كيف تقدر على تقويم الآخرين؟
13: 14
عاد ران يو من البلاط متأخرا، فقال له المعلم: «ما الذي أخرك؟» قال ران يو: «شغلتني مسائل رسمية.» قال المعلم: «بل قل مسائل شخصية؛ لأنه لو كانت مسائل رسمية لعرفت بها، رغم أنني الآن خارج الخدمة الحكومية.»
13: 15
سأل الأمير دينغ عما إذا كان هنالك قول واحد يلخص كيفية النهوض بالدولة، فقال كونفوشيوس: «الأقوال وحدها لا تقدر على إحداث ذلك. على أية حال هنالك مثل يقول: من الصعب أن تكون حاكما، وليس من السهل أن تكون وزيرا. إذا فهمت حقا صعوبات الحكم، ألا يكون هذا كافيا لأن تنهض بالدولة؟»
ثم إن الأمير سأل عما إذا كان هنالك قول واحد يلخص كيفية تدمير دولة، فقال كونفوشيوس: «الأقوال وحدها لا تكفي لتدمير دولة أيضا. على أية حال لدينا من يقول: لا أجد متعة الإمارة إلا في عدم وجود من يعارضني. ولكن إذا كان على صواب ولم يجد من يعارضه فهذا أمر حسن، أما إذا كان على خطأ ولم يجد من يعارضه، أليس هذا قريبا من تدمير الدولة بقول واحد؟»
13: 16
سأل حاكم مقاطعة شيه عن أصول الحكم، فقال كونفوشيوس: إذا حكمت على النحو الصحيح أسعدت الأقربين، وقصدك الأبعدون.
13: 17
لما تولى تسي هسيا حكم مقاطعة جي فو سأل عن أصول الحكم، فقال له كونفوشيوس: كن صبورا ولا تتسرع، ولا تطمع في المنافع الصغيرة؛ لأنك في العجالة تفقد الإتقان، والمنافع الصغيرة تحول بينك وبين المنجزات الكبيرة.
13: 18
قال حاكم مقاطعة شيه لكونفوشيوس: «الصالحون عندنا كثر. إذا سرق الوالد نعجة شهد ابنه عليه.» فقال كونفوشيوس: «الصالحون عندنا على خلاف ذلك؛ فالوالد يتستر على خطايا ابنه، والابن يتستر على خطايا أبيه، وهذا عين الصلاح.»
التعليق:
يقدم كونفوشيوس هنا أوضح رأي له بخصوص أولوية القيم الأسرية على غيرها؛ فالولاء للأسرة هو فوق الولاء للقانون والحاكم والنظم الاجتماعية.
13: 19
سأل فان تشي عن المروءة، فقال كونفوشيوس: كن دمثا بدون تصنع، ومبجلا لرؤسائك في العمل، ومخلصا صادقا مع الناس، وحافظ على هذه الخصال الثلاث حتى عندما تكون بين القبائل الهمجية.
13: 20
سأل تسي كونغ: «ما الذي يجب أن يتوفر في المرء لكي يقال إنه إنسان مثقف؟» فقال المعلم: «إن من يحافظ في سلوكه على شرفه وكرامته، وإذا أرسل في مهمة إلى الأقطار البعيدة لا يخيب رجاء أميره، هذا يدعى مثقفا.»
فسأله تسي كونغ: «وماذا أيضا؟» أجابه كونفوشيوس: «إنه من يطري أقاربه بره بوالديه، ويثني أهل بلدته على احترامه لكبار السن.»
فسأله تسي كونغ: «وماذا أيضا؟» أجابه كونفوشيوس: «إنه من يحترم كلمته ويكون حازما في أعماله. ربما أبدى عناد الرجل العامي، ولكنه يبقى نبيلا من الدرجة الثانية.» فسأله تسي كونغ: «إذن ما رأيك في رجال السياسة في زماننا؟» أجابه: «تافهون لا يستحقون الذكر.»
13: 21
قال المعلم: بما أنني لا أعثر على رجال يعملون وفق مبدأ الاعتدال لأنقل لهم معارفي، علي أن أجد «الجامح» و«المتعفف»؛ فالجامح يسعى وراء هدفه دون فتور، والمتعفف يلجم نفسه عن إتيان الرذائل.
13: 22
قال المعلم: لدى أهل الجنوب (البدائيين) مثل يقول: «إذا لم يكن الرجل دءوبا على تهذيب نفسه لن يفلح في أن يكون شامانا (طبيبا ساحرا).» وإنه لمثل جيد؛ فإذا أنت لم تعمل بدأب على تنمية فضائلك، فسوف تجلب لنفسك العار. ومن لم يكن دءوبا لا يصلح لعمل الكهانة.
التعليق:
شرح العلاقة بين الكهانة والدأب في العمل.
13: 23
قال المعلم: الرجل النبيل حسن المعشر ولكنه لا يتملق، والرجل الوضيع سيئ المعشر ولكنه يتملق.
13: 24
سأل تسي كونغ: «ماذا تقول لو أن كل أهل القرية أحبوا شخصا ما؟» قال كونفوشيوس: «لا أستحسن هذا.» فسأله ثانية: «ماذا لو أنهم كرهوا جميعا شخصا ما؟» قال كونفوشيوس: «لا أستحسن هذا أيضا؛ فمن الأفضل أن يحبك الصالحون في القرية ويكرهك الطالحون.»
13: 25
قال المعلم: من السهل أن تخدم الرجل النبيل، ولكن من الصعب أن ترضيه؛ فهو لا يقبل منك أن ترضيه بالوسائل الملتوية، وفي تشغيله للآخرين يعطي كل واحد حسب قدراته. أما الرجل الوضيع فمن الصعب خدمته، ولكن من السهل إرضاؤه، وإذا استخدمت الوسائل الملتوية لإرضائه فسيسعد بذلك. وهو في تشغيله للآخرين يحملهم فوق طاقتهم.
13: 26
قال المعلم: الرجل النبيل واثق بنفسه، ولكنه غير متعجرف، والرجل الوضيع متعجرف، ولكنه غير واثق بنفسه.
13: 27
قال المعلم: إذا تحليت بالحزم ، والصلابة، والبساطة، والحذر في الكلام؛ اقتربت من المروءة.
13: 28
سأل تسي لو: «ما الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الرجل المثقف؟» أجابه كونفوشيوس: «أن يكون جديا ومتطلبا مع أصدقائه، ورقيقا لطيفا مع إخوته.»
13: 29
إذا قام الإنسان الصالح بتعليم الرعية وتهذيبهم لسبع سنوات، يمكن أن يزجهم في الحرب.
13: 30
قال المعلم: إذا قمت بزج الرعية في الحرب قبل تعليمهم وتهذيبهم، كنت كمن يرسلهم إلى الهلاك.
الباب الرابع عشر
14: 1
سأل شيان عما هو عار على المثقف فعله، فقال كونفوشيوس: عندما يسود طريق الحق في دولتك، من الممكن أن تتقاضى رواتب لقاء وظيفة رسمية. وعندما يغيب طريق الحق في دولتك، من العار أن تتقاضى رواتب لقاء وظيفة رسمية.
التعليق:
عندما تكون الدولة تحت سياسة حكيمة على المثقف أن يخدمها بإخلاص، وعندما تكون الدولة تحت سياسة غاشمة من الأفضل عدم البقاء في خدمتها طمعا في المكافأة.
14: 2
ثم سأل شيان قائلا: «هل يعتبر الإنسان ذا مروءة عندما لا توجه سلوكه العجرفة والخيلاء والتذمر والطمع؟» فقال كونفوشيوس: «ليس من السهل أن يكون كذلك، ولكني لا أدري عندها ما إذا كان رجل مروءة.»
14: 3
قال المعلم: عندما يهتم المثقف براحته لا يكون مثقفا حقا.
14: 4
قال المعلم: في ظل حكومة رشيدة يمكنك التحدث بجرأة والعمل بجرأة، وفي ظل حكومة غير رشيدة يمكنك أن تعمل بجرأة ولكن راقب لسانك.
14: 5
قال المعلم: رجل الفضيلة لديه دوما كلام مؤثر يقوله، ولكن ليس كل من لديه كلام بالضرورة فاضلا. صاحب المروءة جريء دائما، ولكن ليس كل جريء بالضرورة صاحب مروءة.
14: 6
سأل نان كونغ شي كونفوشيوس قائلا: «كان آي ماهرا في رماية السهام، وكان أو قادرا على جر سفينة (آي وأو شخصيتان قديمتان اشتهرا بالقوة)، ولكنهما لم يموتا على فراشهما ميتة طبيعية. وكان يو وجي يعملان في الزراعة، ثم صارا إمبراطورين. فماذا تقول في ذلك؟» فلم يجبه كونفوشيوس بشيء. وعندما خرج نان كونغ شي، قال كونفوشيوس لتلاميذه: «إنه لرجل نبيل وفاضل.»
التعليق:
يو وتشي بطلان ملحميان تعزو إليهما التقاليد وضع أسس الحضارة الصينية.
14: 7
قال المعلم: قد لا يحقق الرجل النبيل مروءته كاملة، ولكن الرجل الوضيع لن يكون أبدا صاحب مروءة.
14: 8
قال المعلم: هل بإمكانك أن تحب أحدا ولا تبذل له كل ما تستطيع؟ وهل بإمكانك أن تكون مخلصا لأحد ولا تعلمه؟
14: 9
قال المعلم: عندما تدعو الحاجة (في دولة تشي) إلى إصدار بلاغ حكومي، فإن (الوزير) بي تشن يكتب المسودة الأولى، ثم يقوم (الوزير) شي شو بمراجعتها، ثم يقوم تسي يو مسئول التشريفات بصقلها، وأخيرا يضع عليها (الوزير) تسي تشانغ اللمسات الأخيرة.
14: 10
سأل أحدهم عن تسي تشان، فقال كونفوشيوس: «كان رجلا كريما.» فسأله ثانية: «وماذا عن تسي شي (الوزير في دولة تشو)؟» فقال كونفوشيوس: «ذلك الرجل، ذلك الرجل (لا تذكره أمامي).» فسأله أيضا: «وماذا عن قوان جونغ (المسئول الكبير في دولة تشي)؟» فقال كونفوشيوس: «يا له من رجل! لقد سلب بلدة بين التي تضم 300 أسرة من رئيس عائلة بو، ولم ينبس الأخير ببنت شفة متذمرا، مع أنه قضى بقية حياته يعيش على الكفاف.»
14: 11
قال المعلم: من الصعب أن تكون فقيرا ولا تتذمر، ومن السهل أن تكون غنيا ولا تتعجرف.
14: 12
قال المعلم: إن مينغ قونغ تشو هو أكثر كفاءة من أن يكون مساعدا كبيرا لدى (عائلة كبيرة مثل) تشو أو وي، وأقل كفاءة من أن يكون كبير الموظفين لدى (مملكة صغيرة مثل) تانغ أو هسي.
14: 13
سأل تسي لو عن مقومات الرجل الكامل، فقال كونفوشيوس: إذا كان لديك حكمة تسانغ وو جونغ، وعفة قونغ تشو، وشجاعة بيان جوانغ تسي، ومهارات ران تشيو، وزدت على ذلك بأن هذبت نفسك بالموسيقى وقواعد الأدب والمعاملات، عندها يمكن أن تدعى بالرجل الكامل. أما في زماننا هذا، فقد لا تحتاج إلى ذلك كله حتى تكون رجلا كاملا. إذا وجدت فرصة سانحة للمنفعة والربح فكر في الوسائل المشروعة التي توصلك إليها، وإذا أحاقت بك المخاطر في أداء المهمة كن مستعدا للتضحية بحياتك، وإذا عانيت الشدة والضيق زمنا طويلا تمسك بالمبادئ التي وضعتها لحياتك، بهذا يمكن أن تعتبر رجلا كاملا في زماننا.
14: 14
سأل المعلم كونغ مينغ جيا عن قونغ شو ون تسي (الوزير المشهور في مملكة وي) قائلا: «أصحيح أن وزيركم لا يتكلم ولا يضحك ولا يقبل شيئا؟» فأجابه قونغ مينغ جيا: «هذه مبالغة؛ فالوزير يتكلم عند الحاجة والآخرون لا يملون من كلامه، ويضحك عند المسرة والآخرون لا يملون من ضحكه، ويقبل ما هو مشروع وحلال، والآخرون لا يملون من قبوله.» فقال كونفوشيوس: «هل الأمر كذلك؟ هل هو حقا كذلك؟»
14: 15
قال المعلم: عندما استولى تسانغ وو تشونغ على مدينة فانغ، طلب من حاكم دولة لو أن تكون له إقطاعة وراثية. ومهما قيل في هذا الأمر فإنني أعتقد بأنه مارس ضغطا على سيده.
14: 16
قال المعلم: كان وين حاكم جن ماكرا وغير مستقيم، وكان هوان حاكم تشي مستقيما وغير ماكر.
14: 17
قال تسي لو: «عندما قتل الأمير هوان أخاه تسي تشيو وانفرد بالسلطة، انتحر تابع الأمير المقتول جاو هو ولحق به. أما تابعه الآخر قوان جونغ فلم ينتحر، وإنما وضع نفسه في خدمة القاتل، فهل كان صاحب مروءة؟» قال المعلم: «عندما قام الأمير هوان بتوحيد أمراء البلاد، لم يفعل ذلك بالقوة العسكرية، وإنما بالجهود الدبلوماسية لوزيره قوان جونغ. ألم يرتق قوان جونغ بذلك إلى مستوى المروءة؟»
14: 18
قال تسي قونغ: «لم يكن قوان جونغ رجلا فاضلا حقا؛ فعندما اغتال الأمير هوان أخاه تسي تشيو، لم ينتحر قوان جونغ وإنما صار وزيرا لدى الأمير هوان.» فقال كونفوشيوس: «عندما وضع قوان جونغ نفسه في خدمة الأمير هوان جعل منه رئيسا على الأمراء، وقضى على الاضطرابات في الدولة، والشعب مدين له بهذه الخدمة إلى الوقت الحاضر. لولا قوان جونغ لكنا الآن جميعا مثل الشعوب البربرية؛ شعر رءوسنا مسترسل على وجوهنا غير مضفور، وثيابنا مزررة من الجانب الأيسر كما يفعلون. فهل كان من الأفضل له لو أنه انتحر كما يفعل البسطاء ولا يهتم لموتهم أحد؟»
14: 19
الموظف الكبير جوان كان من خدم قونغ شو ون تسي، ولكن سيده أوصى بترقيته وجعله يرتقي معه إلى القاعة الأميرية (مثل ند). وعندما سمع كونفوشيوس بذلك قال: إن ون تسي جدير بلقب المثقف.
14: 20
كان كونفوشيوس يتحدث عن مساوئ الأمير لينغ حاكم مقاطعة وي، فقال جي كانغ تسي: «إذا كان هذا شأنه فكيف حافظ على سلطانه؟» أجابه كونفوشيوس: «عنده جونغ شو يو المسئول عن المراسم في القصر الأميري، وجو تو المسئول عن طقوس المعبد، ووانغ شون جيا المسئول عن الشئون العسكرية. مع وجود أمثال هؤلاء الوزراء الأكفاء كيف لا يحافظ الحاكم على سلطانه؟»
التعليق:
يرى كونفوشيوس أن كفاءة الحاكم من كفاءة وزرائه ومستشاريه.
14: 21
قال المعلم: من سهل عليه بذل الوعود صعب عليه الوفاء بها.
14: 22
عندما سمع كونفوشيوس بخبر اغتيال تشن هنغ لسيده أمير تشي، استحم ومضى إلى سيده آي حاكم ولو وقال له: «تشن هنغ اغتال سيده، وإني لملتمس منك أن تعاقبه على فعلته.» فقال كونفوشيوس في نفسه: «بما أنني أقف وراء السادة الكبار فلا أملك إلا أن أنقل الخبر الذي أمرت بنقله.» ولكن الرؤساء الثلاثة قالوا إنهم لا يوافقون على هذا الإجراء، فقال كونفوشيوس: «بما أنني أقف وراء السادة الكبار فلا أملك إلا أن أنقل الخبر.»
التعليق:
وقعت هذه الحادثة قبل وفاة كونفوشيوس بسنتين، ولم يكن عندها يشغل منصبا رسميا في دولة لو، وكانت السلطة في الدولة حينذاك بيد الأسر المتنفذة الثلاث التي كان رؤساؤها على شاكلة تشن هنغ الذي اغتال سيده، وكان أمير لو يخشى على حياته منهم.
14: 23
سأل تسي لو عن طريقة تعامل المرءوس مع أميره، فقال كونفوشيوس: لا تخادعه بالأساليب الملتوية، بل اعترض على أخطائه بصراحة.
14: 24
قال المعلم: الرجل النبيل يتطور نحو الأعلى، والرجل الوضيع يتطور نحو الأسفل.
التعليق:
النبيل يزداد نبالة، والوضيع يزداد وضاعة.
14: 25
قال المعلم: كان المثقفون في الماضي يطلبون العلم من أجل تهذيب أنفسهم، أما المثقفون اليوم فيطلبون العلم حبا في الظهور وطمعا في إعجاب الآخرين.
14: 26
أرسل تشيو بي يو المسئول في دولة وي رسولا من لدنه إلى كونفوشيوس (للاستفسار عن أحواله، وكان بينهما مودة). فجالسه كونفوشيوس وسأله قائلا: «حدثني عن سيدك، أي رجل هو؟» فقال الرسول: «سيدي رجل يعمل جاهدا على التقليل من أخطائه، ولكنه لم ينجح تماما بعد.» ولما خرج الرسول، قال كونفوشيوس معجبا: «يا له من رسول!»
14: 27
قال المعلم: لا تتدخل في شئون منصب غير منصبك.
14: 28
قال تسانغ تسي: «لا ينبغي للرجل النبيل أن يلقي بالا للأمور التي لا تخصه.»
14: 29
قال المعلم: الرجل النبيل يستحي من كثرة الكلام وقلة الفعل.
14: 30
قال المعلم: «هناك ثلاث خصال للإنسان النبيل فشلت في أن أتخلق بها: ذو المروءة لا يحزن، وذو الحكمة لا يتحير، وذو الجراءة لا يخاف.» فقال تسي كونغ: «يا معلم: إنها خصالك أنت.»
14: 31
كان من عادة تسي قونغ المفاضلة بين الناس، فقال كونفوشيوس: هل لدى تسي قونغ من الفضائل ما يؤهله لذلك؟ أما أنا فلا وقت عندي أنفقه في هذه المسائل.
14: 32
قال المعلم: لا يقلقني جهل الآخرين بي، ولكن يقلقني نقص قدراتي.
14: 33
قال المعلم: إذا لم تظن بالآخرين سوءا دون سبب، ولم تجزم في سوء نيتهم دون أدلة، ومع ذلك تقدر على التنبؤ بالسوء قبل حدوثه، ألا تعد من الصالحين؟
14: 34
قال وي شينغ مو الزاهد لكونفوشيوس: «يا تشيو (= الاسم الأول لكونفوشيوس) ما لي أراك في عجلة من أمرك ترتحل من مكان إلى مكان؟ هل تريد إظهار قدرتك على الكلام المنمق؟» فقال له كونفوشيوس: «لست تواقا إلى الكلام المنمق، ولكني أكره عناد هؤلاء الناس.»
التعليق:
يقصد كونفوشيوس الناس الذين لا يستمعون إلى آرائه ونصائحه.
14: 35
قال المعلم: يوصف الحصان بالجيد لا لقوته، وإنما لطباعه.
14: 36
قال أحدهم: «ما رأيك بالوصية القائلة: قابل السيئة بالحسنة؟» فأجابه كونفوشيوس: «في هذه الحالة بماذا تقابل الحسنة؟ قابل السيئة بالإنصاف، والحسنة بالحسنة.»
14: 37
قال المعلم: «يا لحسرتي! لأني لم أجد من يفهمني.» فقال تسي قونغ: «ماذا تعني بأنك لا تجد من يفهمك؟» أجابه كونفوشيوس: «لا أتذمر من السماء، ولا أشكو من البشر. أنا أدرس الأمور السفلية (الدنيوية) من أجل اكتناه الأمور العلوية (السماوية). فمن الذي يفهمني؟ لعل السماء تفهمني.»
14: 38
سعى قونغ بو ليو لدى الوزير جي سون بالنميمة على تسي لو، فأخبر تسي فو جينغبو كونفوشيوس بذلك قائلا: «لقد انطلت أكاذيب قونغ بو ليو على جي سون، ولكن عندي من القوة ما يساعدني على جر هامة هذا الكذاب إلى وسط السوق.» فقال كونفوشيوس: «القدر وحده يقرر متى ينشط طريقي الحق، ولكن إذا لم يحصل هذا، فما الذي يقدر قونغ بو ليو على فعله مع القدر؟»
14: 39
قال المعلم: الفاضل يعتزل المجتمع في الزمن الفاسد، يليه من يتجنب الإقليم المضطرب، يليه من يدير ظهره إذا جوبه بقلة الاحترام، أو بكلام مهين. وقد كان هنالك سبعة من هؤلاء الأفاضل.
14: 40
كان تسي لو واقفا عند بوابة سور المدينة، فسأله الحارس في الصباح: «من أين أنت؟» فقال تسي لو: «من مكان إقامة كونفوشيوس.» قال الحارس: «آه. إنه الرجل الذي يحاول إصلاح الأمور التي يعرف أنه لا يمكن إصلاحها.»
14: 41
كان كونفوشيوس يعزف بآلة الأجراس في مقاطعة وي عندما مر به زاهد حامل ملء سلة فقال: «يبدو أن في قلب العازف هموما.» وبعد قليل استطرد قائلا: «يا لعنادك وأنت مستمر في هذا العزف إذا لم يقدرك أحد فدع عنك الأمر! وعلى حد ما ورد في كتاب القصائد: إذا كان ماء النهر عميقا اغطس، وإذا كان ضحلا شمر ثوبك لعبوره.» فقال كونفوشيوس: «يا له من حازم لا يمكنني مناظرته!»
التعليق:
لم يكن الزاهد يتحدث هنا عن الموسيقى، بل عن تعاليم كونفوشيوس التي يحاول نشرها بين ذوي الشأن دون أن يصغي إليه أحد.
14: 42
قال تسي جانغ: «ورد في كتاب التاريخ أن الملك قاو تسونغ أمضى مدة حداده على سلفه ثلاث سنوات وهو يتكلم، فلماذا فعل ذلك؟» فأجابه كونفوشيوس: «لم يكن قاو تسونغ وحده في ذلك، بل هي عادة القدماء؛ فبعد وفاة العاهل كان موظفو الدولة يتلقون التعليمات من الوزير الأول ثلاث سنوات.»
14: 43
قال المعلم: إذا التزم أهل السلطة بقواعد الأدب والمعاملات انقادت لهم الرعية.
14: 44
سأل تسي لو عن خصائص الرجل النبيل، فقال كونفوشيوس: «إنه الذي يهذب نفسه ويحترم الآخرين.» فقال تسي لو: «أهذا كل شيء؟» أجابه كونفوشيوس: «إنه الذي يهذب نفسه ويوفر الأمن للآخرين.» فقال: «أهذا كل شيء؟» فأجاب : «إنه الذي يهذب نفسه لتوفير الأمن لجميع أبناء البلاد. ولكن، حتى ياو وشون، الملكان الذائعا الصيت، وجدا في ذلك صعوبة.»
14: 45
كان يوانغ رانغ جالسا في وضعية الاسترخاء ينتظر قدوم المعلم، فقال له كونفوشيوس عندما جاء: عندما كنت فتى لم تتواضع أمام من يكبرك سنا، وصرت رجلا ولم تترك وراءك أثرا يذكر. وقادتك السنون إلى الشيخوخة ولم تمت. ما أنت إلا نبات طفيلي.» ثم وكز ساقه بعصاه.
14: 46
كان هنالك غلام من قرية تشيو يعمل كمراسل، فسأل أحدهم كونفوشيوس عنه قائلا: «ما رأيك بهذا الفتى؟ هل هو ذو مستقبل واعد؟» فقال كونفوشيوس: «رأيته يحب الجلوس في أماكن الكبار، ويرافق من يكبرونه في السن جنبا لجنب. إنه ليس راغبا في العلم، بل في أن يكبر بسرعة.»
الباب الخامس عشر
15: 1
سأل لينغ حاكم مقاطعة وي كونفوشيوس عن التكتيك القتالي، فقال له كونفوشيوس: «أنا خبير في الشعائر والطقوس، ولست خبيرا في الشئون العسكرية.» ثم ارتحل في اليوم التالي.
15: 2
بعد مغادرة المعلم وتلاميذه إمارة وي وصلوا إمارة تشن، وكان زادهم من الطعام قد نفد، وضعف بعض تلاميذه حتى لم يقدروا على الوقوف، فقال تسي لو مغاضبا: «هل على الرجل النبيل أن يعاني مثل هذا العسر؟» فقال له كونفوشيوس: «الرجل النبيل يبقى رابط الجأش في أوقات العسر والشدة، أما الرجل الوضيع فينهار.»
15: 3
قال كونفوشيوس: «قل لي يا تسي قونغ، أتظن أنني شخص تبحر في العلوم وحفظها؟» قال تسي: «أجل، ألست كذلك؟» قال كونفوشيوس: «الأمر ليس كذلك. أنا أفهم الكل من خلال مبدأ واحد.»
15: 4
قال المعلم: يا تسي لو، لا يعرف الفضائل سوى القلة القليلة.
15: 5
قال المعلم: ألم يكن الملك شون هو الذي حكم البلاد دون كد أو بذل جهد؟ ما الذي فعله شون؟ لقد هذب نفسه واستوى على عرشه وقورا مستقبلا الجنوب.
15: 6
سأل تسي جانغ عن السلوك السليم، فقال كونفوشيوس: «إذا كان كلامك مخلصا وصادقا، وعملت بجدية واحترام؛ فإن سلوكك سيلقى التقدير حتى لدى قبائل الشمال والجنوب البربرية. أما إذا كان كلامك وعملك غير ذلك؛ فإنك ستواجه المشاكل حتى في بلدك وبين أقرانك. إذا وقفت فلتتوهم أن هذه الخصال الحميدة مكتوبة أمامك، وإذا ركبت فلتتوهم أن هذه الخصال معلقة على عارضة العربة؛ بذلك يكون سلوكك سليما.» فكتب تسي جانغ هذه الكلمات على حزامه.
15: 7
قال المعلم: كان شي يو رجلا مستقيما حقا؛ فعندما كانت الحكومة عادلة كان مثل السهم في الاستقامة، وعندما زاغت الحكومة عن العدالة كان مثل السهم أيضا. أما الوزير تشيو بو يو فكان رجلا نبيلا. عندما كانت الحكومة عادلة وضع نفسه في خدمتها، وعندما زاغت الحكومة عن العدالة طوى مبادئه وحفظها في قلبه.
15: 8
قال المعلم: إذا كان هنالك شخص يستحق أن تتحدث معه ولم تفعل؛ فقد خسرته. وإذا كان هنالك شخص لا يستحق الحديث معه وحدثته؛ بددت كلامك. والحكيم لا يخسر الناس ولا يبدد الكلام.
15: 9
قال المعلم: صاحب الهمة والكرم لا يضحي بمروءته حرصا على حياته، بل إنه يضحي بحياته حرصا على مروءته.
15: 10
سأل تسي قونغ عن المروءة، فقال كونفوشيوس: على الحرفي الماهر أن يشحذ أدواته قبل أن يباشر صنعته؛ ولذلك إذا عزمت على الإقامة في دولة ما، عاشر الأفاضل من موظفيها، وصاحب علماءها من أهل المروءة.
15: 11
سأل يان يوان عن إدارة الدولة، فقال كونفوشيوس: «استخدم تقويم أسرة شيا (الزراعي)، واركب عربات أسرة ين الخشبية للمهام الرسمية، والبس القلنسوة الرسمية لأسرة تشو، وفي الموسيقى اعزف مقطوعات شاو ووو، واستبعد مقطوعات جنيغ لأن فيها مجونا، وأبعد عنك المنافقين لأن في وجودهم حولك خطرا.»
15: 12
قال المعلم: إذا لم تحسب حسابا للأمور البعيدة، وجدت المتاعب قريبة.
15: 13
قال المعلم: وا أسفاه! إنني لم أجد حتى الآن من يحب الفضيلة مثل ما يحب الحسان.
15: 14
قال المعلم: قد يكون جانغ ون جونغ غير مؤهل لمنصبه. كان على علم بكفاءة ليوشيا هوي ولم يزكيه للوظيفة.
15: 15
قال المعلم: توقع الكثير من نفسك والقليل من غيرك؛ عندها لا تلقى التذمر من أحد.
15: 16
قال المعلم: من ليس من طبعه التساؤل، لا أدري كيف أفيده.
15: 17
قال المعلم: إذا اجتمعت حلقة من الأشخاص يوما بطوله ولم يطرحوا للنقاش مبادئ العدالة والاستقامة، بل بقوا في نطاق الأفكار السطحية الضيقة؛ من الصعب أن تتحسن أحوالهم.
15: 18
قال المعلم: إن من يتخذ من الاستقامة هاديا لسلوكه، ثم يدعمها بمبادئ الأدب والمعاملات، ويعبر عنها بالتواضع، ويكملها بالإخلاص؛ هو رجل نبيل حقا.
15: 19
قال المعلم: الرجل النبيل يتألم من نواحي القصور عنده، لا من جهل الناس لقدره.
15: 20
قال المعلم: الرجل النبيل يتأسف إذا لم يترك وراءه سمعة وأثرا طيبا بعد وفاته.
15: 21
قال المعلم: ما يطلبه الرجل النبيل موجود في داخله، وما يطلبه الرجل الوضيع موجود لدى الآخرين.
التعليق:
ما يطلبه الرجل النبيل هو الفضائل، وهي موجودة في داخل الإنسان إذا بحث عنها وجدها. وما يطلبه الرجل الوضيع هو الثروة والممتلكات المادية والجاه، وهذه موجودة في خارجنا، وتحقيقها لا يتوقف فقط على الكدح في سبيلها، وإنما على الحظ والقدر.
15: 22
قال المعلم: الرجل النبيل وقور، ولكنه لا يخاصم، اجتماعي ولكنه لا ينتمي إلى عصبة.
15: 23
قال المعلم: الرجل النبيل لا يعلي من شأن أحد لحسن قوله، ولا يرفض قولا لوضاعة صاحبه.
15: 24
سأل تسي كونغ: «هل هنالك من مبدأ واحد نسترشد به طول العمر؟» أجابه كونفوشيوس: «نعم، هو المعاملة بالمثل. لا تعامل الناس بما لا تحب أن يعاملوك.»
15: 25
قال المعلم: من أطري من الناس ومن أذم؟ إذا أطريت أحدا فلأن لدي معيارا أختبره عليه. إن عامة الناس اليوم هم من طينة أولئك الذين قام أباطرة الأسر الثلاث بإرشادهم إلى صراط الحق.
15: 26
قال المعلم: كان في أيامي الغابرة مؤرخون يتركون فراغات في نصهم إذا انتابتهم الريبة، وكان هناك من يعير حصانه لكي يركبه الآخرون. مثل هذه العادات الكريمة لم تعد موجودة اليوم.
التعليق:
في القسم الأول يطري كونفوشيوس المؤرخين الأوائل على دقتهم وتحريهم لما يوردونه من أخبار، أما القسم الثاني فغامض ومختلف في تأويله.
15: 27
قال المعلم: إن زخرف القول يفسد الفضائل، وقلة الصبر في المسائل الصغيرة تفسد التدابير الكبيرة.
15: 28
قال المعلم: إذا أحب الجميع شيئا ما، فإنها مسألة تستحق البحث. وإذا كره الجميع شيئا ما، فإنها مسألة تستحق البحث .
15: 29
قال المعلم: الإنسان هو الذي يظهر الصراط، وليس الصراط هو الذي يظهر الإنسان.
15: 30
قال المعلم: المخطئ الذي لا يفكر في تصحيح خطئه هو المخطئ حقا.
15: 31
قال المعلم: قضيت نهارا بطوله دون طعام، وليلة بطولها دون نوم، وأنا أعمل فكري، ولكني لم أخرج من ذلك بشيء. الأفضل من ذلك هو الدراسة والتعلم.
15: 32
قال المعلم: الرجل النبيل مشغول بالصراط لا بأمور بطنه. قد يتعرض المزارع للمجاعة، أما المتعلم فسيجد باب الرزق مفتوحا أمام وجهه. إن هم الرجل النبيل هو اتباع الصراط وليس تفادي الفقر.
15: 33
قال المعلم: إذا حزت السلطة بالحكمة ولم تحافظ عليها بالمروءة؛ فسوف تفقدها. وإذا حزتها وحافظت عليها بالمروءة ولكنك لم تحكم بنبل؛ فإنك لن تلق احترام الرعية، وإذا حزتها وحافظت عليها بالمروءة وحكمت بنبل، ولكنك لم تؤيدها بقواعد الأدب والمعاملات، فإنك لن تحقق الكمال.
15: 34
قال المعلم: الرجل النبيل لا يعرف قدره من أمور صغيرة، ولكن بإمكانه القيام بأعمال كبيرة. الرجل الوضيع يعرف قدره من أمور صغيرة، ولكنه لا يستطيع القيام بأعمال كبيرة.
15: 35
قال المعلم: المروءة أكثر ضرورة للناس من الماء والنار. ولقد رأيت أناسا غرقوا في الماء أو عبروا في النار فماتوا، ولكني لم أر أحدا ضحى بحياته من أجل المروءة.
15: 36
قال المعلم: اعتبر المروءة عبئك الخاص الذي لا يمكن أن يحمله عنك أحد ولو كان أستاذك.
15: 37
قال المعلم: الرجل النبيل صاحب مبادئ، ولكنه غير متصلب.
15: 38
قال المعلم: في خدمة الحاكم ضع واجبات العمل في المقام الأول، ومنافعك الشخصية في المقام الثاني.
15: 39
قال المعلم: في تعليمك للناس لا تميز بين الأفراد والجماعات.
15: 40
قال المعلم: لا تحاول تدبير أمور من يختلف عنك في السبل والمواقف.
15: 41
قال المعلم: قل ما يكفي لتوضيح وجهة نظرك، وتوقف عند هذا الحد.
التعليق:
لا يطلب من الكلام إلا التعبير عن المعنى المقصود.
15: 42
كان كونفوشيوس في استقبال ميان معلم العزف، فلما وصل إلى السلم قال كونفوشيوس: «هذا هو السلم.» ولما وصل إلى مكان الجلوس قال له: «هنا مجلسك.» وبعد أن جلس مع بقية الضيوف قال له : «هنا فلان بن فلان، وهنا فلان بن فلان ...» فلما انتهى ميان من الزيارة وخرج، سأل تسي جانغ: «أمن الأدب أن يخبر معلم العزف بكل تلك الأمور؟» قال كونفوشيوس: «نعم، هذا هو الأدب عندما تساعد شخصا أعمى.»
الباب السادس عشر
16: 1
لما عزمت عائلة جي على شن الحرب على جوان يو، مضى ران يو وجي لو إلى كونفوشيوس قائلين: «إن عائلة جي عازمة على شن الحرب على جوان يو.» فقال كونفوشيوس لران يو: «أليس هذا خطؤك؟ فمنذ القدم جعل الملوك الأوائل جوان يو مكانا لتقديم القرابين على جبل دونغ مونغ، كما أنها تقع داخل أراضينا، وفيها مذابحنا الوطنية المخصصة للتربة والحبوب، فلماذا يهاجمونها؟»
قال ران يو: «هذه مشيئة سيدنا لا مشيئتنا نحن الوزيرين.» قال كونفوشيوس: «اسمع. روي عن تشو رين قوله: «إذا كان في وظيفتك مجال لإظهار كفاءتك، فاشتغل بها وإلا فانسحب.» فإذا لم يساعد الوزير سيده عندما تحيق به الأخطار، أو يكون مهددا بالسقوط، فما الفائدة منه؟ زد على ذلك أنك مخطئ فيما قلت. فإذا هرب نمر أو كركدن من قفصه، أو انكسرت قطعة من الجاد الثمين، أو قوقعة سلحفاة في حرز، فعلى من نضع اللوم؟»
فقال ران يو: «إن تحصينات جوان يو قوية، وهي ليست بعيدة عن معقل عائلة جي، وإذا لم نستول عليها الآن فستكون لذلك عواقب وخيمة على الأجيال التالية.» قال كونفوشيوس: «يا ران يو، إن الرجل النبيل لا يحب من يتجنب قول ما يريده فعلا، ثم يورد التبريرات والمعاذير. قد سمعت أن رؤساء الدول وأولياء الأسر لا يقلقهم الفقر، وإنما سوء توزيع الثروة، ولا يقلقهم قلة عدد السكان، وإنما مدى شعور هؤلاء بالأمان. فإذا تحقق التوزيع العادل للثروة اختفى الفقر، وإذا ساد الاطمئنان في المجتمع يتكاثر السكان، وإذا ساد الأمان فلا يئول البلد للسقوط؛ عند ذلك يغدو بالإمكان جذب الرعايا الأبعدين الذين لم يخضعوا لسلطة الدولة، وذلك برعاية الثقافة والفضائل. وعندما يأتون عليك أن تجعلهم يشعرون بالأمان. والآن يا ران يو وجي لو تقومان بخدمة سيدكما، والرعايا الأبعدون لم يخضعوا لسلطة الدولة، كما لم تكن هناك جهود لجذبهم إليها. والأقاليم متمزقة وصارت على حافة الانهيار، ولكنكم تخططون الآن لإشعال فتيل الحرب في دولتكم، وإني لأظن أن مشكلة أسرة جي ليست في جوان يو، وإنما داخل بلاط الدولة.»
16: 2
قال المعلم: عندما يسود صراط الحق في الدولة تحت حكم سلطة عادلة، فإن الإمبراطور هو الذي يقرر كل ما يتصل بشئون الطقوس والموسيقى والحملات العسكرية. وعندما يغيب صراط الحق في الدولة، فإن الأمراء هم الذين يقررون كل ما يتعلق بشئون الطقوس والموسيقى والحملات العسكرية، وفي هذه الحالة فإن الأسرة الحاكمة تفقد سلطتها خلال عشرة أجيال. أما إذا آلت هذه الشئون إلى كبار الوزراء، فإن الأسرة الحاكمة تفقد سلطتها خلال خمسة أجيال، وإذا آلت إلى الموظفين، فإن الأسرة الحاكمة تفقد سلطتها خلال ثلاثة أجيال. عندما يسود صراط الحق في الدولة، فإن موظفيها لا يتدخلون في السياسة، والرعايا لا يناقشون شئونها فيما بينهم.
16: 3
قال كونفوشيوس: مرت خمسة أجيال على ضياع السلطة من يد البيت الحاكم (في إمارة لو)، ومرت أربعة أجيال على وقوع شئون الحكم في أيدي المستشارين؛ ولهذا فقد آلت أحوال دولة لو إلى الانحطاط إبان حكم الأسر الثلاث المتحدرة من هوان.
16: 4
قال المعلم: هنالك ثلاثة أنواع من الصداقة المفيدة، وثلاثة أنواع أخرى من الصداقة الضارة؛ فصداقة المخلص، والصادق، والمتعلم، صداقة مفيدة، أما صداقة الغشاش، والمنافق، والمداهن؛ فصداقة ضارة.
16: 5
قال المعلم: هنالك ثلاثة أنواع من المتعة المفيدة، وثلاثة أنواع أخرى من المتعة الضارة؛ فمتعة الآداب والموسيقى، ومتعة ذكر محاسن الآخرين، ومتعة صحبة الأخيار، متع مفيدة، أما متعة العجرفة والخيلاء، ومتعة المجون والتسكع، ومتعة إشباع البطن والشهوات، فمتع ضارة.
16: 6
قال المعلم: هنالك ثلاثة أخطاء يتوجب على من يقف أمام ذوي الشأن تفاديها وهي: الكلام عندما لا يكون هنالك شيء يستوجب الكلام، فإن في ذلك طيشا. والصمت عندما يكون هنالك شيء يستوجب الكلام، فإن في ذلك تكتما، والكلام دون الانتباه إلى تعابير وجه من تتحدث إليه، فإن في ذلك عمى.
16: 7
قال المعلم: الرجل النبيل يحترز من ثلاثة أمور: في يفاعته وجموح قوته، عليه أن يحترز من الشبق. وإبان نضجه وتحكمه في قوته، عليه أن يحترز من الانجرار إلى العراك. وفي شيخوخته وضعف قوته، عليه أن يحترز من الطمع.
16: 8
قال المعلم: الرجل النبيل يبجل ثلاثة أمور؛ فهو يبجل مشيئة السماء، ويبجل ذوي الأمر، ويبجل أقوال الحكماء.
أما الرجل الوضيع فلا يدري شيئا عن مشيئة السماء، وينظر بخفة إلى ذوي الأمر، ويستهزئ بأقوال الحكماء.
16: 9
قال المعلم: من ولد مفطورا على الحكمة يأتي في المقام الأول، ومن درس لكي يبلغها يأتي في المقام الثاني، ومن كان قليل الدعاء فدرس يأتي في المقام الثالث، ومن كان قليل الذكاء ولم يدرس فهو الأدنى مقاما من الجميع.
16: 10
قال المعلم: هنالك تسع مسائل ينتبه إليها الرجل النبيل؛ فعندما ينظر يرى ببصيرته، وعندما يستمع يرهف سمعه، وعندما يلاقي الآخرين تعلو البشاشة وجهه. وفي الانطباع الذي يتركه عند الآخرين يتوخى الكياسة، وفي حديثه يتقصد الصدق، وفي أدائه لوظيفته يبدي الجدية، وفي حالة عدم التيقن يثير الأسئلة، وفي الغضب يتبصر بالعواقب، وفي اغتنام فرص المنفعة يتفكر في الوسائل الشريفة.
16: 11
ذكر كونفوشيوس المثل القائل: «اسع وراء الفضيلة كأنك تخشى فواتها، وانبذ الرذيلة كأنك تنزع يدك من الماء المغلي.» ثم عقب على ذلك قائلا: سمعت مثل هذه الكلمات، ورأيت من يضعها موضع التطبيق. أما بخصوص المثل القائل: «اعزف عن العالم واطلب ما يطمح إليه فؤادك، واسلك في الاستقامة لكي تبلغ الصراط»؛ فقد سمعت مثل هذه الكلمات، ولكني لم أر من وضعها موضع التطبيق.
16: 12
قال المعلم: كان لدى الأمير جينغ حاكم مقاطعة تشي أربعة آلاف من الخيول، وعندما مات لم تجد الرعية ما تمتدحه به، أما بو يي وشوتشي فقد ماتا جوعا عند سفح جبل شويانغ، وما زال الناس يلهجون بذكرهما إلى هذا اليوم. أليس في هذا إيضاح لما ورد في كتاب سفر القصائد: ليس المدح لأصحاب الثروة، بل لأصحاب الفضائل؟
التعليق:
بو يي وشوتشي شخصيتان ملحميتان يقال إنهما صاما طوعيا حتى الموت وفاء لوالدهما الأمير المتوفى بعد سقوط البلاد.
16: 13
سأل التلميذ تشين كانغ ابن كونفوشيوس بو يو: «هل سمعت من أبيك شيئا لم نسمعه؟» فقال بي يو: «لا، ولكن في إحدى المرات بينما كان واقفا بمفرده في القاعة، وكنت أمر مسرعا أمامها قال لي: «هل درست كتاب القصائد؟» فقلت له: «ليس بعد.» فقال لي: «إذا لم تدرس كتاب القصائد لن تكون صاحب بيان.» فمضيت ودرست كتاب القصائد. وفي يوم آخر حدث نفس الشيء عندما سألني: «هل قرأت سجلات قواعد الأدب والمعاملات؟» فقلت: «ليس بعد.» فقال: «إذا لم تتفقه في قواعد الأدب والمعاملات لن تقف راسخا.» فمضيت ودرست قواعد الأدب والمعاملات.»
عند ذلك مضى تشين كانغ مزهوا وهو يقول: «لقد سألت عن أمر واحد وحصلت على ثلاثة أجوبة: الأول يتعلق بالقصائد، والثاني بقواعد الأدب والمعاملات، والثالث يتعلق بالموقف غير المتحيز للرجل النبيل من ابنه (عندما لا يخصه وحده بشيء دون الآخرين).»
16: 14
قال المعلم: هنالك عدة ألقاب تدعى بها زوجة أمير الدولة؛ فالأمير يدعوها سيدتي، وهي تدعو نفسها أمامه خادمتك الصغيرة، والرعية تدعوها سيدة الأمير، وهي تدعو نفسها أمام رسل الدول الأخرى الأميرة الصغيرة القليلة الشأن، وهم يدعونها سيدة الحاكم.
الباب السابع عشر
17: 1
رغب يانغ هو (الوزير القوي والمستبد لدى أسرة جي) في أن يقوم بزيارة كونفوشيوس، ولكنه رفض، فأرسل إلى كونفوشيوس خنزيرا صغيرا كهدية (وكان على كونفوشيوس أن يزوره، وفق العادة المتبعة، لشكره على الهدية)، فقام كونفوشيوس بزيارة الشكر على الهدية في وقت غياب يانغ هو (لكي لا يلتقي به). ولكن الاثنين التقيا في الطريق، فقال له يانغ هو: «تعال؛ فعندي كلمة أقولها لك. إذا كان لدى أحدهم كنز فخبأه في صدره وترك البلد في ضلالة، هل يعتبر رجلا ذا مروءة؟ لا أعتقد ذلك.» ثم تابع قائلا: «وإذا كان يرغب في العمل الحكومي إلا أنه يضيع الفرص المواتية لذلك، فهل يعد رجلا حكيما؟ لا أعتقد ذلك.» ثم استطرد قائلا: «إن الأيام والشهور تمر سراعا، والزمن لا يمهلنا.» فقال كونفوشيوس: «حسنا، سوف أقبل الوظيفة.»
17: 2
قال المعلم: الناس متشابهون في طبيعتهم الأصلية، ولكنه مختلفون في عاداتهم وتقاليدهم.
17: 3
اثنان لا يغيرهما الزمن: الحكيم في الدرجة العليا، والأحمق في الدرجة السفلى.
17: 4
عندما وصل كونفوشيوس إلى بلدة ووتشينغ سمع صوت غناء على أنغام العود، فقال: «لماذا نستخدم الساطور لذبح دجاجة؟» (والمعنى هنا هو أن المناطق المتخلفة لا تحتاج إلى تعلم الفنون؛ فتلك الأمور من علامات التحضر). فقال له تسي يو: «يحضرني الآن قولك ذات مرة: إذا تفقه الرجل النبيل بالصراط فسوف يزيد حبه للناس، وإذا تفقهت الرعية بالصراط سادت لديها روح الطاعة.» فقال كونفوشيوس: «إن تسي يو على حق أيها التلاميذ، وما كان تعليقي على الموسيقى إلا نوعا من الدعابة.»
17: 5
ثار قونغ شان فوراو وأعلن الاستقلال عن أسرة جي، ثم أرسل إلى كونفوشيوس يدعوه لزيارته، فأراد كونفوشيوس تلبية الدعوة، ولكن تسي لو قال له مستاء: «ربما لم يكن لدينا مكان نذهب إليه. ولكن لماذا يتوجب علينا أن نقصد كونغ شان؟» فأجابه كونفوشيوس: «إذا دعاني أحدهم فلن يكون ذلك بلا سبب. وإذا كان هنالك من يرغب في الإفادة مني، فلم لا أحيي سجايا دولة تشو الشرقية؟»
التعليق:
يرى كونفوشيوس أن دولة تشو الشرقية كانت تمثل النموذج في الرقي الحضاري في قديم الزمان؛ لذا يسعى دائما إلى إحياء أمجادها وسجاياها.
17: 6
سأل تسي جانغ عن المروءة، فقال له كونفوشيوس: «هنالك صفات خمس إذا أبديتها في التعامل مع الآخرين صرت ذا مروءة.» فسأله تسي عن هذه الصفات، فقال له: «هي: الكياسة، والكرم، والصدق، والمثابرة، والعطف. فإذا كنت كيسا، فلن تواجه بقلة الاحترام. وإذا كنت كريما، كسبت قلوس الناس. وإذا كنت صادقا، نلت ثقتهم. وإذا كنت مثابرا، نجحت في جميع أعمالك. وإذا كنت عطوفا، سهل عليك استخدام الناس.»
17: 7
قال المعلم مخاطبا يو: «هل سمعت عن ست صفات وما يطرأ عليها من تحريفات؟» فأجاب يو بأنه لا يعرف، فقال كونفوشيوس: «اجلس لكي أحدثك عنها.
إذا أحببت المروءة وكنت غير محب للدراسة، فإن مروءتك تتحول إلى سذاجة.
إذا أحببت الذكاء وكنت غير محب للدراسة، تحول ذكاؤك إلى تبلبل ذهني.
إذا أحببت الصدق وكنت غير محب للدراسة، تحول صدقك إلى أذى.
إذا أحببت الصراحة وكنت غير محب للدراسة، تحولت صراحتك إلى فظاظة.
إذا أحببت الجرأة وكنت غير محب للدراسة، تحولت جرأتك إلى جموح.
إذا أحببت الحزم وكنت غير محب للدراسة، تحول حزمك إلى تطرف.»
17: 8
دعا بي شي (الوزير الكبير في دولة جين) كونفوشيوس لزيارته (وكان راغبا في أن يعهد إليه بمنصب حكومي)، فعزم كونفوشيوس على تلبية الدعوة. ولكن تسي لو قال له: «لقد سمعت منك مرة قولا مفاده أن الرجل النبيل لا يدخل موطن رجل آثم. لقد استولى بي شي على مدينة جونغ مو ظلما وعدوانا واستقل بها، فماذا سيقال عنك إذا لبيت دعوته؟» قال كونفوشيوس: «لقد قلت ذلك فعلا. ولكن ألم يرد في المأثور أنك مهما صقلت شيئا صلبا لن تفلح في جعله رقيقا؟ ومهما طليت بالأسود شيئا ناصع البياض لن تفلح في تسويده؟ وهل يا ترى سوف أبقى مثل يقطينة (قرعة) مرة تعلق من غير أن تؤكل؟»
17: 9
قال المعلم: «أيها التلاميذ، هلا درستم كتاب سفر القصائد؛ فإنه يسمو بنفوسكم، ويوسع مدارككم، ويوطد صلاتكم مع الناس، ويعبر عن غضبكم على المفاسد، ويعرفكم بالواجب نحو الأبوين ونحو الحاكم، ومنه تعرفون الكثير عن الطيور والوحوش والنباتات والأشجار.»
17: 10
قال المعلم مخاطبا ابنه بو يو: «هل درست الفصل الأول والفصل الثاني من كتاب سفر القصائد؟ إن من لم يدرس هذين الفصلين هو في طريق العلم مثل من يقف أمام جدار حاجب.»
17: 11
قال المعلم: يتحدثون عن الطقوس هنا ويتحدثون عن الطقوس هناك، وكأنها ليست سوى تقدمات من الحرير والجاد. ويتحدثون عن الموسيقى هنا ويتحدثون عن الموسيقى هناك، وكأنها ليست أكثر من الطبول والأجراس.
17: 12
من أظهر وجها قاسيا وكان ضعيفا في الداخل، ليس سوى شخص بائس يشبه لصا ينقب في الجدار ليدخل.
17: 13
قال المعلم: المنافق الذي يظهر الإخلاص سارق للفضائل.
17: 14
قال المعلم: إذا قمت بترديد ما سمعت في طريقك من أقاويل وشائعات؛ بددت ما جمعته من فضائل.
17: 15
قال المعلم: هل من الممكن خدمة الأمير وهو محاط بهؤلاء السفلة!؟ عندما يكونون بلا منصب يتصنعون ويبذلون ماء وجههم لكي ينالوه. وعندما ينالونه يتملكهم هوس الحفاظ عليه، وإذا تملكهم هوس الحفاظ عليه أقدموا على كل ما يمكن تصوره من الأفعال.
17: 16
قال المعلم: كان عند القدماء ثلاثة أنواع من النقائص، وربما لم تعد موجودة الآن. كان الجامح في قديم الزمان يفصح بما في قلبه، والجامح في زماننا يتوخى المجون، والمغرور في قديم الزمان كان نزيها، والمغرور في زماننا بات أسيرا للغضب السريع، والجاهل في قديم الزمان كان يحرص على الصراحة، والجاهل في زماننا يلجأ إلى الخديعة.
17: 17
قال المعلم: من يبذل معسول الكلام وعلى وجهه دوما ابتسامة، يندر أن يكون صاحب مروءة.
التعليق:
سبق أن وردت هذه الجملة في 1: 3.
17: 18
قال المعلم: أكره اللون الأرجواني لأنه يسرق من اللون الأحمر، وأكره موسيقى جينغ الشعبية لأنها تفسد الموسيقى الكلاسيكية، وأكره زلاقة اللسان لأنها تخرب العائلة والدولة.
17: 19
قال المعلم: «أتمنى لو استغنيت عن الكلام.» فقال تسي قونغ: «يا معلم، إذا لم تتكلم فما الذي ننقله عنك نحن التلاميذ؟» قال كونفوشيوس: «وهل تتكلم السماء؟ ومع ذلك فإن الفصول الأربعة تترى، وكل الكائنات تتوالد. هل تتكلم السماء؟»
17: 20
رغب الموظف (في دولة لو) رو بي في لقاء المعلم (وقيل إنه درس على يديه أصول الطقوس، ولكنه أخطأ في بعض أمورها)، ولكن كونفوشيوس اعتذر متعللا بالمرض. وعندما هم رسول رو بي بالمغادرة ووصل إلى الباب، أمسك المعلم بالعود وبدأ الغناء لكي يسمع الرسول غناءه.
17: 21
سأل جاي وو: «أليس الحداد على الوالدين ثلاث سنوات بالمدة الطويلة؟ إذا لم يمارس الرجل النبيل الطقوس لمدة ثلاث سنوات، فإنها تضيع، وإذا لم تعزف الموسيقى ثلاث سنوات فإنها تتلاشى. إن قمح السنة الماضية قد ولى ونبت مكانه قمح جديد، ودورة الفصول التي تنتج خشب الوقود الذي يشتعل بالاحتكاك قد ولت (كان الناس في القديم يستخدمون نوعا معينا من الأخشاب في كل فصل). أليست سنة واحدة من الحداد بكافية؟» فقال كونفوشيوس: «هل يهنأ لك عيش إذا تناولت أفضل الأرز ولبست أفخر الثياب الحريرية بعد زمن قصير من وفاة الوالدين؟» قال: «لا أجد في ذلك غضاضة.» قال كونفوشيوس: «إذا كنت لا تجد في ذلك غضاضة فافعل ما شئت، ولكن الرجل النبيل لا يهنأ بالطعام الشهي إذا كان في حداد، ولا يطرب لموسيقى، ولا تطيب له الحياة في مسكنه. أما إذا كنت مرتاحا لما تفعله فافعله.» وبعدما غادر جاي وو المجلس قال كونفوشيوس: «إن جاي وو عدم المروءة؛ فالطفل لا يترك حضن والديه إلا بعد ثلاث سنوات؛ ولذلك فسنوات حداد ثلاث هي القاعدة المتبعة في المجتمع. ألم يتلق جاي وو عطف وحنان والديه لمدة ثلاث سنوات؟»
17: 22
قال المعلم: «ماذا تفعل لشخص يحشو فمه بالطعام طيلة اليوم دون أن يعمل عقله؟ لعل من الأفضل له لو أنه، على الأقل، لعب الورق أو الشطرنج، فذلك أنفع له.»
17: 23
قال تسي لو: «هل يقدر الرجل النبيل الشجاعة؟» فقال كونفوشيوس: «الرجل النبيل يضع العدل في المقام الأول. إذا كان الرجل النبيل شجاعا دون عدل تحول إلى ثائر، وإذا كان الرجل الوضيع شجاعا دون عدل تحول إلى قاطع طريق.»
17: 24
قال تسي جونغ: «هل لدى الرجل النبيل أيضا ما يكرهه؟» قال كونفوشيوس: «نعم. إنه يكره الذي يشهر بعيوب الآخرين، ويكره النذل الذي يفتري على الكبار، ويكره الوقح البعيد عن قواعد الأدب والمعاملات، ويكره المعتد بنفسه إلى حد العناد.» وبعد هنيهة توجه بالسؤال إلى تسي جونغ: «وماذا عنك؟ ما الذي تكرهه؟» فقال: «أكره الذين يرون في قليل العلم الذي حصلوه حكمة، وأكره الذين يرون في العصيان والتمرد شجاعة، وأكره الذين يرون في الكشف عن نقاط ضعف الآخرين صراحة.»
17: 25
قال المعلم: من الصعب أن تنسجم مع الوضيع ومع المرأة؛ لأنك إذا أنستهم تجرءوا عليك، وإذا تحاشيتهم تذمروا عليك.
17: 26
قال المعلم: من بلغ الأربعين وهو مكروه من الآخرين، سيبقى كذلك حتى آخر العمر.
الباب الثامن عشر
18: 1
فر وي تسي أمير وي من أخيه الطاغية جو (آخر ملوك أسرة ين)، وصار عمه تشي تسي أمير تشي عبدا للطاغية، أما عمه الآخر بي قان فقد عارضه وقتل بسبب ذلك. هؤلاء الثلاثة كانوا من أصحاب المروءة في أسرة ين.
18: 2
كان ليو شيا هوي قاضيا رئيسيا في محكمة الجنايات، وقد عزل من منصبه ثلاث مرات، فقال له البعض: «لماذا لا تهاجر من هذه المملكة؟» فقال: «إذا كنت أتوخى العدالة في خدمة الناس، فهل من مملكة ألجأ إليها ولا أعزل من منصبي ثلاث مرات؟ وإذا لم أجد غضاضة في اتباع الوسائل غير الشرعية، فلماذا أترك أرض آبائي؟»
18: 3
تحدث الأمير جنيغ حاكم تشي عن الطريقة التي سيعامل بها كونفوشيوس إذا ولاه منصبا في الحكومة قائلا: «لا أستطيع أن أعامله كما عامل أمير لو كبير مساعديه جي، بل سأعامله معاملة ما بين السيد جي والسيد مونغ (مساعد عادي). لقد بلغت من الكبر عتيا، ولا أظنني قادرا على تحقيق مبادئه.» فلما سمع كونفوشيوس ذلك رحل عن المدينة.
18: 4
أرسل أهل إمارة تشي إلى إمارة لو هدية قوامها عدد من المغنيات والراقصات، فاستقبلهن جي هوان تسي حاكم لو، ولمدة ثلاثة أيام انشغل بهن عن عمله فلم يعقد جلسة في البلاط، فلما رأى كونفوشيوس ذلك ترك منصبه في الحكومة وغادر المدينة.
18: 5
مر جيه يو مجنون إمارة تشو بعربة كونفوشيوس وهو ينشد قائلا:
أيتها العنقاء، أيتها العنقاء،
كيف انحطت فضائل الزمان؟
لم يعد بالإمكان إصلاح ما فات؛
فدعنا لا نضيع الغد.
كفى! كفى!
إن كل أصحاب المناصب الآن
سوف تحدق بهم الأخطار.
فنزل كونفوشيوس من العربة ليكلمه ولكنه اختفى.
التعليق:
يقصد بالعنقاء هنا كونفوشيوس؛ لأن العنقاء في الأسطورة الصينية لا تحط إلا على الشجرة النبيلة، ومثلها في ذلك مثل المثقف الذي يختار ملكا حكيما لخدمته.
18: 6
كان تشانغ جيو وتشيه نيه يعملان معا في الحقل عندما مرت بهما عربة كونفوشيوس، فأرسل كونفوشيوس تسي لو ليستعلم منهما عن مكان المخاضة في النهر من أجل عبورها إلى الضفة الأخرى، وعندما فعل قال له تشانغ جيو: من ذلك الرجل الجالس في العربة؟ - إنه كونفوشيوس. - أهو كونفوشيوس من إمارة لو؟ - نعم. - في هذه الحالة من المفترض أنه يعرف مكان المخاضة.
ثم توجه تسي لو بالسؤال نفسه إلى تشيه نيه فأجاب: ومن أنت؟ - أنا تسي لو. - هل أنت تلميذ كونفوشيوس من إمارة لو؟ - نعم.
إن الاضطرابات تعم البلاد مثل الطوفان، فهل من أحد قادر على تغيير شيء؟ بدلا من أن تتبعوا مثقفا يهرب من الناس، لماذا لا تتبعون زاهدا هاربا من الدنيا كلها؟ ثم تابع تشيه نيه عمله في عزق التربة دون توقف.
فعاد تسي لو إلى كونفوشيوس وأخبره بما جرى، فتنهد كونفوشيوس وقال: لا أستطيع معاشرة الطيور والوحوش، فإذا لم أعاشر الناس فمن أعاشر؟ لو ساد الصراط في البلاد لأمسكت عن دعاوى التغيير والإصلاح.
18: 7
أثناء السفر تخلف تسي لو عن الركب ولم يعد يرى جماعته، فصادف رجلا عجوزا يحمل سلة على عصا فوق كتفه فسأله: «هل رأيت معلمي؟» فقال له العجوز: «يبدو أن أطرافك لم تكدح في الأرض، وعينك لا تستطيع تمييز أنواع الحبوب الخمسة عن بعضها، فمن هو معلمك؟» ثم وضع العجوز عصاه في الأرض وراح يزيل الأعشاب الضارة، بينما وقف تسي لو إزاءه باحترام وهو يضم ذراعيه إلى صدره. بعد ذلك قاد العجوز تسي لو إلى بيته فاستضافه ليلة وذبح دجاجة وأطعمه، وقدمه إلى ولديه. في الصباح تابع تسي لو سيره وانضم إلى الجماعة وأخبر كونفوشيوس بما جرى، فقال المعلم له: «هذا الرجل من الزهاد.» ثم إنه أرسل تسي لو ليزوره ثانية، ولكنه لم يجده.
عندها قال تسي لو: إذا لم يكن لك دور في الحياة الاجتماعية، كيف تستطيع ممارسة العدالة؟ وإذا لم تتفكك العلاقة بين الصغير والكبير فكيف تتفكك العلاقة بين الحاكم والوزير؟ إن الحفاظ على النقاء الشخصي يؤدي إلى تمزيق الروابط الاجتماعية، والرجل النبيل لديه التزام أخلاقي بخدمة الدولة حتى إذا وجد أن الصراط لن يسود .
18: 8
بين الذين اختاروا العيش في عزلة عن المجتمع: بو يي، وشو تشي، ويو تشونغ، وإي يي، وتشو تشانغ، وليو شيا هوي، وشاو ليان.
قال المعلم: إن بو يي وشو تشي لم يساوما ولم يهينا نفسيهما، أما ليو شيا هوي وشاو ليان فقد ساوما وأهانا نفسيهما، ومع ذلك فقد كان كلامهما مؤسسا على مبادئ راسخة، وفكرهما يسبق عملهما، وهذا كل ما يمكنني قوله بشأنهما. أما يو تشونغ وإي يي فقد هجرا المجتمع، وفي عزلتهما تركا الكلام. لقد كانا طاهرين في أفعالهما، وعزوفهما عن المناصب الحكومية كان يعتمد على الظروف، أما أنا فمختلف عن هؤلاء، وليس عندي ما يتوجب فعله وما لا يتوجب فعله.
18: 9
ذهب رئيس العازفين تشيه إلى إمارة تشي، وذهب عازف الوجبة الثانية إلى تشو، وذهب لياو عازف الوجبة الثالثة إلى تساي، وجيو عازف الوجبة الرابعة إلى تشن، وذهب ضارب الطبل فانغ شو إلى حوض النهر الأصفر، وذهب وو عازف الطبل اليدوي إلى حوض نهر هان، وذهب يانغ الموسيقي المساعد وهسيانغ عازف آلة الأجراس الحجرية إلى شاطئ البحر.
التعليق:
يصف هذا الفصل حالة التدهور الثقافي في دولة لا نعرفها عقب سقوط إحدى الأسر الحاكمة.
18: 10
قال أمير تشو لابنه أمير لو وهو يحاوره: «إن الرجل النبيل لا ينقطع عن أقربائه، ولا يدع وزراءه يتذمرون من عدم الاعتماد عليهم، ولا يعزل موظفا قديما إلا إذا وقع في خطأ كبير، ولا يحمل أحدا فوق طاقته.»
18: 11
احتضنت إمارة تشو ثمانية من وجهاء الموظفين وهم: بودا، وبو كوا، وتشونغ تو، وتشونغ هو، وشو يي، وشو هسيا، وتشي سوي، وتشي كوا.
الباب التاسع عشر
19: 1
قال تسي تشانغ: إن المثقف المدرب على الخدمة المدنية يضحي بحياته في مواجهة الأخطار العامة إذا لزم الأمر، وإذا سنحت له فرصة للربح الشخصي وضع الاستقامة نصب عينيه. في أداء الطقوس تراه وقورا، وفي الجنازات حزينا، ومثله ينال الاستحسان.
19: 2
قال تسي تشانغ: من تمسك بالفضيلة دون العمل على نشرها، واتبع الصراط دونما إخلاص، هل يمكنك القول بأنه تمسك بالفضيلة واتبع الصراط؟
19: 3
توجه بعض تلاميذ تسي شيا بالسؤال إلى تسي تشانغ عن العشرة بين الناس، فقال لهم تسي تشانغ: «وماذا قال لكم تسي شيا عنها؟» قال أحدهم: «عاشر الجدير بالمعاشرة وأعرض عن غير الجدير بها.» قال تسي تشانغ: «هذا يختلف عما سمعته أنا. سمعت أن الرجل النبيل يقدر الفاضل، ولكنه يقبل الجميع. إنه يثمن المتميز ويعطف على البسيط. إذا كنت صالحا فمن الذين لا أقبلهم من الناس؟ وإذا كنت طالحا، فإن الآخرين هم الذين ينبذونني لا أنا.»
19: 4
قال تسي شيا: إن في الحرف الصغيرة قيمة، ولكن الانشغال بها قد يعيق التدابير الكبيرة والبعيدة؛ لذا لا يشتغل بها الرجل النبيل.
19: 5
قال تسي شيا: إذا كان أحدهم واعيا لما ينقصه من العلم في كل يوم، ولم ينس كل شهر ما حصله من العلم، يمكن أن يدعى محبا للعلم.
19: 6
قال تسي شيا: إذا تبحرت في علمك، وتمسكت بمقاصدك، وتساءلت بصدق، وتفكرت بعمق، تجد أن المروءة كامنة في هذه الأمور.
19: 7
قال تسي شيا: يلزم الفنان محترفه لإنتاج عمله الفني، ويثابر الرجل النبيل على دراسته لبلوغ الصراط.
19: 8
قال تسي شيا: الرجل الوضيع مشغول بالتستر على أخطائه.
19: 9
قال تسي شيا: الرجل النبيل يترك لدى الآخرين ثلاثة انطباعات؛ فعلى البعد يبدو مهيبا، وعلى القرب دافئا، وعند الكلام صريحا جديا.
19: 10
قال تسي شيا: إذا حاز الحاكم على ثقة الرعية فإنهم سوف يكدحون من أجله، أما إذا فشل في حيازة ثقتهم فسيرون فيه طاغية. وعندما تتولد الثقة بين الحاكم والرعية، فإن الرعية سوف تنتقد الحاكم بصراحة، فإذا لم تتولد الثقة بينهما فسوف يرى في نقدهم له طعنا في الظهر.
19: 11
قال تسي شيا: طالما أنك لا تنتهك حدود الفضائل الكبرى، فلا جناح عليك إذا خالفت الفضائل الصغرى بعض المخالفة.
19: 12
قال تسي يو: يمكن لتلاميذ تسي شيا القيام برش الماء وتنظيف الأرضيات، والترحيب والتوديع عند قدوم الضيوف، وكلها أعمال ثانوية، فإذا جاءوا إلى الأساسيات ضاعوا، فلماذا هم كذلك؟ عندما سمع تسي شيا ذلك قال: إن تسي يو مخطئ. ففي تعاليم الرجل النبيل هنالك تمييز بين التفاصيل البسيطة التي تأتي أولا، والأساسيات الصعبة التي تأتي لاحقا، مثل التمييز بين الأعشاب أو النباتات المختلفة. هذه طريقة الرجل النبيل، وكيف يمكن الاستخفاف بها؟ وهل ينبغي أن تكون إنسانا كاملا حتى تعرف ماذا يأتي في البداية وماذا يأتي في النهاية؟
19: 13
قال تسي شيا: على الموظف الحكومي أن يلتفت إلى الدراسة بعد إنجاز عمله، وعلى المتعلم أن يشتغل بعمل حكومي بعد إتمام دراسته.
19: 14
قال تسي هسيا: في الحداد، عندما نصل بالحزن إلى آخر مدى علينا أن نتوقف.
19: 15
قال تسي يو: يتمتع صديقي تسي جانغ بقدرات عالية، ولكنه لم يحقق المروءة.
19: 16
قال زينغ تسي: كم هو إنسان جليل صديقي تسي جانغ، ولكن من الصعب أن تعمل معه في سبيل المروءة.
19: 17
قال تسانغ تسي: سمعت المعلم يقول: إذا لم يعان أحد الألم الكبير بعد، فسوف يفعل عندما يموت والداه.
19: 18
قال تسانغ تسي: سمعت المعلم يقول: إن بر مونغ جوان تسي لوالديه أمر يمكن لغيره تحقيقه، ولكن لا يمكن لغيره تحقيق أمر آخر؛ لقد تابع إدارة الدولة بواسطة وزراء أبيه، ولم يغير شيئا في سياسته.
19: 19
عندما عينت أسرة مينغ سون يانغ فو قاضيا، مضى إلى أستاذه زينغ تسي للحصول على نصيحته، فقال له زينغ تسي: منذ زمن بعيد قصر الحكام في واجباتهم واضطربت أحوال الرعية؛ ولذلك عندما تكتشف ملابسات جرم كن متعاطفا مع المجرم لا جذلا بقدراتك.
19: 20
قال تسي كونغ: لعل الأمير زو لم يكن بالسوء الذي يذكر به؛ لذلك فإن الرجل النبيل يتجنب الوقوع في الحضيض حيث تتراكم كل أنواع الشرور مثل تراكم المياه القذرة في الصهريج.
19: 21
قال تسي كونغ: أخطاء الرجل النبيل تنكشف للجميع مثلما هو كسوف الشمس أو خسوف القمر. إذا أخطأ رأى الناس خطأه جميعا، وإذا عمد إلى إصلاحه، نظر الناس إليه جميعا بإكبار.
19: 22
توجه كون سون جاو بالسؤال إلى تسي كونغ قائلا: «عمن تلقى كونفوشيوس علومه؟» فقال تسي كونغ: «إن ميراث الملكين القديمين وين ووو لم يختف من الأرض، بل ما زال محفوظا في صدور الناس؛ فالمتميزون نقلوا عنهم الأساسيات، وغير المتميزين نقلوا الفروع؛ ولهذا فإن سنة هذين الملكين موجودة في كل مكان، فكيف لا يتعلم منها كونفوشيوس، ولماذا عليه أن يتلقاها من معلم ما؟»
19: 23
قال شو سون ووشو (من كبار الموظفين في إمارة لو) للموظفين الكبار في البلاط: «إن تسي كونغ متفوق على كونفوشيوس.» فلما بلغ تسي كونغ هذا الكلام قال: «إذا كان لي أن أستخدم تشبيها للفارق بيني وبين معلمي كونفوشيوس لاستخدمت تشبيه القلعة وسورها؛ فسوري لا يعلو أكثر من كتفي، وتستطيع أن ترى من فوقه كل ثمين في الداخل، أما سور معلمي فيعلو عدة عشرات من الأقدام، وإذا لم تعثر على البوابة لتلج منها، لاستحال عليك رؤية جمال مذبح الأسلاف في الداخل، وروعة مشهد مئات الغرف والمقاصير. ولا يستطيع العثور على البوابة إلا قلائل؛ ولذلك فمن الطبيعي أن يقول شو سون ووشو ذاك الكلام عن كونفوشيوس.»
19: 24
طعن شو سون ووشو بكونفوشيوس، فقال تسي كونغ: يجب أن يكف عن هذا الفعل؛ فليس بمقدور أحد النيل من كونفوشيوس. إن فضائل الآخرين مثل تلة صغيرة يمكن ارتقاؤها، أما كونفوشيوس فمثل الشمس والقمر لا يستطيع أحد الارتقاء إليهما. إذا رغب أحدهم في أن يقطع الصلة بينه وبين الشمس والقمر، فهل بمقدوره النيل منهما؟ كلا، بل إنه يظهر قلة حيلته.
19: 25
قال تشين تسي جين لتسي كونغ: «أنت رجل متواضع حقا. لماذا يكون كونفوشيوس أعلى منك قدرا؟» فقال تسي كونغ: «إن الرجل النبيل يعبر عن ذكائه بكلمة واحدة، وبكلمة واحدة يظهر جهله؛ لذلك لا بد من الحذر في اختيار الكلمات. إن مرتبة المعلم لا يمكن لأحد بلوغها، مثلما أن السماء لا يمكن الارتقاء إليها بسلم. لو قيض لمعلمنا حكم دولة لأخذ كل واحد مكانه المناسب من خلال إدارته الحكيمة، وإذا قاد الرعية انقادت بداعي لطفه وكياسته، وإذا حفزهم قاموا للعمل بانسجام. في حياته كان مجيدا، وفي مماته سوف تندبه البرية. فمن يطمح إلى أن يكون ندا له في المكانة؟»
الباب العشرون
20: 1
قال ياو (مخاطبا خليفته شون الملك): «إن قضاء السماء يا شون قد وضع بين يديك مقاليد الحكم، فاعتصم بالاستقامة والاعتدال. إذا ألمت بالبلاد الشدائد والفقر، فإن نعمة السماء عليك ستختفي إلى الأبد.»
وهذه هي نفس الوصية التي قام شون بتوجيهها إلى خليفته يو.
قال الملك تانغ مؤسس دولة شانغ: «إنني كخادم متواضع أجترئ على تقديم هذا الثور الأسود قربانا إلى جلالة الملك السماوي الأعلى، وإخباره أنني لا أجرؤ على العفو عن المجرمين، أو إخفاء أحوال الرعية عنك؛ فجلالتك أنت الأعلم بهم. وإن ارتكبت معصية فأنزل بي العقاب لا على الرعية، وإن ارتكبت الرعية معاصي فأنزل بي العقاب أيضا دون غيري.»
قام الملك وو مؤسس دولة تشو بمكافأة وزرائه وأنعم على الصالحين بنعم واسعة، وخاطب السماء: «إنني أعتز بأصحاب المروءة أكثر من اعتزازي بأقربائي وأعضاء أسرتي. وإذا ارتكبت الرعية معاصي فعلي عقابها دون غيري.»
إذا تم ضبط المكاييل والموازين ومراجعة الأحكام والقوانين وتفعيل المناصب المهملة؛ عادت السياسات في أرجاء البلاد إلى مجراها الصحيح. وإذا تم إحياء الدولة بعد أفولها، ووصل ما انقطع من سلاسل العائلات وترقية الكفاءات المنسية؛ مالت قلوب الرعية في كل أنحاء البلاد إلى الحاكم.
الأمور التي ينبغي الاهتمام بها هي: الشعب والطعام وطقوس الجنازات والقرابين.
بالسماحة تكسب قلوب الرعية، بالصدق تحظى بثقتها، بالجد تحقق النجاح، بالعدالة تسعد الناس جميعا.
20: 2
سأل تسي جانغ كونفوشيوس: «ما هي الطريقة المثلى لإدارة شئون الحكم؟» فقال المعلم: «هنالك خمس حسنات ينبغي تقديرها، وأربع سيئات ينبغي تحاشيها.»
فقال تسي جانغ: «ما الحسنات الخمس؟» قال المعلم: «إن الرجل النبيل كريم دون تبديد، يستخدم الرعية دون أن تتظلم منه، يرغب من غير طمع، فخور دون غطرسة، مهيب دون قساوة.»
قال تسي جانغ: «كيف يكون الكرم دون تبديد؟» قال المعلم: «إذا وجدت وسيلة من شأنها جلب المنفعة لعامة الناس واستخدمتها فانتفعوا بها، أليس في هذا كرم دون تبديد؟ وإذا اخترت ما يناسبهم من الأعمال في الفصول المناسبة ثم كلفتهم بها، فهل يتظلم منك أحد؟ وإذا رغبت في المروءة ثم اكتسبتها، فأين الطمع في ذلك؟ كما أن الرجل النبيل يبدي الاحترام في تعامله مع القلة والكثرة ومع الصغير والكبير، أليس في هذا فخر دون غطرسة؟ وإذا هندم ثوبه وقلنسوته وبدا رزينا في عيون الناس وفي الوقت نفسه أبدى تقديرا لهم، أليس في هذا هيبة دون قسوة؟»
ثم قال تسي جانغ: «وما السيئات الأربع التي ينبغي تحاشيها؟» قال المعلم: «إذا أعدمت مذنبا من غير أن تكون قد ربيته؛ كنت قاسيا. وإذا توقعت من الرعية إنجازا مفاجئا دون إنذار؛ كنت جائرا. وإذا تأخرت في إعطاء الأوامر وتوقعت التنفيذ في وقت محدد، كنت مؤذيا. وإذا بخلت في دفع المكافآت المستحقة كنت بيروقراطيا.»
20: 3
قال المعلم: إذا لم تفهم القدر، لن تحقق مرتبة الرجل النبيل. إذا لم تفهم قواعد الأدب والمعاملات، لن تقف راسخا. إذا لم تفهم فن الكلام، لن تفهم الناس.
النص الكامل لكتاب منشيوس
الباب الأول: هوي ملك ليانغ «1»
1
مضى منشيوس للاجتماع بهوي ملك ليانغ،
1
فقال له الملك: «أيها شيخ! لقد قطعت إلينا مسافة طويلة مقدارها ألف لي،
2
فهل ستعرض علينا ما ينفع هذه الدولة؟»
أجابه منشيوس: «لماذا اختار جلالتك الحديث عن المنفعة؟ لقد جئت لكي أطرح عليكم مسائل تتعلق بالرحمة،
3
والحق.
4
عندما يسأل جلالتك: كيف أنفع مملكتي؟ ويسأل وزراؤك: كيف تنفع مقاطعاتنا؟
5
ويسأل المثقفون
6
والعامة: كيف ننفع أنفسنا؟ فإن من في الأعلى ومن في الأسفل سوف يتنافسون لتحقيق المنفعة، وستحيق بالمملكة الأخطار.
إن من يغتال العاهل في مملكة ذات عشرة آلاف عربة حربية،
7
غالبا ما يكون أمير مقاطعة ذات ألف عربة حربية. ومن يغتال الأميرة في مقاطعة ذات ألف عربة، غالبا ما يكون أمير مقاطعة ذات مائة عربة. إن حصة مقدارها ألف عربة في دولة ذات عشرة آلاف عربة، ومائة عربة في دولة ذات ألف عربة، ليست قسمة صغيرة، ولكن إذا وضع المسئولون نصب أعينهم النفع أولا قبل الحق، فإنهم لن يقنعوا حتى يستولوا على كل ما للعاهل.
إن أهل الرحمة لا يتركون الوالدين بلا رعاية، وأهل الحق لا يديرون ظهورهم لحكامهم، فهلا تحدثتم معي عن الرحمة والبر، لا عن المنفعة.»
2
قام منشيوس بزيارة هوي ملك ليانغ، فوجده واقفا عند البركة يتأمل الإوز البري والغزلان، فقال الملك له: هل يستمتع الفضلاء أيضا بمثل هذا المنظر؟ فأجابه منشيوس: الفضلاء هم الذين يستمتعون بهذا المنظر، وغير الفضلاء لا يستمتعون به، ولو كان ملكا لهم. وقد ورد في كتاب القصائد:
8 «وضع الملك
9
مخططا لبناء مذبح مقدس وشرع في تنفيذه بجد. جاء الناس ليعملوا فيه معا، وقال لهم أن يأخذوا وقتهم ولا يستعجلوا، ولكنهم عملوا مثل ما يعمل الأبناء، وانتهوا من بنائه في وقت قصير. راح الملك يتمشى في حديقة الغزلان، ترقد إناثها باسترخاء وأجسادها ممتلئة وملساء، وكانت الطيور البيضاء تتلألأ بريشها المكتمل. ثم دار حول البركة المقدسة، وسر بمنظر أسماكها التي تسبح وتتقافز.»
لقد بنى الملك وين مذبحه وبركته بجهد الناس الذين كانوا سعداء بعملهم، وأطلقوا على المذبح المذبح المقدس، وعلى البركة البركة المقدسة، واستمتعوا برؤية الغزلان والأسماك والسلاحف. لقد كان الملوك الفضلاء في الماضي يستمتعون عندما يشركون الناس في متعهم.
ولقد ورد في أخبار الملك تانغ
10
الذي أخذ على نفسه عهدا بأن يسقط الملك الطاغية شيا جيه
Xia Jie ، أن الشعب كان يقول: «أيتها الشمس متى تنطفئين؟ لأننا مستعدون أن ننطفئ معك.» وذلك ردا على الطاغية الذي أعلن أن حكمه سيدوم ما بقيت الشمس. فإذا كان الشعب مستعدا للموت لكي يموت الملك، فأنى له أن يترك وحده ليستمتع بمناظر مذبحه وبركته وطيوره وغزلانه؟
3
قال هوي ملك ليانغ لمنشيوس: «بوسعي القول إنني قد بذلت قصارى جهدي لخدمة هذه المملكة. فإذا نقصت غلة الأرض وسادت المجاعة في المنطقة الشمالية من النهر الأصفر، نقلت قسما من المتضررين إلى المنطقة الشرقية، وزودت المنطقة الشمالية بالحبوب. وإذا نقصت غلة الأرض وسادت المجاعة في المنطقة الشرقية قمت بعكس الإجراء. ولكنني عندما أنظر إلى أحوال الممالك المجاورة، أرى أن حكوماتها لا تبذل في سبيل رعاياها مثل ما أبذل، ومع ذلك فإن عدد سكانها لا ينقص، بينما عدد سكان مملكتي لا يتزايد!»
فأجابه منشيوس: «إن جلالتكم مولع بالحروب. وهنا دعني أسوق المماثلة التالية: عندما تقرع طبول الحرب ثم يشتد القتال، فإن بعض الجنود يلقون بأسلحتهم ويفرون للنجاة بحياتهم، بعضهم يتوقف بعد أن يركض مائة خطوة، والبعض الآخر يتوقف بعد أن يركض خمسين خطوة. هل تعتقد أن أولئك الذين ركضوا خمسين خطوة من حقهم أن يسخروا من أولئك الذين ركضوا مائة خطوة؟» فأجابه الملك: «لا بالطبع. لقد ركضوا خمسين خطوة فقط، ولكنهم فروا على كل حال.»
فرد منشيوس: «هل ترى جلالتكم ما أرمي إليه من وراء هذه المشابهة؟ جلالتكم لن تأملوا في أن تكون مملكتكم أكثر سكانا من الممالك المجاورة.
11
إذا لم تتدخلوا في مواسم العمل الزراعي،
12
فسيكون لديكم من الحبوب أكثر مما تستهلكون. إذا لم تسمحوا للصيادين باستخدام الشباك ذات الثقوب الصغيرة في البرك والبحيرات، فسيكون لديكم من السمك والسلاحف أكثر مما تستطيعون أكله. إذا احتطبتم في التلال والأحراش في الوقت المناسب، سيكون لديكم من الحطب أكثر مما تحرقه مواقدكم؛ عند ذلك سيكون الناس قادرين على إعالة الوالدين في حياتهم، وترتيب جنازات لائقة لهم عند مماتهم دون شكوى أو مشقة؛ وبذلك تتحقق الخطوة الأولى نحو الحكم الرشيد.
دع أشجار التوت تزرع في كل مساحة مقدارها خمسة «مو»
13
حول البيوت، وسوف تتهيأ لمن بلغوا الخمسين من العمر ملابس حريرية. دع الدجاج والخنازير والكلاب تربى في مواسم تكاثرها؛ ولن ينقص اللحم من وجبات من بلغوا السبعين. لا تعرقل مواعيد العمل الزراعي في كل أرض مساحتها مائة «مو»؛ ولن تشكو الأسر الكبيرة من الجوع. وجه اهتمامك إلى التعليم في مدارس القرى حيث يلقن الأولاد بر الوالدين ومحبة الأخوة؛ ولن ترى شيخا في الطريق يحمل أثقالا.
إن الدولة التي يتوفر لمن بلغ السبعين فيها ارتداء الحرير والحصول على طعام وافر، ولا يشكو شعبها من البرد والجوع؛ لن يفشل حاكمها أن يكون ملكا حقا، قادرا على توحيد البلاد.
14
إن كلاب وخنازير الأغنياء تأكل الآن طعام الناس، ولكنك لا تتدخل لمنع ذلك. وهنالك من يموت في الطرقات جوعا ولا يلقى منك عونا، وإنما تكتفي بالقول إنك لست المسئول عن ذلك بل المجاعة. ومثلك في ذلك مثل من طعن رجلا فقتله، ثم قال: لست أنا المسئول بل السكين. لا تلق يا جلالتك باللائمة على سنوات القحط، وسيلجأ الناس إليك من كل مكان.»
4
قال هوي ملك ليانغ لمنشيوس: «أنا راغب في الإصغاء إلى نصائحكم.» فقال له منشيوس: «ما هو الفرق في رأيكم بين قتل شخص بهراوة وقتله بسيف؟» أجاب الملك: «ليس ثمة من فرق.» قال منشيوس: «ما الفرق بين قتل إنسان بسيف وقتله بواسطة حكم سيئ؟» أجاب الملك: «ليس ثمة من فرق.» قال منشيوس: «هنالك لحوم وافرة في مطابخك، وخيول معلوفة جيدا في إسطبلاتك؟ ولكن أمارات الجوع تبدو على وجوه الناس، وعلى أطراف المدن تجد جثث من ماتوا من الجوع. وهذا يشبه في رأيي إفساح المجال أمام الضواري لكي تفترس البشر. إن الضواري تفترس بعضها بعضا والبشر يمقتونها بسبب ذلك. إذا كان الحاكم، الذي يفترض به أن يكون أبا للشعب، يمارس إدارة سيئة، فذلك مثل إفساح المجال أمام الضواري لافتراس الناس، فكيف يمكن أن يكون جديرا بدور الأب؟
لقد قال كونفوشيوس مرة: أولئك الذين ابتكروا عادة دفن التماثيل مع الموتى، حكم عليهم بعدم الإنجاب.
15
وفي قوله هذا إدانة لهم؛ لأن تلك التماثيل كانت على هيئة بشرية، فكيف إذن ينجو من الإدانة الحاكم الذي تسبب في موت شعبه جوعا؟»
5
قال هوي ملك ليانغ لمنشيوس: «كما تعرف أيها المحترم، فإنه لم يكن هنالك دولة في المملكة
16
أقوى من دولة جين
Jin ،
17
ولكننا في هذه الأيام هزمنا أمام دولة تشي
Qi
في الشرق، وفقدت ابني الأكبر في المعركة.
18
وفي الغرب خسرنا مساحة تقدر بسبعمائة لي مربع في مواجهة مع دولة تشن
Qin .
19
وفي الجنوب أذلتنا دولة تشو
Chu .
20
وإني لأشعر بالعار لما حصل لنا، وأتوق للانتقام لقتلانا فيما تبقى لي من الأيام. فكيف السبيل إلى ذلك؟»
قال له منشيوس: «يمكن لحاكم دولة صغيرة أن يطمح لتوحيد كل البلاد.
21
إذا أدرتم جلالتك البلاد من خلال حكومة رحيمة بالشعب، ولم تغالوا في العقوبات، وخففتم الضرائب، وشجعتم المزارعين على حراثة الأرض وعزقها وتعشيبها كلما لزم الأمر، ووجهتم الأقوياء والأصحاء لأن يتعلموا في أوقات فراغهم بر الوالدين ومحبة الإخوة والولاء لأميرهم والصدق في كلامهم؛ لكي يقدروا على خدمة آبائهم وإخوتهم كبار السن، وخدمة رؤسائهم والمتقدمين عليهم؛ عندما يغدو بإمكانك أن تقود شعبك للنصر على جيوش مملكة تشن ومملكة تشو، حتى إذا لم يحملوا سوى العصي الخشبية يواجهون بها عدوا مدججا بالدروع الثقيلة والأسلحة المعدنية القاطعة. إن حكام تلك الدول يعرقلون المواسم الزراعية،
22
فلا يستطيع رعاياهم أداء أعمالهم في الأرض من أجل إعالة آبائهم، فيعانون من البرد والجوع وتتشتت أسرهم. إن هؤلاء الحكام يغرقون رعاياهم في معاناة شديدة. وفي ذلك الوقت، إذا قرر جلالتك شن حملة تأديبية ضد هؤلاء الحكام، فمن يقدر على مقاومتكم؟
وعلى ما يقول المثل فإن الحاكم الرحيم لا غالب له. أرجو ألا تشك في ذلك.»
6
بعد مقابلة له مع شيانغ ملك ليانغ الجديد خرج منشيوس وقال لأحدهم: «عندما رأيته عن بعد لم أجد فيه أمارات الملوكية. وعندما اقتربت منه لم أجد فيه ما يوحي بالهيبة. وفجأة سألني: كيف يمكن تحقيق الاستقرار في البلاد؟ فأجبت: من خلال الوحدة. ثم سألني: ومن هو القادر على تحقيق الوحدة؟ فأجبت: الشخص الذي لا يحب القتل هو القادر على ذلك. فسألني: ومن الذي سوف يؤيده ويتبعه؟ فقلت: لن يتقاعس أحد في المملكة عن تأييده والسير وراءه. ألا تعرف جلالتك أمور الزراعة؟ فالمزروعات تذوي في الشهرين السابع والثامن عندما يعم الجفاف. وعندما تنعقد السحب في السماء ويهطل المطر مدرارا تنتعش المزروعات وتنتصب بحيوية. هل هناك شيء يعيقها عن ذلك؟ الآن لا يوجد حاكم في المملكة إلا ويحب القتل، ولكن إذا وجد حاكم يكره القتل، فإن أعناق الجميع سوف تشرئب ناظرة إليه، ويتقاطر إليه الناس مثل سيل جارف يتدفق نحو المنحدر لا يقدر أحد على صده.»
7
سأل شيوان ملك تشي
23
منشيوس: «هل لديك ما تحدثني به عن هوان
Huan
أمير تشي
Qi ، وعن وين
Wen
أمير جين
Jin ؟»
24
فأجابه منشيوس: «لم يذكر أحد من تلاميذ كونفوشيوس عنهما شيئا ؛ ولذلك لم يصلنا أي شيء من أخبارهما ومما قاما به، وليس عندي معلومات عنهما؛ ولذلك ما رأيك أن نتحدث عن توحيد البلاد من خلال حكم رشيد؟»
25
فسأله الملك: «ما الحكم الرشيد الذي يعين الحاكم على توحيد البلاد؟» فأجاب منشيوس: «رعاية الناس وحمايتهم. إذا فعلت ذلك فلن يعارضك أحد في توسيع سلطانك ليشمل كل البلاد.»
قال الملك: «هل بوسع رجل مثلي رعاية الناس وحمايتهم؟» فأجاب منشيوس: «بكل تأكيد.» قال الملك: «وما أدراك؟» فأجاب منشيوس: «لقد سمعت عنك القصة التالية: في أحد الأيام كنت جالسا في الطابق الأعلى من القصر عندما رأيت رجلا يقود ثورا فسألته: إلى أين تأخذ هذا الثور؟ فأجاب: سوف نذبحه لكي نكرس بدمه جرسا جديدا.
26
فقلت له: أطلق سراحه؛ لأنني لا أحتمل رؤيته وهو ينتفض من الخوف مثل إنسان بريء يقاد إلى الإعدام. فقال الرجل: هل تعني أن نلغي طقس تكريس الجرس؟ فأجبت: لا، لا يمكن إلغاء طقس التكريس، ولكن استبدل الثور بخروف.»
ثم عقب منشيوس بعد روايته للقصة قائلا: «لا أدري ما إذا كانت هذه القصة صحيحة!» فقال الملك: «إنها صحيحة.» فقال منشيوس: «طالما أن لديك قلبا كهذا فبإمكانك العمل على توحيد البلاد. لقد ظن البعض أنك بخلت بالثور، ولكنني أعلم يقينا أنك شعرت بالشفقة عليه.» قال الملك: «هذا صحيح. لقد اعتقدوا أنني بخلت به، ولا أدري لماذا؟ ربما كانت مملكة تشي صغيرة، ولكنني لست من البخل بحيث أضن بثور. كل ما في الأمر أنني لم أحتمل رؤيته مذعورا ينتفض من الخوف مثل إنسان بريء يقاد إلى الإعدام؛ ولهذا رغبت في استبداله.»
قال له منشيوس: «لا تعجب من ظن الناس أنك بخلت بالثور؛ لأنه إذا كنت تشعر بالألم لذلك الحيوان الكبير يساق إلى الذبح، فما معنى استبداله بحيوان أصغر؟ لقد رأوك تفعل ذلك ولكنهم لم يعرفوا دوافعك الحقيقية.» ضحك الملك وقال: «لا أعرف حقا ما الذي كان في ذهني آنذاك، ولكنني لست من البخل بحيث أستبدل الثور بخروف، ولكني أعرف الآن أنه لا عجب إذا قال الناس إنني بخلت.»
قال منشيوس: «لا يهم. إن ما فعلته كان صادرا عن الطيبة فيك. لقد رأيت الثور ولكنك لم تر الخروف.
27
الرجل النبيل يسعد لرؤية الحيوان الحي، ويأسى لرؤيته يموت. وإذا سمع صرخات الموت تصدر عنه، فإنه ينفر من أكل لحمه ؛ لهذا فالرجل النبيل يبقى بعيدا عن المطبخ.»
سر الملك وقال: «لقد ورد في كتاب القصائد: عندما يضمر الآخرون في القلب شيئا، فإنني أحدسه. وهذا ينطبق عليك أيها المعلم. لقد فعلت ما فعلت ولكني فشلت في معرفة دوافعي، ثم جاءت كلماتك التي مست شغاف قلبي لتطلعني عليها. والآن، لماذا تعتقد أن قلبي يصلح لتوحيد البلاد؟»
أجاب منشيوس: «لو قال لك أحدهم: إنني قادر على رفع ثلاثة آلاف جون (وحدة وزن تعادل 15 كيلوغرام)، وغير قادر على رفع ريشة. كما أنني قادر على رؤية شعرة صغيرة في طائر خريفي، وغير قادر على رؤية حمولة من الحطب، فهل تصدقه؟» قال الملك: «لا أصدقه.»
قال منشيوس: «لقد أظهرت عطفا شديدا على الحيوانات، ولكنك لا توسع هذا العطف ليشمل الناس. هل تعرف لماذا؟ إذا لم يستطع أحدهم رفع ريشة صغيرة؛ فلأنه لم يبذل جهدا. وإذا لم ير حمولة الحطب فلأنه لم يستخدم عينيه؛ وبالتالي، إذا كان الناس لا ينالون رعايتك وحمايتك؛ فلأنك لم توسع عطفك ليشملهم؛ لذلك أقول لك إذا لم تغد موحدا للبلاد فلأنك غير راغب في ذلك، لا لأنك غير قادر عليه.»
قال الملك: «ولكن ما الفرق الظاهري بين عدم الرغبة وعدم القدرة؟» أجابه منشيوس: «إذا طلب منك أن تتأبط جبل تاي وتقفز فوق بحر الشمال فقلت لا أقدر؛ فهذا مثال حقيقي عن عدم القدرة. ولكن إذا طلب منك أن تنحني احتراما أمام كبير السن وقلت لا أقدر؛ فهذا مثال على الرفض لا على عدم القدرة؛ لذلك أقول لك إن فشلك في أن تكون موحدا لجميع البلاد لا يشبه حالة القفز فوق البحر وأنت تتأبط جبل تاي، وإنما حالة من يرفض الانحناء أمام الكبار في السن.
وقر المسنين في عائلتك، ثم وسع توقيرك ليشمل كل المسنين. دلل صغار أسرتك ثم وسع هذا الدلال ليشمل كل الصغار، وسوف تجد المملكة ملك بنانك. وقد ورد في كتاب القصائد: ضرب مثلا لزوجته، ثم مده إلى إخوته، وهذا ما أهله لحكم مقاطعته فمملكته.
28
وبتعبير آخر، ينبغي توسيع هذا الخلق ليشمل جميع الناس. إن من يقدر على توسيع عطفه ورعايته سوف يكون بمقدوره حماية ورعاية كل الناس، وإلا فلن يكون بمقدوره حتى حماية زوجته وأولاده. لقد حقق القدماء نجاحات كبيرة بسبب خصيصة واحدة فيهم، وهي أنهم برعوا في توسيع عطفهم ورعايتهم. لماذا لديك كل هذا العطف على الحيوان، ولا شيء منه على الإنسان؟ إننا من خلال عملية الوزن نعرف الأثقال، ومن خلال القياس نعرف الأطوال. وهذا ينطبق على كل شيء، لا سيما معرفة خبايا الفؤاد. فهلا قست يا صاحب الجلالة ما في قلبك، أم لعلك تستمتع ببناء قوتك الحربية مخاطرا بحياة جنودك وضباطك، ومثيرا لعداوة الدول الأخرى!؟»
قال الملك: «أبدا؛ فهذه الأمور لا تسعدني، ولكني أصبو إلى تحقيق مرادي.» قال منشيوس: «وما الأمر الذي تصبو إلى تحقيقه؟» فابتسم الملك ولم يجب.
قال منشيوس: «لعله ليس عندك ما يكفي من الطعام اللذيذ الذي يشبع شهيتك، أو من الملابس الفاخرة ما يزين جسدك، أو ليس حولك من الألوان ما يسر ناظريك، أو من الموسيقى ما يشنف أذنيك، أو من الخدم ما يوفر راحتك؟ أعتقد أن موظفي البلاط قادرون على تأمين كل هذا لك، فكيف يمكن لطموحك أن يقتصر على هذه الأمور؟» قال الملك: «أبدا، هذا ليس ما أهفو إليه.»
قال منشيوس: «إذن دعني أقل لك ما هو مرادك حقا. أنت راغب في توسيع سلطانك ليشتمل على دولتي تشي وتشو، وتحكم المناطق الوسطى، وتخضع القبائل على المناطق الحدودية. ولكن تحقيق هذا الطموح بوسائلك هذه هو أشبه بتسلق شجرة من أجل اصطياد سمكة.» قال الملك: «هل الأمر بهذا السوء؟» قال منشيوس: «ربما أسوأ؛ لأن فشلك في اصطياد سمكة بتسلق شجرة لن يؤدي إلى نتائج كارثية، أما إذا بذلت كل جهد ممكن لتحقيق هدفك بمثل هذه الوسائل فمن المؤكد أن ذلك سيؤدي إلى نتائج كارثية.» قال الملك: «هلا تقول لي لماذا؟»
قال منشيوس: «إذا وقعت حرب بين جو وتشو، فمن سيفوز برأيك؟» قال الملك: «تشو سوف تفوز.» قال منشيوس: «هذا صحيح؛ لأن دولة صغيرة لا تقدر على الوقوف في وجه دولة كبيرة، والقلة لا تهزم الكثرة، والضعيف لا يصد القوي. في البلاد الآن تسع مناطق نفوذ مساحة كل منها ألف لي
Li
مربع، ومن بينها إمارة تشي. فإذا كنت بمنطقة نفوذك هذه تحاول إخضاع المناطق الثمانية الأخرى، سيكون مثلك في ذلك مثل محاولة جو هزيمة تشو؛ لهذا أقول لك دعنا نعد إلى الأساسيات.
الآن، إذا عمل جلالتك وفق مبادئ الحكم الرشيد في مملكتك، فإن كل من يبحث عن عمل حكومي سوف يطلب عملا عندك، وكل الفلاحين سيهفون إلى العمل في أراضيك، وكل التجار سيقصدون أسواقك، وكل الرحالة سيتطلعون إلى الترحال على طرقاتك، وكل من يكرهون حكامهم سيأتونك لرفع شكاواهم إليك. إذا حصل ذلك، فمن يقدر على الوقوف في وجهك؟»
قال الملك: «أنا مشوش الذهن، ولا أستطيع فهم هذه الأقوال؛ ولذلك ألتمس منك أيها المعلم أن تعينني بتوجيهات واضحة، ولسوف أعمل على تطبيقها على الرغم من بطء فهمي.»
قال منشيوس: «المثقفون فقط هم القادرون على الحفاظ على قلب ثابت دونما وسائل عيش ثابتة، أما العامة فإنهم إذا افتقدوا وسائل العيش الثابتة، فلا يقدرون على الحفاظ على قلب ثابت، وبدونه تراهم مستعدين لارتكاب كل أنواع الجرائم؛ وعندها سيتوجب عليك معاقبتهم، وسيكون ذلك مثل من ينصب فخا لاصطيادهم، فكيف يمكن لحاكم رشيد أن ينصب فخا لرعيته؟ لذا فإن العاهل الحكيم هو الذي يعمل على تأمين سبل العيش للناس لكي يقدروا على رعاية آبائهم وإعالة زوجاتهم وأولادهم، بحيث يكون لديهم طعام كاف في سنوات الوفرة، ويتفادون المجاعة في السنوات العجاف؛ وعندها يمكن أن يوجههم لسلوك سبل الخير ويحصل بسهولة على ولائهم.
إن ما اتخذته من سياسات حتى الآن قاصر عن تأمين سبل العيش للناس بما يكفي لرعاية آبائهم وإعالة زوجاتهم وأولادهم، وهم يعانون حتى في سنوات الوفرة، أما في السنوات العجاف فلا مهرب من الموت جوعا. في مثل هذه الأحوال، فإن البقاء على قيد الحياة يتطلب منهم بذل طاقة أكثر مما لديهم، فمن أين لهم أوقات فراغ لتعلم الواجبات وأصول المعاملات؟
إذا كنت يا صاحب الجلالة راغبا حقا في عمل شيء، بخصوص ما قلت، فلتركز على الأساسيات. دع أشجار التوت تزرع في كل مساحة مقدارها خمسة مو حول البيوت؛ وسوف تتهيأ لمن بلغوا الخمسين من العمر ملابس حريرية. دع الدجاج والخنازير والكلاب تربى في مواسم تكاثرها؛ ولن ينقص اللحم من موائد من بلغوا السبعين. لا تعرقل مواعيد العمل الزراعي في كل أرض مساحتها مائة مو؛ ولن تشكو الأسر الكثيرة العدد من الجوع. وجه اهتمامك للتعليم في مدارس القرى حيث يلقن الأولاد بر الوالدين ومحبة الإخوة؛ ولن ترى شيخا في الطريق يحمل أثقالا. عندما يرتدي المتقدمون بالسن الحرير ويأكلون اللحم، ولا يشكو الشعب من البرد والجوع؛ فإن حاكمهم لن يفشل في أن يكون ملكا حقا وموحدا للبلاد.»
الباب الثاني: هوي ملك ليانغ «2»
1
ذهب الوزير تشوانغ باو
Zhuang Bao
لرؤية منشيوس وقال له: «لقد استقبلني الملك (= شوان ملك تشي) وقال لي إنه يحب الموسيقى، فوقعت في حيرة ولم أعرف ماذا أقول له. فماذا تقول أنت في حب الموسيقى؟» أجابه منشيوس: «إذا كان مليكنا يحب الموسيقى فإن في ذلك خيرا لدولة تشي.»
وفي يوم آخر زار منشيوس الملك وقال له: «هل أخبرت تشوانغ باو بأنك تحب الموسيقى؟» فاحمر وجه الملك خجلا وقال: «لم أكتسب الذائقة اللازمة للاستمتاع بالموسيقى التي كان الملوك القدماء يستمتعون بها؛ فأنا أستمتع بالموسيقى الشعبية الشائعة فقط.» قال منشيوس: «إذا كنت محبا للموسيقى حقا؛ فستكون المملكة بخير. لا فرق في ذلك بين الموسيقى القديمة والموسيقى الشعبية الشائعة.» فقال الملك: «هلا تزيدني حول هذا الموضوع.»
سأله منشيوس: «أيهما أكثر متعة بالنسبة لك؛ الاستماع للموسيقى وحدك أم مع الآخرين؟» أجاب الملك: «أفضل الاستماع مع الآخرين.» فسأله منشيوس: «هل تفضل الاستماع مع القلة أم مع الكثرة؟» فأجاب الملك: «أفضل الاستماع مع الكثرة.» فقال منشيوس: «ليسمح لي جلالتك الآن أن أقول شيئا عن الاستماع إلى الموسيقى.
لنفترض الآن بأن فرقتك الموسيقية تعزف هنا. عندما يسمع الناس إيقاع الطبول والأجراس ونغمات المزامير والأبواق، يدمدمون قائلين لبعضهم البعض ورءوسهم متصدعة وجباههم معقودة: لماذا يسبب حب الملك للموسيقى لنا كل هذا الشقاء؟ لقد تفككت أسرنا، وتشتت الآباء والأولاد والإخوة والزوجات وتفرقوا.
ثم لنفترض أنك في نزهة قنص، عندما يسمع الناس ضجة عرباتك ووقع حوافر خيولك، ويرون أعلامك وراياتك الزاهية، يدمدمون قائلين لبعضهم البعض ورءوسهم متصدعة وجباههم معقودة: لماذا يسبب حب الملك للقنص لنا كل هذا الشقاء؟ لقد تفككت أسرنا، وتشتت الآباء والأولاد والإخوة والزوجات وتفرقوا.
إن السبب الكامن وراء دمدمتهم وتذمرهم هو فشلك في الاستمتاع مع الآخرين.
ولنفترض مرة أخرى أن فرقتك الموسيقية تعزف هنا، عندما يسمع الناس إيقاع الطبول والأجراس ونغمات المزامير والأبواق، يقولون لبعضهم ببهجة: لا شك أن مليكنا في أمان وعافية؛ ولهذا فإنه يستمتع بالموسيقى هناك.
ثم لنفرتض أنك في نزهة قنص، عندما يسمع الناس ضجة عرباتك ووقع حوافر خيولك، ويرون أعلامك وراياتك الزاهية، يقولون لبعضهم: لا شك أن مليكنا في أمان وعافية؛ ولهذا فإنه يستمتع بالقنص هناك.
إن السبب الكامن وراء بهجتهم، هو أنك تشاركهم المتعة؛ ولهذا أقول لك يا صاحب الجلالة أنك إذا شاركت الناس بمتعك؛ فسوف تغدو أهلا لتوحيد البلاد.
2
سأل شيوان ملك تشي منشيوس: «أحقا كان الملك وين يملك حقلا للصيد مساحته سبعون لي مربع؟» أجابه منشيوس: «هكذا ورد في التاريخ.» قال الملك متعجبا: «أحقا بهذه السعة؟» فأجابه منشيوس: «نعم، وما فتئ الناس يرون أنه صغير جدا.» قال الملك: «إن مساحة حقلي تعادل أربعين لي فقط، ومع ذلك فإن الناس يرونه كبيرا، لماذا؟»
أجابه منشيوس: «لقد كانت مساحة حقل الملك وين سبعين لي بالفعل، ولكن مجتزي العشب والحطابين كانوا أحرارا في دخوله، وكذلك صيادو الحجل والأرنب البري. لقد شارك به الناس؛ ولهذا فلا عجب أن رأوه صغيرا.
عندما وصلت حدود مملكتك للمرة الأولى، استعلمت عن المحظورات فيها قبل أن أغامر بالدخول، فقيل لي إن في ضواحي العاصمة حقل صيد مساحته أربعين لي، وإن أي من يصطاد فيه غزالا ستكون عقوبته كعقوبة من يقتل إنسانا؛ لهذا فإن مساحة حقلك لا تتعدى الأربعين لي، ولكنها تبدو مثل شرك في وسط البلاد، ولا عجب أن تبدو للناس كبيرة جدا.»
3
سأل شيوان ملك تشي منشيوس: «ما هي الطريقة الأفضل لتحسين علاقاتنا مع الممالك المجاورة؟» أجابه منشيوس: «وحده الحاكم الرحيم قادر على أن يعامل برحمة وتواضع دولة أصغر من دولته. بهذه الطريقة عامل تانغ ملك دولة شانغ
1
دولة قه
Ge .
2
وبهذه الطريقة عامل الملك وين قبيلة كون
Kun ،
3
ووحده أيضا الحاكم الحكيم قادر على خدمة دولة أكبر من دولته بتواضع، وهذا ما يفسر قيام الملك الجليل (تاي وانغ) في دولة تشو
4
بخدمة شون يو
Xun Yu ، وقيام الملك قو جيان
Gou Jian
5
بخدمة دولة وو
wu .
6
إن ملك الدولة الكبيرة يعامل الدولة الصغيرة برحمة وتواضع؛ لأنه يسعد بمشيئة السماء، وملك الدولة الصغيرة يخدم الدولة الكبيرة بتواضع؛ لأنه يقف برهبة أمام مشيئة السماء. إن من يسعد بمشيئة السماء هو الذي ينشر السلام في أرجاء البلاد،
7
ومن يقف برهبة أمام مشيئة السماء هو القادر على تحقيق الأمان لدولته. وقد ورد في كتاب القصائد: عندما تقف برهبة أمام مشيئة السماء، تحصل على بركتها.»
قال الملك: «هذا قول معبر. ولكن لدي نقطة ضعف هي هوسي بالبسالة.» قال منشيوس: «أتمنى عليك ألا يكون هوسك بالبسالة موجها نحو الصغائر، كمثل رجل يلوح بسيفه أمام آخر وهو يقول: هل تجرؤ على مبارزتي؟ هذه بسالة رجل متهور لا تنفع إلا في منازلته لخصم واحد؛ لذلك أرجو من جلالتك أن توجه بسالتك نحو الكبائر. وقد ورد في كتاب القصائد: «استعر غضب الملك، وجهز جيشه للحرب ليصد العدوان على جو
Ju ،
8
ويزيد من بركة تشو
Zhou ، ويحقق أماني أهل المملكة.» هكذا كانت بسالة الملك وين، الذي في نوبة غضب ملتهبة جلب السلام والأمن لأهل المملكة.
9
كما ورد في كتاب التاريخ: «لقد أحلت السماء البشر على الأرض، ونصبت لهم ملوكا ومعلمين؛ لكي ينقلوا لهم محبة ألوهة السماء. وكل مذنب أوبريء على ربوع الأرض لا تخطئه عيناي،
10
فكيف يجرؤ أحد تحت الشمس على معارضة مشيئة السماء؟»
وهكذا، فما دام هنالك طاغية جائر،
11
اعتبر الملك وو ذلك إهانة شخصية له. على هذه الشاكلة كانت بسالة الملك وو، الذي في نوبة غضب واحدة أحل السلام والسعادة في المملكة.
فإذا كان لك بنوبة غضب واحدة أن تحل السلام والسعادة في المملكة، فسيكون الناس تواقين لولعك بالبسالة.
4
استقبل شيوان ملك تشي منشيوس في قصر الثلج (الشتاء) وقال له: «هل يستمتع الفضلاء أيضا بما تراه هنا؟» أجابه منشيوس: «نعم يستمتعون، وعندما لا يقدرون على ذلك فإنهم يلومون حكامهم. إنه لمن الخطأ لوم الحاكم إذا لم يقدر الناس على الاستمتاع بالمتع، ولكنه من الخطأ أيضا ألا يقوم الحاكم بإشراك الناس بما يستمتع به. عندما يعتبر الحاكم مباهج الناس بهجة له، فسوف يعتبرون مباهجه بهجة لهم أيضا. وعندما يعتبر الحاكم هموم الناس هما له، فسوف يعتبرون همومه هما لهم أيضا. إذا شارك الحاكم الناس في كل مكان مباهجهم وهمومهم، غدا ملكا حقا وأهلا لتوحيد البلاد.
وذات مرة توجها لأمير جينغ
Jing
حاكم تشي
12
بالسؤال إلى وزيره يان تسي
13
قائلا: أنوي القيام بجولة تفقدية لجبلي جوانغو وتشاوو. ومن ثم أسافر على طول الشاطئ البحري وصولا جبل لانغيا. ماذا يتوجب علي فعله حتى أحاكي رحلات قدامى الملوك الحكماء التي نالت الثناء والاستحسان؟ أجابه يان تسي: سؤال مهم حقا. عندما كان أبناء السماء (أي الملوك)
14
يزورون أمراء المقاطعات،
15
كانت تدعى زيارتهم هذه تفقدية؛ أي إنهم كانوا يتفقدون المقاطعات التي يديرها الأمراء. أما إذا قصد أحد الأمراء بلاط ابن السماء، فإن مثل هذه الزيارة تدعى رفع تقرير، وهدفها الإبلاغ عما يقومون به من واجبات. لم يكن الملك يقوم بزيارة دونما هدف واضح؛ ففي الربيع كان يتفقد أعمال الحراثة لدعم من تنقصهم البذور، وفي الخريف يتفقد الحصاد لمساعدة ذوي المواسم السيئة.
وفي هذا السياق أذكر لكم قولا مأثورا من أيام أسرة شيا: «إذا لم يقم الملك برحلته، كيف لي أن أجد راحتي؟ إذا لم يقم الملك بجولته التفقدية، كيف أحصل على عونه؟»
ولكن أحوال الملوك اليوم قد تغيرت؛ فالملك يرتحل مع مجموعة كبيرة من المرافقين، ويستهلك الجميع كميات كبيرة من الطعام، والجائعون يسلبون طعامهم، والمتعبون يحرمون راحتهم، فتعلو أصوات التذمر في كل مكان، ويضل الناس في دروب الشر. وبهذا يتنكر الحاكم والأمراء لمشيئة السماء ويجلبون البؤس على الرعية. الأطعمة والأشربة تبدد كماء متدفق، وهم يمتعون أنفسهم برحلات النزهة والصيد، التي تسبب الحرج حتى لأمير المقاطعة الذي يستقبلهم. تراهم يتسكعون بين المجرى الأعلى للنهر والمجرى الأدنى، ناسين العودة من حيث أتوا. ويصطادون في البراري دونما شبع، ويشربون دون ارتواء.
الملوك الحكماء القدامى لم يكونوا ينغمسون في مثل هذه الملذات لدرجة ينسون معها طريق العودة، ولم يصطادوا ويشربوا دون ارتواء. والآن يا صاحب الجلالة، عليك أن تختار أي المثالين لكي تتبعه.
سر الأمير جيانغ لما سمعه من كلام يان تسي، فأعد التجهيزات اللازمة في العاصمة، ثم ترك البلاط إلى الأرياف حيث أخذ بتوزيع إعانات من الحبوب للمحتاجين. وبعد ذلك استدعى الموسيقيين الكبار وقال لهم: انظموا لي ألحان أغنية تعبر عن العلاقة الطيبة بين الحاكم ورعيته. وهكذا ولدت قصيدة جيشاو
Zhishao
وجوشاو
Jueshao ، التي ورد فيها: ما الخطب في نقد سلوك الملك ونصحه؟ إن في نصحه تعبيرا عن محبته.
16
5
سأل شيوان ملك تشي منشيوس قائلا: «يشير علي الجميع بأن أهدم قاعة الاحتفالات المدعوة بقاعة النور،
17
فهل أفعل ذلك أم لا؟» أجابه منشيوس: «قاعة النور هي قاعة الملوكية الحقة. إذا أراد جلالتك ممارسة الحكم الرشيد، عليكم ألا تهدموها.» سأله الملك: «هلا تبين لي ما هو الحكم الرشيد؟»
أجابه منشيوس: «في البداية كان الملك وين يحكم منطقة تشي،
18
وقد حكمها وفق ما يلي: كان الفلاحون يدفعون له ضريبة التسع من محصولهم، وكان المسئولون يتقاضون رواتب ثابتة، ولم يكن هنالك رسوم تدفع عند المنافذ الحدودية وفي الأسواق، بل مجرد رقابة عليها، ولم يكن صيد الأسماك محظورا في البحيرات. والرجال المسنون الذين لا زوجات لهم، والنساء المسنات اللواتي لا أزواج لهن، كانوا يدعون أرامل. والذين لا أولاد لهم كانوا يدعون متوحدين، والأولاد الذين توفي آباؤهم كانوا يدعون أيتاما؛ هذه الفئات الأربع من البؤساء والمحرومين الذين لا معين لهم، هي التي كانت موضع اهتمام الملك وين في ممارسته للحكم الرشيد، وكانت لها الأولوية على البقية. وقد ورد في كتاب القصائد: الأغنياء يسعدون. دعونا نتعاطف مع المحرومين.»
قال الملك بحماس: «هذا كلام جميل.» فقال منشيوس: «إذا كنت تراه جميلا فلماذا لا تطبقه؟» أجاب الملك: «عندي نقطة ضعف؛ فأنا أحب الثروة وجمع المال.»
قال منشيوس: «كان قونغ ليو
19 (سلف عشيرة تشو)
20
محبا للثروة وجمع المال. يقول عنه كتاب القصائد: كانت مخازن حبوبه مترعة، ومؤنه وافرة في الأكياس. حشد شعبه للنضال في سبيل مجد العشيرة. جهز القسي والنبال وما يلزم من سلاح، ثم شرع في مسيرته.
وبذلك فإن من بقوا كان لديهم مئونة كافية، ومن مشوا معه كانت أكياسهم ملأى، وبدون ذلك لم يكن لمسيرة القتال أن تبدأ. فإذا كنت يا صاحب الجلالة تحب الثروة وتشارك الشعب هذا الحب، فلن تواجهك صعوبة في ممارسة الحكم الرشيد.»
قال الملك: «ولكن عندي نقطة ضعف ثانية؛ فأنا مغرم بالنساء.» قال منشيوس: «في الماضي كان الملك الجليل (تاي وانغ) مولعا بالنساء ومحبا لمحظياته. وقد ورد عنه في كتاب القصائد: جاء الملك يسوق جواده الجامح على الضفة الغربية وصولا إلى جبل تشي
Qi
ومعه السيدة تشيانغ
Jiang
من أجل اختيار موقع لبناء القصر.
ولكن في أيامه لم يكن هنالك امرأة تتذمر من العزوبية أو رجل بلا زوجة. فإذا كنت يا سيدي مغرما بالنساء، وشاركت الشعب في هذا الغرام، فلن تجد صعوبة في ممارسة الحكم الرشيد.»
6
قال منشيوس لشيوان ملك تشي: «لنفترض أن أحد موظفيك أودع زوجته وأبناءه في ذمة صديقه، وسافر إلى دولة تشو لنزهة سياحية. وعندما عاد إلى بيته كانت زوجته وأبناؤه يعانون من الجوع والبرد، فماذا ستفعل بهذا الموظف؟» قال الملك: «سأصرفه من الوظيفة.»
قال منشيوس: «لنفترض أن كبير القضاة عجز عن ضبط تصرفات القضاة التابعين له، فماذا ستفعل به؟» أجاب الملك: «سأجرده من منصبه.»
ثم قال منشيوس: «وإذا فشل ملك في إدارة أمور دولته فماذا نفعل به؟» عندئذ التفت الملك يمنة ويسرة وبدأ يتحدث عن أمور أخرى .
7
قال منشيوس لشيوان ملك تشي: «عندما نتحدث عن دولة عريقة، فإننا لا نعني أنها تحتوي على أشجار ضخمة معمرة، بل إن لديها موظفين ووزراء قدماء من ذوي الخبرة الطويلة والكفاءة العالية، خدموها مدة طويلة. الآن لا يوجد لدى جلالتك مثل هؤلاء. من ترقونهم في الأمس يختفون اليوم، وأنت غير منتبه لهذا الوضع.» قال الملك: «كيف لي أن أعرف مسبقا عدم كفاءة الشخص فلا أستخدمه؟»
قال منشيوس: «في سعيه لترقية الأكفاء والأفاضل، قد يضطر الحاكم إلى تفضيل ذوي الرتبة الدنيا على ذوي الرتبة العليا، والأقارب ذوي الصلة البعدى على الأقارب ذوي الصلة القربى، مثل هذا القرار ينبغي ألا يتخذ بتسرع.
إذا قال لك كل الأتباع المقربين إن فلانا مناسب للوظيفة، فلربما لم يكن الأمر كذلك. إذا قال لك كل وزرائك إنه مناسب، فلربما لم يكن الأمر كذلك. إذا قال لك كل أهل المملكة إنه مناسب، عند ذلك عليك اختباره وتقييمه، ثم استخدامه إذا كان مناسبا.
وإذا قال لك كل أتباعك المقربين إن فلانا غير كفء، فلا تصغ إليهم في التو والحال، وإذا قال لك كل وزرائك إنه غير كفء، لا تصغ إليهم في التو والحال أيضا، ولكن إذا قال لك كل أهل المملكة إنه غير كفء، عند ذلك عليك اختباره وتقييمه وصرفه إذا كان غير كفء.
إذا قال لك كل أتباعك المقربين إن فلانا يستحق الإعدام، فلا تصغ إليهم في التو والحال، وإذا قال لك كل وزرائك إنه يستحق الإعدام، فلا تصغ إليهم أيضا في التو والحال، ولكن إذا قال لك كل أهل المملكة الشيء نفسه، عليك القيام بالتحقيق اللازم قبل إعدامه إذا كان يستحق ذلك؛ عند ذلك يقال إن كل أهل المملكة قاموا بإعدامه.
بهذه الطريقة تأخذ دور الأب والأم للشعب.»
8
سأل شيوان ملك تشي منشيوس: «هل صحيح أن الملك تانغ
21
نفى وقتل الملك جيه
Xia Jie ،
22
وأن الملك وو
Wu
23
حمل بجيشه على الملك زو؟» أجابه منشيوس: «هكذا ورد في كتب التاريخ.» فسأله الملك أيضا: «وهل يحل قتل الملوك؟» أجابه منشيوس: «إن من يخالف الرحمة هو خائن لشعبه، والذي يعيق الحق هو فاسد بطبيعته، وكلاهما طاغية منبوذ. لقد سمعت أن الملك وو قد نفذ حكم الإعدام بحق زو الطاغية المنبوذ، ولم أسمع أنه قتل ملكا.»
24
9
قال منشيوس لشيوان ملك تشي: «عندما تشرع في بناء بيت كبير تأمر كبير النجارين أن يبحث لك عن جذوع خشب كبيرة، فإذا عثر عليها تكون راضيا عنه، وتعتقد أنه صالح للمهمة، ولكنه إذا نشرها قطعا صغيرة سوف تغضب وتعتبره أهوج.
25
لنفترض أن رجلا أمضى شبابه في تعلم حرفة ما على أمل أن يضع خبرته موضع التطبيق يوما ما، ولكنك تقول له انس ما تعلمته واعمل كما أقول لك، فما الذي يحصل عند ذلك؟ ثم لنفترض أنك تمتلك قطعة من اليشم الخام لا يقدر ثمنها، فلا شك أنك ستعهد بها إلى جواهري اليشم ليصقلها وينحتها. والآن، إذا جئنا إلى شئون الدولة وقلت (لمرءوسك) انس ما تعلمته وافعل ما أقوله لك، ألا تكون في ذلك مثل من يعلم الجواهري كيف يصقل وينحت اليشم؟»
26
10
شن جيش مملكة تشي حربا على مملكة يان وهزمها، فقال الملك شيوان لمنشيوس: «البعض يشير علي بألا ألحقها بمملكتي، والبعض الآخر يشير علي بأن أفعل. إن مملكتنا ذات عشرة آلاف عربة حربية، وكذلك مملكة يان، ومع ذلك فقد هزمناهم في خمسين يوما فقط، وهذا أمر لم يتحقق بقدراتنا فقط؛ لذلك أخشى أن تأتيني المصائب من السماء (التي مكنتني من النصر) إذا لم ألحقها، فماذا تقول؟»
فقال منشيوس: «إذا كان إلحاق مملكتهم بك يسعد شعبها فألحقها. لقد قام الملك وو قبلك بمثل هذا.
27
أما إذا كان ذلك لا يسعدهم فلا تفعل، فمن قبلك لم يقم الملك وين بمثل هذا.
28
عندما هاجم جيشك القوي ذو العشرة آلاف عربة حربية جيش يان ذا العشرة آلاف عربة حربية أيضا، خرج أهل يان لاستقبال جيشك بسلال الطعام وقوارير الشراب؛ وذلك لسبب واحد وهو أنهم كانوا يريدون الخلاص من هاوية العذاب الذي هم فيه. ولكنك إذا ألحقتها لكي تدفع بهم إلى مزيد من العذاب، فسوف يديرون وجوههم عنك.»
11
بعد أن هزم جيش تشي مملكة يان واستولى عليها، قام أمراء بقية المقاطعات بالتخطيط لمساعدتها، فسأل شيوان ملك تشي منشيوس: «إن عددا من أمراء المقاطعات يفكرون في مهاجمتي، فماذا أفعل حيال ذلك؟»
أجابه منشيوس: «لقد سمعت عن رجل غدا موحدا للبلاد رغم أنه جاء من دولة صغيرة لا تتعدى مساحتها سبعين لي، وهو الملك تانغ. فكيف لحاكم دولة مساحتها ألف لي أن يخشى أحدا؟ لقد ورد في كتاب التاريخ: الملك تانغ بدأ حملاته التوحيدية بمهاجمة مملكة قه
Ge . وكانت البلاد كلها تثق بالملك شانغ، فكان إذا زحف باتجاه الشرق تذمرت قبائل الغرب، وإذا زحف نحو الجنوب تذمر أهل الشمال، والكل يقول: لماذا لا يأتي إلينا أولا؟ لقد تطلع إليه الناس مثلما يتطلعون إلى الغيم الماطر في أيام الجفاف. الحوانيت لم تغلق أبوابها، والذين يحرثون الأرض تابعوا عملهم، ولم تكن هناك أي عرقلة لمواسم العمل الزراعي. لقد قتل الطاغية وأراح الشعب، فكان مثل الغيث يأتي في أوانه ويسعد به الناس. وقد ورد في كتاب التاريخ: نحن بانتظار سيدنا، فمتى يأتي لإنقاذنا؟
لقد كان ملك يان يضطهد رعيته، فسرت أنت إليه لكي تعاقبه، فظن الناس أنك قادم لإنقاذهم من الماء والنار، فخرجوا للقاء جيشك حاملين سلال الطعام وقوارير الشراب، ولكنك ذبحت آباءهم وإخوتهم الكبار، وسجنت أولادهم وإخوتهم الصغار، وهدمت معابد أسلافهم ونهبت أوانيهم الطقسية، فكيف يمكن التسامح مع ما حصل؟
بقية البلاد كانت تخشى مملكتكم تشي القوية، ولكنكم ضاعفتم مساحة نفوذكم دون أن تمارسوا الحكم الرشيد، فجلبتم على أنفسكم خطر هجوم أمراء المقاطعات. والآن، إذا أصدرت على وجه السرعة مرسوما يقضي بإطلاق سراح الأسرى كبارا وصغارا، وإيقاف عمليات النهب، ثم تشاورت مع أهالي يان بشأن تعيين حاكم جديد عليهم قبل أن تنسحبوا من أرضهم، فسوف تتفادى خطر الهجوم المتوقع.»
12
بعد نزاع مسلح بين دولتي تسو
Zou
ولو
Lu ، سأل مو
Mu
أمير تسو منشيوس: «ثلاثة وثلاثون من مسئولي الدولة ماتوا في الحرب، ولم يدافع عنهم حتى الموت أحد من العامة . وإني لأفكر بأن أرسل هؤلاء إلى الإعدام، ولكن المشكلة أن عددهم كبير، وإذا لم أفعل فلن يرتاح بالي وأنا أفكر بهم واقفين ينظرون دون أن يمدوا يدا لعون أولئك المسئولين، فماذا أفعل؟»
أجابه منشيوس: «في سنوات الشدة والمجاعة كان الكبار والضعفاء يموتون واحدا تلو الآخر في العراء، أما الشباب والأقوياء فكانوا يفرون بالآلاف في كل اتجاه، وحدث ذلك عندما كانت عنابركم ملأى بالحبوب ومخازنكم ملأى بالكنوز، ولم يطلعك أولئك المسئولون على بؤس الرعية. لقد خدعوك، وكانوا قساة مع الشعب ... وقد قال تشنغ تسي:
29
احذر، احذر، مثلما تعامل الناس سوف يعاملونك.
ولقد أتيحت الآن الفرصة للناس لأن يعاملوا المسئولين بالفشل، فلا تلومنهم. واعلم أنك إذا مارست الحكم الرشيد فلسوف يحب الناس رؤساءهم ويموتون دفاعا عنهم إذا تطلب الأمر ذلك.»
13
سأل وين
Wen
أمير تينغ
Teng
منشيوس: «إن دولة تينغ صغيرة، وهي تقع بين مملكة تشي ومملكة تشو الكبيرتين، فلأي منهما أتبع؟»
فأجابه منشيوس: «لست مؤهلا لإعطاء رأي في هذا الموضوع، ولكنني أقول: احفر خنادقك بعمق وحصن أسوارك، ودافع عنها كتفا لكتف مع شعبك؛ عندها سوف يستميتون دونك ولا يتركونك، وقد تجد لهذا المأزق مخرجا.»
14
سأل وين أمير تينغ منشيوس: «إن رجال دولة تشي يهبون لتحصين شوي
Xue
قرب إمارتي، وأنا خائف جدا من ذلك. فماذا أفعل؟»
أجابه منشيوس: «عندما كان الملك الجليل
30
يقيم في بن
Bin ، أغارت عليه قبائل الشمال عدة مرات، فارتحل وأقام عند سفح جبل تشي. لم يفعل ذلك مختارا وإنما اضطر إليه. إذا قمت بعملك على أفضل وجه وفعلت ما هو حسن، فإن واحدا من نسلك سيغدو موحدا للبلاد.
31
إن ما يفعله الرجل النبيل عندما يبدأ مشروعا، هو وضع الأساسات التي سيبني عليها من يأتي بعده، ويترك الأمر بعد ذلك لمشيئة السماء. أما بخصوص ما يتوجب عليك فعله تجاه تشي، فأقول لك: قم بعملك على أفضل وجه وافعل ما هو خير.»
15
سأل وين أمير تينغ منشيوس: «إن تينغ دولة صغيرة، وأنا أبذل ما بوسعي لخدمة الدول الكبيرة دون أن أفلح في إرضائها ، فماذا أفعل؟»
أجابه منشيوس: «في الماضي عندما أقام الملك الجليل في بن، أغارت عليه قبائل الشمال مرارا وتكرارا. دفع لهم الجزية من الفراء والحرير ليردهم عنه ولكنه فشل. دفع لهم الجزية من الكلاب والخيل ليتفادى أذاهم، ولم يحقق شيئا. دفع لهم الجزية من اللآلئ واليشم ولم تكن النتيجة أفضل. وأخيرا جمع أعيان الشعب وقال لهم: إن ما يطلبه أهل القبائل هو أرضنا، وإني لأعرف أن الحاكم لن يجعل من الأرض التي جعلت لرزق رعيته مصدر أذى لهم؛ ولذلك سوف أرحل ولن تجدوا صعوبة في اختيار حاكم آخر لكم.
32
ثم غادر بن واجتاز جبال ليانغ
Liang
وبنى لنفسه مدينة عند سفح جبل تشي وأقام هناك. عند ذلك قال الناس لبعضهم: لقد كان حاكما صالحا وعلينا ألا نخسره. ثم راحوا يتقاطرون إليه مثلما يتقاطرون إلى ساحة السوق. وعبر البعض عن رأي مختلف وقالوا: هذه أرض أسلافنا ولا يحق لأحد أن يتخلى عنها، وعلينا أن نستميت في الدفاع عنها.
والآن عليك يا سيدي أن تختار بين هذين الطريقين.»
16
كان بينغ أمير لو على وشك مغادرة القصر عندما سأله الموظف المفضل عنده جانغ تسانغ
Zang Cang
بأدب: «لقد جرت عادتك أن تخبر الموظفين قبل مغادرتك عن وجهتك، ولكنني أرى أن العربة معدة والجياد جاهزة، والموظفون لا يعرفون حتى الآن إلى أين تذهب، فهل يسمح لي مولاي بسؤاله عن وجهته؟»
أجابه الأمير: «أنا ذاهب للاجتماع بمنشيوس.» فقال له جانغ تسانغ: «لماذا تحط من قدرك بزيارة رجل بلا مكانة؟ هل لأنك تعتقد أنه رجل فاضل؟ إن الرجل الفاضل عليه أن يلتزم بالطقوس والأعراف، ولكن منشيوس لم يفعل عندما أقام جنازة لأمه فاقت جنازة أبيه.
33
أتمنى عليك ألا تذهب لرؤيته.» قال الأمير: «في هذه الحالة لا أذهب.»
بعد وقت قصير جاء الموظف الآخر يوجنغ تسي
34
لزيارة الأمير وقال له: «لماذا لم يذهب مولاي للقاء منشيوس؟» فأجابه: «لقد بلغني أنه أقام جنازة لأمه فاقت جنازة أبيه؛ ولهذا عدلت عن لقائه.»
فسأله يوجنغ تسي ثانية: «ماذا تعني بكلمة فاقت؟ هل لأنه قام بإجراءات جنازة أبيه بما يتفق ومكانة مثقف، بينما قام بإجراءات جنازة أمه بما يتفق ومكانة وزير؟ أم لأنه قدم قربان جنازة أبيه في ثلاثة أوان طقسية،
35
وقربان جنازة أمه في خمسة؟»
أجاب الأمير: «ليس الأمر كذلك، بل لأن التابوت والتابوت الداخلي وحلة القبر في جنازة الأم كانت أفخم مما يجب.» قال يوجنغ تسي: «إن كلمة فاقت إذن لا تعبر عن واقع الحال، كل ما في الأمر هو أن وضعه المالي وقت جنازة أمه كان أفضل منه وقت جنازة أبيه.»
بعد ذلك لقي يوجنغ تسي منشيوس وقال له: «لقد ذكرتك عند مولاي الأمير، وكان عازما على الاجتماع بك، ولكن الموظف الأثير لديه جانغ تسانغ جعله يعدل عن ذلك.»
قال له منشيوس: «إذا أقدم الإنسان على عمل ما، فهنالك ما حثه على ذلك، وإذا امتنع فهنالك ما منعه، وفي كلا الحالتين فإن الإقدام أو الإحجام ليس بيدنا. مشيئة السماء وحدها هي التي حالت بيني وبين لقاء الأمير، فأنى لذلك الموظف أن يكون مسئولا عن ذلك؟»
الباب الثالث: قونغ صن تشو «2»
1
سأل قونغ صن تشو
Gong-sun Chou
1
منشيوس: «إذا قيض لك أيها المعلم أن تمسك بزمام الحكم في دولة تشي، هل ستكون بكفاءة قوان جونغ
Guan Zhong
2
ويان تسي
Yan Zi ؟»
3
أجابه منشيوس: «إنك حقا من مواطني دولة تشي. أنت لا تعرف سوى قوان جونغ ويان تسي؛ لذلك دعني أقل لك ما يلي: سأل أحدهم مرة تسينغ شي
Zeng Xi :
4
أيها المحترم، من الأفضل، أنت أم تسو لو
Zi Lu ؟
5
فأجابه تسينغ شي بعدم ارتياح: تسي لو كان الشخص الأكثر تقديرا عند جدي. ثم سأله السائل ثانية: إذن هل تخبرني من الأفضل، أنت أم قوان جونغ؟ فأجابه تسينغ شي: لماذا تقارنني بشخص مثل قوان جونغ؟ لقد حاز على ثقة مطلقة من أميره وأدار البلاد إلى جانبه مدة طويلة، ولكنه لم يحقق إنجازات تذكر، فكيف أقارن به؟ فإذا كان تسينغ شي (والكلام هنا لمنشيوس) قد رفض أن يقارن بقوان جونغ، هل تعتقد بأنني أقبل مثل هذه المقارنة؟»
قال قونغ صن تشو معترضا: «ولكن قوان جونغ، يا معلم، ساعد أميره على بسط سلطانه على بقية الأمراء،
6
أما يان تسي فقد ساعد أميره على تحقيق شهرة كبيرة،
7
فلماذا ترى أنهما لا يستحقان المقارنة بك؟» أجابه منشيوس: «لقد كان بإمكانهما رفع دولة تشي إلى الصدارة وتوحيد البلاد بسهولة، ولكنهما لم يفعلا ذلك.»
8
قال التلميذ: «صرت الآن في حيرة؛ فالملك وين
9
بكل ما تمتع به من فضائل، وعمر مديد قارب المائة عام، لم يفلح في بسط نفوذه على كل البلاد، وفعل ذلك من بعده الملك وو
10
والأمير تشو.
11
فإذا كنت تظن أن من السهل على مليكنا توحيد البلاد، ألا يعني هذا أن طريق الملك وين لا يصلح نموذجا للمحاكاة؟»
قال منشيوس: «أنا لا أوافق على وضع الملك وين في مقارنة كهذه؛
12
فمن تانغ ملك شانغ إلى وو دينغ،
13
تتابع على الحكم ستة أو سبعة ملوك حكماء، وخضعت البلاد لسلطة ملوك ين
14
مدة طويلة، والذي يغدو طويلا من الصعب تغييره. لقد كسب وو دينغ ولاء أمراء المقاطعات وأدار البلاد بسهولة ويسر كمن يقلبها بين أصابعه. وبما أن عهد الملك زو
15
لم يكن بعيدا عن عهد وو دينغ؛ فقد بقيت آثار من تقاليد الحكم الفاضل السابق فاعلة في تقاليد الحكم اللاحق. وعلينا هنا ألا ننسى ما قدمه وزراء صالحون للملك زو من عون في إدارته للملكة، ومنهم: وي تسي، ووي جونغ، وبي جان، ويي تسي، وجياو قيه؛ ولهذا فقد طال به الزمن قبل أن يفقد سلطانه.
16
لقد امتدت سلطة الملك زو على مساحة البلاد بأكملها، ودان له كل من فيها من بشر. أما الملك وين فقد انطلق بثورته من دولة لا تزيد مساحتها عن مائة لي مربع.
17
وقد ورد في قول مأثور لدى أهالي تشي: قد تكون ذكيا، ولكن عليك أن تنتظر فرصتك. قد يكون لديك رفش أو معزقة، ولكن عليك أن تنتظر الموسم.
18
ولكن الوضع قد تغير الآن؛ ففي ذروة قوة ممالك شيا وين وتشو ما كانت مساحة أي منها تزيد عن الألف لي مربع، أما الآن فإن مملكة تشي لديها مساحة واسعة، كما أن أصوات خوار البقر ونباح الكلاب التي تسمع في جميع أرجائها تنبئ عن كثرة سكانها. وحتى بدون أن تسعى إلى زيادة مساحتها أو عدد سكانها، فإن ملكها مهيأ لتوحيد البلاد إذا مارس الحكم الرشيد، ولن تقدر قوة على منعه من ذلك.
لقد تأخر ظهور ملك فاضل عن موعده كثيرا، ولم يكن ظهوره متوقعا أكثر مما هو الآن. كما أن الرعية لم تعان من قسوة الحكم أكثر مما تعاني الآن؛ الجياع لا يهمهم ماذا يأكلون، والعطاش لا يهمهم ماذا يشربون.
19
ولقد قال كونفوشيوس مرة: إن أثر الحكم الفاضل ينتقل بأسرع مما تنتقل المراسيم الإمبراطورية عبر محطات البريد.
إذا قامت دولة ذات عشرة آلاف مركبة حربية اليوم بتبني الحكم الرشيد، فإن الناس في كل مكان سيبتهجون كما لو أنهم كانوا معلقين من كواحلهم ثم أنزلوا؛ لذا فإننا إذا بذلنا الآن نصف ما بذله الأولون من جهد، فسوف نحقق ضعف ما حققوه من نتائج.»
2
قونغ صن تشو سأل منشيوس: «يا معلم، لو أنك صرت كبير الوزراء في دولة تشي، ووضعت مبادئك موضع التطبيق، فلن يكون من المستغرب أن تفلح في عون مليكنا على بسط نفوذه على بقية الدول أو على توحيد البلاد، فهل ستثور الرغبات في داخلك نتيجة لذلك؟» أجابه منشيوس: «أبدا؛ فالرغبات لم تثر في داخلي منذ أن بلغت الأربعين من العمر.»
20
قال قونغ صن تشو: «في هذه الحالة فقد تفوقت على البطل مينغ بن
Meng Ben
في قديم الزمان.» قال منشيوس: «لم يكن الأمر بهذه الصعوبة؛ ذلك أن قلب قاو تسي
21
لم يضطرم بالرغبات منذ أن كان أصغر سنا من ذلك.»
قال قونغ صن تشو: «هل هنالك من طريق تحول دون هيجان الرغبات؟» أجابه منشيوس: «نعم. لقد رعى بي كونغ يو
22
شجاعته وجرأته بهذه الطريقة؛ لم يكن يتراجع ولو بلغت الطعنة جسده، أو يدير وجهه ولو بلغت الطعنة عينه. كان يعتبر الإهانة الصغيرة مثل الجلد في السوق العام. لم يكن يقبل الإهانة من ملك دولة كبيرة مثلما لم يكن يقبل الإهانة من رجل عامي يرتدي الأسمال. كان مستعدا لطعن أمير استعداده لطعن فقير. لم يكن يقف برهبة أمام أمير، ويرد بالتأكيد على أي عبارة فظة تصدر عنه.
أما مينغ شي شيه،
23
فقد رعى شجاعته بطريقة أخرى؛ فقد قال: عندما أواجه عدوا يصعب قهره، فإني أعتبره قابلا للهزيمة. إذا لم تغش الوغى إلا بعد تقدير قوة الخصم، أو بعد حساب فرص الربح؛ فأنت جبان أمام عدو متفوق. هل أنا واثق من النصر في كل معرفة أخوضها؟ كل ما أفعله هو أن أقف بلا مخاوف.
إن شجاعة مينغ شي شيه تشبه شجاعة تسينغ تسي، أما شجاعة بي كونغ يو فتشبه شجاعة تسي شيا.
24
من الصعب أن نقول من المتفوق بينهما، ولكن تسينغ تسي يقبض على ما هو أساسي.
ذات مرة، سأل تسينغ تسي تسي شيانغ:
25
هل أنت مغرم بالشجاعة؟ لقد سمعت قولا للمعلم (كونفوشيوس) عن الشجاعة القصوى هذا مفاده: إذا تأملت ذاتي ووجدت أنني على خطأ؛ فلن أكون عندها قادرا على إخافة خصمي ولو كان رجلا من العوام يرتدي الأسمال البالية. وإذا تأملت ذاتي ووجدت أنني على حق؛ فسوف أواجه جيشا يعد بالآلاف.
إن مينغ شي شيه يحافظ على حيويته الجريئة، ولكنه ليس بمستوى تسينغ شي الذي يقبض على ما هو أساسي.»
26
قال قونغ صن تشو: «هلا تشرح لي الفرق بينك وبين قاو تسي في مسألة عدم اضطراب القلب بالرغبات؟» قال منشيوس: «حسنا. سمعت عن قاو تسي قوله: إذا فشلت في فهم الكلمات لا تدع قلبك يغتم لذلك، وإذا فشلت أن تفهم بقلبك لا تلذ إلى قوتك الحيوية (Ch’i =) . من الصواب ألا يلوذ المرء إلى قوته الحيوية عندما يفشل في أن يفهم بقلبه، ولكن من الخطأ ألا يغتم قلبه إذا فشل في فهم الكلمات. الإرادة هي التي تحكم على القوة الحيوية، أما القوة الحيوية فإنها تتخلل الجسد، إلى المدى الذي تتطلع إليه الإرادة تصل إليه القوة الحيوية؛ لذلك يقال: حافظ على قوة إرادتك، ولا تسئ استخدام طاقتك الحيوية.»
فسأله قونغ صن تشو: «طالما أن الطاقة الحيوية تصل إلى المدى الذي تتطلع إليه الإرادة، فكيف تقول لي أن أحافظ على قوة إرادتي ولا أسيء استخدام طاقتي الحيوية؟» أجابه منشيوس: «ركز إرادتك على أمر ما فتتوجه إليه طاقتك الحيوية. وجه قوتك الحيوية إلى أمر ما فتنتقل إليه إرادتك أيضا. الركض والتعثر يؤثران على الطاقة الحيوية، ولكنهما يحدثان أيضا خفقانا في القلب.»
قال قونغ صن تشو: «هل لي أن أسألك يا معلم في أي الأمور براعتك؟» أجابه منشيوس: «عندي تبصر بالكلمات، وأعرف كيف أنمي في قوة حيوية دافقة.» فسأله ثانية: «ماذا تعني بالقوة الحيوية الدافقة؟» أجابه منشيوس: «من الصعب شرح ذلك، ولكني أقول إنها في ذروتها واسعة ولا يمكن قهرها. إذا تمت رعايتها ولم توضع في طريقها العقبات، فسوف تملأ الفضاء بين السماء والأرض. ولكن إذا لم يتم دعمها بالاستقامة ومبادئ الحق فسوف تفقد زخمها. وهي تتولد عن تراكم الأعمال الفاضلة ولا يمكن لأحد أن يدعيها لمجرد قيامه بأعمال صالحة متفرقة. وعندما يقوم المرء بأعمال لا ترقى إلى مستوى المعايير التي وضعها قلبه فسوف تتلاشى؛ ولهذا أقول إن قاو تسي لا يعرف ما هي الاستقامة؛ لأنه يراها كشيء خارجي. عليك أن تعززها دوما، ولا تدعها تغب عن ذهنك، وفي الوقت نفسه لا تعجل في نموها بالقسر، فتكون مثل ذلك المواطن من دولة صونغ، وهذه قصته: شعر مواطن صونغ بالحسرة لبطء نمو شتلاته في الحقل، فشدها إلى الأعلى ثم مضى إلى بيته متعكر المزاج، وقال لأسرته: كم أنا متعب اليوم! لقد أعنت شتلاتي على النمو. فهرع ابنه إلى الحقل ليرى الشتلات ذابلة.
هنالك قلة من الناس لا تحاول تسريع نمو شتلاتها. البعض يتركونها بلا عناية لاعتقادهم بأن أي تدخل من قبلهم لن يكون بذي فائدة، فلا يقومون حتى بالتعشيب. والبعض الآخر يحاول تسريع نمو الشتلات وذلك بشدها نحو الأعلى، وهذا لا يساعد على نموها بل يسبب لها الأذى.»
سأله قونغ صن تشو مرة أخرى: «ماذا تعني بقولك إن لديك تبصرا بالكلمات؟» أجابه منشيوس: «عندما تكون الكلمات متحيزة، أرى كيف يكون المتكلم كفيف البصر. وإذا كانت الكلمات تفتقر إلى التواضع، أرى كيف يكون المتكلم محبا للظهور. وإذا كانت فاسقة، أرى كيف يكون منحرفا عن الطريق القويم. وإذا كانت مراوغة، أرى في أي ورطة أوقع نفسه فيها. إن الكلمات التي تصدر عن العقل سوف تعبر عن نفسها في السياسة وتؤثر على العمل الحكومي.
لو قيض لحكيم أن يظهر في هذه الأيام فسوف يصادق على ما قلته الآن.»
قال قونغ صن تشو: «كان كل من تساي وو
Zia Wo ،
27
وتسي قونغ
Zi Gong
28
بارعين في البلاغة. وران نيو
Ran Niu ،
29
ومين تسي
Min Tzi ،
30
وين هوي
Yin Hui ، بارعين في شرح مبادئ الأخلاق. أما كونفوشيوس فكان بارعا في الاثنين، ومع ذلك فقد قال إنه ليس بارعا تماما في البلاغة. فإذا كان الأمر كذلك، ألا يعني هذا أنك قد بلغت مرتبة الإنسان الكامل؟»
أجابه منشيوس: «إنك تبالغ في الأمر. ذات مرة سأل تسي قونغ كونفوشيوس: هل أنت إنسان كامل أيها المعلم؟ أجابه كونفوشيوس: لا أقدر على أن أكون إنسانا كاملا. أنا شخص لا يشبع من التعلم ولا يتعب من التعليم. فقال تسي قونغ: إذا كنت لا تشبع من التعلم، فهذا يعني أنك واسع المعرفة. وإذا كنت لا تتعب من التعليم، فهذا يدل على أنك رجل فاضل. وهكذا فبجمعك لسعة المعرفة والفضيلة تغدو إنسانا كاملا أيها المعلم.
فإذا لم يسمح كونفوشيوس لنفسه أن يعتبر إنسانا كاملا، فمن العجب أن تدعوني أنت إنسانا كاملا.»
قال قونغ صن تشو: «سمعت أنه في الماضي حاز كل من تسي شيا
Zi Xia ، وتسي يو
Zi You ،
31
وتسي جانغ
Zi Zhang ،
32
على بعض خصائص الإنسان الكامل، أما كل من ران نيو
Ran Niu ، ومن تسي
Min Tzi ، ويان يوان
Yan Yuan ، فكانوا صورة مصغرة عن الإنسان الكامل، فإلى أي المرتبتين أيها المعلم تنسب نفسك؟» أجابه منشيوس : «لندع الحديث في هذا الموضوع الآن.»
قال قونغ صن تشو: «ماذا تقول في بو يي
Bo Yi ،
33
وين ين
Yin Yin ؟»
34
أجابه منشيوس: «لكل منهما طريق يختلف عن طريق كونفوشيوس؛ فالأول لم يكن يخدم ملكا لا يستحق خدمته، ولا يدير شئون رعية لا تستحق إدارته ، ويقبل العمل الوظيفي عندما يسود النظام في الدولة، ويرفض ذلك عندما تسود الفوضى. أما الثاني فكان يخدم أي ملك، ويدير شئون أية رعية، ويقبل العمل الوظيفي سواء أساد النظام في الدولة أم سادت الفوضى. وأما كونفوشيوس فكان يقبل العمل الوظيفي إذا رآه مناسبا، ولا يقبله إذا رآه غير مناسب، ويبقى في منصبه إذا استطاع، ولا يبقى إذا لم يستطع، وكل ذلك تبعا للظروف. كلهم كانوا حكماء في الماضي، ولكني إذا خيرت اخترت طريق كونفوشيوس.»
سأله قونغ صن تشو: «إذا قارنا بين هؤلاء الثلاثة، هل نضعهم في نفس المرتبة؟» أجابه منشيوس: «كلا؛ فمنذ بداية التاريخ لم يظهر شخص آخر مثل كونفوشيوس.» فسأله ثانية: «هل كان بينهم أشياء مشتركة؟» أجابه منشيوس: نعم. لو أن أحدهم صار حاكما لمنطقة لا تزيد عن المائة لي، فسيغدو قادرا على توحيد البلاد، والحصول على طاعة أمراء الإقطاعات الذين سيتوافدون إلى بلاطه للإصغاء إليه. ولكن لو كان عليه القيام بأعمال جائرة، أو قتل إنسان بريء مقابل ذلك لما فعل، هذا هو الشيء المشترك بينهم.»
فسأله قونغ صن تشو أيضا: «وما هي نقاط الاختلاف بينهم؟» أجابه منشيوس: «تساي وو، وتسي قونغ، ويو رو
You Ruo
على درجة من الذكاء تؤهلهم لتقدير الإنسان الكامل (= كونفوشيوس)، ولم يكونوا من الدناءة بحيث يتملقون معلمهم، وقد قال تساي وو: إن المعلم في رأيي يتفوق كثيرا على ياو
Yao ، وشون
Shun .
35
وقد قال تسي قونغ: من خلال شعائر دولة ما، كان المعلم يفهم أساليب الحكم فيها، ومن خلال موسيقاها، كان يعرف الطبيعة الأخلاقية لحكامها. وإذا نظر اللاحقون بعد مائة جيل إلى ما فعله الملوك طوال هذه الأجيال، وجدوا أنه ليس بمقدور أي ملك حكيم مخالفة تعاليم كونفوشيوس. منذ بداية التاريخ إلى يومنا هذا لم يظهر إلا كونفوشيوس واحد، وقد قال يو رو: التميز ليس وقفا على الجنس البشري؛ فوحيد القرن ينتمي إلى نوع من الحيوان، والعنقاء
36
إلى نوع من الطيور، وجبل تاي ينتمي إلى نوع من المرتفعات، والبحر والنهر الأصفر ينتميان إلى الطبيعة المائية التي للقنوات والجداول ، والإنسان الكامل (= كونفوشيوس) ينتمي إلى الجنس البشري، ورغم أنه واحد منهم إلا أنه يحلق عاليا فوق جموعهم.»
3
قال منشيوس: «من يلجأ إلى القوة تحت ستار الإحسان قد يغدو سيدا على ممالك أخرى، ولكنه لكي ينجح في ذلك عليه أن يكون حاكما على دولة كبيرة. أما من يضع الإحسان في التطبيق من خلال الحكم الفاضل فسيغدو ملكا حقا. ولن يتوقف نجاحه على كونه حاكما لدولة كبيرة؛ فلقد كان تانغ (الذي أسقط أسرة شيا) حاكما على مقاطعة مساحتها سبعين لي مربع، وكان وين حاكما على دولة مساحتها مائة لي مربع، عندما هزم الطاغية زو وأسقط أسرة شانغ. إن النصر باستخدام القوة العسكرية لن يؤدي إلى اكتساب قلوب الناس، وهم لن يخضعوا طواعية وإنما لعجزهم عن المقاومة. أما تحقيق النصر من خلال الإحسان وتطبيق الحكم الفاضل، فسوف يؤدي إلى اكتساب قلوب الناس وخضوعهم طواعية، كما فعل التلاميذ السبعون بخضوعهم لمعلمهم كونفوشيوس. وقد ورد في كتاب القصائد: من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، لم يوجد من استنكف عن الخضوع.»
4
قال منشيوس: «الرحمة تجلب الشرف، والقسوة تجلب العار. اليوم بعض الحكام يلجئون إلى القسوة ويكرهون أن يلحق بهم العار، وهم في ذلك مثل من يكرهون الرطوبة ولكنهم يبقون في الأماكن الواطئة. إذا كره الحاكم أن يلحق به العار، فإن أفضل طريقة لتجنبه هي أن يكرم المثقفين، ويعلي من شأن الفضيلة، ويعهد بالمناصب الحكومية للصالحين، وبالمهام الرسمية لمن هو أهل لها، ويستغل أوقات السلم في دعم وإصلاح مؤسسات الدولة، وشرح القوانين للشعب؛ عند ذلك سوف ترهبه حتى الدول الكبر. وقد ورد في كتاب القصائد: قبل أن تكفهر السماء وتمطر، أقشر لحاء شجرة التوت، وأدعم به نوافذي وأبوابي، عندها لن يجرؤ أحد من الناس على معاملتي باستعلاء.»
وقد علق كونفوشيوس على هذا المقطع بقوله: لقد أدرك كاتب هذا الشعر لب المسألة. فإذا كان الحاكم قادرا على إحلال النظام في دولته فلن يستعلي عليه أحد.
والآن، إذا أنفق حاكم في فترات السلم أوقاته في المتع والدعة ، فإنه بهذا يستعجل الكارثة؛ لأن الكارثة أو البركة رهن باختيار المرء. وقد ورد في كتاب القصائد: كن دوما رهن مشيئة السماء، ولكن اطلب البركة بنفسك.
وبكلمات أخرى وردت في التاي جيا
Tai Chia :
37
هنالك أمل في تجنب البلايا التي تأتي من السماء، أما البلايا التي تأتيك من نفسك فلا راد لها. وهذا يشرح كل ما قلته.»
5
قال منشيوس: «إذا احترم الحاكم الفاضل، واستخدم الكفء، ووضع المتميزين في المناصب العليا؛ فإن كل المثقفين في البلاد سيهفون إلى العمل في بلاطه. وإذا أعفى البضائع من الضريبة في الأسواق إذا كان هنالك ضريبة مفروضة على المخازن، وأعفى المخازن من الضريبة إذا كان هنالك ضريبة مفروضة على الأرض؛ فإن كل التجار سيأتون من جميع أنحاء البلاد للمتاجرة في أسواقه. وإذا كان التفتيش يتم عند الثغور الحدودية بدل تحصيل الضرائب؛ فإن كل المسافرين في البلاد سوف يجعلون طرقهم تمر من أراضيه. وإذا سمح للفلاحين بالعمل في الحقول العامة لقاء الضرائب المستحقة عليهم في أراضيهم؛ فإن كل فلاحي البلاد سيكونون سعداء للعمل على أراضيه. إذا ألغى فرض الخدمة العسكرية الإلزامية التي تنوب عن السخرة، والضرائب الإضافية المفروضة على المساكن والمنازل؛ فإن الناس في كل مكان سيأتون للسكن في بلاده. فإذا قام بكل هذه الأعمال الحسنة المذكورة أعلاه؛ فإن سكان الدول المجاورة سيعتبرونه أما وأبا لهم. وبما أنه منذ بداية التاريخ لم ينجح أحد في استعداء الأولاد على آبائهم، فإن مثل هذا الحاكم لا غالب له، والحاكم الذي لا غالب له سيد بمشيئة السماء، ولم يحدث من قبل أن مثله قد فشل في أن يكون ملكا حقا موحدا لجميع البلاد.»
38
6
قال منشيوس: «كل البشر يتمتعون بقلب رحيم يأسى لعذابات الآخرين. الملوك القدماء كان لديهم قلوب رحيمة، وقد انعكس ذلك في ممارستهم للحكم الرءوف. بقلب حنون وحكم رءوف تنقاد البلاد إلى الحاكم وتغدو طوع بنانه.
وما أعنيه بقولي إن كل البشر يتمتعون بقلب رحيم ومتعاطف يأسى لعذابات الآخرين هو التالي: لو أن أي إنسان رأى فجأة طفلا على وشك السقوط في بئر، سيتحرك في داخله شعور بالجزع والتعاطف، لا طلبا للشكر والعرفان من أبوي الطفل، ولا طمعا في مديح جيرانه وأقربائه، ولا لنفوره من سماع صراخ الطفل.
من هنا يمكن القول بأن الذي لا يمتلك قلبا رحيما متعاطفا ليس بإنسان، وكذلك من لا يمتلك الشعور بالخجل، ومن لا يمتلك التواضع والكياسة، ومن لا يميز الصواب من الخطأ. إن التعاطف هو بداية (أو بذرة) الإحسان، والخجل هو بداية الصلاح، والتواضع هو بداية قواعد الأدب، والتمييز بين الصواب والخطأ هو بداية الحكمة.
هذه البدايات الأربع هي بمثابة الأطراف الأربعة للإنسان. فإذا كان مزودا بها ولكنه قلل من شأن قدراته فإنه يهين نفسه. وإذا كان حاكمه مزودا بها ولكنه قلل من شأن قدرات حاكمه، فإنه يهين حاكمه. إذا استطاع الإنسان رعاية وتنمية كل هذه البدايات التي يحوزها، فإنها تغدو مثل بداية اشتعال نار أو انبثاق ينبوع، وإذا أكمل رعايتها فسيغدو قادرا على النهوض بأعباء كل البلاد، وإذا فشل في ذلك، فلن يكون قادرا على القيام بأعباء والديه.»
7
قال منشيوس: «هل قلب صانع السهام أقسى من قلب صانع الدروع؟ إن صانع السهام يحرص على ألا يفشل سهمه في القتل، أما صانع الدروع فيحرص على ألا يفشل درعه في الحماية من القتل. والشيء نفسه ينطبق على الطبيب الساحر وصانع التوابيت؛
39
لذلك على المرء أن يكون حريصا في اختيار مهنته. قال كونفوشيوس: «حسن الجوار من حسن المروءة، وإنه ليس من الحكمة السكن في جوار يفتقد أهله إلى المروءة.»
الرحمة نعمة السماء الكبرى والمرتع الآمن للبشر، وليس من الحكمة ألا تكون رحيما عندما لا يعوقك عن ذلك عائق. من يفتقر إلى الرحمة والحكمة والكياسة والاستقامة هو عبد، والعبد الذي يرى في الخدمة عارا يشبه صانع قسي أو صانع سهام يرى في صناعتها عارا، والشعور بالعار لا علاج له سوى ممارسة الرحمة. الرحمة مثل فن الرماية؛ فالرامي عليه أن يتخذ الوضعية المناسبة للوقوف قبل أن يطلق سهمه، وإذا أخطأ هدفه عليه ألا يضع اللوم على من لم يخطئ هدفه، بل أن يبحث عن السبب في نفسه.»
8
قال منشيوس: «كان تسي لو
40
يسعد إذا ما نبهه أحد إلى خطئه. وكان يو
Yu
41
ينحني احتراما لمن يقدم له نصيحة. أما شون الكبير
Shun
42
ففاقهما؛ فقد كان مستعدا دوما للتوافق مع الآخرين والتخلي عن رأيه وتبني آرائهم، وتواقا لأن يتعلم منهم ما هو جيد ويطبقه، ومنذ أن كان فلاحا فخزافا ثم صياد سمك إلى أن صار ملكا، تعلم كل شيء من الآخرين. أن تتعلم من الآخرين ما هو جيد يعني مشاركتهم فيما هو جيد. وعند الإنسان النبيل لا يوجد ما هو أفضل من مشاركة الآخرين في ما هو جيد.»
9
قال منشيوس: «بو يي
Bo Yi
43
كان لا يخدم إلا الأمير الصالح ولا يصادق إلا الرجل الصالح، ولم يكن يدخل بلاط الأمير الطالح أو يتحدث إلى الرجل الطالح. بالنسبة إليه كانت زيارة بلاط الأمير الطالح أو التحدث إلى الرجل الطالح، كمثل من يجلس في الطين أو الهباب وعليه حلة وقبعة البلاط. كراهيته للطالح بلغت حد أنه كان يشعر بالعار إذا وقف إلى جانبه قروي يضع قبته بشكل مائل، ويبتعد عنه كمن يخشى أن يتلوث. وعلى الرغم من أن بعض الحكام قد أرسلوا إليه يدعونه لزيارتهم بأرق العبارات، إلا أنه رفض الاستجابة لهم؛ لأنه اعتبر نفسه أعلى مقاما منهم.
وبالمقابل لم يكن ليو شيا هوي
Liu Xia Hui
44
يرى ضيرا في خدمة حاكم فاسد، أو يشعر بالضعة من تسلمه مركزا قليل الشأن. خلال خدمته في البلاط لم يكن يخفي مواهبه، ويعمل وفق مبادئه، وإذا صرف من الخدمة لم يكن يحمل ضغينة، وفي أوقات الشدة لم يكن يشعر بالكرب؛ لهذا قال: أنا هو أنا، وأنت هو أنت، وحتى لو وقفت إلى جانبي عاريا، كيف لك أن تلطخني أنا؟ لقد كان سهل المعشر، ويشعر بالراحة في صحبة الآخرين، ويبقى إذا أمسكوا بيده وأصروا على بقائه لأن الرفض لا يليق به.
لقد كان بو يي ضيق الصدر، أما ليو شيا هوي فكان قليل الكرامة، والرجل النبيل لا يتخذ أحد هذين الطريقين.»
الباب الرابع : قونغ صن تشو «2»
1
قال منشيوس: «الطقس المؤاتي لا يساعد (في المعركة) مثل الوضع الطبوغرافي، والوضع الطبوغرافي لا يساعد مثل الروح المعنوية العالية.
إذا ضرب العدو الحصار على مدينة ذات سور داخلي طوله من كل جانب ثلاثة لي، وسور خارجي طوله من كل جانب سبعة لي، ولكن أسوارها بقيت سليمة، وفشل المهاجم على الرغم من أنه قد اختار الطقس المؤاتي قبل حصارها؛ فهذا يعني أن الطقس المؤاتي في هذه الحالة لم يكن مهما مثل الوضع الطبوغرافي. في حالة أخرى، هنالك مدينة تخلى عنها المدافعون، على الرغم من قوة تحصينها، وعمق خندقها الدفاعي، ووفرة مئونتها؛ وهذا يعني أن الوضع الطبوغرافي هنا لم يكن بأهمية الروح المعنوية.
لذلك نقول إن حماية الرعايا لا تتم بحجزهم وراء البوابات المقفلة، والدفاع عن الدولة لا يعتمد على ما تقدمه الميزة الطبوغرافية من جبال وأنهار، وهيبتها في العالم لا تتوقف على قوة السلاح.
القضية العادلة يساندها الجميع، والقضية غير العادلة لا تجد من يساندها. وعندما يفقد الحاكم المساندة سوف ينقلب عليه حتى أقرباء الدم، أما عندما يكسب المساندة فإن أهل المملكة جميعا يرفعون له راية الطاعة. وإذا سار الرجل النبيل على رأس المنقادين له طوعا لقتال من انقلب عليه أقرباؤه؛ فلن يقدر على هزيمته أحد.
2
كان منشيوس على وشك الانطلاق من مسكنه والتوجه إلى البلاط لمقابلة ملك تشي، عندما جاء رسول أبلغه رسالة من الملك يقول فيها إنه كان عازما على القدوم لزيارته، ولكن البرداء التي أصابته حالت دون ذلك، وأنه يتمنى رؤيته في الاجتماع الذي سيعقده صباح الغد في البلاط، فقال منشيوس للرسول أن يبلغ الملك أنه لا يستطيع القدوم إليه لأن صحته ليست على ما يرام أيضا.
في اليوم التالي ذهب منشيوس ليؤدي زيارة تعزية لعائلة تونغ كو
Tung Kuo ، فلقيه في الطريق قونغ صن تشو وقال له: «قلت في الأمس إن المرض يحول بينك وبين التوجه إلى البلاط، واليوم أنت ذاهب في زيارة تعزية، فهل يجوز ذلك؟» أجابه منشيوس: «في الأمس كنت مريضا واليوم تماثلت للشفاء ، فلماذا لا أقوم بزيارة تعزية؟»
في هذه الأثناء جاء رسول من قبل الملك ليطمئن على صحة منشيوس ومعه طبيب، فقال لهم مينغ جونغ تسي
Meng Zhong Zi :
1 «في الأمس عندما جاءه استدعاء الملك كان منشيوس مريضا ولم يقدر على الذهاب إلى البلاط، واليوم تحسنت حالته فأسرع في الذهاب إلى البلاط، ولا أدري ما إذا كان قد وصل أم لا.» ثم إنه بعث إلى منشيوس برسل ليقولوا له: لا تعد مهما كان السبب إلى البيت، بل اذهب حالا إلى البلاط.
وهكذا وجد منشيوس نفسه مضطرا إلى قضاء الليل في بيت تشينغ تشو
Jing Chou ،
2
الذي قال له وهو يحاوره: «إن العلاقة الإنسانية الأهم هي العلاقة بين الأب والابن في البيت، تليها العلاقة بين الحاكم والرعية. الأولى تقوم على المحبة، والثانية تقوم على الاحترام. ولقد رأيت الاحترام الذي أبداه الملك نحوك، ولكني لم أرك تبدي له احتراما.»
قال منشيوس: «آه. ماذا تقول!؟ لم يحدث أحد من رجال هذه الدولة الملك عن الرحمة وعن الحق، فهل السبب في ذلك هو أنهم لا يرون في هذه الأشياء ما يستحق التحدث معه بشأنها؟ أقول لك كلا، بل لأنهم يقولون في أنفسهم عن الملك إنه لا يستحق أن نتحدث إليه عن الرحمة وعن الحق، وأشياء من هذا القبيل، وهم في ذلك يبدون قلة احترام قل نظيرها له، أما أنا فلم أجد في التحدث إليه أفضل من ذكر فضائل الملكين ياو
Yao
وشون
Shun ،
3
وفي هذه الحالة لا أعتقد أن أحدا في المملكة قد أظهر احتراما للملك أكثر مما فعلت.»
قال تشينغ تشو: «لم يكن هذا ما عنيته. لقد ورد في كتاب قواعد الأدب والمعاملات أنه إذا ناداك أبوك، لا يكفي أن تقول له نعم (بل أن تهب من فورك إليه)، وإذا استدعاك الحاكم لب دعوته قبل أن ينتهي من تجهيز عربتك. في صباح الأمس كنت تستعد للتوجه إلى البلاط، ولكنك غيرت رأيك عندما وصلك استدعاء الملك، وهذا في رأيي لا يتناسب مع قواعد اللياقة.»
قال منشيوس: «إذن هذا ما كنت تعنيه! لقد ورد عن زينغ تسي قوله: إن ثروة حاكمي دولتي تشينغ وتشو لا تحصى، ولكن هما عندهما الغنى، وأنا عندي الفضائل، عندهما المراتب الرفيعة، وأنا عندي الحق، فلماذا علي أن أشعر بالنقص إذا ما قورنت بهما؟ وهذا كلام صائب وإلا لما قاله زينغ تسيم كلام صائب فعلا.
هنالك ثلاثة أمور يعلي من شأنها كل من في العالم وهي: المقام الرفيع، والسن المتقدم، والفضيلة. في البلاط المقام الرفيع هو ما يعتد به، وفي الريف السن المتقدم، أما في حكم الناس فإن الفضيلة هي الأساس. فكيف يصح لمن امتلك واحدا من هذه (أي المقام الرفيع) أن يترفع على من امتلك الاثنين (أي السن المتقدم والفضيلة)؟»
إن الحاكم الذي يرنو إلى تحقيق جلائل الأعمال عليه أن يستعين بمستشارين، لا يستدعون إليه بأمر، بل عليه هو أن يذهب إليهم. وإذا هو لم يعل من شأن الفضيلة وصراط الحق، فلن يكون أهلا لتحقيق جلائل الأعمال. لقد تعلم الملك تانغ من يي ين
4
قبل أن يستوزره؛ ولهذا فقد صار موحدا للبلاد دون مشقة. كما تعلم الأمير هوان
Huan
حاكم قيه
Ge
من قوان جونغ
5
قبل أن يستوزره؛ ولهذا فقد بسط سلطانه على بقية أمراء الإقطاعات دون مشقة.
لدينا الآن عدة ممالك على مدى البلاد متساوية تقريبا في المساحة وفي الأخلاق، ولكن لا تمتلك واحدة منها القوة اللازمة للتفوق على غيرها؛ والسبب في ذلك هو أن الحكام يفضلون الاستعانة برجال يتعلمون من رئيسهم، بدل الاستعانة برجال يعلمون رئيسهم. إن الملك تانغ لم يكن يجرؤ على استدعاء يي ين، ولم يكن الأمير هوان يجرؤ على استدعاء قوان جونغ. فإذا لم يكن من الممكن استدعاء قوان جونغ، فما بالك بمن لا يتنازل أن يكون قوان جونغ؟»
3
تشن جن
Chen Zen
6
سأل منشيوس قائلا: «منذ بضعة أيام عندما كنت في دولة تشي
Qi ، أرسل لك الملك هبة مالية مقدارها مائة يي
Yi
من الذهب الصافي،
7
ولكنك لم تقبلها. ولكن عندما كنت في سونغ
Song
قدمت إليك هبة مقدارها سبعون يي فقبلتها، وعندما كنت في شوي
Xue
قدمت إليك هبة مقدارها خمسون يي فقبلتها أيضا. فإذا كنت مصيبا في رفض الهبة مرة؛ فقد أخطأت في قبولها مرتين، وإذا كنت مصيبا في قبولها مرتين؛ فقد أخطأت في رفضها مرة. وعليه يا معلم فقد كنت مخطئا سواء في رفضك أم في قبولك للهبة.»
فقال له منشيوس: «بل لقد كنت مصيبا في كلا الحالتين؛ ففي دولة سونغ، كنت أعد العدة للقيام برحلة طويلة، والرحالة عادة يتلقون هبات سفر، وقد جاءتني الهبة ومعها رسالة تفيد بأنها هبة سفر، فلماذا أرفضها؟ وعندما كنت في شوي كان علي أن أتخذ تدابير وقائية لضمان أمني الشخصي، وقد جاءتني الهبة ومعها رسالة تفيد بأنها من أجل سلامتي ولشراء ما يلزم من سلاح، فلماذا أرفضها؟ أما في تشي فلم يكن هنالك من سبب لإعطائي الهبة، وعندما لا يكون هنالك سبب للهبة فإنها تغدو مقدمة لشراء الموهوب، والرجل النبيل لا يشترى.»
4
جاء منشيوس إلى بينغ لو
(التابعة لدولة تشي)، وعندما اجتمع بحاكمها (شو هسين)
Chu-hsin
سأله: «إذا أخل جندي لديك بواجباته ثلاث مرات في اليوم، هل تصرفه من الخدمة؟» فأجابه: «لن أمهله إلى المرة الثالثة.» فقال له منشيوس: «ولكنك أخللت بواجباتك عدة مرات؛ في سنوات القحط والمجاعة كان الضعفاء والشيوخ مطروحين في العراء، أما الأقوياء فقد فر آلاف منهم في كل اتجاه.» قال الحاكم: «لم يكن بيدي حيلة.» قال منشيوس: «الراعي الذي يعمل لحساب الآخرين، عليه أن يبحث عن المرعى الجيد للماشية، ولكن إذا لم يجد، هل يعيد الماشية إلى صاحبها، أم يقف مكتوف اليدين وهو يراها تموت من الجوع؟» قال الحاكم: «لقد أخطأت يا سيدي.»
في يوم آخر عندما مثل منشيوس أمام الملك قال له: «أنا أعرف خمسة من حكام الولايات في مملكتك، ولكن لا أحد منهم مستعد للاعتراف بخطئه سوى شو هسين.» ثم روى له ما جرى من حوار بينه وبين الحاكم، فقال الملك: «أنا مخطئ يا سيدي.»
5
قال منشيوس لتشه وا
Chih Wa :
8 «عندما تركت عملك كحاكم لولاية لينغ تشي يو
Ling Chiu
لكي تكون قاضيا للجزاء، كان قرارك صائبا لأن منصبك الجديد يسمح لك بأن تقدم المشورة للملك، والآن وبعد مضي عدة أشهر على ذلك، ألم تجد فرصة لتقديم مشورتك؟»
وكان تشه وا قد قدم عدة نصائح للملك ولكنه لم يأخذ بها، فاستقال من منصبه وترك البلاط، عند ذلك أخذ بعض الناس في تشي يقولون عن منشيوس: لقد قدم لتشه وا نصائح ثمينة، ولكننا نتساءل عما إذا كان سيقدم لنفسه مثلها (أي ترك البلاط). فنقل كونغ-تو تسو
Kong-tu Tzu
هذا الكلام إلى منشيوس.
فقال منشيوس: «لقد سمعت أنه إذا لم يستطع موظف أداء واجباته عليه أن يستقيل، وأن المستشار إذا لم تقبل مشورته عليه أن يستقيل أيضا، ولكنني لست موظفا هنا ولا مستشارا، أليست لي حرية كاملة في اختيار البقاء أو المغادرة؟»
6
عندما كان منشيوس وزيرا في دولة تشي، أرسله الملك في زيارة تعزية إلى دولة تينغ، وأرسل معه وانغ هوان
Wang Huan
حاكم مقاطعة كي
Ki
كمساعد له. خلال الطريق، ومع أنهما كانا برفقة بعضهما من الصباح إلى المساء في الذهاب والإياب، فإن منشيوس لم يبحث مع وانغ هوان في مسائل تتعلق بمهمتهما.
بعد ذلك قال له قونغ صن تشو: «أنت وزير عالي المكانة، ومع ذلك فإنك في الطريق الطويل من وإلى تينغ لم تتحدث إلى وانغ هوان عن مسائل تتعلق بمهمتكما. لماذا؟» أجابه منشيوس: «حسنا. لقد انفرد بكل ما يتعلق بالمهمة، فلماذا أتحدث معه؟»
9
7
غادر منشيوس تشي ليقيم جنازة والدته في لو. في طريق عودته توقف في مقاطعة ينغ
Ying ، وهناك توجه تلميذه تشونغ يو
Chong Yu
الذي كان يصحبه بسؤال: «لقد عهدت إلي ونحن في لو بالإشراف على صناعة التابوت، وأنا لا أستحق ذلك.
10
وبما أن الجميع كان مشغولا في ذلك الوقت لم أجد من المناسب أن أتوجه إليك بالسؤال، أما الآن فأجد نفسي أكثر حرية في طرح ما يدور في ذهني؛ فلقد بدا لي أن خشب التابوت كان أكثر كلفة وفخامة من المعتاد.»
أجابه منشيوس: «في الماضي البعيد لم يكن هنالك قواعد متبعة فيما يتعلق بمقاييس التابوت الداخلي والتابوت الخارجي ونوعية الخشب المستعمل، ولكن في الماضي القريب جرت العادة على أن يكون ارتفاع (= سماكة) التابوت الداخلي سبعة إنشات، والتابوت الخارجي بما يتناسب معه، لا فرق في ذلك بين الإمبراطور والشخص العادي. لم يكن ذلك لغرض التفاخر وإنما تعبيرا عن بر الأبناء للآباء، فإذا لم يتوفر الخشب أو لم يكن بالإمكان تحمل كلفته، لا يشعر المرء بالرضى والسعادة. وإذا توفر الخشب وكان بالإمكان تحمل كلفته، كان القدماء كلهم يتبعون هذه الطريقة، فلماذا لا أفعل أنا؟ ثم إنه من قبيل الاحترام للميت ألا نجعل جثمانه يتلوث بعفر الأرض، ولقد قيل: إن الرجل النبيل لا يبخل بالإنفاق على والديه.»
8
سأل شن تونغ
Shen Tong (الوزير في دولة تشي) منشيوس، بصفة شخصية: «هل يصح شن حملة عسكرية تأديبية على دولة يان
Yan ؟» أجابه منشيوس: «نعم؛ لأنه لا يحق لتسو كواي
Tzu-Kuai
أن يتنازل لتسو شيه
Tzu-chih
وزيره عن حكم البلاد.
11
والمسألة هي كالتالي: لنفترض أنك تنازلت عن منصبك وراتبك إلى موظف آخر تكن له المحبة والتقدير دون علم الملك، وأن ذلك الموظف قبل هذا التنازل دون موافقة الملك، فهل يصح ذلك؟ إن هذا المثال يشبه ما حدث في دولة يان ولا فرق بين الحالتين.»
عقب ذلك شن جيش تشي حملة تأديبية على مملكة يان، فسأل أحدهم منشيوس: «أحقا أنك أنت الذي شجع تشي على حرب يان؟» أجابه منشيوس: «كلا. عندما سألني الوزير شن تونغ ما إذا كان يصح شن حملة عسكرية تأديبية على يان، قلت له: نعم. فقاموا بالهجوم، ولكنه لو تابع سؤاله وقال ومن يحق له القيام بمثل هذه الحملة لأجبته: القائد المفوض من قبل السماء هو الذي يقوم بها.
12
والمسألة يوضحها المثال التالي: لنفترض أن رجلا قبض عليه بتهمة قتل شخص آخر، وسألني سائل: هل يصح إعدام هذا القاتل؟ لقلت: نعم . ولكنه لو تابع سؤاله وقال: ومن له الحق في إعدامه؟ لقلت: إنه قاضي المحكمة الجنائية.
ولكن ما حدث فعلا هو أن مملكة تشبه تشي (في القسوة والجور) شنت الهجوم على يان،
13
فلماذا أشجع مثل هذه الخطوة؟»
9
قال ملك تشي: «لكم أشعر بالخجل أمام منشيوس بعد أن ثار علينا أهالي يان
14 (بسبب ما فعله جيشنا بهم)». فقال له الوزير تشن شيا
Chen Chia : «عليك ألا تشغل بالك بهذه القضية. دعني أسألك: من الأكثر حكمة وفضيلة؟ أنت أم الأمير جاو
Zhou ؟»
15
أجابه الملك: «يا له من سؤال!»
16
قال تشن شيا: «لقد عين الأمير جاو قوان شو
Guan Shu
لحكم ين
Yin ، ولكن قوان شو استفاد من هذه الفرصة لإعلان التمرد. فإذا كان الأمير جاو يعرف مسبقا بما سيقوم به قوان شو، ومع ذلك أسند إليه هذا المنصب؛ فمعنى ذلك أنه لم يكن فاضلا. وإذا لم يكن يعرف؛ فمعنى ذلك أنه لم يكن حكيما. فإذا كان الأمير جاو (بكل ما عرف عنه من فضيلة وحكمة) كان يبدو أحيانا غير مكتمل الفضيلة والحكمة؛ فالحري أنت. فاسمح لي الآن أن أذهب إلى منشيوس وأوضح له الأمور.»
ثم مضى تشن شيا إلى منشيوس وسأله: «أي نوع من الرجال كان الأمير جاو؟» أجابه منشيوس: «لقد كان من الحكماء القدماء.» قال تشن شيا: «هل قام حقا بتعيين قوان شو حاكما على ين، ولكنه تمرد واستقل بحكم ين؟» أجابه منشيوس: «نعم، لقد فعل ذلك.» قال تشن شيا: «هل كان الأمير على علم مسبق بما سوف يفعله قوان شو؟» أجابه منشيوس: «كلا، لم يكن يعرف.» قال تشن شو: «إذن لقد أخطأ وهو حكيم، أليس كذلك؟»
أجابه منشيوس: «لقد كان الأمير جاو الأخ الأصغر لقوان شو؛ ولذلك ألم يكن من الطبيعي أن يخطئ
17 (في تقييم أخيه الأكبر الذي يكن له كل احترام وتقدير؟) ثم إن علينا أن نأخذ في الحسبان أن السادة في الأيام السالفة كانوا يخطئون، ثم يعترفون بخطئهم ويعمدون إلى تصحيحه، أما السادة في الزمن الراهن فيخطئون ثم يقللون من شأن أخطائهم. في الأيام السالفة أخطاء السادة كانت تتضح للناس مثل وضوح كسوف الشمس وخسوف القمر، وعندما يصلحون أخطاءهم كان الجميع ينظرون إليهم بإكبار وإعجاب. أما السادة اليوم فلا يكتفون بالتقليل من شأن أخطائهم، بل ويعمدون إلى تبريرها.»
10
استقال منشيوس من منصبه (كوزير لملك دولة تشي )،
18
وعندما كان يتهيأ للعودة إلى موطنه، جاء الملك لزيارته وقال له: «في الأيام الخوالي كنت أرغب في رؤيتك دون طائل، وإذا ما رأيتك في البلاط كنت أسر لذلك. والآن أنت تغادرنا إلى موطنك، فهل ستكون لدي فرصة أخرى لرؤيتك؟» أجابه منشيوس: «بالطبع. هذا ما أتمناه ولكني لم أجرؤ على طلبه.»
في يوم آخر قال الملك للوزير شيه تزو
Sheh Tzu : «أرغب في إعطاء منشيوس بيتا في قلب العاصمة، وأخصص له منحة دائمة مقدارها عشرة آلاف مكيال من الأرز لإعالته مع تلاميذه، وليكون لحاشيتي ولعامة الناس نموذجا أعلى يحاكونه، فهل لك أن تنقل رغبتي هذه إليه.»
قام شيه تزو بنقل الرسالة إلى منشيوس بواسطة الوزير شن تزو
Chen Tzu ، فقال له منشيوس: «كيف لي أن أفهم شيه تزو بأن ذلك لن يتحقق؟ إذا كانوا يظنون أنني أسعى إلى الثروة، فهل يكون سعيي إليها بالتخلي عن منحة مقدارها مائة ألف مكيال لأقبل عرضا مقداره عشرة آلاف مكيال؟»
19
لقد قال تشي صن
Chi Sun
مرة: كم كان تسو شو يي
Tzu-shu Yi
20
شخصا غريب الأطوار. لقد فشل في الحصول على منصب حكومي، ولكن ذلك لم يمنعه من دفع أفراد عائلته الشباب للوصول إلى مناصب حكومية عالية. المنصب الرفيع والثروة مرغوبان من قبل الرجال، ولكنه كان يود احتكارهما.
في الماضي كان السوق مكانا يتبادل فيه من يملك الشيء ومن يحتاجه، وكانت السلطات تقوم بعمل المراقبة، ثم جاء رجل دنيء فوجد أكمة ارتقاها وراح يقلب بصره يمنة ويسرة لكي يجد فرصة تعينه على جمع كل أرباح السوق،
21
فاحتقره كل من في السوق لدناءته، وفرضوا عليه الضريبة؛ وبذلك ابتدأ فرض الضريبة في الأسواق.»
22
11
عندما غادر منشيوس تشي عائدا إلى موطنه توقف لقضاء الليل في تشو
Chou ، فجاء إليه رجل ليقنعه بالبقاء مع ملك تشي . وبعد أن جلس أمام منشيوس، جعل يحدثه في الموضوع، ولكن منشيوس لم ينبس ببنت شفة، وإنما بقي مستندا بذراعيه على الطاولة الواطئة يغالب النعاس. شعر الزائر بالاستياء وقال له: «لقد صمت يوما بطوله لكي أكون أهلا للتحدث إليك،
23
ولكن ها أنت تريد النوم يا معلم ولا تعيرني أذنا صاغية؛ لذلك لن أعود لزيارتك مرة أخرى.»
فقال له منشيوس: «ابق جالسا وسأتحدث إليك بصراحة. فيما مضى كان الأمير ميو
Miu
حاكم دولة لو
Lu
لا يجتمع بتزو سو
Tzu-sso ،
24
قبل أن يكلف اثنين من وزرائه الأفاضل بحضور الاجتماع.
25
ومن جهة أخرى لم يكن شيه ليو
Xie Liu
وشن شيانغ
Shen Xiang
26
يجتمعان بالأمير ميو إذا لم يكن برفقته اثنان من وزرائه الأفاضل.
والآن يا بني، أنت تحاول أن ترتب الأمور بيني وبين الملك، ولكنك لم تفكر بالطريقة التي تعامل بها الأمير ميو مع تزو سو، فهل أنا الذي لا يريد أن تكون له صلة بك، أم أنت الذي لا تريد ذلك؟»
27
12
بعد أن ترك منشيوس دولة تشي، قال ين تشي
Yin Chi
لأحدهم: «لو أن منشيوس لم يدرك منذ البداية أن ملكنا لا يمكن أن يتحول إلى شبيه للملكين الحكيمين وو وشانغ تانغ لكان عديم الذكاء، وإذا كان مدركا لذلك ومع ذلك جاء إليه لكان ساعيا إلى المنفعة. لقد قطع مسافة ألف لي ليضع نفسه في خدمة الملك، ثم تركه لأنه لم يلق منه التقدير. وبعد ذلك توقف في تشو ثلاثة أيام قبل أن يتابع سفره، فلماذا كل هذا التلكؤ؟ إني لأجد ذلك غير مستساغ.»
نقل التلميذ قاو تسو إلى منشيوس هذا الكلام، فقال منشيوس: «ما أقل ما يعرفه ين تشي عني! عندما قطعت مسافة ألف لي لخدمة الملك، كنت راغبا في ذلك، وبعد ذلك تركته لأنني لم أنجح فيما جئت من أجله. لم أكن راغبا في ذلك، ولكن لم يكن أمامي خيار آخر. لقد تلكأت في تشو ثلاثة أيام ولكنها في اعتقادي لم تكن كافية؛ لأنني كنت آمل أن يغير الملك رأيه (بخصوص العمل وفق مبادئي)، ولو كان فعل لأرسل ورائي من يستعيدني إليه، وعندما لم يفعل صارت رغبتي في متابعة السفر أكيدة وتركت تشو، ومع ذلك لا يمكنني القول بأنني تركت الملك.
إن الملك ما زال قادرا على تحقيق ما هو حسن، ولو أنه استخدمني لعملت على جلب السلام والسعادة لا إلى أهل تشي فقط، وإنما إلى جميع البلاد. وعلى كل، فإني ما زلت آمل في أن يغير الملك رأيه الآن، مثلما كنت أنتظر وأتوقع كل تلك الأيام. أنا لست مثل أولئك الرجال الضيقي الأفق، الذين يشعرون بالإهانة إذا رفضت مشورتهم، ويبدو الاستياء على وجوههم، وعندما يتركون ويسافرون، يرتحلون بعجلة طيلة النهار، ولا يتوقفون إلا عند حلول الليل.»
عندما سمع ين تشي هذا التوضيح قال: «إني حقا رجل ضيق الأفق.»
13
في طريق العودة إلى موطنه من دولة تشي توجه إليه تشونغ يو
Chong Yu
بالسؤال قائلا: «يبدو لي أنك غير سعيد أيها المعلم، ولقد سمعتك تقول في مناسبة أخرى إن الرجل النبيل لا يلقي باللائمة على السماء ولا على البشر!»
أجابه منشيوس: «كان ذلك في وقت، ونحن الآن في وقت آخر. هنالك سنة مفادها أنه بمرور كل خمسمائة سنة يظهر ملك رشيد يقوم بتوحيد البلاد، ويظهر إلى جانبه من يعينه في مهمته تلك. وها قد مضت سبعمائة سنة على بداية حكم أسرة جاو (عندما تم توحيد البلاد)، وقد حان الوقت وصار الوضع مؤاتيا لذلك مرة أخرى، ولكن يبدو أن السماء لم تشأ بعد حلول السلام والنظام في البلاد، ولكنها إذا شاءت فمن غيري مؤهل لتحقيق ذلك؟ ولماذا لا أكون سعيدا؟»
14
قبل الوصول إلى موطنه قادما من تشي، أقام منشيوس لفترة في شيو
Xiu ،
28
وهناك سأله قونغ صن تشو: «وفقا للتقاليد القديمة، هل يمكن للرجل أن يستلم منصبا دون أن يحصل على أجر؟»
29
أجابه منشيوس: «كلا. عندما التقيت بالملك شيوان لأول مرة في تشونغ، نويت عدم البقاء معه.
30
وبما أنني لم أكن راغبا في تغيير رأيي فقد رفضت أن أتقاضى أجرا. ثم قامت الحرب بعد ذلك ولم أجد من المناسب أن أطلب الإذن بالمغادرة، ولكن لم يكن في نيتي البقاء طويلا في تشي.»
الباب الخامس
1
عندما كان الأمير ون ولي عهد في دولة تنغ
Ting ،
1
سافر إلى دولة تشو، وفي طريقه توقف في دولة سونغ
Song
لزيارة منشيوس، فراح منشيوس يحدثه عن الطبيعة الخيرة للإنسان ، ويسوق الأمثلة مرارا من سيرة حياة الملكين الحكيمين شون
Shun
وياو
Yao .
وفي طريق عودته من تشو توقف الأمير مرة أخرى لزيارة منشيوس، فقال له منشيوس: «هل عند سمو الأمير شكوك بخصوص ما قلته له؟ طريق الفضيلة واحد، وواحد فقط.
2
في معرض حديثه عن تشينغ
Ching
حاكم دولة تشي،
3
قال تشينغ شيان
Ching Chian :
4
هو رجل وأنا رجل مثله، فلماذا أقف في إجلال أمامه؟ وقال يان يوان
5
في معرض حديثه عن شون
Shun :
6
أي نوع من الرجال كان شون؟ وأي نوع من الرجال أنا؟ إن أي رجل قادر على أن يرتقي بنفسه يمكن أن يغدو ندا لشون.
وقال قونغ مينغ يي
Gung-ming Yi :
7
عندما قال الأمير جاو: إن الملك ون هو معلمي، لم يكن يحاول خداعنا.
8
إن دولتكم تينغ يا صاحب السمو لا تزيد مساحتها عن 50 لي مربع،
9
ولكن هذه المساحة تكفي لأن تجعل منها دولة ذات شأن. وقد ورد في كتاب التاريخ أن الدواء إذا لم يكن قويا بحيث يسبب الدوار للمريض لا يجلب الشفاء.»
2
عندما توفي دينغ
Ding
أمير تينغ
Teng ، قال ولي العهد لران يو
Ran You :
10 «عندما تحدث منشيوس إلي في سونغ، بقيت كلماته في ذهني طيلة الوقت. الآن، وبعد أن فجعت بوفاة والدي، أريد منك أن تقصد منشيوس لتلتمس منه النصيحة قبل الشروع في إجراءات الجنازة.»
مضى ران يو إلى مدينة تسو
Tsou
11
وطلب من منشيوس النصيحة، فقال له منشيوس: «من الجيد أنك قد حضرت من أجل ذلك. عندما يموت الأبوان، على الأولاد أن يعبروا عن حزنهم بأفضل ما يكون. وقد قال تسن تسو
Tsen Tzu
12
في ذلك: في حياة الوالدين اخدمهما وفق الطقوس وقواعد الأدب والمعاملات، وعند موتهما ادفنهما وقدم قرابينك لهما وفق الطقوس وقواعد الأدب والمعاملات.
13
هذا ما يدعى ببر الوالدين.
لست على معرفة تامة بكيفية أداء أمراء المقاطعات لطقوس الجنازة، ولكني سمعت طرفا من ذلك؛ فعلى الابن أن يلتزم الحداد مدة ثلاثة أعوام، يرتدي خلالها ثوب الحداد المصنوع من نسيج خشن، ويقتصر طعامه على حساء الأرز، وهذا ينطبق على الجميع من الحاكم إلى الرجل العادي، وهذه التقاليد كانت متبعة لدى السلالات الثلاثة الحاكمة.
14
عاد ران يو وأبلغ الأمير ما سمعه من منشيوس، فقرر إقامة الحداد في الدولة لمدة ثلاث سنوات، ولكن الموظفين لديه والشيوخ في عائلته لم يرغبوا في ذلك، وقالوا: إن حكام دولة لو
Lu
15
التي تتبع لها ولاية دينغ لم يتبعوا مثل هذه الأعراف، ولا حكامنا السابقون اتبعوها؛ لذلك فمن غير الجائز لك يا سمو الأمير أن تخرج على ما جرت عليه عادتنا. ثم إنه ورد في كتاب الطقوس وقواعد الأدب: في الجنازات والقرابين ينبغي على المرء اتباع سنة الأسلاف، وهذا يعني أن لدينا مرجعية نستند إليها في كل ما نقوم به.
فقال الأمير ثانية لران يو: «في الماضي لم أكن ميالا إلى التعلم، وإنما وجدت متعتي في ركوب الخيل والمبارزة، والآن أجد شيوخ عائلتي والموظفين عندي غير سعداء بهذا التغير الذي طرأ علي، وأنا أخشى ألا أقوم بمراسم الجنازة على الوجه الصحيح. أتمنى أن تذهب ثانية لتستشير منشيوس من أجلي.»
فمضى ران يو إلى منشيوس طالبا منه النصيحة، فقال له منشيوس: «حسنا. إن حل هذه المسألة لن يتوفر لكم في مكان آخر. لقد قال كونفوشيوس: عندما يموت الحاكم فإن خليفته يعهد بوظائفه إلى كبير الوزراء،
16
ولا يأكل سوى حساء الأرز، ويبدو وجهه مسودا من شدة الحزن، ثم يتخذ مكانه أمام التابوت ويبكي بحرقة، ولا يتوانى أحد من الموظفين عن إظهار أشد الحزن أيضا؛ لأنه جعل من نفسه قدوة لهم في ذلك.
عندما يظهر الرئيس ميلا لشيء، فإن المرءوسين يفوقونه في هذا الميل. كما أن طبيعة الرجل النبيل مثل الريح، وطبيعة العامة مثل العشب، والعشب ينحني إذا هبت عليه الريح. إن المسألة الآن بين يدي صاحب السمو.»
عاد ران يو ونقل إلى الأمير ما قاله له منشيوس، فقال: «هذا صحيح. الأمر في هذه المسألة يعتمد علي.» وهكذا، ولمدة خمسة أشهر بقي في كوخ حداده
17
دون أن يصدر الأوامر أو يعطي التعليمات، وكل الموظفين وشيوخ العائلة وجدوا أن من الصواب فعل ذلك، وقالوا: إن الأمير عارف بالطقوس . وعندما حل موعد إقامة طقوس الجنازة، تقاطر الناس من جميع أنحاء الدولة ليشهدوا المراسم، وكل من جاء ليواسي الأمير كان متأثرا لما رآه من حزن باد على وجهه، ومن بكائه المر.
3
سأل الأمير ون
Wen
حاكم تينغ
Teng
منشيوس عن أصول الحكم، فقال منشيوس: «لا تتماهل في معالجة شئون الرعية. وقد ورد في كتاب القصائد: في النهار يذهبون إلى العشب. في المساء يجدلون الحبال من أجل صيانة السقوف؛ لأن موسم البذار قريب. وهذا شأن عامة الناس: إذا استدامت لهم سبل العيش كانت نفوسهم هادئة. وإذا عزت سبل العيش اضطربت نفوسهم. وإذا اضطربت نفوسهم فإنهم يضلون ويجنحون إلى المعاصي لا يردهم عنها شيء، فإذا عاقبتهم على ذلك كنت كمن ينصب لهم شركا. فكيف لحاكم رحيم يسوس شعبه بأن ينصب لهم الفخاخ؟
لذا؛ فالحاكم الفاضل دمث، ومتواضع، ومقتصد، ومحترم لشعبه، ولا يجبي منهم سوى المطلوب. وقد قال يانغ هو
Yang Hu :
18
من كان هدفه الثروة لن يكون خيرا، ومن كان خيرا لن يكون ثريا.
في عهد أسرة شيا
Hsia
كانت كل عائلة تعطي أرضا مساحتها خمسين مو،
19
وتفرض عليها الضريبة وفق نظام قونق
20 (= أتاوة). وفي عهد أسرة ين
Yin
كانت كل عائلة تعطى أرضا مساحتها سبعين مو، وتفرض عليها الضريبة وفق نظام تشو
Chu
21 (= خدمة). وفي عهد أسرة جاو
Zhou
كانت كل عائلة تعطى أرضا مساحتها مائة مو، وتفرض عليه الضريبة وفق نظام تشي
Che
22 (العشر). وفي الحالات الثلاث هذه كانت الضريبة تعادل العشر. وفق نظام العشر كانت تفرض الضريبة على الكل،
23
ووفق نظام تشو كانت العمالة تصادر.
24
وقد قال لونغ تسو:
25
في إدارة ضريبة الأرض، كان نظام تشو هو الأفضل ونظام قونق هو الأسوأ.
فوفق نظام قونق كانت الضريبة المفروضة تقدر وفق حساب غلة الأرض على مدى عدة سنوات ؛ ولهذا ففي سنوات الوفرة عندما يتراكم المحصول لم يكن المزارعون يكلفون بضريبة أعلى. وفي سنوات المحل، عندما لا يكفي المحصول حتى لدفع قيمة الضريبة وتسميد الأرض، رغم كل ما بذلوه من جهد، كانت الضريبة تفرض عليهم كاملة غير منقوصة.
إن الحاكم الذي يعتبر نفسه أبا وأما للشعب، ومع ذلك يدفع الرعية للاستدانة من أجل رعاية الوالدين وتأمين قيمة الضريبة، والذي يتسبب في موت الكبار والصغار جوعا، هل يستحق الدور الأبوي الذي يدعيه لنفسه؟
وفيما يتعلق بنظام الدخل الوراثي المتبع في دولة تينغ،
26
يقول كتاب القصائد: فليهطل المطر على الحقول العامة، ومن ثم على الحقول الخاصة. إن الحقول العامة لم توجد إلا عندما كان نظام تشو (الخدمة) الضريبي مطبقا. ومن المقطع الذي سقته من كتاب القصائد نستنتج أن هذا النظام قديم قدم مملكة جاو.
27
ويجب تأسيس المدارس: شيانغ
Xiang ، وشو
Xu ، وشوي
Xue ، وشياو
Xiao .
28
فمعنى شيانغ هو التربية، وشو التعليم، وشوي الرماية. خلال حكم أسرة شيا
Xia
كانت المدرسة تدعى شياو، وخلال حكم أسرة ين
Yin
كانت تدعى شو، وخلال حكم أسرة جاو
Zhou
كانت تدعى شانغ، أما الاسم شوي فكان مشتركا بين الأسر الثلاث.
عندما يفهم أهل السلطة العلاقات الإنسانية؛ فإن مشاعر الرأفة والحنان تسود بين العامة. وإذا ما ظهر موحد للبلاد فإنه سوف يتخذ من هذه قدوة له، ويغدو الذي يمارسها بمثابة معلم له. وقد ورد في كتاب القصائد: مملكة جاو غدت قديمة، ولكنها تبدأ بداية جديدة. والإشارة هنا إلى ون ملك جاو. فيا صاحب السمو، إذا كان قلبك موجها لأعمالك؛ فسوف تدفع بالمملكة نحو بداية جديدة.»
بعد ذلك أرسل الأمير إلى منشيوس بي جان
Bi Zhan
29
ليستشيره بخصوص تطبيق نظام تقسيم الأراضي الزراعية إلى تسعة مربعات، فقال له منشيوس: «بما أن سموه راغب في تطبيق الحكم الخيري، واختارك رسولا إلي، عليك أن تبذل ما بوسعك.
الحكم الرشيد يبدأ من ترسيم حدود الأراضي الزراعية؛
30
لأنه إذا لم يتم هذا الترسيم على الوجه الصحيح فإن المربعات التي ستقسم الأراضي إليها لن تكون متساوية، كما أن ما يدفعه كل مربع من محصوله كضريبة لن يكون عادلا؛ ولهذا، فإن الحكام الطغاة وجباة الضرائب الفاسدين غالبا ما يتجاهلون القيام بترسيم الحدود. عندما يتم تبيان الحدود، لن تكون هنالك صعوبة في تقسيم الحقول وتحديد المداخيل.
على الرغم من أن تينغ لا تتمتع بمساحة كبيرة، إلا أن فيها مثل كل دولة حكاما وعامة. لولا الحكام لما كان هناك من يدير شئون العامة، ولولا العامة لما كان هنالك من يعيل الحكام. في الريف ينبغي أن تفرض الضريبة وفق نظام الشو (= الخدمة)، أما في العاصمة فنظام العشر يدفع عينا لا نقدا. وينبغي أن تخصص لكل موظف حكومي، من كبير الوزراء فما دون، أرض مساحتها 50 مو لتغطية نفقات القرابين،
31
ولكل رب أسرة أرض مساحتها 25 مو للغرض نفسه. ويحظر على أي رجل أن يترك قريته (والمساحة المزروعة الخاصة بها) سواء أراد تغيير مسكنه أم دفن موتاه.
هؤلاء المزارعون الذين ينتمون إلى أرضهم المؤلفة من تسعة مربعات، إذا تعاونوا سواء خلال أوقات العمل أم خارجها، وتساندوا في أحوال المرض، فسوف يعيشون في محبة ووئام.
في هذه الأرض المشتركة التي تبلغ مساحتها لي
Li
مربع واحد، وتنقسم إلى تسعة مربعات مساحتها الإجمالية 900مو
Mu ، فإن المربع الأوسط والذي تبلغ مساحته 100مو هو حقل عام وتعود ملكيته للدولة، ويعمل فيه مالكو الحقول الأخرى بشكل مشترك، وبعد الانتهاء من عملهم فيه يسمح لهم بالعمل في حقولهم الثمانية الخاصة، وهذا ما يميز العامة من حكامهم. هذه هي الخطوط العامة لنظام المربعات التسعة، وأما عن تطبيقه بما يتلاءم وأوضاعكم الخاصة، فأمر أتركه لك ولأميرك.»
4
في أحد الأيام وفد على دولة تينغ قادما من تشو معلم زراعي يدعى شو شينغ
Xu Xing ،
32
قال إنه من أتباع إله الزراعة شن نونغ
Chen Nong ،
33
ثم مثل في البلاط أمام الأمير ون قائلا: «لقد جئت من مكان بعيد يا صاحب السمو بعد أن سمعت أنكم بصدد تطبيق الحكم الرشيد، فرغبت في أن أكون واحدا من حاشيتكم، وأتمنى أن أمنح من قبلكم مكانا للإقامة.» وكان برفقته بضع عشرات من الأتباع الذين يلبسون ثيابا من القنب غير المنسوج، ويحصلون على معاشهم من صناعة حصر وصنادل من القنب، فمنحهم الأمير قطعة أرض للإقامة.
بعد ذلك وفد أيضا تشن شيانغ
Chen Xiang ، وهو من أتباع (المعلم الكونفوشي) تشن ليانغ
Chen Liang ،
34
ومعه أخوه الأصغر تشن شن
Chen Xin ، يحملان أدوات الزراعة على الكتف، فمثل الاثنان أمام الأمير وقالا له: «سمعنا بأنك تطبق الحكم الرشيد في هذه الدولة على طريقة الحكماء القدماء، وعلى هذا فأنت حكيم أيضا، وإننا لراغبون في أن نكون أتباعا لحكيم.» ثم إن تشن شيانغ كان سعيدا لرؤية (المعلم الزراعي) شو شينغ، فتخلى عن كل ما تعلمه سابقا من غيره وصار تلميذا له.
وحدث بعد ذلك أن تشن شيانغ جاء لزيارة منشيوس ونقل له كلام شو شينغ عن الأمير، ومفاده أن الأمير حاكم محترم حقا، ولكنه لم يتعلم بعد أصول الحكم. الأمير الحكيم ينبغي عليه أن يعمل في الزراعة مع الناس من أجل تحصيل قوته، ويحضر بنفسه فطوره وعشاءه خلال قيامه بمهامه. أما هنا فإن الأمير لديه صوامع حبوب وخزائن كنوز ومستودعات سلاح. إنه يجهد الرعية لحساب مصالحه، فكيف يعد حاكما فاضلا؟
قال منشيوس: «هل يأكل شو شينغ مما يزرعه بيديه؟»
أجابه تشن شيانغ: «نعم.»
قال منشيوس: «هل يلبس شو شينغ القماش الذي ينسجه بنفسه؟»
أجابه تشن شيانغ: «إنه يلبس ثيابا من قنب غير منسوج.»
قال منشيوس: «هل يرتدي شو شينغ القبعات؟»
أجابه تشن شيانغ: «نعم.»
قال منشيوس: «ما نوعها؟»
أجابه تشن شيانغ: «تلك المصنوعة من الحرير الخام.»
قال منشيوس: «هل ينسج قبعاته بنفسه؟»
أجابه تشن شيانغ: «لا، ولكنه يبادل بها حبوبه التي يزرعها.»
قال منشيوس: «ولكن لماذا لا ينسج بنفسه ما يلبس؟»
أجابه تشن شيانغ: «لأن ذلك يستهلك كثيرا من وقته المخصص للعمل الزراعي.»
قال منشيوس: «هل يستخدم أباريق وآنية فخارية لتحضير طعامه، ويحرث بمحاريث معدنية؟»
أجابه تشن شيانغ: «نعم.»
قال منشيوس: «هل يصنعها بنفسه؟»
أجابه تشن شيانغ: «لا، ولكنه يبادل بها حبوبه.»
قال منشيوس: «إن قيام المزارع بمبادلة حبوبه بالأباريق والآنية الفخارية والمحاريث، وقيام الحداد أو الخزاف بمبادلة بضائعه بهذه الحبوب، هو لمصلحة الطرفين. ثم إنه لماذا لا يتخلى شو شينغ عن المقايضة ويصنع بنفسه ما يلزمه من أوان فخارية وأدوات معدنية، بدلا من أن يتعب نفسه بالمقايضة مع أهل الحرف اليدوية العديدة؟»
أجابه تشن شيانغ: «لأنه من الصعب عليه أن يقوم بعمل أصحاب الحرف خلال عمله في الزراعة.»
قال منشيوس: «إذن كيف يستطيع الحاكم أن يجمع بين مهام الحكم والعمل الزراعي؟ المسئولون الحكوميون لهم أعمالهم، والعامة لهم أعمالهم أيضا. ثم إذا كان على شخص أن يصنع بنفسه كل ما يحتاجه لتطلب ذلك منه القيام بمهام عدد كبير من الحرفيين مع ما يستغرقه ذلك من وقت، وهذا من شأنه أن يستنفد جهد أهل المملكة بلا طائل؛ لذلك يقال إن هنالك نوعين من الناس؛ نوع يستخدم عقله في العمل، وآخر يستخدم قوته العضلية. النوع الأول يحكم، والنوع الثاني يحكم. والمحكومون هم الذين يؤمنون سبل العيش للحكام، وهذا مبدأ مسلم به ومقبول في كل مكان.
في عصر الملك الحكيم ياو
Yao
لم يكن السلام والاستقرار يسودان في البلاد، وفيضانات الماء تندفع بقوة وتغمر البطاح، والعشب والشجر ينمو بكثافة، فيه الطير والوحش يتكاثر بأعداد لا حصر لها. لم تكن أصناف الحبوب الخمسة قد أينعت للحصاد، والطير والوحش تهدد حياة البشر وتطرق دروب البلاد وصولا إلى قلب المملكة.
انبرى ياو للتصدي لهذه الأخطار. قام ياو بمنح السلطة إلى شون
Shun ،
35
فعهد شون إلى يي
Yi
36
بمهمة تنظيف الأراضي من الأعشاب الكثيفة، فأشعل يي فيها النيران عبر التلال والوديان، فهربت الطيور والوحوش واختفت. أما يو
Yu
37
فقد تلقى الأمر بتنظيف مجاري تسعة أنهار، فنظف مجرى نهر تشي
Chi
وتا
Ta
ليصبا في البحر، وقام بتعميق سرير نهر رو
Ru
ونهر هان
Han ، ووضع سدا أمام نهر هواي
Huai
ونهر سي
Si
وجعلهما يصبان في نهر شانغ جيانغ
Chang Jiang ؛ وبهذه الطريقة استطاع أهالي وسط البلاد زراعة الأراضي وضمنوا وسائل معيشتهم.
خلال ذلك، ولمدة ثمانية أعوام، كان يو يعمل بعيدا عن موطنه، وقد صادف أنه مر من أمام بيته ثلاث مرات دون أن يدخله، فهل كان بوسعه أداء العمل الزراعي حتى وإن رغب في ذلك؟
هو تشي
Hou Chi
38
قام بتعليم الناس الزراعة وإنتاج خمسة أصناف من الحبوب، وعندما نضجت وحصدت أكلوا منها وتكاثروا. ولكن العامة إذا ما شبعوا وكسوا أجسامهم، فإنهم سينحدرون إلى مستوى البهائم لو أنهم تركوا لحياة الكسل وبلا تعليم أو انضباط. ولإدراكه ذلك فقد عهد الحكيم ياو إلى شيه
Xie
39
مسئولية التعليم، وكانت مهمته تعليم الناس مسائل العلاقات الإنسانية؛ المحبة بين الآباء والأبناء، الواجبات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، العواطف المتبادلة بين الزوج والزوجة، أولوية الكبير على الصغير، الثقة بين الأصدقاء. وقد أوصى ياو شيه قائلا: واسيهم وشجعهم. قومهم وأصلحهم. أعنهم وقدم الحماية لهم. اجعلهم سعداء في أماكنهم. أنجد المحتاج وخفف عن المتعب.
فإذا كان الحكماء مهتمين إلى هذه الدرجة بالناس، هل يبقى لديهم وقت لممارسة العمل الزراعي بأنفسهم؟
لقد كان ياو قلقا من ألا يجد شخصا مثل شون، وكان شون قلقا من ألا يجد شخصا مثل يو وآخر مثل قاو ياو،
40
أما أولئك الذين لا يتجاوز قلقهم حدود حصتهم من الأرض الزراعية؛ فهم الفلاحون.
من الكرم أن تشرك الآخرين بثروتك، ومن الإخلاص أن تعلم الآخرين الصلاح، ومن الخير والرحمة أن تبحث عن الشخص الكفء المهتم بمصالح المملكة؛ لذلك فإن التخلي عن الملك أسهل من أن تجد لها الرجال الأكفاء.
قال كونفوشيوس: ما أروع الطريقة التي حكم بها ياو! لقد كان من السمو بحيث إنه قارب السماء في سموها وتماثل معها. كانت فضائله بلا حدود ويجل عنها الوصف. وما أسمى الطريقة التي حكم بها شون! لقد أدار البلاد ولا يعتبرها ملكه الخاص.
هل استخدم ياو وشون عقليهما في حكم المملكة؟ لقد فعلا ذلك حقا، ولكنهما لم يستخدما عقليهما في فلاحة الأرض.
ثم سمعت أن الصينيين (سكان البلاد الوسطى) يعملون على تحويل البرابرة إلى ثقافتهم، ولم أسمع أن البرابرة يعملون على تحويل الصينيين إلى ثقافتهم.
41
لقد كان تشن ليانغ من مواطني دولة تشو؛ ولأنه كان معجبا بمبادئ الأمير جاو ومبادئ كونفوشيوس، فقد اتجه شمالا لكي يتلقى العلم في البلاد الوسطى، وصار مثقفا لا يبزه أحد من مثقفي الشمال. ولقد تعلمتما على يديه أنت وأخوك لسنوات طويلة، ولكنكما بعد وفاته أدرتما له الظهر حالا.
بعد وفاة كونفوشيوس وانقضاء سنوات الحداد الثلاث، أخذ تلاميذه يجهزون أمتعتهم للعودة إلى ديارهم بعد أن أنهوا حدادهم .
42
دخلوا على تزو قونق،
43
وانحنوا أمامه، ثم واجهوا بعضهم بعضا وبكوا حتى بحت أصواتهم، ثم طلبوا الإذن بالرحيل. أما تزو قونق فقد عاد إلى المدفن وأعاد ترتيب كوخ حداده، ولبث فيه بعد ذلك ثلاث سنوات أخرى قبل أن يعود إلى موطنه.
بعد ذلك أراد التلاميذ تزو شيا، وتزو شانغ، وتزو يو
44
الالتحاق بيو جو
Yo Jo ،
45
مثلما التحقوا قبلا بكونفوشيوس؛ لأنهم رأوه شبيها بمعلمهم. ثم إنهم حاولوا إقناع زميلهم الآخر زينغ تزو
Zeng-Tsu
46
بالانضمام إليهم، ولكنه رفض قائلا: لن أفعل ذلك أبدا. مثل من اغتسل بنهري شانق جيان
Chagjian
وهان
Han ، ثم تجفف تحت شمس الخريف الدافئة، كذلك هو بياض معلمنا النقي الذي لا يماثله بياض آخر.
أما أنتما فقد خنتما مبادئ معلمكما وأدرتما له الظهر، ثم تبعتما بربريا جنوبيا صاحب لسان مهذار، يتكلم بالسوء عن الملوك والحكماء القدماء. إنكما لا تشبهان في شيء زينغ تزو. لقد سمعت أن الطيور تترك الوادي الضيق المعتم لتسكن في أعلى الأشجار العملاقة، ولم أسمع أنها تترك الأشجار العملاقة لتسكن في الأودية الضيقة. وقد ورد في كتاب القصائد: شن الملك هجوما على القبائل البربرية، وعاقب تشينغ وشو.
والآن أنتما تتعلمان على يد هؤلاء البرابرة الذين شن عليهم الأمير جاو حملته، على يد هؤلاء الذين عاقبهم. إنه ليس تطورا نحو الأفضل، أليس كذلك؟»
قال تشن شيانغ بعد أن استمع لمنشيوس: «ولكننا إذا طبقنا مبادئ شو شينغ فسوف تتوحد الأسعار في السوق، ويختفي الغش من المدينة، حتى إنك إذا أرسلت طفلا إلى السوق لن يخدعه أحد. سيكون سعر متر الكتان ومتر الحرير واحدا، وكذلك خيط القنب وخيط الحرير، والكيلة الواحدة من الحبوب الخمسة، والأحذية المتعادلة المقاس.»
أجابه منشيوس: «إن الأشياء بطبيعتها غير متعادلة؛ فبعضها يكون أغلى ثمنا من الآخر بضعفين أو خمسة، أو حتى بمائة أو بعدة آلاف، ولكنك إذا عادلت بينها عمت الفوضى؛ لأنه إذا كان سعر الحذاء الجيد الصنع يعادل سعر الحذاء السيئ الصنع؛ فمن سيصنع الحذاء الجيد؟ إذا اتبعنا مبادئ شو شينغ فإننا بذلك نعلم الناس كيف يغشون بعضهم. فكيف يكون لحاكم إدارة الدولة بهذه الطريقة؟»
5
جاء يي جي
Yi Zhi ، وهو واحد من أتباع مو تزو
Mu-tzu ،
47
إلى شو بي
Xu Bi
48
طالبا منه تأمين مقابلة له مع منشيوس، فقال منشيوس: «إني أرغب في لقائه ولكني الآن متوعك الصحة، وعندما أغدو أفضل حالا سوف أذهب أنا إليه، ولا داعي لأن يحضر هو إلي.»
بعد عدة أيام عاد يي جي وطلب مرة ثانية لقاء منشيوس، فقال منشيوس: «أنا الآن في حالة أفضل تمكنني من رؤيته، على أنني يجب أن أصوغ خطابي له بصورة صريحة، وإلا فإن الحقيقة لن تتضح؛ لذا دعني أولا أن أقول له بكل صراحة ما يلي: لقد بلغني أن يي جي من أتباع مو تزو، ومن المبادئ الأساسية لمدرسة مو تزو التقشف في شعائر الدفن والابتعاد عن البذخ. وعلى الرغم من أنه يطمح إلى إحلال التقشف في المملكة لاعتقاده بأنه الأفضل؛ فقد أقام جنازة باذخة لأبويه، وبذلك يكون قد عاملهما بطريقة لا يقرها
49
وتتنافى مع مبادئه.»
نقل شو بي ما قاله منشيوس إلى يي جي، فقال له: «إن الكونفوشيين يقدرون الملوك الأوائل لأنهم كانوا يعاملون الرعية مثل الأطفال الحديثي الولادة. وهذا يعني في اعتقادي أن الحب يمنح دون تمييز
50 (على ما قاله معلمنا مو تزو)، ولكن ممارسته تبدأ بالوالدين
51
وأقرباء الدم.»
نقل شو بي ما قاله يي جي إلى منشيوس، فقال: «هل يعتقد يي جي حقا بأن الرجل يمكن أن يحب أولاد أخيه مثلما يحب أولاد جيرانه؟ إنه هنا يستشهد ولا شك بمثال واحد لا ينطبق إلا على حالة واحدة: إذا كان هنالك طفل رضيع يحبو على الأرض وكاد أن يقع في بئر، (فإن من يراه سيتحرك في داخله شعور بالجزع والتعاطف، فهل يكفي هذا المثال للبرهان على أن الحب يمنح دون تمييز؟)
52
يضاف إلى ذلك أن السماء عندما أوجدت المخلوقات أعطتها طبيعة واحدة، ولكن معتقد يي جي يجعل من الطبيعة الواحدة اثنتين.
53
ربما كان الناس في أقدم الأزمنة لا يدفنون موتاهم، وإنما يرمونهم في أخاديد الأرض. ثم إن أحد الأبناء مر من المكان ورأى جثة أبيه وقد مزقتها أنياب الحيوانات، والذباب والبعوض يمتص منها، فأشاح بوجهه عن المنظر وتندى جبينه بالغرق رغما عنه، وكان ذلك تعبيرا عما يعتمل في أعماق نفسه. ثم إنه أسرع إلى بيته وجلب رفشا وسلة وغطى الجثة بالتراب، وكان هذا العمل الصالح نموذجا احتذى به الآخرون.»
54
مضى شو بي إلى يي جي ونقل إليه ما قاله منشيوس، فقال: «لقد فهمت الآن.»
55
الباب السادس: الأمير ون حاكم تينغ «2»
1
قال التلميذ تشن داي
Chen Dai
لمنشيوس:
1 «أليس من ضيق الأفق أن ترفض زيارة أحد أمراء المقاطعات؟ لأنك إذا فعلت فإن أفضل ما يمكن لك تحقيقه هو عون الحاكم على توحيد البلاد من خلال الحكم الرشيد، وأقل ما يمكن لك عمله هو عونه على التسلط على الأمراء الآخرين.
2
وقد ورد في كتاب الطقوس: يجوز للإنسان أن يخسر القشر لكي يربح اللب فيما بعد.
3
أرى أنه من الأفضل أن تذهب وتحاول.»
أجابه منشيوس: «في إحدى المرات عندما كان تشينغ
Ching
أمير تشي
Qi
يصطاد، استدعى حارس الغابة بإشارة من رايته، ولكن الحارس لم يأت إليه، فغضب الأمير وأراد إعدامه.
4
إن صاحب المثل العليا لا يخاف من أن يفقد حياته ويئول إلى خندق في الفلاة، والرجل المقدام لا يخشى من احتمال فقدانه لرأسه. في قصة حارس الغابة نجد أن كونفوشيوس قد ثمن عاليا موقف الحارس؛ لأنه رفض الامتثال لشارة استدعاء ليس أهلا لها (لأنها وقف على الوزراء). فإذا ذهبت إلى أحد الأمراء الآن دون أن أتلقى منه استدعاء لائقا، ماذا تقول في ذلك؟ أما بخصوص ما ذكرته من كتاب الطقوس عن خسارة القشر وربح اللب، فالحديث هنا يدور حول الربح، فإذا كانت المسألة تتعلق بالربح، من الممكن أيضا أن تخسر اللب لكي تربح القشر.
5
حدث ذات مرة أن الوزير جاوجيان تسي
Zhaojian Zi
6
أوكل السائق وانغ ليانغ
7
بقيادة عربة موظفه المفضل شي
Xi
ويأخذه إلى الصيد، وخلال اليوم بطوله لم يفلح شي باصطياد طائر واحد. وعندما رجع أخبر الوزير بما حدث، ووصف وانغ ليانغ بأنه أسوأ سائق في العالم؛ عند ذلك قام أحدهم بنقل ما قاله شي إلى وانغ ليانغ، الذي عرض على شي القيام بنزهة صيد ثانية، فقبل شي بعد تردد. وفي هذه المرة اصطاد شي خلال فترة الصباح فقط عشرة طيور، وعاد إلى الوزير وأخبره بالنتيجة، وقال إن وانغ ليانغ أفضل سائق عربة في العالم، فقال له الوزير إنه سوف يجعله سائقا لعربته، ولكن وانغ ليانغ عندما سمع بالقرار رفض وقال للوزير: في المرة الأولى سقت به العربة وأنا أراعي القواعد المتبعة في الصيد،
8
ولكنه لم يصطد خلال يوم طيرا واحدا. وفي المرة الثانية سقت به وأنا أتجاهل تلك القواعد،
9
فاصطاد عشرة طيور خلال فترة الصباح. أرجو إعفائي من هذه المهمة فأنا لست معتادا على القيادة لرجال صغار النفوس مثله. ولقد ورد في كتاب القصائد: لم ينحرف عن أصول الرماية، وسهامه أصابت هدفها بدقة.
وكما ترى، فإنه حتى سائق العربة لم يقبل العمل لدى نبال فاشل يتبع الوسائل الملتوية، حتى ولو تكدس الصيد تلالا أمامه. والآن لو أنني انحنيت لكي أسر أولئك الأمراء،
10
فماذا سيقال عني؟ شيء آخر: إن الرجل الذي ينحني لا يقدر على تعليم الاستقامة للآخرين.»
2
سأل التلميذ جينغ شن منشيوس: «أليس صحيحا أن قونغ صن يان،
11
وجانغ يي،
12
كانا من الرجال العظماء حقا؟ كانا إذا اشتعل غضبهما جعلا أمراء المقاطعات يرتعدون هلعا، وإذا سكنا ساد السلام في جميع أرجاء البلاد.»
أجابه منشيوس: «كيف يكونان رجلين عظيمين؟ ألم تدرس كتاب الطقوس؟ عندما يبلغ الفتى سن الرشد، ويضع على رأسه لأول مرة القبعة في حفل البلوغ،
13
يقوم والده بتقديم الإرشادات إليه. وعندما يعقد قران الفتاة (وتكون على أهبة مغادرة المنزل)، توصلها أمها إلى الباب وتقدم لها النصائح قائلة: كوني على حيطة دوما في بيتك الجديد، وأظهري لزوجك الاحترام، وابذلي له الطاعة.
وهذا يعني أن الطاعة تأتي في المقام الأول عند النساء.
14
أما الرجل العظيم فيقيم في المسكن الفسيح (أي الفضيلة)، ويشغل المركز الصحيح (أي قواعد السلوك)، ويسير على الصراط الواسع (أي الاستقامة). فإذا حقق طموحه شارك الناس فيما حقق، وإذا فشل تمسك وحده بصراطه. لا يمكن للمنصب ولا الثروة أن يسلبا لبه، ولا يمكن للفقر والضعة أن يفتا في عضده، ولا يمكن لأي سلطة أو قوة أن تجبره على الخضوع؛ هكذا يكون الرجل عظيما حقا.»
3
جو شياو
Zhou Xiao
15
سأل منشيوس: «هل كان الرجال النبلاء في الماضي يقبلون الوظيفة الحكومية؟» أجابه منشيوس: «نعم كانوا يفعلون. وتقول السجلات القديمة إن كونفوشيوس إذا بقي بلا منصب لدى حاكم مدة ثلاثة أشهر، كان يشعر بالقلق وعدم الراحة، فإذا غادر إلى بلد آخر حمل معه هدية كعربون ولاء من أجل المقابلة الأولى في الدولة الأخرى. وقد قال قونغ مينغ يي
Gung-ming Yi
16
إن المثقف في الماضي عندما يبقى بلا وظيفة مدة ثلاثة أشهر كان يتلقى التعازي.»
فقال جو شياو: «فقط ثلاثة أشهر بدون وظيفة يستحق بعدها التعزية؟ ألا يبدو هذا استعجالا غير لائق؟» أجابه منشيوس: «المثقف الذي يفقد منصبه مثل الأمير الذي يفقد إمارته. وقد ورد في كتاب الطقوس: الأمراء يشاركون في الفلاحة من أجل تقديم قربان الحبوب،
17
وزوجاتهم يشاركن في غزل خيوط الحرير من أجل تجهيز أثواب طقس القربان. فإذا لم تكن حيوانات القربان كبيرة وسمينة، ولم تكن الحبوب نقية، والملابس جاهزة؛ فلن يجرءوا على تقديم القرابين. كما أن المثقفين (العاملين لدى الحاكم)، إذا لم يكن لديهم قطع من الأرض تساعدهم على تأدية طقوس القربان فلن يقدروا على ذلك.
18
وهكذا، فبدون حيوان القربان، والأوعية والملابس الطقسية، لن يكون بمقدور هؤلاء تقديم قرابينهم وإقامة الاحتفالات الخاصة بهذه المناسبة. وفي هذه الحالة ألا يكونون في موقف يستحقون فيه التعزية؟»
فسأله تشن داي: «ولكن لماذا كان كونفوشيوس يحمل معه هدية كعربون ولاء عندما يغادر إلى دولة أخرى؟» أجابه منشيوس: «إن المثقف الذي يشغل منصبا حكوميا يشبه الفلاح الذي يعمل في أرضه. هل يترك الفلاح أدوات عمله وراءه إذا انتقل إلى مكان آخر؟»
قال تشن داي: «دولة جن
Jen
هي المكان الذي يبحث فيه المثقفون عن وظيفة حكومية، ولكني لم أسمع أن أحدا منهم كان على عجلة من أمره. ثم إنه إذا كان البحث عن وظيفة مسألة ملحة إلى هذه الدرجة، لماذا لا يقبل المثقف الوظيفة بسهولة؟»
أجابه منشيوس: «عندما يولد طفل فإن أبويه يتمنيان أن يجدا له في المستقبل زوجة صالحة، وعندما تولد طفلة فإن والديها يتمنيان أن يجدا لها في المستقبل زوجا صالحا. ولكن إذا قام شاب وفتاة بإحداث ثقب في الحائط ليتلصصا على بعضهما خفية، أو تسلق أحدهما الحائط من أجل لقاء الآخر، دون موافقة الوالدين أو مسعى وسيط الزواج؛ فسيكون ذلك مرذولا من الأهل ومن الناس.
إن القدماء لم يرفضوا فرص العمل الحكومي، ولكنهم كرهوا الحصول على المنصب بوسائل غير شريفة. إن الحصول على منصب بوسائل غير شريفة، يشبه حفر ثقب في الحائط أو تسلقه من أجل اللقاء.»
4
قال التلميذ بينغ قينغ لمنشيوس: «أليس من المبالغة (في المظاهر) أن ترتحل من دولة إلى أخرى برفقة مئات الرجال وعشرات العربات تتحرك وراءك، لتعيش على حساب هذا الحاكم أو ذاك؟»
19
أجابه منشيوس: «لا يجوز للمرء أن يقبل حتى سلة من الأرز إذا لم يكن ذلك متفقا مع طريق الفضيلة. ومن جهة أخرى نجد أن شون
Shun
قد قبل أن يأخذ المملكة بأكلمها من يد ياو
20
دون أن يرى أحد في ذلك مبالغة؛ لأنه تم وفق طريق الفضيلة.»
قال بينغ قينغ: «كلا. ما زلت أعتقد أنه لا يجوز للمثقف أن يحصل على لقمة عيشه دون أن يفعل أي شيء.»
قال منشيوس: «إذا لم يقم الناس بتبادل المنتجات والخدمات، فيحصل صاحب الحاجة على حاجته ممن يملك فائضا منها، فسوف يكون لدى الفلاحين فائضا من الحبوب، ولدى النساء فائضا من الغزل والنسيج. أما إذا حصل التبادل فإن النجارين وصانعي العربات سوف يحصلون على لقمة عيشهم منك. والآن لنفترض أن لدينا رجلا بارا بوالديه في البيت ومخلصا لرفاقه خارج البيت، ويحافظ على طريق الفضيلة الذي سلكه الملوك القدماء ويعلمه للتلاميذ الشباب،
21
كيف لا يجوز له أن يحصل على لقمة عيشه من وراء ذلك؟ وكيف تعطي أهمية لعمل النجار وصانع العربات فوق ما تعطيه لمعلم الفضيلة والاستقامة؟»
أجابه بينغ: «إن دافع النجار وصانع العربات هو كسب الرزق، فهل يقصد الرجل النبيل كسب الرزق من وراء مبادئه الأخلاقية؟» قال منشيوس: «لماذا تتحدث عن الدوافع؟ إنهم فقط يقدمون لك خدمة، ويستحقون مقابل ذلك طعاما وأنت تزودهم به. هذا كل ما في الأمر. هل تقدم الطعام مقابل الخدمة أم مقابل الدافع؟» أجاب بينغ: «أقدمه مقابل الدافع.» قال منشيوس: «لنفترض أن هنالك رجلا يحطم لك آجر البيت ويلطخ جدرانه بالزيت، ثم يقول لك إن دافعه هو تحصيل القوت، هل تعطيه إياه؟» قال بينغ: «كلا.» قال منشيوس: «في هذه الحالة أنت لا تنظر إلى دوافع المرء، بل إلى ما يقدمه من خدمة.»
5
سأل وان جانغ
Wan Zhang
22
منشيوس: «إذا اختارت دولة سونغ
Song ، وهي دولة صغيرة، أن تمارس الحكم الرشيد، ثم قامت دولتا تشي
Qi
وتشو
Chu
بمهاجمتها لهذا السبب، فما الذي يجب فعله حيال ذلك؟»
أجابه منشيوس: «عندما أقام تانغ في بو
Bo
كانت دولة قيه
Ge
الصغيرة مجاورة له، وكان حاكمها فاسقا ولا يقيم شعائر القربان،
23
فبعث إليه تانغ برسل يسألونه عن سبب عدم إقامته للشعائر، فقال لهم إنه لا يملك الحيوانات اللازمة لإقامتها. عند ذلك أرسل تانغ إليه ثيرانا وخرافا، ولكنه ذبحها وجعلها طعاما، وبقي عازفا عن إقامة الشعائر، فأرسل إليه تانغ مرة ثانية يسأله السؤال نفسه، فقال لهم إنه لا يملك الحبوب اللازمة لإقامة الشعائر، فأرسل إليه تانغ رجالا من بو لكي يقوموا له بأعماله الحراثة والزراعة، وأرسل معهم كبارا وصغارا يحملون الطعام للعمال، ولكن حاكم قيه خرج مع رعيته واعترض طريق حاملي الطعام والشراب، وقتل من رفض منهم إعطاءه ما يحمل، وبينهم طفل، وصادر حمولتهم. وقد ورد في كتاب التاريخ إشارة إلى هذه الحادثة في سطر يقول: حاكم قيه عامل حاملي الطعام مثل أعداء.
وعندما شن تانغ حملة تأديبية ضد قيه بسبب مقتل الطفل، قال أهل البلاد جميعا إنه لم يفعل ذلك طمعا في أرزاق الدول الأخرى، وإنما انتقاما لعامة الرجال وعامة النساء. قام تانغ بإحدى عشرة حملة؛ أولها الحملة على قيه، وأثبت فيها أنه لا غالب له في كل البلاد. عندما كان يقاتل في الشرق كان أهل القبائل في الغرب يتذمرون قائلين: لماذا لم يأت إلينا أولا؟ وعندما كان يقاتل في الجنوب كان أهل القبائل في الشمال يتذمرون قائلين: لماذا لم يأت إلينا أولا؟ والكل يتمنى حضوره مثل ما يتمنون قدوم غيمة سوداء ماطرة في موسم الجفاف. وفي هذه الأثناء لم يتوقف أهل السوق عن الذهاب إلى أسواقهم، ولم يتوقف الفلاحون عن تعشيب حقولهم. لقد قبض على الطاغية وأعدمه، وجلب الطمأنينة إلى الرعية، فكان مثل المطر الذي يأتي في أوانه فيفرح القلوب. وقد ورد في كتاب التاريخ: نحن في انتظار الملك لكي يريحنا من عذابنا. وورد أيضا: دولة يو
You
لم تعلن خضوعها، فتوجه الملك إليها شرقا وجلب الطمأنينة للرجال والنساء هناك، الذين جهزوا هدايا من سلال الحرير الأسود والأصفر على أمل أن ينالوا شرف لقاء الملك، ويعبرون عن رغبتهم في أن يكونوا رعايا مملكة جو
Zhou
العظيمة.
24
الرسميون ملئوا سلالهم بالحرير وخرجوا للترحيب بالرسميين من جو، والعامة خرجوا للترحيب بالجنود من جو ومعهم الطعام والشراب، والكل عرف أن ملك جو لم يأت إلا لإنقاذ الناس من عذابهم ومن طغيان حاكمهم.
وقد ورد في كتاب التعليم الكبير
Taishih :
25
لقد أظهرنا قوتنا العسكرية ودخلنا أراضي يو فقتلنا حكامها الطغاة، وفي ذلك كنا أكثر مجدا حتى من تانغ.
والآن، إذا لم ترغب دولة سونغ في تطبيق الحكم الرشيد فهذا شأنها، وإن فعلت فإن كل أهالي البلاد سوف يتطلعون إليها آملين أن يغدو ملكها حاكما عليهم، فلماذا الخوف إذن حتى من دولتي تشي وتشو القويتين؟»
6
قال منشيوس لتاي بو-شينغ (الوزير في دولة سونغ): «هل ترغب في أن يكون سيدك ملكا فاضلا؟ إذن دعني أوضح لك بعض الأمور. هب أن وزيرا في دولة تشو يرغب في تعليم ابنه لهجة دولة تشي، هل يستخدم رجلا من تشي ليكون معلما له أم رجلا من تشو؟» قال تاي: «يستخدم رجلا من تشي لهذه الغاية.»
فقال منشيوس: «إذا كان رجل من تشي يقوم بتعليم الصبي لهجة تشي، بينما الناس من حوله يتكلمون لهجة تشو، فإن الصبي لن يتعلم لهجة تشي حتى ولو عوقب بالجلد عدة مرات في اليوم. ولكن إذا أخذ إلى تشي وأقام في أحد أحياء العاصمة عدة سنوات، فإنه لن يحافظ على لهجة تشو ولو عوقب بالجلد عدة مرات في اليوم.
أنت تقول إن شوي جو جو
Xue Chu-chou
مثقف فاضل؛ ولذا تود أن تقربه من الملك. ولكن لو كان كل الذين حول الملك، كبارا وصغارا، من مراتب عليا أو من مراتب دنيا، يشبه شوي جو جو، فهل سيفلح أحد في دفع الملك لإتيان أعمال شريرة؟ أما إذا كان كل الذين حول الملك لا يشبهون شوي جو جو، فمن يقدر على دفع الملك لإتيان أعمال حسنة؟ فما الذي يستطيع شوي جو جو وحده تغييره لخير ملك سونغ؟»
7
قونغ-صن تشو
Gong Sun-chou
سأل منشيوس: «ما هو السبب وراء رفضك القيام بزيارة أمراء المقاطعات؟» أجابه منشيوس: «في الماضي لم يكن المثقف يجتمع بأمير مقاطعة إذا لم يكن موظفا لديه. دوان-قان مو
Duna-kan Mu
26
تسلق الجدار لكي يتفادى زيارة الأمير له، وشيي ليو
Xie Liu
27
وضع المزلاج وراء الباب لكي لا يدخل الأمير بيته، ولكن الاثنين كانا متطرفين في سلوكهما هذا لأنه في حال إصرار الأمير يجوز للمرء أن يوافق على الزيارة.
كان يانغ هو
Yang Huo
28
يرغب في رؤية كونفوشيوس، ولكنه أراد حدوث ذلك وفق قواعد الأدب والمعاملات، التي تقضي بأنه إذا أرسل مسئول رفيع هدية إلى المثقف ولم يكن في البيت؛ فإن على المثقف أن يزور المسئول لشكره على الهدية. وهكذا فقد انتهز يانغ هو فرصة غياب كونفوشيوس عن منزله، وأرسل له خنزيرا رضيعا مطهوا على البخار كهدية، (أملا في أن يبادر كونفوشيوس لزيارته)، ولكن كونفوشيوس فطن لذلك فقام بالمقابل بزيارة شكر للأمير عندما كان غائبا عن منزله.
والآن، لو أن يانغ هو بادر كونفوشيوس بالزيارة لما امتنع كونفوشيوس عن رؤيته. وقد قال تسينغ تزو
Tseng Tzu
إن رفع الكتفين ورسم ابتسامة متملقة على الوجه ترهق المرء أكثر من العمل في مسكبة للخضراوات في الصيف القائظ. كما قال تسو لو
Tzu-lu
إن الحديث مع من يخالفك في المزاج والهوى، وما ينجم عن ذلك من ارتباك، أمر لا أفهمه.
29
من هذا يتبين لك ماذا على الرجل النبيل أن ينمي في داخله.»
8
قال داي ينغ-تشيه
Dai Ying-zhi
الوزير في دولة سونغ لمنشيوس: «إنه لمن المبكر الآن تطبيق ضريبة العشر وإلغاء ضريبة المرور والأسواق، ولكن ماذا عن تخفيفها قبل تطبيق ضريبة العشر في العام القادم؟»
30
أجابه منشيوس: «لنفترض أن هنالك شخصا يسرق من جاره دجاجة في كل يوم، وقال له أحدهم بأن هذا لا يليق بالشخص الطيب، فأجابه السارق: حسنا، دعوني الآن أخفف من سرقاتي فأسرق دجاجة كل شهر فقط، وفي العام القادم أتوب.
عندما ندرك أن ما نقوم به غير أخلاقي، علينا أن نقلع عنه حالا. لماذا الانتظار حتى العام القادم؟»
9
قال التلميذ قونغ-دو تزو
Gong-du Tzu
لمنشيوس: «يقول الجميع
31
عنك إنك محب للجدل يا معلم. لماذا؟» أجابه منشيوس: «لست محبا للجدل، ولكن لا خيار آخر لدي.»
منذ أن وجد العالم كان هنالك على الدوام أوقات يسود فيها النظام والهدوء، وأوقات تسود فيها الفوضى؛ ففي عهد الملك ياو
Yao
غمرت مياه الطوفان البلاد الوسطى وحولتها إلى مواطن للزواحف والأفاعي، وبقي البشر بلا مأوى. والذين كانوا يسكنون السهل جعلوا لأنفسهم أعشاشا على الشجر، والذين كانوا يسكنون في الأراضي العليا جعلوا مساكنهم في الكهوف. وقد ورد في كتاب التاريخ: لقد كان الطوفان بمثابة إنذار لنا.
وقد أسند ياو مهمة السيطرة على الطوفان إلى يو
Yu ، فقام هذا بدوره بحفر المجاري في الأرض من أجل تحويل المياه إلى البحر، كما طرد الزواحف والأفاعي من المستنقعات. وهكذا راح الماء ينساب في مجاريه التي صارت أنهارا، وهي: يانغزي
Yangtse ، وهواي
Huai ، والنهر الأصفر، وهان
Han . وبعد أن تم التخلص من الطيور والحيوانات المؤذية للبشر وإزالة كل العقبات أمامهم، عاد الناس للإقامة في السهول.
بعد وفاة ياو وشون اختفى طريق الحكماء، وحكم الطغاة واحدا بعد الآخر. وقد قام هؤلاء بهدم بيوت العامة ليصنعوا بركا وبحيرات لأنفسهم، ولم يجد الناس مكانا لسكنهم، كما جعلوا من الحقول مزارع وبساتين وحدائق، ولم يجد العامة ما يأكلونه وما يلبسونه، فساد العنف والزوغان عن سبل الحق. ومع تزايد البرك والبحيرات والحدائق، واتساع المستنقعات، جاءت الحيوانات والطيور لتسكن فيها.
في أيام الملك الطاغية زو
Zhou ، عادت المملكة إلى حالة الفوضى الشاملة؛ فقام الأمير جو بمساعدة الملك وو
Wu
على خلع الملك جو، فشن على دولة ين حربا تأديبية دامت ثلاث سنوات، وقتل الملك جو، ثم طارد فيليان
Feilian
حتى شاطئ البحر وقتله هناك، ثم ضم إليه خمسين دويلة. وبعدها طرد النمور والفهود وأفراس النهر والفيلة، وأبعدها نحو البراري البعيدة، فعمت البهجة أرجاء البلاد. وقد ورد في كتاب التاريخ: كم كانت خطط الملك ون محكمة! وكم كانت منجزات الملك وو عظيمة! بفضلها مشت الأجيال اللاحقة في طرق الحق دون أن تضل.
ثم آلت أحوال البلاد إلى الانحطاط، وساد العنف والزوغان عن سبل الحق، وتكررت أحداث قتل الملوك وقتل الآباء. في تلك الأيام استوعب كونفوشيوس ما يجري، ودون كتاب حوليات الربيع والخريف. كانت تلك الحوليات امتيازا ملوكيا؛ ولذلك قال كونفوشيوس فيها: ربما سيفهمني البعض، وربما لا يفهمني البعض الآخر ويدينونني.
32
في هذه الأيام لم يعد للملوك والحكماء وجود، وأمراء المقاطعات يسلكون وفق هوى نفوسهم، والمثقفون الذين لا عمل لهم يقتبسون دون تمحيص أقوالا منسوبة ليانغ تشو
Yang Chu
ومو دي
Mo Di
33 (= مو تزو)؛ وبذلك سادت في البلاد أفكار مدرسة يانغ ومدرسة مو. لقد دافع يانغ عن مبدأ الفردية الذي يقوده في النهاية إلى رفض المرء لحاكمه، أما مو فدافع عن مبدأ الحب الشمولي الذي لا تمييز فيه والذي يقود في النهاية إلى عدم تفضيل الفرد لأبويه عن الآخرين، وعدم تفضيله لحاكمه أيضا ، وهذا ما ينزل بالبشر إلى مرتبة الحيوانات.
وقد قال قونغ-مينغ يي
Gong-ming Yi
34
مرة: بما أن لديه لحما وافرا في مطبخه، وخيلا معلوفة في إسطبلاته، فإنه لا يبالي بجوع الناس الذين يسقطون أمواتا في الريف، وهو في ذلك كأنما يفتح الطريق أمام الضواري لتفترس الرعية.
لذلك أقول بما أن مبادئ يانغ ومو سائدة، ومبادئ كونفوشيوس غائبة؛ فإن الناس سيبقون في ضلالة، وطريق الحق والعدل سيبقى مسدودا. وعندما تسد طريق الحق والعدل فإن ذلك سيقود الضواري لافتراس البشر، وبعد ذلك يفترس البشر بعضهم بعضا.
لقد وعيت ذلك كله، وعلي أن أنهض لكي أدافع عن طريق الملوك القدماء، وأناضل ضد مبادئ يانغ ومو وأدحض مقولاتهما المتطرفة، فلا يبقى بعد ذلك أحد يدافع عن الذي ينشرونه من ضلالات؛ لأنه إذا بقي هؤلاء يؤثرون على عقول الناس، فسوف ينعكس ذلك على السياسة، والذي يتجلى في السياسة سوف ينعكس على الممارسة. إذا ظهر بعدي حكماء فسوف يوافقون بالتأكيد على ما قلت.
في تلك الأيام القديمة قام يو بالسيطرة على الفيضانات فعاد النظام إلى الدولة، وقام الأمير جوع بإخضاع قبائل يي
Yi
ودي
Di
وطرد الضواري؛ فجلب الطمأنينة للناس الذين عادوا إلى الاستقرار. وكتب كونفوشيوس حوليات الربيع والخريف فأدخل الرعب في قلوب الوزراء الخونة والأولاد العاقين. وقد ورد في كتاب القصائد: بعد أن أخضعت القبائل البربرية، وعاقبت تشينغ
Ching
وشو
Shu ، لم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهي.
لقد عاقب الأمير جو الذين تنكروا لحكامهم وآبائهم،
35
وأنا أرغب في أن أفعل مثله، وأسير على خطى الحكماء الثلاثة القدماء، فأقوم عقول الناس وأزيل ما داخلها من ضلالات، وأقاوم البدع، وأدحض الآراء المتطرفة.
لست محبا للجدل ولكنني لا أملك خيارا آخر. إن كل من لديه شيء يقوله في معارضة مبادئ يانغ ومو، يغدو حقا تلميذا للحكماء الثلاثة.»
36
10
قال كوانغ جانغ
37
لمنشيوس: «أليس تشن تشونغ-تسي
Chen Chong-zi
رجلا عفيفا حقا؟ عندما أقام في وولينغ
Wuling
لم يتناول طعاما لمدة ثلاثة أيام، حتى إنه لم يعد يرى أو يسمع، ثم إنه زحف وتناول خوخة ملقاة قرب البئر أكل الجعل نصفها، فقضم منها بضع قضمات فصار قادرا على السمع والرؤية مرة أخرى.»
أجابه منشيوس: «بين مثقفي تشي لا أجد أحدا أفضل من تشن تشونغ-تسي، ولكن كيف بإمكاننا أن نعتبره عفيفا؟ إن الحياة التي يعيشها جديرة فقط بدودة الأرض التي تأكل التراب في الأعلى وتشرب من الماء السفلي. هل البيت الذي يسكنه بناه رجل صالح مثل بو يي
Bo Yi
أم رجل طالح مثل اللص جي
Zhi ؟ هل حب الدخن الذي يأكله أنتجه واحد مثل بو يي أم آخر مثل جي؟ إنه في الحقيقة لا يعرف.»
قال كوانغ جانغ: «هذا ليس بالأمر المهم. إنه يصنع بنفسه صنادل من القش، وزوجته تغسل وتفتل خيوط الكتان لتقايض بها.»
أجابه منشيوس: «تشن تشونغ-تسي ينتمي إلى أسرة كريمة في دولة تشي. أخوه الأكبر داي
Dai
يحصل على إيراد سنوي مقداره عشرة آلاف مكيال من الحبوب، ولكنه كان يظن أن إيراد أخيه حرام، فلم يأخذ منه شيئا. وكان يرى أيضا أن أخاه قد بنى بيته بدخل حرام؛ ولذلك رفض أن يسكن فيه. وهكذا بعد أن انفصل عن أخيه وترك أمه جاء ليعيش في ووليينغ. وفي أحد الأيام جاء لزيارة البيت، ووجد أن أخاه قد تلقى إوزة كهدية، فقطب حاجبيه وقال: ما نفع هذا المخلوق المقوقئ؟ وبعد أيام قامت أمه بذبح الإوزة وطبخها، ثم أعطته منها فأكل، وهنا دخل أخوه وقال له: هذا لحم المخلوق المقوقئ. فخرج لتوه وتقيأ ما أكله.
إنه لا يأكل مما تعطيه أمه، ولكنه يأكل مما تطبخ له زوجته، وهو يقيم في وولينغ ولكنه لا يسكن في بيت أخيه. هل يعتقد بأنه عاش وفق معاييره الأخلاقية بنجاح؟ إن ذلك يتطلب أن يكون المرء دودة أرض أولا.»
38
الباب السابع: لي لو
1
قال منشيوس: حتى وإن كان لديك بصر حاد مثل بصر لي لو،
1
ومهارة تعادل مهارة قونغ-شو تسو
Gong-shu Tzu ،
2
فإنك لن تقدر على رسم مربع أو دائرة دون الاستعانة بمربع النجارين وبفرجار. حتى وإن كان لديك أذن مرهفة مثل أذن الموسيقار كوانغ
Kuang ،
3
فإنك لن تستطيع عزف المقامات الخمسة
4
دون استخدام أداة المزامير الستة. وحتى لو عرفت طريق ياو وشون، فإنك لن تستطيع توحيد وحكم البلاد إذا لم تطبق الحكم الرشيد.
بعض الحكام لديهم قلوب رحيمة وسمعة جيدة، ولكنهم لم يفلحوا في تقديم منافع للناس، وفي ضرب المثل الصالح للاحقين؛ لأنهم لم يتبعوا طريق الملوك الحكماء؛ فالنوايا الطيبة وحدها لا تكفي للحكم الصالح، وسن القوانين وحده لا يكفي لوضعها موضع التطبيق، على ما ورد في قول مأثور. كما ورد في كتاب القصائد: لا تحد، ولا تغفل عن شيء، والزم القواعد المؤسسة في كل ما تقوم به.
إن من يتبع طريق الملوك القدامى لن يرتكب الأخطاء.
عندما استخدم الحكماء بصرهم إلى الدرجة القصوى، واستعانوا بالفرجار والزاوية والشاقول والفادن؛ برعوا في عمل المربعات والدوائر والخطوط المستقيمة. وعندما أرهفوا سمعهم إلى الدرجة القصوى، ابتكروا المزامير الستة لعزف المقامات الخمسة. وعندما فتحو قلوبهم إلى الدرجة القصوى توصلوا إلى تطبيق الحكم الرشيد وساد الخير في البلاد. ولقد قيل قديما إنك لكي تبني مصطبة عالية عليك الإفادة من تل قائم، ولكي تحفر بركة عميقة عليك الإفادة من نهر أو مستنقع. فكيف لحاكم أن يعد حكيما إذا لم يتبع في حكمه طريق الملوك الحكماء القدماء؟
لذلك أقول إن المناصب العليا ينبغي أن تكون وقفا على الصالحين؛ لأنه إذا وضع الطالحون في المناصب العليا، فسوف ينشرون الفساد بين الجميع. إذا كان الأعلون لا يلتزمون بالمبادئ الخلقية، والأدنون لا يراعون القانون، وإذا كان رجال الحاشية لا يؤمنون بطريق الحق، والحرفيون لا يثقون بالمعايير والمقاييس، وإذا كان الرسميون لا يعدلون، والعامة لا يأبهون بالقانون الجزائي؛ فإن بقاء الدولة مشكوك به ويعتمد على الحظ فقط.
من هنا يمكننا القول بأن ضعف التحصينات وقلة الأسلحة والجنود لا يشكل خطرا داهما على الدولة، كما أن تزايد مساحة الأرض اليباب وتناقص الثروة لا يشكل خطرا داهما على الدولة أيضا، ولكن إذا كان المسئولون لا يراعون الطقوس وقواعد الأدب والمعاملات، والعامة لا ينالون تعليما وتهذيبا، والخارجون على القانون يرتعون دونما رادع؛ فإن أيام الدولة تغدو معدودة. وقد ورد في كتاب القصائد: إن السماء على وشك الارتجاج، فتوقف عن اللغو والثرثرة.
اللغو هو الهذر، والمهذار هو الذي لا يأبه لخدمة الحاكم وفق ما يمليه الواجب، والذي لا يلتزم بالطقوس وقواعد الأدب والمعاملات في قبوله للمنصب أو رفضه، ومع ذلك يتهجم على طريق الملوك القدماء؛ ولهذا قيل: إن توبيخ الحاكم بلطف يعني احتراما له، وتقديم الأفكار الحسنة له وإبعاد الأفكار الضارة يعني تبجيلا له، أما القول بأن أميري عاجز عن الخير فهذا كلام اللصوص.
2
قال منشيوس: «الفرجار ومربع النجار هما كمال الدائرة والمربع، والحكماء هم كمال الإنسانية؛ لذلك على من يتطلع إلى منصب الحاكم أن يؤدي واجبات الحاكم، وعلى المرءوسين من جهتهم تأدية واجبات المرءوسين، وعلى الفريقين اتباع طريق ياو وشون. إذا لم يخدم المرءوسون الحاكم مثلما خدم شون ياو، كانوا مقصرين في تقديم فروض الاحترام له، وإذا لم يدر الحاكم شئون شعبه مثلما فعل ياو أضر بهم. وقد قال كونفوشيوس: هنالك طريقان، وطريقان فقط؛ أن تكون حاكما رشيدا، أو أن تكون حاكما مستبدا.
إذا استبد الحاكم إلى الدرجة القصوى سوف يقتل وتلحق دولته بدولة أخرى، وحتى إذا حكم بدرجة أقل من الاستبداد سوف تكون حياته مهددة وتتقلص مساحة دولته، وفي كلا الحالتين سوف يطلق عليه لقب الأحمق أو لقب الطاغية، والذي سيلتصق به عبر مئات الأجيال القادمة. وقد ورد في كتاب القصائد ما يعبر عن ذلك: إن المثال التحذيري لأسرة ين ليس بعيدا زمنيا؛ فلقد كان لهم مثال في أسرة شيا
Xia .
5
3
قال منشيوس: «لقد حازت الأسر الثلاث (= شيا
Xia ، وشانغ
Shang ، وجو
Zhou ) على السلطة بالرحمة، وفقدتها بالقسوة، وهذا ينطبق بشكل عام على صعود وسقوط أية دولة. إن لم يكن الملك محسنا رحيما فلن يحافظ على ملكه، وأمير المقاطعة إن لم يكن محسنا فلن يحافظ على معبد أسلافه (ويقدم لهم فيه القرابين). والمثقف، وكذلك العامي، لن يحفظ حياته إن لم يكن محسنا. إذا كنت تكره الموت ومع ذلك تمارس القسوة؛ فأنت مثل من يكره السكر ومع ذلك يشرب فوق ما يطيق.»
4
قال منشيوس: «إذا بذلت الحب ولم يبادلك الآخرون بمثله، تساءل عما إذا كنت بذلت ما يكفي من الإحسان. وإذا حكمت دون الحصول على نتائج، تساءل عما إذا كان لديك ما يكفي من الحكمة. وإذا أظهرت اللطف والكياسة دون أن تقابل بالمثل، تساءل عما إذا أظهرت ما يكفي من الاحترام، وبتعبير آخر، إذا لم يؤد سلوكك إلى النتائج المرجوة، فتش في داخلك عن السبب. إذا أصلحت نفسك تحصل على ولاء أهل المملكة أجمعين. وقد ورد في كتاب القصائد: تلاءم مع مشيئة السماء، وابحث عن حظك بنفسك.»
6
5
قال منشيوس: «هنالك تعابير شائعة: ما تحت السماء (العالم)، الدولة، العائلة. إن أساس العالم هو الدولة، وأساس الدولة هو العائلة، وأساس العائلة هو أنت.»
7
6
قال منشيوس: «إن إدارة الدولة ليست بالأمر الصعب، وهي تقوم على إبقاء علاقات حسنة مع الأسر النبيلة. إن ما يعجب تلك الأسر يعجب الدولة، وما يعجب الدولة يعجب العالم. عندما يحصل ذلك فإن المبادئ الأخلاقية تنتشر في المملكة مثل تيار مائي عظيم.»
8
7
قال منشيوس: «عندما يسود صراط الحق في المملكة، فإن ذوي الفضيلة الأقل يخدمون ذوي الفضيلة الأكثر، وذوي القدرة الأقل يخدمون ذوي القدرة الأكثر. أما عندما يغيب صراط الحق، فإن الصغير يخدم الكبير، والضعيف يخدم القوي، وكلا الحالتين يعكسان مشيئة السماء. من يخضع لمشيئة السماء يحفظ نفسه، والذي يعارض مشيئة السماء يفنى. وقد قال الأمير تشينغ
9
حاكم تشي: لم أكن في وضع يسمح لي بإصدار الأوامر، ولست راغبا في تلقي الأوامر، وهذا يعني الفناء؛ ولذلك فقد زوج ابنته بدموع الحزن إلى ملك دولة وو
Wu .
10
اليوم نجد أن الدولة الصغيرة ترغب في التعلم من الدول الكبيرة، ولكنها تخجل من أن تتلقى منها الأوامر، وهي في هذا مثل التلميذ يخجل من تلقي توجيهات معلمه. إن من يخجل من توجيهات معلمه عليه أن يحتذي بالملك ون.
11
عندما تبدأ دولة كبيرة بالتعلم من الملك ون، فإنها لن تحتاج إلا إلى خمس سنوات لكي تحكم جميع البلاد، أما الدولة الصغيرة فتحتاج إلى سبع سنوات لتفعل الشيء نفسه.
وقد ورد في كتاب القصائد: نسل الملك شانغ كانوا أكثر من مائة ألف، ولكنهم طاعة لمشيئة السماء خضعوا لأسرة جو
Zhou ؛ وقد فعلوا ذلك لأن مشيئة السماء لا يمكن تغييرها، ورجال وو الوسيمون والأذكياء مضوا جميعا إلى عاصمة جو وسكبوا ماء القربان هناك.
12
قال كونفوشيوس: القوة الأخلاقية لا تقاس بعدد السكان؛ ولذلك إذا مال الحاكم إلى الحكم الرشيد فلن يكون له غالب في البلاد.
إذا رغب الحاكم في ألا يكون له غالب في البلاد، ومع ذلك يرفض تطبيق مبادئ الحكم الرشيد، يشبه من يتألم من قسوة حرارة الجو ولكنه يرفض تبريد جسده بالماء. وقد ورد في كتاب القصائد: من يقدر أن يقبض على شيء حار ويرفض تبريد يده بالماء؟»
13
8
قال منشيوس: «كيف يمكن التفاهم مع شخص عديم الرحمة؟ إنه يركن إلى طمأنينة حتى عندما تحدق به الأخطار، ويندفع لتحقيق المنافع في أوقات الكوارث، ويجد متعته في ما يسبب له الهلاك. لو أنصت عديم الرحمة إلى صوت العقل لما كان هنالك ممالك مدمرة وعائلات مشتتة. هناك أغنية لهدهدة الأطفال تقول: إذا كان ماء النهر نقيا فإني أغسل به أربطة قبعتي، وإذا كان الماء عكرا فإني أغسل به قدمي. ويقول كونفوشيوس: أنصت يا بني. إن الماء الصافي يصلح لغسل أربطة القبعة، والماء العكر يصلح فقط لغسل الأقدام. الاستخدامات المختلفة للماء تقررها أنت بنفسك.
14
لذا أقول إن الشخص الذي يهين نفسه سيهان من قبل الآخرين، والأسرة التي تدمر نفسها سوف تدمر، والدولة التي يسهل غزوها كانت قد سببت لنفسها أسباب الغزو قبل ذلك. يقول تاي تشيا
15
في الموضوع نفسه: هنالك أمل في تجنب البلايا التي تأتي من السماء، أما البلايا التي تأتيك من نفسك فلا راد لها.
وفي هذا توضيح لما قلت.»
9
قال منشيوس: «الملك تشييه
Chieh
والملك جو فقدا ملكهما لأنهما خسرا الرعية، وخسرا الرعية لأنهما خسرا قلوبها. إذا أردت أن تظفر بالمملكة عليك أن تكسب محبة الناس، وإذا أردت أن تكسب محبة الناس، عليك أن تكسب قلوبهم، وإذا أردت أن تكسب قلوبهم عليك أن تؤمن لهم ما يحتاجون إليه، ولا تفرض عليهم ما يكرهون. الناس ينقادون إلى الحاكم الرشيد مثلما ينساب الماء نحو المنخفضات، ومثلما تتوجه الحيوانات نحو البراري. إن ثعلب الماء يدفع الأسماك نحو الأسفل (هربا منه)، والصقر يدفع الطيور نحو الدغلة، والملكان تشي وجو لم يفعلا سوى أنهما دفعا الرعية إلى الملك تانغ والمك وو.
في هذه الأيام إذا مال أحد الحكام إلى تطبيق مبادئ الحكم الرشيد، فإن حكام المقاطعات سوف يدفعون بالناس إليه، ولسوف تكون له السلطة على كل البلاد حتى وإن لم يكن راغبا في ذلك. ولكن حكام اليوم ممن يتوقون إلى حكم البلاد، يشبهون رجلا مريضا منذ سبع سنوات، ولا يشفيه سوى كوب من نقيع عشبة يجب تخميرها ثلاث سنوات؛ أي إنه لن يستطيع الحصول على هذا الدواء أبدا، إذا لم يتم الانتباه قبلا إلى تخميره ثلاث سنوات. أما الحاكم الذي لم ينو تطبيق مبادئ الحكم الرشيد، فسوف يقضي أيامه في الحزن والخزي حتى مماته. وقد ورد في كتاب القصائد: كيف لهم أن يحققوا النجاح؟ إنهم سوف يموتون غرقا واحدا بعد آخر.
وفي هذا توضيح لما قلت.»
10
قال منشيوس: «لا جدوى من التحدث مع شخص لا يحترم نفسه، ولا فائدة ترجى من التعاون مع شخص لا يثق بنفسه؛ الأول يتهجم على الاستقامة وقواعد الأدب والمعاملات، والثاني يقول إنني لا أقدر على الرحمة والحق. إن الرحمة هي الموئل الآمن، الحق هو الطريق المستقيم للإنسان. والويل لمن لا يقيم في موئله الآمن ولا يسلك طريقه المستقيم.»
11
قال منشيوس: «الطريق القصير متاح لنا، ولكننا نختار الطريق الطويل. السهولة متاحة لنا، ولكننا ننشد الصعوبة. لو أحب كل منا والديه واحترم كبار العائلة؛ لعاش العالم في طمأنينة.»
16
12
قال منشيوس: «إذا لم يكسب الموظفون الأدنون ثقة الحاكم، لن يكون بمقدورهم إدارة شئون الناس. ولكي يكسبوا ثقة الحاكم عليهم أن يكسبوا ثقة أصدقائهم، ولكي يكسبوا ثقة أصدقائهم عليهم أن يسعدوا الوالدين.
إذا افتقد الإنسان الإخلاص في مشاعره الداخلية (ولم يكن صادقا مع نفسه)، لن يقدر على إسعاد الوالدين. ولكي يكون الإنسان مخلصا في مشاعره الداخلية، عليه أن يعرف ما هو حسن. إن الإخلاص هو طريق السماء، والسعي من أجل الإخلاص هو طريق الإنسان، ومن المستحيل على الإنسان المخلص (والصادق مع نفسه) أن يفشل في التأثير على الآخرين، كما إنه من المستحيل على الإنسان غير المخلص أن يفلح في التأثير على الآخرين.»
13
قال منشيوس: «فر الزاهد بو يي
Bo Yi
17
من الملك جو
18
وأقام عند ساحل البحر الشمالي. وعندما سمع بتمرد الملك ون على الملك جو شعر بالسعادة وعزم على الانضمام إليه لأنه يعرف كيف يرعى المسنين. تاي كونغ
19
أيضا فر من الملك جو وأقام عند ساحل البحر الشرقي (وكان في عمر الثمانين). وعندما سمع بتمرد الملك ون عزم على الانضمام إليه؛ لأنه يعرف كيف يرعى المسنين. هذان العجوزان الأكثر إجلالا في البلاد قصدا الملك ون، فكان الأمر كأن كل آباء الشعب قد قصدوه. فإذا كان الآباء قد قصدوه، أفلا يأتي إليه الأبناء أيضا؟
إذا قام أي حاكم الآن باتباع الحكم الرشيد على طريقة الملك ون، ففي سبع سنوات سيكون قادرا على بسط سلطانه على كل البلاد.»
14
قال منشيوس: «عندما كان ران تشيو
Ran Qiu
20
وكيلا لأسرة تشي،
21
زاد الضريبة المفروضة إلى الضعف، ولكنه فشل في تحسين سلوك الأمير. وقد ورد في أحد أقوال كونفوشيوس: إن تشيو لم يعد تلميذي، فاقرعوا الطبول أيها التلاميذ وهاجموه.
من هنا يمكن أن نلاحظ كيف أن كونفوشيوس تنكر لأولئك الذين ساعدوا على ثراء حاكم لا يطبق الحكم الرشيد. والأسوأ من هؤلاء هم الذين يسعون جهدهم من أجل إذكاء نار الحرب لصالح ذلك الحاكم. إن أولئك الساعين إلى اكتساب مزيد من الأراضي بالحرب سيتركونها ملأى بالأجساد الميتة، والساعين إلى فتح المدن بالحرب سيجدونها محشوة باللحم البشري، وهذا يدعى بدفع الأرض لالتهام اللحم البشري. إن الإعدام عقوبة خفيفة لمثل هؤلاء، والمجلون في الحروب يستحقون العقوبة القصوى، يليهم من يعقد التحالفات مع أمراء المقاطعات بعضهم ضد بعض، يليهم الذين يستصلحون الأرض اليباب ويفرضون على الرعية زيادة إنتاجها.»
15
قال منشيوس: «لا شيء في الإنسان أكثر دلالة عليه من عينيه؛ فهما يفشيان ما يكتمه من سوء. عندما يكون القلب طيبا تبرق العينان، وعندما يكون القلب خبيثا تكمدان وتبهتان. كيف يمكن للإنسان إخفاء طبيعته الحقة وأنت تنظر إليه عندما يتكلم؟»
16
قال منشيوس: «الإنسان المحترم لا يهين الآخرين، والمقتصد لا يسرق من الآخرين. الحاكم الذي يهين ويسرق الآخرين يكون في خشية دائمة من تمرد الرعية، فكيف يكون محترما ومقتصدا؟ كيف يمكن التعبير عن الاحترام والاقتصاد من خلال الصوت الناعم والابتسامة اللطيفة؟»
17
سأل تشن-يو قن منشيوس: «هل ورد في كتاب الطقوس وقواعد الأدب أن على المرأة والرجل ألا يتلامسا عندما يتبادلان الأخذ والعطاء؟» أجابه منشيوس: «هذا صحيح.» فقال تشن-يو قن: «إذن إذا كانت زوجة شقيق أحدهم توشك على الغرق، ألن يمد يده لإنقاذها؟» أجابه منشيوس: «إذا لم يمد يده لإنقاذها سيكون وحشا. لقد ورد في كتاب الطقوس أن على الرجل والمرأة ألا يتلامسا في حال الأخذ والعطاء، ولكن مد اليد لإنقاذ زوجة الشقيق من الغرق هو حالة خاصة تستدعي المرونة.» فتابع تشن-يو قن: «إن المملكة بكاملها تغرق الآن، فلماذا لا تنقذها؟» أجابه منشيوس: «المملكة الغارقة يمكن إنقاذها بالمبادئ الصحيحة، وزوجة الشقيق الغارقة يمكن إنقاذها بمد اليد إليها. هل تريدني أن أنقذ المملكة بيدي؟»
18
قونغ-صن تشو
Gong-sun Chou
سأل منشيوس: «لماذا جرت العادة على ألا يقوم الرجل النبيل بتعليم ابنه بنفسه؟» أجابه منشيوس: «لأن ذلك لن ينجح؛ فالمعلم يلجأ إلى تصحيح المتعلم، وعندما لا يحصل على نتيجة فإنه يغضب، وعندما قد يلجأ الأب إلى إيذاء ابنه، وعندها يقول التلميذ: أنت تعلمني من خلال التصحيح، ولكنك لا تفعل ذلك بالطريقة الصحيحة. وبهذا فإن الأب والابن يؤذيان بعضهما البعض، وهذا لن يصب في مصلحة أحد؛ لهذا فقد كان القدماء يتبادلون تعليم أبنائهم، وبهذه الطريقة لا يطلب الأب والابن من بعضهما الكمال؛ لأنه إذا طلبا من بعضهما الكمال فسيبتعدان عن بعضهما البعض، ولا شيء أسوأ من التباعد بين الآباء والأبناء.»
19
قال منشيوس: «ما هو الواجب الأول المترتب على الإنسان؟ إنه واجبه نحو أبويه. ما هو المبدأ الأول الذي يتوجب على الإنسان الالتزام به؟ إنه الحفاظ على التكامل الشخصي. لم أسمع أن شخصا يحافظ على تكامله الشخصي لا يقدر على تأدية واجبه تجاه والديه، ولم أسمع عن شخص لم يحافظ على تكامله الشخصي ويقدر على تأدية واجبه تجاه والديه. هنالك واجبات عديدة مترتبة على الإنسان، ولكن الواجب تجاه الوالدين هو أساس كل الواجبات. وهنالك مبادئ عديدة يتوجب على الإنسان الالتزام بها، ولكن أهمها هو الحفاظ على التكامل الشخصي.
عندما كان تسينغ تسو
Tseng Tzu
يخدم والده تسينغ شي
Tseng Xi ، حرص دوما على تقديم اللحم والنبيذ له في كل وجبة، فإذا انتهى من الأكل وجاء تسينغ تسو لرفع المائدة سأل والده عمن يود أن يعطي المتبقي، وعندما كان الأب يسأل عما إذا كان قد بقي هنالك شيء من الطعام، كان جواب الابن: نعم.
توفي الأب تسينغ شي وشاخ ابنه تسنغ تسو، فراح ابنه تسينغ يوان
Tseng Yuan
يعتني به، وكان يقدم له اللحم والنبيذ في كل وجبة، فإذا انتهى من الأكل وجاء ابنه تسينغ يوان لرفع المائدة لم يسأله عمن يود أن يعطي المتبقي، وعندما كان الأب يسأل عما إذا كان قد بقي هنالك شيء من الطعام، كان جواب الابن: لا؛ لأنه يود أن يقدم له ما تبقى من الوجبة الثانية؛ أي إنه كان يعنى بحاجات والديه الجسدية، أما تسينغ تسو فكان يعنى بحاجات والديه العاطفية والنفسية؛ ولهذا فإن سلوكه نموذج يحتذى.»
22
20
قال منشيوس: «لا فائدة من توجيه اللوم إلى الموظفين في البلاط، أو من انتقاد طريقتهم في الإدارة. الرجل الكبير وحده القادر على إصلاح قلب الحاكم. عندما يغدو الحاكم فاضلا يغدو الآخرون فضلاء، وعندما يغدو واعيا بواجباته، يعي الآخرون بها، وعندما يكون مستقيما، يستقيم الآخرون. إذا أصلحت الحاكم وضعت الدولة على أساس سليم.»
21
قال منشيوس: «قد يكون هنالك مديح غير متوقع (أي مديح في غير محله)، وبالمقابل قد يكون هنالك توبيخ غير منصف.»
23
22
قال منشيوس: «لا فائدة من توجيه اللوم لمن يلقون الكلام على عواهنه.»
24
23
قال منشيوس: «هنالك عيب في الرجال، وهو أنهم تواقون للعب دور المعلم.»
25
24
قدم يو-تشينغ تسو
Yue-zheng Tzu
26
إلى دولة تشي بين حاشية الوزير تسو أو
Tzu-ao ،
27
وبعد أيام جاء لزيارة معلمه منشيوس، فقال له منشيوس: «إذن فقد فكرت أخيرا بزيارتي!» أجابه يو-تشينغ تسو باستغراب: «لماذا تقول ذلك يا معلم؟» فسأله منشيوس: «كم يوما مضى على وجودك هنا؟» أجابه يو-تشينغ تسو: «وصلت أول أمس.» قال منشيوس: «إذن ألم أكن محقا في ما قلت؟» أجابه يو-تشينغ تسو: «كنت مشغولا بأمور السكن.» قال منشيوس: «وهل تعتقد أن تجهيز أمور السكن أكثر أهمية من زيارة معلمك؟» قال: «لقد أخطأت.»
25
قال منشيوس ليو-تشينغ تسو: «هل جئت في ركاب تسو أو من أجل الطعام والشراب؟ لم أكن أتوقع أنك تعلمت المبادئ القديمة من أجل هذه الأشياء.»
26
قال منشيوس: «هنالك ثلاثة أفعال تجعل منك ولدا عاقا، وأهمها عدم إنجابك لوريث. الملك شون
Shun
تزوج دون أن يخبر أباه لخوفه من ألا يكون له وريث، ولكن بالنسبة إلى الرجل النبيل فإنه تصرف كمن أخبر أباه.»
28
27
قال منشيوس: «جوهر الإحسان هو بر الوالدين، وجوهر الاستقامة هو طاعة الإخوة الكبار. جوهر الحكمة أن تعرف هذين الأمرين ولا تنحرف عنهما، وجوهر قواعد الأدب هو خلق التناغم والانسجام بينهما، وجوهر الموسيقى هو جعلها تجربة ممتعة تبهج الإنسان، وعندما تحصل البهجة لا يمكن إيقافها، وعندها فإن الإنسان يحرك قدميه ويلوح بيديه في رقص لا شعوري.»
28
قال منشيوس: «الملك شون وحده كان قادرا على النظر إلى المملكة، بعد أن آلت إليه ومالت جماهيرها إليه بفرح، على أنها لا تساوي أكثر من قشة (فقد كان في حوزته ما هو أكثر أهمية، ألا وهو بر الوالدين). إن من لا يسعد والديه لا يستحق أن يكون إنسانا، ومن لا يطيع والديه ليس أهلا لأن يكون ابنا. شون بذل كل ما في وسعه لكي يسعد أباه الذي فقد بصره (على الرغم من كل العذاب الذي ناله منه في صغره)، وحقق غايته. سعادة الأب مست شغاف قلوب الناس في كل مكان، وضربت مثالا يحتذى لعلاقة الأبناء بالآباء، وهذا ما يدعى بالإنجاز الأسمى للابن البار.»
الباب الثامن: لي لو «2»
1
قال منشيوس: «الملك شون ولد في تشو قينغ
Chu Geng ، ثم انتقل إلى فو شيا
Fu Xia
ومات في مينغ تياو
Ming Tiao (في الشرق). الملك وين ولد في تشي تشو (في الغرب)، ومات في بي ينغ
Bi Ying . موطن أحدهما يبعد عن موطن الآخر مسافة أبعد من ألف لي، وهنالك ألف سنة تفصل بين عصريهما، ولكن ما قاما به من إنجازات في البلاد الوسطى كان متشابها إلى حد بعيد، مثل نصفي عصا الحساب المتقابلين. الحكيم السابق والحكيم اللاحق حكما وفق مبادئ متماثلة.»
1
2
عندما كان الوزير تسو تشان
Tzu Chan (1) مسئولا عن إدارة شئون دولة تشينغ
Cheng ، اعتاد أن ينقل الناس بعربته الخاصة عبر نهري تشن
Chen
ووي
Wei . وقد قال منشيوس بشأنه: «لقد كان رجلا كريما ولكنه لم يعرف أصول الحكم. لو أنه بنى جسر المشاة في شهر نوفمبر، وجسر العربات في ديسمبر، لما عانى الناس من خوض ماء النهر. ولو أنه حكم وفق الأصول فلا مانع أن يقوم أعوانه بإخلاء الطريق عندما يخرج، وما كان له أن يضيع وقته في نقل العابرين واحدا بعد آخر. إذا حاول رجل السلطة تقديم خدماته للناس كلا على حدة، فلن يجد الوقت الكافي للقيام بواجباته العامة.»
3
قال منشيوس لشوان
Xuna
ملك تشي
Chi : «إذا اعتبر الحاكم مرءوسيه بمثابة يديه وقدميه، فلسوف يعتبرونه بمثابة صدرهم وقلبهم. وإذا عاملهم كما يعامل خيوله وكلاب صيده،
2
فسوف يعاملونه وكأنه مواطن عادي. وإذا نظر إليهم وكأنهم طين وقش، فسوف ينظرون إليه وكأنه عدو.»
قال الملك: «وفق قواعد الأدب والمعاملات يجب على المرءوسين الذين عملوا تحت إمرة الملك أن يلبسوا ثياب الحداد عند موته مدة محددة، فما الذي يتوجب على الملك أن يفعل لكي يستحق ذلك؟»
أجابه منشيوس: «عليه أن يصغي لنصائح هؤلاء ويتبناها، وأن يعمم الخيرات لتشمل كل رعاياه. وإذا أراد أحد الوزراء أن يسافر إلى دولة أخرى لسبب مهم، عليه أن يرسل معه من يرافقه إلى خارج الحدود، ومن يرتب له شئون إقامته في المكان الذي يقصده. فإذا لم يعد خلال ثلاث سنوات يحق للحاكم أن يصادر أمواله وممتلكاته، وهذا ما يدعى بإذن السنوات الثلاث. فإذا فعل ذلك كان يستحق منهم إقامة الحداد عليه.
في هذه الأيام نجد أن الحاكم لا يصغي لنصائح مرءوسيه، ولا يتبناها، ولا يعمم الخيرات لتشمل كل رعاياه. وإذا أراد أحدهم السفر لسبب مهم، يقبض عليه ويوضع في الأغلال، أو يجري التضييق عليه في المكان الذي يتوجه إليه، وتصادر أمواله وممتلكاته في اليوم الذي يغادر فيه؛ أي إنه يعامل معاملة الأعداء. إذا عامل الحاكم مرءوسيه كأعداء هل سيرغبون في إقامة الحداد عليه؟»
4
قال منشيوس: «عندما يتم إعدام مثقف بلا جريرة، يحق للوزراء أن يستقيلوا. إذا قتل مواطن بريء، يحق للمثقفين العاملين في الدولة الانتقال إلى دولة أخرى.»
5
قال منشيوس: «عندما يغدو الحاكم رشيدا؛ ينتشر الإحسان بين الجميع. عندما يغدو الحاكم مستقيما؛ تنتشر الاستقامة بين الجميع.»
6
قال منشيوس: «على صاحب المقام الرفيع ألا يسلك بشكل زائف وفق قواعد الأدب والمعاملات، وألا يقوم بواجباته بطريقة لا تتفق وروح الواجب.»
7
قال منشيوس: «على الرجل الفاضل أن يعلم ناقص الفضيلة، وعلى صاحب الموهبة أن يعلم ناقص الموهبة؛ لهذا يسعد من له أب فاضل أو إخوة فضلاء. إذا استنكف الفاضل عن تعليم ناقص الفضيلة، وصاحب الموهبة عن تعليم ناقص الموهبة؛ فلن يكون هنالك فرق بين الفاضل وغير الفاضل.»
3
8
قال منشيوس: «عندما يترك المرء أعمالا غير مهمة، يغدو أكثر قدرة على إتيان أعمال مهمة.»
9
قال منشيوس: «فكر في العواقب قبل أن تتحدث عن نقائص الآخرين.»
10
قال منشيوس: «لم يكن كونفوشيوس يبالغ في أي فعل أو قول.»
11
قال منشيوس: «ليس من الضروري أن يلتزم الرجل الفاضل بكل كلمة يقولها، ولا أن يتوقع نتيجة من كل عمل يقوم به. عليه فقط أن يلتزم بالاستقامة.»
12
قال منشيوس: «الرجل العظيم هو الذي لا يفقد براءة الطفولة.»
13
قال منشيوس: «العناية بالوالدين في حياتهما أمر مهم ولكنه ليس الأهم، الأهم هو إبداء الاحترام لهما عند مماتهما (وذلك بإجراء جنازة لائقة).»
14
قال منشيوس: «الرجل النبيل يتفقه في طريق الحق لرغبته في أن يجده في نفسه، حتى إذا وجده في نفسه شعر بالطمأنينة، فإذا شعر بالطمأنينة تعمق فيه، وعندما يتعمق فيه يتلمس ينابيعه في كل مكان؛ ولهذا فإن الرجل النبيل يجد طريق الحق في نفسه.»
4
15
قال منشيوس: «وسع معرفتك ثم دقق في تفاصيل ما تعلمت؛ لكي تتوصل في النهاية إلى الخلاصات الأساسية.»
16
قال منشيوس: «الحاكم الفاضل لن يفلح في اكتساب ولاء الناس من خلال فضيلته وحدها، وإنما من خلال تهذيبهم بالفضائل، ولن يفلح في أن يكون موحدا للبلاد إذا لم يفلح في اكتساب قلوب الناس.»
17
قال منشيوس: «التزكيات التي لا تقوم على أساس هي نذير شؤم، ويتحمل مسئوليتها من يقف في طريق ترقية الصالحين.»
18
سأل التلميذ شو تسو
Xu Tsu
منشيوس: «لقد مدح كونفوشيوس الماء أكثر من مرة قائلا: يا أيها الماء، يا أيها الماء. فما المزايا التي وجدها في الماء؟»
أجابه منشيوس: «إنه ينبثق من الينابيع بغزارة، ولا يتوقف ليل نهار، ثم يجري ليملأ كل غور قبل أن يصب في البحر، هذه حال كل ما له نبع وافر، وهي الخصيصة التي رآها كونفوشيوس في الماء. كل ما ليس لديه نبع يشبه المطر الذي يتجمع بعد أن يهطل بغزارة خلال شهري موسم الأمطار ويملأ كل الأخاديد ثم يجف؛ ولهذا أقول إن الإنسان النبيل يخجل من اكتساب شهرة لا تقوم على مزاياه.»
5
19
قال منشيوس: «هنالك فارق صغير بين البشر والحيوانات. الإنسان العامي لا يحافظ على هذا الفارق، والإنسان النبيل يحافظ عليه (من خلال الإحسان والاستقامة). الملك شون كان واعيا لهذه المسائل وللعلاقات الإنسانية. بالنسبة إليه الرحمة والاستقامة كانت نابعة من القلب وليست مفروضة من الخارج.»
20
قال منشيوس عن الملوك القدماء: «يو
Yu
لم يكن يحب النبيذ الفاخر، بل النصيحة القيمة. تانغ تمسك بمبدأ الوسطية، وكان يختار للوظائف ذوي الموهبة والفضيلة دون معيار محدد. وين اهتم بالرعية وعاملها مثلما يعامل الشخص الجريح ، وجد في طريق الحق مثل عطشان يطلب الماء. وو لم يغفل عمن هم حوله، ولم ينس من هم بعيدون عنه. جو
Zhou
سعى لأن يقتفي أثر الأسر الثلاث ويطبق طرائق حكم الملوك الأربعة، وعندما يعرض له أمر لا يفهمه، كان يرفع رأسه إلى السماء ويتفكر فيها ليل نهار، حتى إذا وجد الجواب انتظر بزوغ الفجر (لتنفيذه فورا).»
21
قال منشيوس: «عندما توقفت الجولات التفقدية الملكية لجمع الأشعار الشعبية، توقف معها نظم أشعار كتاب القصائد. وعندما توقف نظم الأشعار ابتدأت كتابة الأخبار التاريخية،
6
وهي: شينغ
Sheng
في دولة تشينغ، وتاو وو
Tao Wu
في دولة تشو، وتشينقو
Chungiu
في دولة لو
Lu . وكلها متشابهة وتحكي عن وقائع وأحداث ذات صلة بحياة وأعمال حكام دول مثل هوان
Huan
أمير تشي
Qi ، وون أمير تشن. وقد دونت بأسلوب الحوليات (أي سرد الأخبار سنة فسنة). وقال كونفوشيوس إنه قد تأثر بكتاب القصائد في تأليف كتابه حوليات الربيع والخريف،
7
حيث ألمح بين سطور كتابه إلى مدح الخير وذم الشر.»
22
قال منشيوس: «تبقى آثار الرجل النبيل والرجل العامي على حد سواء لمدة خمسة أجيال. أنا لم أعش في زمن كونفوشيوس لأكون تلميذا له، ولكنني أتعلم منه من خلال رجال آخرين (تعلموا منه أو من تلاميذه).»
8
23
قال منشيوس: «إذا كان لك الخيار بين الأخذ وعدم الأخذ اختر عدم الأخذ؛ لأن الأخذ يسيء إلى نزاهتك. إذا كان لك الخيار في أن تعطي أو ألا تعطي، اختر عدم العطاء؛ لأن الإفراط في العطاء يفسد معنى الكرم. إذا كان لك الخيار في أن تستمر في الحياة أو تبذل حياتك، اختر ألا تبذل حياتك لأن الموت إهانة لشجاعتك.»
9
24
قال قونغ-مينغ يي
Gung-ming Yi :
10 «لقد تعلم بينغ مينغ
فن النبالة (= رمي السهام) من يي
Yi ،
11
وعندما أتقن عنه كل شيء قتله؛ لأنه الوحيد الذي يفوقه مهارة في النبالة في المملكة.» فعلق منشيوس على ذلك قائلا: «ولكن يي نفسه يلام على ذلك أيضا.» فقال قونغ-مينغ يي: «لا أعتقد ذلك.» قال منشيوس: «لقد فعل ما يلام عليه لوما طفيفا، ولكنه ليس منزها عن اللوم . (ولسوف أشرح وجهة نظري فيما يلي):
عندما وجهت دولة جينغ
Zheng
تزو تشو جا تسو لقتال دولة وي
Wei ، ووجهت دولة وي يو قونغ-تشيه سو
Yu Kunk-chih Ssu
لمواجهته، قال تزو تشو جا تسو: أنا اليوم مريض ولا أقدر على استخدام قوسي، فلربما قتلت. ثم سأل سائق عربة: من هو خصمي؟ أجابه سائق العربة: إنه يو قونغ-تشيه تسو. فلما سمع منه ذلك قال: إذن سوف أنجو. فقال له سائق العربة: ولكن خصمك هو أمهر نبال في دولة وي، فلماذا تقول إنك سوف تنجو؟ أجابه تزو تشو جا تسو: لقد تعلم يو قونغ-تشيه تسو النبالة من ين قونغ-تشيه
12
تاو الذي كنت قد علمته أنا النبالة. هو إنسان فاضل، ولا شك أنه كان يختار الرجل الفاضل لتعليمه النبالة.
بعد ذلك تجابه الاثنان، فقال يو قونغ-تشيه تسو لتزو تشو جا تسو: لماذا لم تمسك بقوسك يا سيدي؟ أجابه: أنا مريض اليوم ولا أستطيع استخدام القوس. فقال يو قونغ-تشيه تسو: لقد تعلمت النبالة من ين قونغ-تشيه تاو الذي تعلمها منك، وإني لأكره أن أستعمل مهارتك ضدك، ولكني لا أستطيع إلا أن أنفذ أوامر مليكي. ثم أمسك قوسه وصوب نحو عجلات عربة تزو تشو جا تسو وأطلق سهامه، ثم أدار ظهره ومضى.»
13
25
قال منشيوس: «إذا ما غطت القاذورات جسد السيدة الفائقة الجمال شي تزي
Xi Zi ، فإن كل من يمر بها سيسد أنفه. ولكن إذا قام رجل قبيح بالصيام وتطهير نفسه، فإنه سيغدو صالحا لأداء الطقوس للسماء.»
14
26
قال منشيوس: «عندما يتحدث الناس عن طبيعة الإنسان فإنهم يعنون بذلك طبيعته الناتجة عن العادات. والمهم في تكوين العادات هو التوافق مع طبيعة الإنسان؛ لهذا فإن ما لا نحبه في بعض الحكماء هو أنهم يخالفون طبيعة الأشياء. ولو أن هؤلاء قد تشبهوا بالملك يو
Yu ،
15
الذي حول مجاري مياه الطوفان وجعلها تجري نحو البحر (بدلا من بناء السدود لمنعها من الجري)، فإن حكمتهم ستكون مقبولة.
إن ما فعله يو هو العمل في توافق مع طبيعة الماء (وقوانين حركته)، ولو أن الحكماء عملوا أيضا في توافق مع طبيعة الأشياء (وقوانين الطبيعة) لارتقت حكمتهم. السماء بطبيعتها عالية، والنجوم بطبيعتها بعيدة، ومع ذلك لو أننا درسنا المبادئ الكامنة وراءها لاستطعنا من خلال حساباتنا معرفة أوقات الانقلاب الشتوي ولو بعد ألف سنة من الآن، دون أن نتحرك من مقاعدنا.»
27
بعد أن دفن قونغ-شينغ تسي
Gong-Xing Zi
16
ابنه، جاء الوزير وانغ هوان
Wang Huan
17
لتعزيته. وكان لدى دخوله أن قام الحاضرون من مجلسهم لتحيته، وعندما جلس جاء العديد منهم للتحدث إليه، ولكن منشيوس لم يكلمه، فأحس بالانزعاج وقال لمضيفه: «كل الموظفين الحاضرين هنا تحدثوا إلي عدا منشيوس الذي تجاهلني.»
عندما سمع منشيوس ذلك قال: «وفق قواعد الأدب والمعاملات، فإن موظف البلاط لا يجوز له أن يتجاوز المقاعد ليتحدث مع آخر، ولا يجوز لأحدهما أن ينحني للآخر إذا كانا يقفان على درجتين من درجات السلم. لقد كنت أتصرف وفق القواعد ومع ذلك فإن وانغ هوان يقول بأنني قد تجاهلته. أليس هذا غريبا؟»
28
قال منشيوس: «الرجل النبيل يختلف عن الآخرين لأنه يحتفظ في قلبه بشيء مختلف. إنه يحتفظ بالإحسان وقواعد الأدب والمعاملات. من يحافظ على الإحسان يحب البشر، ومن يحافظ على آداب السلوك يحترم الآخرين. من يبذل حبه للآخرين يتلقى منهم حبا، ومن يحترم الآخرين ينال احترامهم.
هب أن رجلا عاملني بطريقة غير مهذبة، فماذا أفعل؟ إذا كنت رجلا نبيلا فإني أبدأ أولا بتفحص ذاتي، فأتساءل عما إذا كنت لا أملك الإحسان الكافي، أو لا ألتزم بقواعد الأدب والمعاملات، وإلا فكيف حصل ذلك؟ فإذا تفحصت نفسي وتأكدت من أن لا شيء يعوزني من الإحسان والكياسة، ومع ذلك أتلقى مثل هذه المعاملة، فإنني أتساءل عما إذا كنت لا أملك الإخلاص الكافي. فإذا وجدت أنني لم أقصر في معاملته بإخلاص، عند ذلك أقول إن هذا الرجل أحمق ولا فرق بينه وبين الدواب، فكيف يمكن أن نلوم الدواب؟
لذلك أقول إن للرجل النبيل هموما تلازمه مدى الحياة، ولكنه لا يخشى الطوارئ المفاجئة. وما أعنيه بالهموم مدى الحياة يمكن شرحه بالمثال التالي: قد تقول لنفسك إن الملك شون كان رجلا مثلي، ولكن شون جعل من نفسه أمثولة للمملكة، وخلف وراءه آثارا تتناقلها الأجيال، أما أنا فرجل عادي فماذا أفعل؟ من هنا تأتي همومك. وما عليك أن تفعله هو أن تتشبه بالملك شون، هذا كل شيء. الرجل النبيل لا يخشى الطوارئ المفاجئة، فهو لا يفعل ما يتعارض مع الإحسان، ولا يمارس ما يخالف قواعد السلوك والمعاملات، وعندما تواجهه طوارئ مفاجئة فإنه لا يخافها.»
29
في أوقات السلم والاستقرار، كان يو
Yu
وتشي
Chi
يمران من أمام منزلهما مرات عديدة دون أن يدخلا
18 (لكثرة ما كان يشغلهما عن ذلك من شئون الدولة)، وقد مدحهما كونفوشيوس على ذلك. ين هوي
Yen Hui
19
كان يسكن في كوخ متواضع خلال أوقات الفوضى والاضطراب، ويكتفي بقصعة أرز ونصف قرعة من الماء، يطيق من شظف العيش ما لا يطيقه الآخرون وهو سعيد. وقد مدحه كونفوشيوس على ذلك أيضا، أما منشيوس فقد علق على هذه الأمور قائلا: «إن المبادئ الكامنة وراء سلوك هؤلاء الثلاثة كانت واحدة؛ فقد كان يو يشعر بمسئولية نحو كل من أغرق الطوفان أرضه وكأنه هو الذي سبب الغرق، وكان تشي يشعر بالمسئولية نحو كل جائع في المملكة، وكأنه هو الذي سبب الجوع؛ ولهذا فقد كان كلاهما يعتبران الشئون العامة مسائل ملحة وذات أولوية. ولو أن يو وتشي تبادلا الأدوار مع يان، لفعل كل منهما مثل ما فعل.
20
والآن لنفترض أن نزيلا في بيتك دخل في عراك مع شخص آخر، في هذه الحالة سيكون من واجبك أن تفصل بينهما حتى ولو حلت أربطة قبعتك، وتطايرت خصلات شعرك. أما إذا جرى العراك بين قروي وآخر في الخارج، فلن يكون من الحكمة أن تتدخل. أفضل ما تفعله هو أن تدخل وتغلق عليك بابك.»
21
30
قال التلميذ قونغ-دو تسو
Gung-du Tsu
لمنشيوس: «الكل يعرف أن قوانغ تشانغ
K’uang Chang
هو ابن غير بار، ومع ذلك أراك تحافظ على صحبته وتعامله بلطف وكياسة. لماذا؟»
أجابه منشيوس: «يمكن أن يعد الرجل غير بار في حالات خمس هي؛ أولا: إذا تقاعس عن العمل بيديه وقدميه، فقصر بذلك عن إعالة والديه. ثانيا: إذا انشغل في المقامرة وشرب الخمر وترك والديه دون رعاية. ثالثا: إذا كان بخيلا ومتحيزا إلى زوجته وأولاده، مفضلا إياهم على أبويه. رابعا: إذا انغمس في المتع الحسية وجلب العار على والديه. خامسا: إذا كان ميالا إلى استعراض القوة والعراك، معرضا بذلك سلامة والديه للخطر. فهل تنطبق إحدى هذه الحالات على قوانغ تشانغ؟
لقد كان قوانغ تشانغ على خلاف متعب مع أبيه بخصوص مسائل أخلاقية، حتى وجدا أنهما لن يستطيعا التفاهم. إن الخلاف الأخلاقي يجري عادة بين الأصدقاء، لا بين الأب والابن؛ لأنه في النهاية سيؤدي إلى فقدان الحب بينهما. هل تظن أن قوانغ تشانغ لم يكن راغبا في البقاء مع زوجته وأولاده؟ أبدا، ولكنه عندما لام أباه في قضية أخلاقية وجد نفسه مجبرا على الابتعاد عنه؛ ولهذا فقد هجر زوجته وأولاده ورفض تلقي العناية منهم طيلة حياته. وفي اعتقاده أنه إذا لم يفعل ذلك سيكون ابنا عاقا. هذا كل شيء عن قوانغ تشانغ.»
22
31
كان تسينغ تسو
Tseng Tzu
23
مقيما في وو تشينغ
Wu Ch’eng
عندما وصلهم خبر هجوم وشيك من دولة يووي
Yuwe ، فقال له أحدهم: العدو قادم، فلماذا لا تترك المكان؟ فقال تسينغ تسو لرجاله: لا تسكنوا أحدا في بيتي لئلا يتلفوا أشجار الحديقة. وعندما انسحب العدو أرسل لرجاله قائلا: أصلحوا جدران البيت لأني على وشك العودة. ولدى عودته قال خدمه لبعضهم: لقد تلقى المعلم منا هنا كل احترام، وتم له كل ما أراد؛ لذا لم يكن من اللائق أن يسارع إلى الهرب عندما هوجمنا، ولا يرجع إلا بعد انسحاب العدو.
عندما سمع التلميذ شن-يو شينغ
Shen-yu Xing
هذا الكلام قال لهم: «هذا بعيد عن أفهامكم. في إحدى المرات عانت عائلتنا من تعديات مشاغب يدعى فو تشو
Fu Ch’u ، وكان المعلم تسينغ تسو وسبعون تلميذا له ضيوفا عندنا، ولكنهم لم يشاركوا معنا في التصدي له.
24
في إحدى المرات كان تزو تسي (حفيد كونفوشيوس) مقيما في دولة وي
Wei ، عندما هوجمت من قبل جيش دولة تشي
Ch’i ، فقال له البعض: لماذا لا تترك المكان قبل وصول العدو؟ فأجابهم: إذا هربت من يحمي المدينة إلى جانب الأمير؟
وفي الحقيقة لقد كان كل من تسينغ تسو وتزو تسي على حق فيما فعل. تسينغ تسو كان معلما؛ أي إنه في مكانة الأب أو الأخ الأكبر. أما تزو تسي فكان في مكانه التابع. ولو أن الاثنين تبادلا الأدوار لفعل كل منهما ما فعله الآخر.
25
32
قال تشو تسو لمنشيوس: «لقد أوكل الملك لأحدهم مهمة مراقبتك ليعرف ما إذا كنت مختلفا عن الرجال الآخرين!» فقال منشيوس: «كيف لي أن أكون مختلفا عن الآخرين؟ حتى ياو وشون كانا رجلين عاديين.»
33
عاش رجل في دولة تشي مع زوجته ومحظيته في بيت واحد، وكان كلما خرج من بيته عاد متخما بالطعام والشراب. وعندما سألته زوجته عمن يصاحب قال لها إنهم رجال من ذوي المكانة والثروة. بعدها قالت الزوجة للمحظية: في كل مرة يخرج رجلنا من البيت يعود متخما بالطعام والشراب، وعندما سألته عمن يصاحب قال إنهم رجال من ذوي المكانة والثروة، ولكن لم يدخل بيتنا حتى الآن زائر من هؤلاء؛ لهذا سوف أتجسس عليه لأعرف إلى أين يذهب.
في صباح اليوم التالي أفاقت مبكرة ولحقت زوجها في مساره عبر المدينة دون أن تلمح أحدا يستوقفه ويتكلم معه، إلى أن وصل إلى المقبرة في الضاحية الشرقية، فرأته يدخل ويقصد جماعة تقدم القرابين لموتاها؛ ليستجدي الفضلات الزائدة عندهم. وعندما حصل على بغيته انتقل إلى جماعة أخرى. هكذا أتخم بالطعام والشراب.
عادت الزوجة وأخبرت المحظية بما رأت وقالت: الرجل الذي نعتمد عليه في حياتنا ومستقبلنا يفعل ذلك. ثم أخذت الاثنتان تسخران من رجلهما وتبكيان وهما متعانقتان في الفناء، في هذه الأثناء وصل الزوج وهو لا يعرف ماذا حدث، ودخل بخطوات متبخترة ليستعرض نفسه أمام المرأتين.
الرجل النبيل يرى أن قلة من الساعين إلى الجاه والثروة لا يعطون لنسائهم سببا للبكاء من العار.
الباب التاسع: وان جانغ «1»
1
سأل وان جانغ
Wan Zhang
1
منشيوس: «يقال إن شون كان يبكي وهو يعمل في الحقل
2
ويدعو إلى السماء. لماذا ؟» أجابه منشيوس: «كان يعرب عن ضيقه وشكواه من والديه.»
قال وان جانغ: «ويروى عن تسينغ تسي
Zeng Zi
قوله إنه عندما يتلقى المرء حب والديه يبتهج ولا ينساهم، وعندما يكرهانه يكتئب ولا يتذمر،
3
فهل تعني أن شون كان يتذمر من والديه؟»
أجابه منشيوس: «سأل تشانغ شي
Chang Xi
معلمه قونغ-مينغ قاو
Gong-ming Gao :
4
أعرف أن شون كان يكدح في الحقل، ولكنني لا أفهم لماذا كان يبكي مناشدا أبويه؟» فأجابه قونغ-مينغ قاو: إن فهمك قاصر عن إدراك ذلك.
لقد كان قونغ-مينغ قاو يعتقد أن ابنا بارا لا يكون راضيا إذا لم يتلق حب والديه، برغم أنه كان يكدح في الحقل ويؤدي واجباته على أتمها كابن.
الملك ياو أرسل أولاده التسعة وابنتيه والعديد من الموظفين لديه، ومعهم مواش ومؤن إلى شون ليخدموه في الحقل، ونبلاء الدولة يتوافدون إليه ليضعوا أنفسهم تحت تصرفه، كما أن الملك ياو كان مستعدا ليضع التاج على رأسه ويتنازل له عن الحكم، ولكن شون كان يشعر بالضيق مثل متشرد بلا مأوى؛ لأنه عاجز عن إرضاء والديه.
إن حب نبلاء الدولة له، وهو أمر يتمناه كل امرئ، لم يكن كافيا لرضائه عن نفسه. وتقديم الملك بنتيه الجميلتين له كزوجات، وهو أمر يتمناه كل رجل، لم يكن كافيا لرضائه عن نفسه. والثروة مهوى أفئدة الرجال، لم تكن كافية لرضائه عن نفسه، ولا حتى كرسي الملوكية أيضا. ما كان يجعله راضيا عن نفسه سوى رضا والديه عنه.
المرء في صغره يتوق إلى والديه، وعند البلوغ يميل إلى الشابات الجميلات، وبعد الزواج والإنجاب يميل إلى زوجته وأولاده، وعندما يسند إليه منصب حكومي يميل إلى رئيسه، ويبذل كل ما في وسعه لنيل رضاه.
الابن الكامل في البر يميل إلى أبويه طيلة حياته. وقد ضرب لنا شون العظيم مثالا على ذلك عندما حافظ على ميله لأبويه حتى وهو في سن الخمسين.»
2
سأل وان جانغ منشيوس: «ورد في كتاب القصائد: قبل أن يتزوج الرجل عليه أن يخبر والديه برغبته هذه.
من المفترض أن يكون شون الأكثر قناعة بهذه الكلمات. ومع ذلك فقد تزوج دون أن يخبر والديه. لماذا؟»
أجابه منشيوس: «لو أنه أخبر والديه لما استطاع الزواج.
5
إن الزواج هو أعلى الواجبات الأخلاقية المترتبة على الرجل والمرأة. ولو أن شون أخبر والديه ولم يلق منهما قبولا لأخفق في تأدية هذا الواجب الأخلاقي، ولأساء ذلك إلى العلاقة بينه وبينهما.»
قال وان جانغ: «حسنا. لقد عرفت لماذا تزوج شون دون أن يخبر أبويه، ولكن لماذا زوج الملك ياو بنتيه من شون دون أن يعلم الأبوين؟»
أجابه منشيوس: «لقد عرف الملك ياو أيضا أنه إذا أخبر والدي شون فإنه لن يستطيع إتمام الزواج.»
قال وان جونغ: «والدا شون كلفاه بإجراء تصليحات في سقف مستودع الحبوب، ثم أزاحا السلم وأضرم أبوه الأعمى النار في المستودع. وبعد ذلك كلفاه بتنظيف قاع البئر، ثم أغلقا عليه فوهة البئر.
6
وقد قال أخوه غير الشقيق شيانغ
Xiang
متبجحا: إن الفضل في وضع الخطط لقتل شون يرجع إلي. مواشيه سوف تكون لكما يا أبي وأمي، ومخزن حبوبه أيضا، ولي قيثارته وقوسه، أما زوجتاه فستكونان بانتظاري في حجرة نومي.
ثم إن شيانغ ذهب إلى بيت شون فوجده جالسا يعزف على قيثارته، فقال له بارتباك: لكم اشتقت إليك. فقال شون: لقد كنت أفكر بالناس، فهلا تساعدني في شئون الحكم. وهنا أتساءل عما إذا كان شون غافلا عن تدابير شيانغ الرامية إلى قتله؟»
أجابه منشيوس: «وهل من الممكن أن يكون شون غافلا عن ذلك؟ ولكنه كان يشعر بالسعادة إذا رأى شيانغ سعيدا، وإذا رآه حزينا كان يشعر بالحزن.»
قال وان جانغ: «ولكن ألم يكن شون يتظاهر بالسعادة؟»
أجابه منشيوس: «كلا، لم يكن يتظاهر (وهنا دعني أروي لك القصة التالية). حدث ذات يوم أن أحدهم أهدى الوزير تزو شان
7
سمكة حية، فأعطاها للقيم على بركته ليضعها في الماء هناك، ولكن القيم طبخها وأكلها. ثم إنه جاء إلى تزو شان وقال له: عندما وضعتها في الماء بدت لي ميتة، ولكنها ما لبثت حتى حركت ذيلها وسبحت مبتعدة. فقال تزو شان: لقد حلت في وسطها الطبيعي، لقد حلت في وسطها الطبيعي. فمضى القيم وقال: كيف يقولون إن تزو شان رجل حكيم؟ لقد طبخت السمكة وأكلتها، وهو يقول لقد حلت في وسطها الطبيعي، لقد حلت في وسطها الطبيعي.
لهذا أقول إن الرجل النبيل يمكن خداعه بما يبدو معقولا ، ولكن لا يمكن خداعه بالطرق غير المعقولة. لقد جاء شيانغ مثل أخ محب لأخيه الأكبر، وشون صدقه حقا وسعد به، فأين التظاهر في هذه الحالة؟»
3
سأل وان جانغ منشيوس: «لقد كان لشيانغ هم دائم هو قتل أخيه شون. وعندما صار شون ملكا (بعد أن تخلى له ياو عن السلطة) لم يفعل بأخيه سوى نفيه. لماذا؟»
أجابه منشيوس: «في الحقيقة لقد ذهب شيانغ إلى إقطاعته (التي وهبها له شون)، وهذا ما يدعوه البعض نفيا.»
قال وانغ جانغ: «لقد نفى شون أيضا قونغ قونغ
Gong Gung
إلى يو جو
You Zhou ، ونفى هوان دو
Huan Dou
إلى جبل تشونغ
Ch’ung ، ونفى سان مياو
San Miao
إلى سان وي
San Wei ، ونفى قون
Gun
في جبل يو
Yu . وبعد معاقبة هؤلاء الأربعة دان له أهل البلاد جميعا عن طيب خاطر؛ لأنه قضى على الأشرار. ولكن على الرغم من أن شيانغ كان الأكثر شرا فقد منحه شون إقطاعة يو بي
Yu Bi ، فما الذي فعله أهل يو بي حتى ينالهم هذا المصير؟ وهل مثل هذا التصرف يليق برجل نبيل؟ هل كان من الصواب معاقبة الآخرين، والإنعام على أخيه بإقطاعة بدلا من معاقبته؟»
أجابه منشيوس: «الرجل النبيل لا يملأ قلبه الغضب ولا الحقد على أخيه، بل يعامله بلطف ومحبة؛ ولأنه يحبه يتمنى له التمتع بالثروة والجاه، وقد أنعم عليه بإقطاعة يو بي لكي يجعله يتمتع بالثروة والجاه. ولو أنه كملك ترك أخاه يعيش حياة العامة، هل يقال عنه إنه أخ محب؟»
قال وان جانغ: «هل لي أن أسأل لماذا يقول البعض أن شيانغ قد نفي؟»
أجابه منشيوس: «لم يكن شيانغ حر التصرف بإقطاعته لأن شون عين موظفا من قبله لإدارتها، وكان على شيانغ أن يجمع ويدفع ما يترتب عليها من جزية إلى الدولة؛ ولهذا قيل إنه قد نفي؛ ولهذا لم يكن بإمكان شيانغ أن يسيء معاملة أهلها. وبما أن شون أحب أن يرى شيانغ من وقت لآخر، كان شيانغ يأتي إليه بين حين وآخر؛ لذلك قال القدماء: لم يكن عليه انتظار يوم استحقاق الخراج، بل كان يستقبل شيانغ بذريعة المهام الرسمية.
هل يشرح كل ما قلت.»
4
سأل التلميذ شيان-شيو
Xian-ch’iu
منشيوس: «يقال إن الرجل ذا الفضائل العليا لا يعامله أميره كتابع، ولا يعامله أبوه مثل ابن.
8 (وقد سمعت) أن ياو بعد أن تخلى عن الملك لشون قد جاء بجميع الأمراء ليقدموا فروض الطاعة والولاء له، وفعل أبوه الأعمى الذي جاء معهم مثلهم،
9
وعندما رأى شون والده بدت على وجهه الحيرة والاضطراب. وقد علق كونفوشيوس على ذلك بقوله: «في هذه اللحظات تضعضعت أركان المملكة.
10
هل تصادق على صحة هذا الخبر؟»
أجابه منشيوس: «هذا ليس كلام رجل نبيل، وإنما كلام رجل أخرق من دولة تشي الشرقية.
11
عندما شاخ الملك ياو كلف شون بالوصاية على العرش (ولكنه لم يتنازل له عن منصب الملك)؛ ولذلك تقول «سجلات الملك ياو» إنه بعد ثمان وعشرين سنة (من تكليف شون بالوصاية) توفي ياو، فنذر موظفوا القصر الحداد، وبكوا عليه مثلما يبكون على أب لهم، ولمدة ثلاث سنوات صمتت كل آلة موسيقية. وعلى ما يقول كونفوشيوس فإنه لا يمكن أن تكون في السماء شمسان، مثلما لا يمكن أن يكون للشعب الواحد ملكان؛ ولذلك إذا كان شون قد نصب ملكا وأعلن الحداد على ياو ثلاث سنوات، فمعنى ذلك أنه كان هناك ملكان في آن واحد
12 (وهذا ما لم يحصل).»
قال شيان-شيو: «حسنا. لقد عرفت منك الآن أن شون لم يعامل ياو كمرءوس، ولكن كتاب القصائد يقول (بخصوص شون): لم يكن تحت سماء المملكة أرض غير خاضعة له، ولم يوجد في طول البلاد وعرضها شخص ليس بتابع له. في هذه الحالة إذا لم يكن الأب الأعمى تابعا له، فماذا تدعوه؟»
أجابه منشيوس: «علينا ألا نسيء فهم هذه الأبيات؛ فالشاعر هنا يتحدث عن العمل الشاق الذي يبذله في شئون الملك، والذي يمنعه من رعاية والديه كما يجب. وهو يتساءل: كل هذه شئون الملك، فلماذا يتوجب علي وحدي أن أشقى بها؟
عندما نأتي إلى شرح قصيدة علينا ألا نجعل المعنى الحرفي لإحدى الكلمات عائقا دون فهم الجملة، ولا نجعل المعنى الحرفي للجملة عائقا دون فهم النص. والطريقة المثلى هي أن نجعل أنفسنا في قلب الشاعر عندما نظمها. إذا وقفنا عند المعنى الظاهري للكلمات، كيف نفسر هذين البيتين من قصيدة درب التبانة:
13 «من عامة شعب جو، لم ينج بحياته أحد.» إن التفسير الحرفي هنا يقول لنا إن أهل جو قد بادوا، ولا يوجد الآن أحد منهم.
إن أعظم ما يمكن للابن البار تقديمه لأبيه هو إجلاله، وأعظم ما يمكن فعله لإجلاله هو أن يضع المملكة بين يديه. لقد كان الأب الأعمى العجوز أبا لملك؛ لذا بلغ أعظم ما يمكن لإنسان بلوغه من جلال. وكان شون يضع المملكة بين يدي أبيه، وهذا أعظم ما يمكن للابن تقديمه لأبيه. وقد ورد في كتاب القصائد بهذا الشأن: لقد تمسك ببر الوالدين، الذي يقوم عليه نظام العالم. كما ورد في كتاب التاريخ: كان يزور والده بإجلال واحترام، وكان الأب راضيا بذلك.
فكيف يمكننا القول إن والده لم يكن يعامله كابن؟»
5
سأل وان جانغ منشيوس: «هل صحيح أن الملك ياو وهب المملكة إلى شون؟»
أجابه منشيوس: «كلا. ليس بمقدور أي ملك أن يهب المملكة لآخر.»
قال وان جانغ: «ولكن الملكة آلت إلى شون، فمن وهبه إياها؟»
أجابه منشيوس: «السماء وهبته إياها.»
قال وان جانغ: «هل هذا يعني أن السماء قد أعطته تعليمات تفصيلية ودقيقة عما يتوجب عليه فعله؟»
أجابه منشيوس: «كلا. السماء لا تتكلم ولكنها تعلن عن مشيئتها من خلال ما يحدث وما يقوم به البشر.»
قال وان جانغ: «وكيف تفعل السماء ذلك؟»
أجابه منشيوس: «ابن السماء (الملك) يقترح على السماء أحد الرجال، ولكن ليس بمقدوره أن يجبر السماء على إعطائه المملكة. وذلك مثلما يقترح الأمير على الملك رجلا، دون أن يكون بمقدوره أن يجبر الملك على إعطائه إحدى الإقطاعات، ومثلما يقترح الوزير على أمير المقاطعة رجلا دون أن يكون بمقدوره أن يجبر الأمير على إعطائه وظيفة رسمية.
14
في تلك الأيام اقترح ياو على السماء شون، والسماء قبلت به، ثم قام ياو بتقديمه للشعب، والشعب قبل به ؛ لذلك أقول إن السماء لا تتكلم ولكنها تعبر عن مشيئتها من خلال ما يحدث فعلا وما يقوم به الناس.»
فسأله وان: «أنت تقول إن ياو اقترح شون على السماء والسماء قبلت به، ثم قدمه إلى الشعب والشعب قبل به. كيف حصل ذلك من الناحية العملية؟»
فأجاب منشيوس: «عندما كلفه بالإشراف على تقديم القرابين،
15
كل الآلهة كانت راضية بقرابينه، وهذا يعني أن السماء قد قبلت به. وعندما كلفه بإدارة شئون الدولة، وقام بذلك على أفضل وأتم وجه، كان الشعب مطمئنا وراضيا عنه، وهذا يعني أن الشعب قد قبل به. لقد وهبته السماء المملكة وعهد الشعب بشئونهم إليه؛ لذلك قلت إن الملك لا يستطيع وهب المملكة لرجل آخر.
لقد ساعد شون ياو لمدة ثمان وعشرين سنة، وهذا أمر لا يقدر عليه رجل لوحده وإنما بعون السماء. وبعد وفاة ياو وانتهاء سنوات الحداد الثلاث، انسحب شون إلى جنوب نهر نان هو
Nan Ho
وترك المملكة إلى ابن ياو (ليرثه في الحكم)، ولكن أمراء المقاطعات لم يذهبوا للمثول أمام ابن ياو، بل ذهبوا للمثول أمام شون، والخصوم المتقاضون لم يعرضوا قضاياهم أمام ابن ياو، بل فعلوا ذلك أمام شون، والمغنون لم ينشدوا بالثناء على ابن ياو، بل أنشدوا بالثناء على شون؛ لذلك قلت إن السماء هي التي وهبت المملكة إلى شون. بعد هذه الأحداث عاد شون إلى العاصمة وجلس على العرش، ولو أنه لم يفعل ذلك وإنما دخل القصر الملكي وأجبر ابن ياو على التنحي؛ لكان مغتصبا للمملكة لا قابلا بها كهبة من السماء؛ لذلك ورد في كتاب التعليم الكبير: إن السماء ترى بعيون الناس وتسمع بآذان الناس، وهذا يعبر بشكل جيد عما قلت.»
6
سأل وان جانغ منشيوس: «يقول البعض إن الفضيلة في المملكة أخذت بالتلاشي في عهد يو
Yu
16 (خليفة شون) عندما أوصى بالملك من بعده لابنه، بدلا من أن يوصي به إلى من هو أهل له. هل توافق على ذلك؟»
أجابه منشيوس: «كلا. إذا شاءت السماء أن تهب المملكة إلى من هو أهل لها فسوف يحصل ذلك، وإذا شاءت السماء أن تهبها إلى ابن الملك فسوف يحصل ذلك.
إذا عدنا بالزمن إلى الوراء، نجد أن شون قد اقترح يو على السماء.
17
وبعد مرور سبع عشرة سنة توفي شون، وعندما انقضت سنوات الحداد الثلاث، انسحب يو إلى يانغ تشينغ
Yang Ch’eng
18
وترك البلاد في عهدة ابن شون، ولكن الناس كانوا يأتون إلى يو مثلما كان الناس يأتون إلى شون بدلا من أن يأتوا إلى ابن ياو بعد وفاة أبيه. ومضت السنون، واقترح يو على السماء (مساعده الكفء) بو يي
Bo Yi .
19
وبعد مرور سبع سنوات توفي يو، وعندما انقضت سنوات الحداد الثلاث، انسحب بو يي إلى جبل تشي تاركا البلاد في عهدة ابن يو، ولكن أمراء المقاطعات لم يذهبوا إلى بو يي وإنما إلى تشي
Qi ،
20
والمتقاضون لم يذهبوا إلى بو يي لعرض قضاياهم، وإنما ذهبوا إلى تشي قائلين: هذا هو ابن مليكنا. والمغنون لم ينشدوا بالثناء على بو يي، وإنما أنشدوا بالثناء على ابن ياو قائلين: هذا هو ابن مليكنا.
لم يكن دان جو
Dan Zhu
ابن ياو رجلا فاضلا،
21
وكذلك ابن شون. ولقد عمل شون إلى جانب ياو عدة سنين، مثلما عمل يو إلى جانب شون عدة سنين أيضا، وقدم الاثنان الكثير للرعية فترة طويلة من الزمن. تشي
Qi
كان رجلا فاضلا وقادرا على السير في طريق يو. بو يي عمل إلى جانب يو لفترة ليست بالطويلة ولم يقدم الكثير للرعية. لقد تميز شون ويو عن بو يي بطول فترة خدمتهما مع الملك، كما اختلف ابناهما عن بعضهما بشكل كبير في الفضائل، وهذا كله من تقدير السماء وليس من فعل البشر. إذا حدث شيء ولم نجد له سببا؛ فمعنى ذلك أن السماء كانت وراء حدوثه، وإذا حل أمر ولم يكن لإنسان يد في حلوله؛ فمعنى ذلك أن القدر كان وراء ذلك.
22
عندما توضع المملكة بين يدي رجل عادي، فإن تمتعه بفضائل شون ويو لم يكن ليوصله إلى ذلك دون اقتراح السماء؛ لهذا السبب لم توضع المملكة بين يدي كونفوشيوس.
أولئك الذين ارتقوا العرش ثم أسقطتهم السماء كانوا طغاة مثل شيا جي
Xia Jei
أو جو
Zhou ؛
23
لهذا فإن بو يي ويي ين
Yi Yin
24
والأمير جو
Zhou
25
لم يكونوا بحاجة لاعتلاء العرش.
لقد عمل يي ين إلى جانب شانغ تانغ،
26
وساعده على النجاح في حكم المملكة. وعندما توفي شانغ تانغ توفي بعده ابنه تاي تينغ
Tai Ting
قبل أن يرتقي العرش، فحكم واي بينغ
Wai Bing
لمدة سنتين، ثم جونغ جن
Zhong Jen
لمدة أربع سنوات.
27
وعندما ارتقى العرش تاي جيا
T’ai Jia
28
أساء إلى المبادئ التي قامت عليها دولة شانغ تانغ، فنفاه يي ين إلى تونغ
29
لمدة ثلاث سنوات. وخلال مدة نفيه ندم تاي جيا على أخطائه ووبخ نفسه وعمل على إصلاحها وتحول إلى رجل واع يقدر الواجب والمسئولية. وعندما صار قابلا لتلقي إرشادات يي ين سمح له بالعودة إلى العاصمة بو
Bo . أما الأمير جو
30
فإن السبب في عدم ارتقائه العرش يشبه حالة يي الذي لم يرتق عرش شيا، ويي ين الذي لم يرتق عرش ين.
ولقد قال كونفوشيوس إن السبب وراء تنازل يو وشون عن العرش، ووراء الوصاية للابن عند كل من شيا وين وجو، هو الاختلاف في نظام الوراثة، الذي كان تنازلا في الحالة الأولى ووصاية للابن في الحالة الثانية.»
7
وان جانغ سأل منشيوس: «يقول البعض إن الوزير يي ين
Yi Yin
حاول أن يلفت نظر شانغ تانغ إليه من خلال لمهارته في الطبخ،
31
قبل أن يستوظفه؟»
أجابه منشيوس: «هذا غير صحيح. يي ين كان فلاحا يعمل في حقول يو شن
You Xin . لقد أحب طرق ياو وشون، ولم يكن يقبل أن يعطى شيئا يتعارض مع ما هو حق وعدل، حتى ولو كان مملكة بأكملها. ولم تكن هدية مقدارها ألف حصان تعني له شيئا، بالمقابل لم يكن يعطي شيئا يتعارض مع ما هو حق وعدل حتى ولو كان قشة، أو يقبل قشة من أحد بما يتعارض مع طريق الحق.
عندما بعث شانغ تانغ إليه برسل يدعونه إليه وبيدهم هدية، قال دون مبالاة: ما نفع هدية شانغ تانغ؟ أليس من الأفضل لي البقاء في الحقل أسعد بطريق ياو وشون؟
وعندما تكررت دعوات شانغ تانغ غير رأيه وقال: بدلا من بقائي هنا أسعد بطريق ياو وشون، أليس من الأفضل لي أن أجعل من هذا الملك نسخة عن ياو أو شون؟ وأن أجعل من هذه الرعية رعية لياو أو شون، وأرى ذلك يحدث تحت بصري وسمعي؟ عندما جعلت السماء بشرا على الأرض، حملت الذين حصلوا على الفهم أولا مسئولية تعليم من لم يحصل عليه، وأولئك الذين حصلوا على البصيرة مسئولية تنوير من لم يحصل عليها. لقد كنت أول من استنار عقله من البشر تحت الشمس، وعلي أن أحمل مسئولية تنوير الآخرين وفتح عيونهم على طريق ياو وشون، وهل من أحد غيري قادر على ذلك؟
لقد حمل يي ين الرعية في قلبه، وكان إذا وجد شخصا لم يحصل على بركة طريق ياو وشون، شعر وكأنه هو من ألقى به في قاع بئر. كما حمل يي ين أعباء المملكة كلها على كتفيه، حتى بلغ به الأمر أنه أقنع شانغ تانغ بشن حملة تأديبية على الطاغية شيا جي من أجل إنقاذ رعيته.
أنا لم أسمع أن أحدا بمقدوره تصحيح الآخرين من خلال سلوكه المعوج، ناهيك عن أحد بمقدوره تصحيح المملكة من خلال جلب الخزي على نفسه.
إن للحكماء طرقا وخيارات متنوعة؛ بعضهم يبقي نفسه بعيدا عن أصحاب السلطة، وبعضهم يتصل بهم. بعضهم يستقيل من منصبه وبعضهم يبقى. وهم في كل ذلك يعملون على الحفاظ على كرامتهم.
ولقد سمعت أن يي ين قد لفت نظر شانغ تانغ من خلال طريق ياو وشون، ولم أسمع أنه لفت نظره من خلال مهاراته في الطبخ. وقد ورد في كتاب التاريخ فصل تعاليم يي ين: لقد حل عقاب السماء على شيا جي في قصر مو
Mu ، ولكني كنت من نفذه عندما انطلقت حملتنا العقابية من العاصمة بو
Bo .
8
وان جانغ سأل منشيوس: «يقول البعض إنه عندما كان كونفوشيوس بدولة وي
Wei
حل ضيفا على يونغ تشو
Yong Chu
32 (المفضل لدى الحاكم)، وعندما كان في دولة تشي حل عند الخصي الفاسد تشي خوان
Ch’i Huan .
33
هل هذا صحيح؟»
أجابه منشيوس: «لم يكن الأمر كذلك. هذه قصص دبجها أناس بطالون. عندما جاء كونفوشيوس إلى دولة وي نزل في بيت يان تشو-يو
Yan Ch’ou-yu ،
34
عندها كان ميتسو
Mitzu
35
وتسو لو
Tzu-lu
36
متزوجين من أختين، فقال ميتسو لتسو لو: إذا نزل كونفوشيوس في بيتي فإن منصب الوزارة سيكون متاحا له. فلما أخبر تسو لو كونفوشيوس بذلك قال: لندع ذلك للقدر.
كان كونفوشيوس يتلمس وظيفة أو يترك أخرى اعتمادا على المبادئ القويمة، ثم يترك خياره للقدر. لو أنه نزل عند يونغ تشو أو تشي خوان (الموظفين الفاسدين)؛ فمعنى ذلك أنه عاكس الصواب والقدر.
عندما لم يجد كونفوشيوس قبولا عند لو ووي اختار الرحيل، ولكن وزير الحرب في دولة سونغ تصدى له وأراد قتله، فلبس ثيابا تنكرية وهرب من سونغ. لقد كان كونفوشيوس حينها في وضع سيئ، فنزل في بيت سي-تشينغ تشن-تسو
Si-ch’eng Chen-tzu
37 (الوزير في دولة تشن)، وقبل منصبا حكوميا في دولة تشن لدى الأمير جو
Zhou .
ولقد سمعت قولا مفاده أنك إذا أردت أن تحكم على موظف في البلاط، عليك أن تلاحظ نوعية الأشخاص الذين يستضيفهم، وإذا أردت أن تحكم على موظف قادم إلى البلاط من الخارج، عليك أن تلاحظ نوعية من يضيفونه. لو أن كونفوشيوس حل ضيفا عند يونغ تشو أو تشي خوان لما كان جديرا باسمه.»
9
قال وان جانغ لمنشيوس: «يقال إن (الوزير) بو-لي شي
Bo-li Xi
باع نفسه إلى راعي غنم في دولة تشي إن
Chi’in
لقاء خمسة من جلود الخراف، وراح يرعى الغنم له؛ وذلك سعيا من قبله للفت نظر الأمير مو (حاكم تشن
Qin ) عله يستخدمه. هل هذا صحيح؟»
أجابه منشيوس: «كلا. هذه قصة ابتكرها أناس بطالون. لقد كان بو-لي شي مواطنا في دولة يو
Yu . وعندما أرسل جيش تشن
Chin
حجر جاد كريم وخيولا إلى أمير يو لكي يوافق على مرور الجيش عبر أراضيه لكي يهاجم دولة قو
Guo ، نصح قونغ تشيه تشي
Gung Chih Ch’i
أمير يو بعدم الموافقة على ذلك، ولكن بو-لي شي بقي صامتا؛ لأنه يعرف أن الأمير لن يأخذ بتلك النصيحة، وبعد ذلك غادر بو-لي شي إلى تشي إن، وكان عندها في سن السبعين.
فإذا كان لا يعرف أن السعي إلى مقابلة مع الأمير عن طريق رعي الغنم لأحدهم هو سلوك شائن، فهل يستحق أن ندعوه حكيما؟ ألم يكن حكيما عندما عرف أن أمير مو لن يقبل النصيحة ولذلك لم ينصحه؟ ألم يكن حكيما عندما عرف أن الأمير سيخسر دولته فسارع إلى مغادرتها قبل وقوع الكارثة؟
ألم يكن حكيما عندما ألحقه أمير مو بخدمته في منصب عال، فعمل معه لاعتقاده بإمكانية تحقيقهما معا إنجازات باهرة؟ لو لم يكن فاضلا وموهوبا هل كان بمقدوره تقديم خدمات جلى للدولة، ورفع عاهلها إلى مرتبة عالية بقيت ذكراها قائمة لأجيال؟
أن يقوم المرء ببيع نفسه لكي يساعد أميره على تحقيق ما يصبو إليه من إنجازات، هو أمر لا يقوم به حتى رجل عامي متواضع يحترم نفسه، فكيف يقولون إن رجلا موهوبا وفاضلا مثل بو-لي شي قد فعل ذلك؟»
الباب العاشر: وان جانغ «2»
1
قال منشيوس: «لم يكن بو يي
Bo Yi
1
يشاهد منظرا مزعجا، أو يستمع إلى صوت مزعج. لم يكن يخدم أميرا لا يستحق أن يخدم، أو يدير شئون رعية لا تستحق منه ذلك. كان يقبل وظيفة في الأوقات التي يسودها النظام، وينسحب في أوقات الفوضى والاضطرابات. لم يكن يحتمل البقاء في مكان تديره حكومة غير عادلة، أو بين أناس غير أوفياء. إذا وجد نفسه بين جماعة من الأجلاف، يشعر وكأنه جالس في الطين أو بين أكوام الفحم وعليه لباس وقبعة البلاط. خلال فترة حكم الملك جو (الطاغية)، اختار الإقامة عند ساحل البحر الشمالي في انتظار عودة النظام والطمأنينة إلى المملكة؛ لهذا فعند معرفة ما كان عليه بو يي، كل رجل طماع يغدو عفيفا، وكل متهاون يغدو طموحا.
قال يي ين:
2
ما من حاكم لا أخدمه، وما من رعية لا أدير شئونها، وأقبل الوظيفة الحكومية سواء في الأوقات التي يسود فيها النظام أم في غيرها. وقال أيضا: عندما جعلت السماء على الأرض بشرا، أعطت أولئك الذين حصلوا على الفهم أولا مسئولية إرشاد الذين لم يحصلوا عليه، وأعطت أولئك الذين تنورت نفوسهم أولا مسئولية تنوير من لم يحققوا ذلك. لقد كنت بين أوائل المتنورين، ولسوف أفتح عقول الناس على صراط الحق، صراط ياو وشون.
لقد حمل في قلبه أهل المملكة، وكان إذا وجد أحدا من العامة لم يفد من صراط ياو وشون، شعر وكأنه هو من دفع به إلى قاع بئر؛ وبذلك فقد حمل عبء المملكة كلها على كتفيه.
3
ليو شيا خوي
Liu Xia Hui
4
لم يكن يجد غضاضة في خدمة حاكم سيئ السمعة، أو يرفض منصبا متواضعا. فإذا باشر عمله أظهر مواهبه وعمل وفق الصراط، وإذا صرف من الخدمة لا يشكو أو يتذمر، وإذا وقع في ضيق لا يكتئب، وإذا وجد نفسه بين مجموعة من الأجلاف لا ينسحب، بل يقول لنفسه: أنت من أنت وأنا من أنا. وحتى لو وقفت إلى جانبي عاريا لن تدنسني.
لهذا، فإن معرفة ما كان عليه ليو شيا خوي، تجعل من المتعصب المتعنت لينا متساهلا، ومن الشحيح كريما.
عندما هم كونفوشيوس بمغادرة دولة تشي كان على عجلة من أمره، حتى إنه أخذ الأرز الذي كان يهم بطبخه وهو رطب.
5
أما عندما كان يغادر لو فكان يقول لنفسه: علي أن أتمهل؛ لأنه هكذا يغادر المرء مسقط رأسه. كان من ذلك النوع الذي يبطئ في المغادرة أو يسرع، والذي يبقى في الدولة، أو يقبل المنصب، وفق ما تقتضيه الظروف.
بو يي كان ناسكا لا يبارى في زهده، ويي ين كان على جانب كبير من تقدير المسئولية، وليو شيا خوي كان دمثا، وكونفوشيوس كان حكيما مرنا، وجمع بين فضائلهم جميعا. ويمكن تشبيه هذا الجمع بين الفضائل بما يحدث في العزف عندما تبدأ الجوقة والأجراس المعدنية وتنتهي بقرع حجر الجاد، وبهذا فإن الأجراس تفتتح النغم والإيقاع وحجر الجاد يختتمه.
6
إن افتتاح النغم والإيقاع يتطلب الحكمة، واختتامه يتطلب الفضيلة. الحكمة تشبه المهارة، والفضيلة تشبه القوة. إصابة الهدف لا تتطلب القوة فقط.»
2
سأل بو- قونغ تشي
7
منشيوس: «ما الذي كان عليه النظام الهرمي للأسر النبيلة في عهد أسرة جو، وما يتصل به من مكانة وإيرادات؟»
أجابه منشيوس: «لا يتوفر لدينا الآن معلومات تفصيلية عن ذلك؛ لأن أمراء المقاطعات أتلفوا السجلات الخاصة بذلك لما تسبب لهم من أذى، ولكنني توصلت إلى معرفة الخطوط العامة لذلك النظام.
طبقة أبناء السماء (= الملوك) في الأعلى، يليها طبقة الدوق، فالمركيز، فالإيرل، فالفيسكونت والبارون معصا. وجميعها خمس طبقات.
8
أما في المقاطعات فيأتي الأمير في الأعلى، ثم الوزراء، ثم كبار الموظفين، ثم المثقفون العاملون لدى الأمير وهم في ثلاثة طبقات، العليا والوسطى والدنيا. وجميع هذه الطبقات ستة.
وكانت مساحة الأرض الزراعية الواقعة تحت تصرف الملك ألف لي مربع، وكان للدوق والمركيز مائة لي مربع، وللإيرل سبعون، وللفيسكونت والبارون خمسون، والمجموع أربع كميات من المساحة. أما الذين يملكون أقل من خمسين لي، فليس لهم علاقة مباشرة مع الملك، وإنما يتبعون أمراء المقاطعات ويدعون بالأتباع.
ولقد أعطي الوزراء المساحة نفسها التي أعطيت لطبقة المركيز، وأعطي كبار الموظفين المساحة نفسها التي أعطيت لطبقة الإيرل، وأعطي المثقفون العاملون لدى الملك المساحة نفسها التي لطبقة الفيسكونت والبارون.
كان أمير الإقطاعة التي تبلغ مساحتها مائة لي مربع يحصل على إيراد يساوي عشرة أضعاف إيراد الوزير، والوزير يحصل على إيراد يساوي عشرة أضعاف إيراد الموظف الكبير، والموظف الكبير يحصل على إيراد يساوي ضعف إيراد مثقف الدرجة العليا، ومثقف الدرجة العليا يحصل على إيراد يساوي ضعف إيراد مثقف الدرجة الوسطى، ومثقف الدرجة الوسطى يحصل على إيراد يساوي ضعف إيراد مثقف الدرجة الدنيا، ومثقف الدرجة الدنيا يحصل على إيراد يساوي إيراد أحد العامة العاملين في مكاتب الحكومة، وهذا يعادل ما كان يمكن لهما تحصيله من العمل الزراعي.
أما في إقطاعة متوسطة مساحتها سبعين لي مربع، فإن الأمير يحصل على دخل مقداره عشرة أضعاف دخل الوزير، والوزير يحصل على ما مقداره ثلاثة أضعاف الموظف الكبير، والموظف الكبير على ضعف مثقف الدرجة العليا، ومثقف الدرجة العليا على ضعف مثقف الدرجة الوسطى، ومثقف الدرجة الوسطى على ضعف مثقف الدرجة الدنيا، ومثقف الدرجة العليا على ما يساوي دخل أحد العامة العاملين في مكاتب الحكومة، وهذا يعادل ما كان يمكن لهم تحصيله من العمل الزراعي.
وأما في مقاطعة صغيرة مساحتها خمسون لي مربع فإن الأمير يحصل على دخل مقداره عشرة أضعاف دخل الوزير، والوزير على ضعف الموظف الكبير، والموظف الكبير على ضعف مثقف الدرجة العليا، ومثقف الدرجة العليا على ضعف مثقف الدرجة الوسطى، ومثقف الدرجة الوسطى على ضعف مثقف الدرجة الدنيا، ومثقف الدرجة الدنيا على مثل أحد العامة العاملين في مكاتب الحكومة، وهذا يعادل ما كان يمكن لهم تحصيله من العمل الزراعي.
وفيما يتعلق بغلة الزراعة، فإن لكل فلاح مائة مو من الأرض، ومن خلال العمل في هذه المساحة فإن الفلاح الكفء يقدر على إعالة أسرة من تسعة أشخاص، ومتوسط الكفاءة يقدر على إعالة سبعة، ودون المتوسط على إعالة ستة، وقليل الكفاءة يقدر على إعالة خمسة. وكان راتب العامي الذي يعمل لدى الحكومة يتوزع على درجات تعادل ما ذكرنا.»
3
سأل وانغ جانغ منشيوس عن الصداقة وكيفية اختيار الأصدقاء، فأجابه: «في اختيار الأصدقاء لا تعتمد على مزايا السن أو المكانة أو سعة العلاقات الاجتماعية، بل انظر إلى ما لدى الآخر من فضائل، ولا تضع في الاعتبار ما لديك أنت من ميزات (= مكانة أو ثروة أو نسب).
مينغ شيان تسو
Ming Xian Tzu
9
كان من أسرة تمتلك مائة عربة قتالية، وكان لديه خمسة أصدقاء، هم: يوه-تشينغ تشيو
Yueh-ching Ch’iu ، ومو تشونغ
Mu Chung ، وثلاثة آخرون نسيت أسماءهم. وقد حافظ على صداقة هؤلاء لأنه نسي معهم مكانة أسرته، ولو أن هؤلاء الأصدقاء أخذوا في اعتبارهم مكانة أسرته لما حافظوا ناحيتهم على صداقته.
وهذا لا ينطبق فقط على من يمتلك مائة عربة قتالية، وإنما على حاكم دولة صغيرة أيضا؛ فقد قال هوي أمير دولة بي
10
في إحدى المرات: إنني أعامل تزو هسي
Tzu Hsi
11
كأستاذ لي، ويان بان
Yan Ban
كصديق، أما وانغ شون
Wang Shun
وتشانغ شي
Chang Xi
فهما رجلان في خدمتي.
كما ينطبق هذا أحيانا على حكام دولة كبيرة، ومنهم الأمير بينغ
Bing
12
حاكم تشن
Chin
في علاقته مع هاي تانغ
Hai Hang .
13
كان هاي تانغ إذا دعا الأمير إلى بيته جاء وجلس وأكل معه وشبع، حتى وإن كان الطعام أرزا غير مقشور وحساء خضار؛ لأنه لم يجد من المناسب أن يفعل غير ذلك. ولكن الأمير لم يذهب أبعد من ذلك، فلم يدعه للمشاركة في مهام البلاط، أو ينعم عليه بإيراد مالي، أو يشاركه بما أنعمت عليه السماء. وهذه طريقة الرجل النبيل في توقير الرجل الصالح والفاضل، لا طريقة الملوك والأمراء.
عندما ذهب شون لمقابلة الملك ياو أنزله في قصر مستقل وأكرم وفادته، وبعد ذلك تبادلا دور الضيف والمضيف بالتناوب. وفي هذا مثال عن ملك يصادق رجلا من العامة.»
4
سأل وانغ جانغ منشيوس: «في أية حالة عقلية ينبغي أن يكون فيها المرء عند اجتماعه بالآخرين؟»
أجابه منشيوس: «حالة الاحترام.»
فتابع وان جانغ قائلا: «يقال إن المرء يظهر عدم الاحترام إذا رفض الهدية من شخص مرارا. لماذا؟»
أجابه منشيوس: «إذا جاءتك الهدية من صاحب مكانة ستتساءل قبل قبولها عما إذا كان المهدي قد حصل عليها بوسائل مشروعة أم لا، وفي ذلك إظهار عدم احترام له؛ لذلك يجب عدم رفض الهدية.»
قال وان جانغ: «ألا نستطيع رفضها على قاعدة أنه جرى تحصيلها بوسائل غير مشروعة دون أن نقول ذلك له، بل نفتش عن عذر آخر لعدم القبول؟»
أجابه منشيوس: «إذا كان هذا الرجل ذو المكانة قد عقد الصداقة مع أحدهم بطريقة صحيحة، وقدم الهدية له وفق قواعد الأدب والمعاملات؛ فإن كونفوشيوس نفسه يقبلها.»
قال وان جانغ: «لنفترض أن أحدهم سرق من آخر خارج أسوار المدينة، ثم جاء فعقد الصداقة مع أحدهم بطريقة صحيحة وقدم له مما سرق هدية وفق قواعد الأدب والمعاملات، هل تقبل هديته؟»
قال منشيوس : «كلا. لقد ورد في نص تعليمات كانغ شو
Kang Shu :
14
أولئك الذين يرتكبون جرائم القتل والسلب دون خوف من عقوبة الإعدام، هم أناس مرذولون من قبل الجميع دون استثناء. وما ورد في هذا النص يدعونا لقتل أولئك دون إمهالهم أو محاولة إصلاحهم. وهذه سنة أوصى بها الملك شيا الملك ين، والملك ين أوصى بها الملك جو، ولم يرفضها أحد من حكام السلالات.»
قال وان جانغ: «إن ما يحصله أمراء المقاطعات من رعاياهم هذه الأيام لا يعدو أن يكون نوعا من السرقة، فهل يجوز للإنسان النبيل أن يقبل منهم الهدية إذا جرى تقديمها وفق ما ذكرت؟»
أجابه منشيوس: «إذا ارتقى العرش ملك حقيقي اليوم، هل يعمد إلى تنفيذ عقوبة الإعدام بجميع أمراء المقاطعات، أم إنه يحاول إصلاحهم قبل تنفيذ العقوبة؟ إن تعريف السرقة بأنها أخذ المرء ما ليس له، هو نظرة متطرفة إلى المبادئ الأخلاقية. عندما كان كونفوشيوس يشغل منصبا حكوميا في دولة لو، كان الناس في نزهة الصيد يتنازعون على حصيلة الصيد
15
من أجل تقديمها في طقوس القربان، وكان كونفوشيوس يدخل معهم في هذا النزاع. فإذا كان التنازع على الصيد مسموحا، فلماذا من غير المسموح قبول الهدية؟»
قال وان جانغ: «ألم يقبل كونفوشيوس العمل الحكومي من أجل تحقيق مبادئه؟» أجابه منشيوس: «هذا صحيح.» قال وان جانغ: «إذن لماذا كان يشارك في ذلك التنازع؟»
أجابه منشيوس: «لقد وضع كونفوشيوس مبادئ محددة تتعلق بكيفية استخدام الأواني الطقسية، والأماكن التي تجلب منها طرائد الصيد دون غيرها.»
16
قال وان جانغ: «لماذا لم يستقل كونفوشيوس من وظيفته (طالما أن مبادئه لم تطبق)؟»
أجابه منشيوس: «لقد أراد المحاولة ليرى ما إذا كانت مبادئه ستطبق أم لا، وبعدها سيستقيل إذا فشل؛ لهذا نجد أنه لم يبق في وظيفة حكومية تزيد عن الثلاث سنوات. لقد كان يقبل الوظيفة في ثلاث حالات؛ إذا رأى أن نجاحه في تطبيق مبادئه محتمل، أو إذا لقي حفاوة، أو إذا لقي دعما لمشروعه لدى الحاكم. كان عمله مع تشي خوان تزو
Chi Huan Tzu
مثالا على الحالة الأولى ، ومع لينغ
Ling
أمير وي مثالا على الحالة الثانية، ومع شيا أمير وي (وي في الحالة الثانية) مثالا على الحالة الثالثة.»
5
قال منشيوس: «ينبغي ألا تكون الفاقة وراء قبول المرء منصبا حكوميا، ولكنها قد تكون كذلك في بعض الأحيان، وذلك مثلما لا يتزوج المرء لكي تقوم زوجته برعاية والديه، ولكنه يفعل ذلك في بعض الأحيان. ولكن على من دفعته الحاجة إلى البحث عن منصب حكومي ألا يتبوأ منصبا عاليا ويقبل بدلا عنه منصبا متواضعا، وألا يقبل راتبا عاليا ويقبل بدلا عنه راتبا متواضعا.
فما هي الوظائف التي تناسب هؤلاء الذين يرفضون المنصب العالي والراتب العالي؟ هنالك وظائف مثل حارس بوابة المدينة والحارس الليلي المتجول في الأزقة. كونفوشيوس نفسه عمل (في شبابه) قيما على أهراء الحبوب، كما عمل أيضا أمين مخازن، وكان يقول: مهمتي تتلخص في الاحتفاظ بحسابات صحيحة. وعندما عمل مربيا للماشية كان يقول: عملي يتلخص في تسمين وتقوية الماشية.
من الخطأ أن يتحدث شاغل الوظيفة المتواضعة في الشئون العليا للدولة، ومن العار على من يشغل الوظيفة العليا في البلاد ألا يعمل على تطبيق المبادئ الصحيحة في الحكم والإدارة.»
6
قال وانغ جانغ: «لماذا لا يضع المثقف نفسه تحت حماية أمير مقاطعة؟» أجابه منشيوس: «من المفترض ألا يفعل ذلك. وفق الطقوس وقواعد الأدب والمعاملات، الأمير الذي خسر مقاطعته وحده الذي يضع نفسه تحت حماية أمير، أما المثقف فلا يجوز له أن يفعل ذلك.»
فسأله وانغ جانغ: «إذا أرسل له الأمير هدية من الأرز لطعامه، هل يقبلها؟» أجابه منشيوس: «نعم، إنه يقبلها.»
فسأله وان جانغ: «وفق أي قاعدة سلوكية يفعل ذلك؟» أجابه منشيوس: «جرت العادة على أن يقدم الأمير معونة عينية لأولئك الذين قدموا من الخارج بقصد الاستقرار.»
فسأله وانغ جانغ: «لماذا يقبل المثقف معونة الأمير ولا يقبل منه الهبة؟» فأجابه منشيوس: «ليس من المفترض به أن يفعل ذلك.»
فسأله وان جانغ: «ولماذا ليس من المفترض به أن يفعل ذلك؟» أجابه منشيوس: «حارس بوابة المدينة والحارس الليلي وأضرابهما لهم واجبات محددة يقومون بها ، ويقبضون عليها رواتب من الدولة، ولكن إذا لم يكن للمرء عمل محدد يؤديه، فإن قبوله للهبة هو نوع من المذلة.»
سأله وان جانغ: «إذا كان مسموحا للمثقف أن يقبل هدية من الأمير، فكم من المرات يسمح له بذلك؟» أجابه منشيوس: «لعل ما حدث بين الأمير مو
Mu
وتزو سو
Tzu Su
جوابا على سؤالك؛ فقد كان الأمير يبعث برسله إلى تزو سو مرارا للاطمئنان عليه ونقل تحياته، ومعهم هدية من لحم الخنزير المطبوخ، الأمر الذي أثار حفيظة تزو سو أخيرا، فطرد الرسول عند الباب، واستدار نحو الشمال وسجد بجبهته إلى الأرض مرتين قائلا: الآن أعرف أن الأمير يعاملني مثلما يعامل خيوله وكلاب صيده. ومنذ ذلك الوقت توقفت هدايا الأمير. إذا كان الأمير يدعي حبه لمثقف فاضل، ولكنه لا يعمل على رعايته والإفادة من علمه وكفاءته، فهل يكون قد أحبه وقدره فعلا؟»
سأله وان جانغ: «ما الذي يتوجب على الأمير أن يفعله إذا كان راغبا حقا في رعاية مثقف فاضل؟» أجابه منشيوس: «أولا على الهدية أن ترسل باسم الأمير، وعلى المثقف أن يسجد بجبهته مرتين إلى الأرض قبل أن يستلمها، وبعد ذلك يمكن للقيم على الإهداء الملكي وللطباخ تقديم الأرز واللحم باسميهما لا باسم الأمير. ولقد رأى تزو سو أن الطريقة السليمة في العناية بالمثقف لا تكون بإرسال وجبات من اللحم المسلوق التي يتوجب على المثقف أن يسجد بجبهته إلى الأرض قبل قبولها.
ولقد عامل الملك ياو شون على النحو التالي؛ أرسل له أولاده التسعة لخدمته، ثم زوجه من بنتيه، وبعد ذلك قام بتزويد شون بالأرز والماشية وعدد كبير من الموظفين لخدمته في الأرض، وبعد ذلك رفعه إلى أعلى مقام. بهذه الطريقة يتم تكريم الفاضل الحكيم من قبل الحكام.»
7
سأل وان جانغ: «على ماذا يعتمد المرء عندما يرفض الاجتماع بأمير؟» أجابه منشيوس: «أولئك الذين يقيمون في المدن يدعون سكانا حضريين، وأولئك الذين يقيمون خارجها يدعون سكانا ريفيين، والفريقان معا يدعون عامة. ووفقا لقواعد الأدب والمعاملات فإن أي عامي لا يسمح له بمقابلة الأمير إذا لم يحمل بيده هدية كعربون ولاء.»
سأله وان جانغ: «إذا دعي العامي لعمل السخرة فإنه يلبي الدعوة، فلماذا لا يلبي المثقف دعوة الأمير إذا دعاه وأراد رؤيته؟»
أجابه منشيوس: «إنه لمن الصواب أن يلبي المرء الدعوة إلى العمل، ولكن من غير الصواب أن يذهب لمقابلة الأمير. ثم إنه ما الذي يدعو الأمير لمقابلته؟» فقال وان جانغ: «لأنه موهوب وواسع الاطلاع وفاضل.» فقال منشيوس: «حتى الملك ليس بوسعه أن يستدعي معلمه لأنه واسع الاطلاع، فكيف يفعل الأمير ذلك؟ وإذا كان السبب أنه موهوب وفاضل، فإنني لم أسمع بأن الاجتماع بهذا الموهوب والفاضل يتم عن طريق الاستدعاء.
لقد كان من عادة الأمير مو أن يزور تسو سي، وفي إحدى المرات سأله: كيف كان أمير دولة كبيرة في الزمن القديم يعقد صداقة مع مثقف؟ فشعر تسو سي بالامتعاض من هذا السؤال وأجاب: ما كان يجري في الزمن القديم هو أن المثقفين كانوا يخدمون الأمراء ولا يعقدون صداقة معهم.
أما عن سبب امتعاض تسو سي فيمكن تفسيره على الوجه التالي؛ من جهة المكانة أنت الحاكم وأنا التابع، ومن جهة الفضيلة أنت تعتبرني معلما لك، وفي كلتا الحالتين كيف يمكنك أن تعقد صداقة معي؟
إن حاكم دولة تملك ألف عربة قتالية لا يستطيع عقد صداقة مع مثقف. في إحدى المرات عندما كان تشينغ أمير تشي في نزهة صيد، استدعى القيم على الصيد بإشارة من علم في رأسه ريش، ولكن الرجل لم يحرك ساكنا أو يستجب، فكان الأمير على وشك أن يقتله.
وتعليقا على هذه الحادثة قال كونفوشيوس: الرجل المخلص للمبادئ لا يخشى أن يفقد حياته في البرية، ولا الشجاع يخشى أن يفقد رأسه.
إن ما قدره كونفوشيوس في موقف هذا الرجل هو أنه لم يستجب لأمر الاستدعاء الصادر عن الأمير؛ لأن الاستدعاء لم يجر وفق الأصول المتبعة.
فسأله وان جانغ: «وماذا كانت الإشارة الصحيحة التي كان من المتوجب على الأمير استخدامها لاستدعاء القيم على الصيد؟» أجابه منشيوس: «إشارة بقبعة من الفرو، أما العامي فبإشارة من راية حريرية حمراء، والمثقف براية أجراس، والموظف الكبير براية في رأسها ريش؛ ولذلك لم يستجب القيم على الصيد؛ لأن الإشارة التي استخدمها الأمير كانت لاستدعاء كبار الموظفين، وفضل الموت على ذلك. فإذا كان العامي لا يجرؤ على الاستجابة إذا استدعي بإشارة تناسب من هو أعلى منه مرتبة، فما بالك إذن بالرجل الفاضل والحكيم إذا استدعي بطريقة لا تناسب فضيلته وحكمته؟
إذا رغبت في الاجتماع برجل فاضل ولم تستخدم الطريقة المناسبة في استدعائه، كنت كمن يطلب منه الدخول دون أن يفتح له الباب. الرجل الفاضل يتبع هذا الطريق، ويدخل ويخرج من هذا الباب. وقد ورد في كتاب القصائد: طريق الفضيلة مصقول مثل حجر الشحذ، ومستقيم مثل السهم. النبلاء يمشون عليه، والآخرون يقتفون خطاهم.»
سأله وان جانغ: «يقال إن كونفوشيوس كان إذا استدعاه الأمير توجه إليه قبل أن يتم تجهيز عربته. هل كان كونفوشيوس على خطأ؟» أجابه منشيوس: «كان كونفوشيوس حينها موظفا، وعليه ما على الموظف من واجبات، وبالتالي كان يستدعى كموظف.»
8
قال منشيوس لوان جانغ: «الرجل المتميز في القرية يقيم صداقات مع الرجال المتميزين في قريته، والرجل المتميز في الدولة يقيم صداقات مع الرجال المتميزين في الدولة، والرجل المتميز في المملكة يقيم صداقات مع الرجال المتميزين في المملكة. فإذا وجد أن صداقاته التي أقامها في المملكة لا تكفيه؛ رجع في الزمن إلى الوراء وتواصل مع القدماء. وهنا عيله ألا يكتفي بقراءة شعرهم ونثرهم، بل وأن يتعرف عليهم كرجال من خلال دراسة العصر الذي عاشوا فيه. وهذا ما يدعى بالبحث عن الأصدقاء في التاريخ.»
9
سأل شوان
Xuan
ملك تشي منشيوس عن الوزراء وكيف يكونون، فقال له منشيوس: «عن أي نوع من الوزراء تسأل؟» قال الملك: «وهل هنالك أنواع من الوزراء؟» أجابه منشيوس: «نعم. هناك وزراء ينتمون إلى السلالة الملكية، وآخرون لا ينتمون إليها.» فقال الملك: «إذن قل لي عن رأيك في الذين ينتمون إلى السلالة الملكية.»
قال له منشيوس: «إذا ارتكب الملك أخطاء فادحة على هؤلاء أن يعترضوا عليه، فإذا لم يصغ إلى اعتراضاتهم مرارا وتكرارا؛ عليهم أن يخلعوه.» وهنا اكفهر وجه الملك، فتابع منشيوس كلامه: «أرجو ألا تستاء يا مولاي؛ فلقد سألتني وكان علي أن أقول الحق.» وهنا عاد الملك إلى طبيعته وسأله عن الوزراء الذين لا ينتمون إلى السلالة الملكية، فقال منشيوس: «إذا ارتكب الملك أخطاء فادحة، على الوزراء أن يعترضوا عليه، فإذا لم يصغ إلى اعتراضاتهم عليهم أن يستقيلوا من مناصبهم.»
الباب الحادي عشر: كاو تسو
1
قال كاو تسو
Kao Tzu :
1 «الطبيعة الإنسانية مثل عيدان شجر الصفصاف، والفضيلة مثل الصحون والأقداح. وكما نصنع من عيدان شجر الصفصاف صحونا وأقداحا، كذلك فإننا نعمل على تشكيل الطبيعة الإنسانية وفق الفضيلة.»
فقال منشيوس: «عندما نصنع من عيدان الصفصاف صحونا وأقداحا، هل نترك طبيعتها على حالها أم نغير فيها؟ فإذا كان عليك أن تغير من طبيعة العيدان لتصنع منها صحونا وأقداحا، هل ستغير أيضا من الطبيعة الإنسانية لكي تعمل على تشكيلها وفق الفضيلة؟ هذا المبدأ الذي تقول به هنا هو الذي ضلل عقول الناس عن الفضيلة.»
2
2
قال كاو تسو: «الطبيعة الإنسانية مثل ماء دافق، إذا فتحت له مخرجا نحو الشرق يتجه نحو الشرق، وإذا فتحت له مخرجا نحو الغرب يتجه نحو الغرب. الطبيعة الإنسانية ليس فيها ميل نحو الخير أو نحو الشر، مثلما أن الماء ليس لديه ميل للاتجاه نحو الشرق أو نحو الغرب دون تفضيل.»
أجابه منشيوس: «هذا صحيح؛ فالماء ليس لديه ميل للاتجاه نحو الشرق أو نحو الغرب دون تفضيل. ولكن هل ليس لديه تفضيل للاتجاه نحو الأعلى أو نحو الأسفل؟ إن الطبيعة الإنسانية لديها ميل نحو الخير مثلما أن الماء لديه ميل للاتجاه نحو الأسفل، وبالتالي فإنك لن تجد إنسانا غير مبال للخير بطبيعته، ولن تجد ماء ينثال نحو الأعلى بدلا من الأسفل.
ولكن إذا قمت برش الماء جعلته يرتفع إلى ما فوق رأسك، وإذا صددته بحاجز أبقيته فوق تل مرتفع، ولكن هذا ليس من طبيعة الماء، وهو يفعل ذلك بالقسر. كذلك الإنسان، إنه لا يميل إلى الشر إلا إذا غير من طبيعته الأصلية.»
3
قال كاو تسو: «عندما نتحدث عن الطبيعة الأصلية فإننا نعني بها كل ما هو فطري وموروث.» فسأله منشيوس: «هل في قولك هذا ما يشبه القول بأن البياض في كل الأشياء هو بياضها؟» أجابه كاو تسو: «نعم.» فسأله منشيوس: «هل بياض الريشة هو نفسه بياض الثلج، وبياض الثلج هو نفسه بياض حجر الجاد؟» أجابه كاو تسو: «نعم.» فسأله منشيوس: «في هذه الحالة، هل الطبيعة الأصلية للكلب مثل الطبيعة الأصلية للثور، والطبيعة الأصلية للثور مثل الطبيعة الأصلية للإنسان؟»
3
4
قال كاو تسو: «الطعام والجنس هو ما تطلبه الطبيعة. الإحسان هو شيء داخلي، أما الاستقامة فشيء خارجي.»
4
فسأله منشيوس: «على أي أساس تبني مقولتك هذه؟»
قال كاو تسو: «إذا كان أمامي رجل مسن فإني أعامله بالاحترام الواجب لرجل مسن، وليس لأن في داخلي ميل فطري لاحترام المسنين،
5
وذلك كما لو أن رجلا أبيض وقف أمامي فبدا لي أبيض، ورأيت بياضه من الخارج؛ ولهذا أقول إن البياض هنا شيء خارجي.»
قال منشيوس: «ربما لا يكون هنالك فرق بين بياض الرجل وبياض الحصان، ولكن هل ليس من فرق بين عنايتنا بالحصان واحترامنا لرجل مسن؟ وفي هذه الحالة هل الاستقامة في الرجل المسن أم إنها في من يعامله كرجل مسن؟»
قال كاو تسو: «أنا أحب أخي ولكنني لا أحب أخا رجل آخر من دولة تشي؛ أي إن الحب وعدمه متوقف علي؛ ولهذا أقول إن الإحسان شيء داخلي. ومن ناحية أخرى فأنا أحترم رجلا مسنا من دولة تشي مثلما أحترم رجلا مسنا من مواطني دولتي؛ ولهذا أقول إن الاستقامة شيء خارجي.»
قال منشيوس: «إنني أستمتع بلحم مشوي حضره رجل من دولة تشن، مثلما أستمتع بلحم مشوي حضره مواطن من دولتي. فهل تقول إن هذا الاستمتاع شيء خارجي؟»
6
5
مينغ تشي-تسو
Ming Chi-tzu
7
سأل قونغ-تو تسو
Gung-tu Tzu
تلميذ منشيوس: «على ماذا تستندون عندما تقولون إن الاستقامة شيء داخلي؟» فأجابه قونغ- تو تسو: «لأن الاحترام الذي في داخلي هو الذي يعبر عن نفسه في سلوك.»
فسأله مينغ تشي-تسو: «إذا كان هنالك رجل من قريتك يكبر أكبر إخوتك بسنة واحدة، أيهما تحترم أكثر؟» أجابه قونغ-تو تسو: «أحترم أخي أكثر.»
فسأله مينغ تشي-تسو: «إذا كنتم في وليمة وأردت أن تقدم الخمر لهما، فلمن تسكب الخمر أولا؟» أجابه قونغ-تو تسو: «للرجل الذي من قريتي.»
فقال مينغ تشي-تسو: «إذن فالرجل الذي تحترمه هو أخوك، والذي تعامله وفقا لسنه هو رجل قريتك. ألا يدل هذا على أن الاستقامة شيء خارجي لا داخلي؟»
فلما عجز قونغ-تو تسو عن الإجابة، مضى إلى منشيوس وعرض له القضية، فقال منشيوس: «كان عليك أن تسأله: من تحترم أكثر، أخاك الأصغر أم عمك؟ عندها سيقول: عمي. ثم تسأله بعد ذلك: إذا كان أخوك الأصغر يمثل دور السلف الميت في طقس تقديم القرابين للأسلاف،
8
فأيهما تحترم أكثر؟ عندها سيجيبك: أخي الأصغر. فتسأله: ولكن أين ذهب احترامك لعمك؟ فيجيبك: أحترم أخي الأصغر هنا بسبب موقعه الحالي. عندها تقول له: لذلك، وبخصوص سؤالك عن الرجل الذي من قريتي، أقول لك لقد احترمته أكثر من أخي عندما سكبت له الخمر بسبب موقعه الحالي؛ أي إنه في الأحوال العامة أنا أحترم أخي الأكبر، وفي بعض الأحوال الخاصة أحترم الرجل الذي من قريتي.»
عندما سمع مينغ تشي-تسو ما قاله منشيوس قال لقونغ-تو تسو: «تبعا للأحوال أنا أحترم إما أخي أو عمي، وفي الحالتين الاحترام واحد؛ ولذلك قلت إن الاحترام خارجي ولا ينبع من الداخل.»
فقال قونغ-تو تسو: «نحن في الشتاء نشرب الماء الدافئ، وفي الصيف نشرب الماء البارد، هل هذا يعني أن الطعام والشراب مسألة خارجية؟»
6
قال قونغ-تو تسو: «قال قاو تسو
Gao Tzu :
9
إن الطبيعة الإنسانية ليست في أصلها خيرة أو شريرة. ويقول آخرون إن الطبيعة الإنسانية يمكن أن تميل إما إلى الخير أو إلى الشر؛ لهذا فخلال عهد الملك الحكيم ون وعهد الملك الحكيم وو،
10
كان لدى الناس ميل إلى الخير. أما خلال عهد الملك يو
Yu
والملك لي
Li
11
فكان لدى الناس ميل إلى الوحشية. وقال فريق ثالث إن البشر نوعان؛ نوع طيب بطبيعته، وآخر سيئ بطبيعته؛ لهذا فخلال عهد الملك الصالح ياو كان هنالك شخص سيئ مثل شيانغ،
12
وخلال عهد الملك شون كان هنالك شخص سيئ هو أبوه الأعمى، وخلال عهد الملك الطاغية جو
13
كان هنالك الوزيران الصالحان تشي
Ch’i
وبي قان
Bi Gan .
14
والآن أنت تقول إن الطبيعة الإنسانية خيرة، فهل كانت كل تلك الأقوال خاطئة؟»
أجابه منشيوس: «لدى الإنسان استعداد فطري لأن يكون خيرا. وهذا ما أعنيه بقولي إن الطبيعة الإنسانية خيرة، أما إذا مال الإنسان لفعل الشرور، فإنه لا يصدر في ذلك عن خصائص فطرية. إن الإحساس بالشفقة أمر مشترك بين جميع البشر، وكذلك الإحساس بالخجل، والإحساس بالاحترام، والإحساس بالصح والخطأ. الإحساس بالشفقة يصدر عن الإحسان، والإحساس بالخجل يصدر عن الاستقامة، والإحساس بالاحترام يصدر عن مراعاة قواعد الأدب والمعاملات، والتمييز بين الصح والخطأ يصدر عن الحكمة.
الإحسان، والاستقامة، ومراعاة قواعد الأدب والمعاملات، والحكمة لا تأتي إلينا من الخارج ولكنها من طبيعتنا، إلا أننا لم نبحث عنها. من هنا جاء القول المأثور: ابحث وسوف تجد. ربما كان هنالك أناس متخلفون عن الآخرين بما لا يقاس، وما ذلك إلا لأنهم لم يتحسسوا على الوجه الأكمل طبائعهم الأصلية. وقد ورد في كتاب القصائد: عندما جعلت السماء على الأرض بشرا، وضعت قواعد لكل شيء. وهم إذا تمسكوا بطبيعتهم الثابتة توصلوا إلى الفضائل العليا. وقد قال كونفوشيوس تعليقا على ما ورد في القصائد: لقد عرف مؤلفو هذه الأبيات طريق الحق. فلكل شيء قاعدة، وإذا تمسك الناس بالقواعد توصلوا إلى الفضائل العليا.»
7
قال منشيوس: «في زمن الوفرة يكون الشباب ميالين إلى الكسل، وفي زمن المجاعة تجدهم ميالين إلى العنف. هذا ليس من طبيعتهم الفطرية، بل إن الشروط الخارجية هي التي تضعف فيهم النوازع الأخلاقية.
لنأخذ نبات الشعر مثالا؛ إذا بذرنا حبوبه في التربة وجعلنا التراب يعلوها، وتركناها تنمو في المكان نفسه وفي التوقيت نفسه؛ فإنها ستغدو سويقات ترتفع تدريجيا حتى تنضج عند الانقلاب الصيفي. فإذا تفاوت المردود، يكون ذلك إما بسبب اختلاف خصوبة التربة ، أو الاختلاف في قلة المطر وغزارته، أو في كم العمل المبذول. هذا المثال يدلنا على أن الأشياء التي تنتمي إلى صنف واحد تكون متشابهة، ولا نستثني من ذلك الإنسان حيث الحكيم وغير الحكيم سواء. وفي هذا قال لونغ تسو
Lung Tzu :
15
إذا صنع أحدنا صندلا من قنب لقدم لا يعرف مقاسها، من المؤكد أنه لن يصنعها بحجم سلة؛ أي إن كل الصنادل متشابهة لأن أقدام البشر متشابهة.
وفيما يتعلق بحاسة الذوق كل الأفواه متشابهة أيضا. وقد كان الطباخ يي يا
Yi Ya
16
أول من اكتشف ما الذي يروق لحاسة ذوقنا. فإذا كانت الطعوم تختلف من شخص لآخر قدر اختلاف الإنسان عن الحيوان، فكيف صار للأطعمة مذاق متشابه لدى الجميع؟
كذلك هو الحال فيما يتعلق بحاسة السمع وحاسة البصر؛ فكل آذان الناس في هذه البلاد تطرب لألحان شيه قوان؛
17
لأن كل الآذان متشابهة. وكل الأنظار ترى في تزو-تو
Tzu-tu
18
مثالا للوسامة الذكورية. ومن لا يرى ذلك أعمى.
فإذا كانت كل الأفواه تتشابه في تذوقها للطعوم، وكل الآذان تتشابه في طربها للموسيقى، وكل الأنظار تتشابه في تقديرها للجمال؛ ففي أي شيء تتشابه القلوب (= العقول)؟ إنها تتشابه في العقلانية والاستقامة.
لقد كان الحكماء أول من اكتشف هذا التشابه في العقول، وكيف تلذ العقلانية والاستقامة للعقول مثلما يلذ اللحم للأفواه.»
8
قال منشيوس: «كانت الأشجار على جبل نيوشان تنمو بوفرة، ولكن لقربها من العاصمة وقعت تحت ضربات الفئوس، فلا عجب إذا لم تبق على حالها. كانت تزداد نماء في الليل وفي النهار بماء المطر ورطوبة الندى فتبرعم وتورق، ولكن الماشية التي ترعى في الجبل جعلته أجرد، حتى إن الناس ظنوا أن لم يكن فيه أشجار قط. ولكن هل كانت هذه هي الطبيعة الحقيقية للجبل؟
وفيما يتعلق بالإنسان؛ هل تخلو طبيعته من الإحسان والاستقامة؟ إذا حدث ذلك فلأنه تخلى عن طبيعته الأصلية وصار مثل تلك الأشجار التي وقعت تحت ضربات الفئوس، وإذا ما أعملت الفئوس فيها تقطيعا في الليل والنهار ألن تفقد رونقها؟
إن الفضيلة التي ينميها المرء في الليل والهواء العليل عند الفجر، من شأنها تقليل الفوارق بينه وبين الآخرين بخصوص ما يحبه وما لا يحبه. إلا أن ما يفعله في النهار يجعله يخسر ما كسبه، وإذا ما تكررت خسارته مرة بعد مرة، فإن الفضيلة التي نماها في الليل سوف تتلاشى وينحدر إلى مرتبة الحيوان. وعندما يرى الآخرون شبهه بالحيوان سيعتقدون أنه لم يكن لديه طبيعة فاضلة فقط. ولكن هل هذه هي طبيعته الفطرية؟
لهذا أقول إنك عندما تنمي شيئا فإنه سيكبر ويزداد، وبدون ذلك سوف يذوي ويفسد. وقد قال كونفوشيوس: إذا تمسكت بالشيء ملكته، وإذا أرخيت له فقدته. لا أحد يعرف متى يأتي ولا متى يمضي، ولا أين يتجه.
ولا بد أنه كان يعني بذلك الفضيلة في العقل.»
9
قال منشيوس: «لا تعجبوا من قلة حكمة الملك،
19
فإن النبتة الأسرع في النماء سوف تذوي إذا عرضتها للشمس يوما ثم للبرد عشرة أيام. لقد اجتمعت بالملك مرات قليلة، وبعد انصرافي كان رجال بطانته يلتفون حوله ويعرضونه للبرد، فكيف لي أن أعين براعم الفضيلة الصغيرة فيه على النمو؟
إن لعبة الشطرنج (الصيني) ليست من الفنون المهمة، ولكن المرء لا يتقنها إذا لم يعطها كل تفكيره. إن يي تشيو
Yi Qiu
هو أستاذ بارع في الشطرنج، ولا يباريه أحد في المملكة. فإذا جاء لتعليم رجلين هذه اللعبة، فوضع أحدهما فيها كل تفكيره وأصغى بانتباه إلى كل ما يقوله له، أما الآخر فيبدو أنه في حالة استماع إلى المعلم، ولكن خياله يسرح وراء بجعة مفترضة تقترب، ويتمنى لو أنه أوتر قوسه وأطلق عليها سهما. إن الثاني على الرغم من أنه يتلقى الدرس نفسه مع الأول، إلا أنه لن يكون ندا له في التعلم. هل لأنه أقل ذكاء؟ بالطبع لا.»
10
قال منشيوس: «السمك هو طبقي المفضل وكذلك كف الدب.
20
فإذا لم يكن بمقدوري الحصول عليهما معا، فإني أختار كف الدب. أنا أرغب في الحياة، وكذلك أرغب في الاستقامة. فإذا لم يكن بمقدوري الاحتفاظ بهما معا، فإني أفضل الاستقامة على الحياة.
أنا أرغب في الحياة، ولكن هنالك شيء أرغب فيه أكثر من الحياة؛ لهذا فإنني لن أعمل على إطالة أمد وجود وضيع. وأنا أكره الموت، ولكن هنالك شيء أكرهه أكثر من الموت؛ لهذا هنالك مخاطر لا أتجنبها.
إذا كان الناس لا يرغبون في شيء قدر رغبتهم في الحياة، فلماذا لا يبذلون كل ما في وسعهم للحفاظ على حياتهم؟ وإذا كانوا لا يكرهون شيئا قدر كراهيتهم للموت، فلماذا لا يبذلون كل ما في وسعهم لتفادي المخاطر؟
ومع ذلك فهنالك وسائل للبقاء على قيد الحياة، ولكن الناس لا يلجئون إليها، ووسائل لتفادي المخاطر، ولكنهم لا يلجئون إليها؛ وهذا يعني أن هنالك شيئا يرغبون به أكثر من الحياة، وشيئا يكرهونه أكثر من الموت. وهذا الموقف لا يقتصر على أهل الفضيلة، بل هو عام عند الجميع، غير أن أهل الفضيلة هم الذين يحافظون عليه.
لنفترض أن ها هنا سلة من الأرز وزبدية من الحساء. إذا تناولهما المرء يحيا، وإذا لم يفعل سيجوع حتى الموت. إذا قدمت هذه بكلمات مهينة فإنه حتى المتشرد لن يقبل بها، وإذا ديست بالأقدام قبل تقديمها، فإنه حتى المتسول يرى من العار عليه قبولها. ومع ذلك إذا تعلق الأمر بعشرة آلاف مكيال من الحبوب،
21
هل أقبلها من أجل الحصول على بيت رائع، والتمتع بزوجات ومحظيات وخدم متملقين، أو من أجل تقبل الامتنان من أقراني المحتاجين؟
إن ما لم أكن لأقبله في الحالة الأولى، عندما كان الأمر يتعلق بالحياة أو الموت، أقبله في هذه الحالة من أجل بيت رائع. وما لم أكن لأقبله عندما كان الأمر يتعلق بالحياة والموت، أقبله من أجل التمتع بزوجات ومحظيات وخدمة متملقة، وتقبل الامتنان من أقراني المحتاجين؟ أما من طريقة لوضع حد لذلك؟ مثل هذه الطريقة في التفكير أدعوها خسارة الطيبة الداخلية في القلب.»
11
قال منشيوس: «الرحمة مسكنها قلب الإنسان، والاستقامة هي الطريق الذي يتوجب على المرء سلوكه. الويل لمن لا يسير على الطريق فيضل قلبه ثم لا يبحث عنه.
إذا أضاع المرء دجاجة أو كلبا فإنه يخرج للبحث عنهما، ولكنه لا يفعل ذلك إذا أضاع قلبه. إن غاية التعلم هي استعادة القلب المفقود. وهذا كل شيء.»
12
قال منشيوس: «لنفترض أن رجلا لم يعد بإمكانه مد إصبعه الوسطى التي انحنت. إنها لا تؤلمه ولا تعيق عمل يده، ولكنه لو عرف بوجود من يقوم له إصبعه لقصده ولو كانت مسافة الرحلة إليه أطول من المسافة بين دولة تشن ودولة تشو؛ وما ذلك إلا لأن إصبعه أدنى من أصابع الآخرين. إنه يكره أن تكون إصبعه أدنى من أصابع الآخرين، ولكنه لا يكره أن يكون قلبه أدنى من قلوب الآخرين، وهذا ما أدعوه جهلا بالأولويات.»
13
قال منشيوس: «أشجار التانغ والكاتالبا صغيرة، ولا يزيد سمك جذعها عن شبر أو شبرين، وكل من يود رعايتها يعرف كيف يفعل ذلك. ولكن هنالك أناس لا يعرفون كيف يرعون أنفسهم. ألا يعني هذا أنهم يحبون هذه الأشجار أكثر من حبهم لأنفسهم؟ وهم في ذلك ألا يرفضون استخدام عقولهم؟»
14
قال منشيوس: «إذا أحب المرء جسده أحب كل أعضائه دون تمييز، وإذا أحب أعضاءه دون تمييز رعاها جميعا، وإذا أحب كل إنش في بشرته فإنه لا يترك إنشا دون رعاية.
إذا أردت أن تعرف ما إذا كان أحدهم مخلصا في رعاية جسده، فأفضل طريقة لذلك هي معرفة العضو الذي يخصه بالرعاية أكثر من غيره؛ ذلك أن أعضاء الجسد تختلف في الأهمية؛ فهنالك أعضاء عالية الشأن وأخرى قليلة الشأن، وأعضاء رئيسية وأخرى ثانوية،
22
وعلينا ألا نركز عنايتنا على الأعضاء الثانوية ونهمل الأعضاء الرئيسية. الذين يولون عنايتهم للأعضاء الثانوية تافهون، والذين يولون عنايتهم للأعضاء الرئيسية عظماء.
إن البستاني الذي يهمل شجر الكاتالبا والشجر العملاق، ويربي الشجيرات الشوكية وشجيرات العناب الحامض، هو بلا شك بستاني فاشل. والشخص الذي يهتم بإصبعه ويهمل الأذى الذي لحق بكتفه أو ظهره ولا يعرف أنه مخطئ في ذلك، هو رجل مخبول. أولئك الذين لا يهتمون إلا بالطعام والشراب هم موضع ازدراء؛ لأنهم يعنون بالأعضاء القليلة الأهمية على حساب الأعضاء الكثيرة الأهمية. أما الذين يأكلون ويشربون وفي الوقت ذاته ينمون الفضيلة في نفوسهم، فإنهم لا يفعلون ذلك لمجرد العناية بقدم أو إنش من البشرة.»
23
15
قونغ-تو تسو
Gung-tu Tzu
سأل منشيوس: «إذا كنا متشابهين جميعا كبشر، فلماذا نجد هنالك رجالا صغارا ورجالا كبارا؟» أجابه منشيوس: «الرجل الكبير هو الذي يسلك وفق متطلبات العضو الأنبل في الجسم (= القلب مقر التفكير)، والرجل الصغير هو الذي سلك وفقا لمتطلبات الأعضاء الأدنى في الجسم (مثل البطن والفم).»
فسأله ثانية: «إذا كنا متشابهين جميعا كبشر، فلماذا يسلك البعض وفقا لمتطلبات العضو الأنبل، والبعض الآخر وفقا لمتطلبات الأعضاء الأدنى؟» أجابه منشيوس: «إن التفكير ليس من وظيفة العين أو الأذن؛ ولذلك فإنها عرضة للتضليل من قبل المؤثرات الخارجية.
24
أما القلب فوظيفته التفكير، والتفكير يقوده لفعل ما هو صواب، ولكن القلب لن يجد الأجوبة إذا لم يفكر. القلب هو ما وهبته لنا السماء، فإذا سلكنا وفقا لمتطلباته لن نكون عرضة للتضليل من قبل الأعضاء الأدنى. هذا ما يجعل منك رجلا كبيرا.»
16
قال منشيوس: «هنالك مراتب نبالة مصدرها السماء، ومراتب نبالة مصدرها البشر؛ فالإحسان، والاستقامة، والإخلاص، والتوق الدائم لفعل الخير؛ مراتب صدرت عن السماء، أما مراتب الإمارة والإدارة بأنواعها فصدرت عن البشر.
كان القدماء يرعون مراتب السماء أولا ثم مراتب البشر، أما المحدثون فلا يراعون مراتب السماء إلا من أجل تحصيل مراتب البشر، فإذا حصلوا على الثانية تخلوا عن الأولى، وهؤلاء ليسوا سوى أغبياء إلى الدرجة القصوى؛ لأنهم في النهاية سوف يخسرون مراتب البشر.»
17
قال منشيوس: «التوق إلى تحقيق النبالة أمر مشترك بين الجميع، مع أن النبالة موجودة فيهم دون أن يدرون. إن النبالة الصادرة عن البشر ليست النبالة الحقة؛ فقد كان جاو مينغ
Zhao Ming ،
25
على سبيل المثال، يرفع أحدهم إلى أعلى مقام، ثم ينزله إلى أدنى مقام. وقد ورد في كتاب القصائد: أنا مشبع بالخمر وقانع بفضيلتي. والمعنى هنا أن المشبع بالفضيلة لا يحسد الآخرين على استمتاعهم بالطعام اللذيذ، وإذا حاز على السمعة والمكانة لا يحسدهم على الملابس الفاخرة.»
18
قال منشيوس: «الفضيلة عند الإنسان تقوى على السوء في داخله مثلما يقوى الماء على النار، ولكن أهل الإحسان اليوم يشبهون في ممارساتهم من يحاول إطفاء حمولة عربة من الخشب المحترق بكأس ماء، فإذا فشل في ذلك قال إن الماء لا يمكنه إطفاء النار. إن من يفعل ذلك يضع نفسه في زمرة القساة إلى أبعد الحدود، وفي النهاية سوف يفقد ما عنده من فضيلة.»
19
قال منشيوس: «الحبوب الخمسة
26
هي أفضل المزروعات، ولكنها قبل نضجها لا تكون أفضل من الأعشاب البرية. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالخيرية الإنسانية التي يتوجب علينا أن نتركها تنضج.»
20
عندما كان (النبال الشهير) يي يعلم الرماية، كان يشد الوتر إلى أقصى مدى، ويطلب من المتدربين أن يفعلوا الشيء ذاته. وكان معلم النجارة عندما يعلم حرفته يستخدم الفرجار والمربع ذو الزوايا، ويطلب من المتدربين أن يستخدموا الأدوات نفسها.»
الباب الثاني عشر: قاو تسو
1
سأل مواطن من دولة رين
Ren
وو-لو تسو
Wu-lu-Tzu (تلميذ منشيوس): «أيهما أكثر أهمية الطعام أم قواعد الأدب والمعاملات؟» أجابه: «قواعد الأدب والمعاملات.»
فسأله ثانية: «أيهما أكثر أهمية الزواج أم طقوس الزواج؟» فأجابه: «طقوس الزواج.»
فسأله أيضا: «إذا التزم المرء بالقواعد حتى شارف على الموت دون طعام، وكان بإمكانه الحصول على بعض الطعام دون أن يتمسك بها، هل سيبقى متمسكا بها؟ أو إذا التزم بطقوس الزواج حتى فقد الأمل بحصوله على زوجة، وكان بإمكانه الحصول عليها إذا لم يلتزم بالطقوس، هل يبقى على التزامه بها؟»
لم يكن لدى وو-لو تسو أجوبة على هذه الأسئلة، فمضى إلى منشيوس في موطنه تسو
Tsou
وحدثه عن ذلك الحوار طالبا مشورته، فقال له منشيوس: «وما الصعوبة في الإجابة عن هذه الأسئلة؟ إذا وضعت قمم الأشياء على مستوى واحد دون النظر إلى قواعدها، لكانت قطعة خشب طولها إنش واحد بارتفاع برج. وعندما نقول إن الذهب أثقل من الريش، فنحن بالتأكيد لا نقارن بين دبوس من الذهب وحمولة عربة من الريش؛ لذلك إذا قارنا حالة يكون فيها الطعام مهما مع حالة لا تكون فيها القواعد ذات أهمية، فإن الأولوية تكون للطعام. وإذا قارنا حالة يكون فيها الزواج ذو أهمية ولا تكون طقوسه ذات أهمية، فإن الأولوية تكون للزواج.
1
امض وتقدم بإجابتك للمسائل كما يلي: «إذا لم يكن لديك وسيلة للحصول على الطعام سوى كسر ذراع أخيك لكي تغتصب طعامه وتأكله، هل ستفعل ذلك؟ وإذا كان عليك أن تقفز فوق جدار جارك الشرقي وتختطف ابنته العذراء لكي تحصل على زوجة، هل تفعل ذلك؟»
وفي حال الزواج فإن طقوس الزواج لها الأولوية على الزواج في الأحوال العادية، ولكن إذا كان المرء فقيرا ولا يتحمل نفقات الطقوس، هل يبقى بلا نسل لكي يحافظ على الطقوس؟
2
تساو تشياو
Ts’ao Chiao
2
سأل منشيوس: «يقال إن كل الرجال يمكن أن يصبحوا حكماء مثل الملك ياو والملك شون. هل هذا صحيح؟» أجابه منشيوس: «نعم.» فقال السائل: «سمعت أن قامة الملك ون كانت بطول عشرة أقدام،
3
وقامة الملك شانغ تانع تسعة، أما قامتي فتسعة أقدام وأربعة إنشات، ومع ذلك لا أفعل سوى أكل الأرز. كيف أغدو مثل ياو أو شون؟»
أجابه منشيوس: «لا يوجد صعوبة في ذلك. كل ما عليك فعله هو بذل الجهد. لنفترض أن لدينا هنا رجلا لا يقدر على حمل دجاجة؛ أي إنه رجل ضعيف. ولدينا آخر قادر على رفع ثلاثة آلاف كاتي؛
4
أي إنه رجل قوي. إن أيا منهما يقدر على رفع ما يقدر عليه، ووو خو
Wu Huo
5
هو ند له.
ولكن المشكلة هي أن بعض الناس يشكون من قلة قدرتهم، ولكنهم لا يبذلون الجهد المطلوب. إن من يمشي بتمهل خلف أخيه الأكبر يعبر عن احترامه له، أما من يسرع في مشيه ويتخطى الأكبر سنا فيعبر عن قلة احترامه له. هل المشي بتمهل أمر فوق طاقة المرء؟ أبدا، ولكنه دلالة على عدم الرغبة في ذلك.
إن طريق ياو وشون يمكن تلخيصه في بر الوالدين واحترام الإخوة. إذا لبست ما كان ياو يلبسه، وقلت ما كان يقوله، وسلكت مثل سلوكه تغدو مثله. وإذا لبست ما كان تشيا
6
يلبسه، وقلت ما كان يقوله، وسلكت مثل سلوكه تغدو مثله.»
قال تساو تشيا: «إذا استقبلني أمير تسو وأعطاني مكانا أقيم فيه فسأغدو تلميذا لك.» فقال له منشيوس: «الطريق عبارة عن صراط عريض وليس من الصعب اتباعه، ولكن الناس لا يبحثون عنه> عد إلى موطنك وفتش عنه، وستجد العديد من المعلمين هناك.»
3
قال قونغ-سن تشو
Gung-sun Ch’ou
لمنشيوس: «قال قاو تسو
7
إن قصيدة شياو بان
Xiao Ban
8
نظمها رجل قليل الذوق.» فقال منشيوس: «ولماذا قال قاو تسو ذلك؟» أجابه قونغ-سن تشو: «لما فيها من حزن وامتعاض.»
فقال منشيوس: «لكم كان العجوز قاو تسو متعسفا في حكمه على قصيدة كهذه. لنفترض أن رجلا من ها هنا أطلق عليه رجل من دولة يوي
Yue
سهما. فإذا أراد هذا الرجل أن يروي الحادثة بعد ذلك رواها بمرح (باعتبارها حادثة طريفة)؛ لأن الأذى جاء من شخص غريب. أما إذا كان الذي أطلق السهم أخوه، فإنه سيروي الحادثة وهو يبكي؛ لأن الأذى جاء من الأهل، ولأنه حريص على أخيه. إن الحزن الذي تعبر عنه قصيدة شياو بان منشؤه محبة الأهل، ومحبة الأهل فضيلة إنسانية. ولكم كان العجوز قاو تسو متعسفا في حكمه على القصيدة.»
فسأله قونغ-سن تشو: «لماذا لا نجد نغمة الحزن هذه في قصيدة كاي فينغ؟»
9
أجابه منشيوس: «لأن خطأ الأم في هذه القصيدة كان صغيرا، أما في قصيدة شياو بان فخطأ الأب كان فادحا. إن عدم الامتعاض من خطأ فادح ارتكبه أحد الأبوين يدل على عدم الحرص عليه، أما الامتعاض من خطأ صغير فيدل على رد فعل عنيف وقلة تسامح. إن قلة الحرص ورد الفعل العنيف هما من شيمة الولد العاق، ولقد قال كونفوشيوس: كان شون مثالا للابن البار؛ فحتى في سن الخمسين كان يحن إلى أبويه.»
4
كان سونغ كينغ
10
في طريقه إلى دولة تشو، فالتقاه منشيوس عند تشيه تشيو
Shi Qiu
وسأله: «إلى أين تتوجه؟» فأجابه: «لقد سمعت أن دولتي تشن وتشو تتحاربان،
11
وأنا في طريقي إلى ملك تشو من أجل إقناعه بإيقاف القتال، فإذا لم يأخذ بمشورتي سأذهب إلى ملك تشن وأفعل الشيء نفسه، وأظن أنني سأفلح في إقناع أحدهما.»
فقال له منشيوس: «لن أسأل عن التفاصيل، ولكني أرغب في معرفة فحوى خطابك وكيف ستعمل على إقناعهما؟» أجابه سونغ كينغ: «سوف أشرح لهما أن لا فائدة ترجى من الحرب.»
فقال منشيوس: «إن مقاصدك سامية يا سيدي، ولكن حججك ضعيفة. إذا اقتنع الملكان بحجتك القائمة على الفائدة لأنهما راغبان فيها، فإن المقاتلين في كلا الجيشين سيرغبون في وقف القتال طمعا في الفائدة. والآن، إذا كان موظفو الأمير يخدمونه طمعا في الفائدة، وكان الأبناء يخدمون آباءهم طمعا في الفائدة، والإخوة الصغار يحترمون الكبار طمعا في الفائدة؛ فمعنى ذلك أن الأمير والتابع، والأب والابن، والأخ الأصغر والأخ الأكبر سوف يتخلون عن الإحسان في علائقهم المتبادلة ويستبدلونه بالفائدة. والنتيجة أن مثل هذه الدولة آيلة إلى الانهيار.
أما إذا طرحت الإحسان بديلا عن الفائدة أمام الملكين، فسحبا جيوشهما من الميدان لأنهما مالا إلى الإحسان، فمعنى ذلك أن المقاتلين من كلا الطرفين سيرغبون في وقف القتال لأنهم مالوا إلى الإحسان. وهكذا إذا خدم التابع أميره رغبة في الإحسان والاستقامة، وبر الابن أبويه، وأطاع الأخ الأصغر أخاه الأكبر، رغبة في الإحسان؛ فمعنى ذلك أن هؤلاء قد تخلوا عن الفائدة ومالوا إلى الإحسان، وأمير هذه الدولة سيغدو ملكا حقا وموحدا لجميع البلاد.»
5
عندما كان منشيوس مقيما في تسو
Tzu ، حاول تشي جن
Chi Jen
وكيل حاكم دولة جن
Jen
كسب صداقته وأرسل إليه هدية ليعبر له عن تقديره، فقبل منشيوس الهدية ولكنه لم يعبر له عن شكره. وعندما مكث في بينغ لو
،
12
أرسل له تشو سو
Ch’u Tzu
الوزير الأول في دولة تشي هدية ليعبر له عن تقديره، فقبلها أيضا ولكن دون أن يعبر له عن شكره.
وبعد ذلك عندما غادر منشيوس من تسو إلى جن
Jen ، قام بزيارة تشي تسو
Chi Tzu ، ولكنه عندما غادر بينغ لو إلى عاصمة دولة تشي لم يقم بزيارة تشو تسو، ففرح لذلك وو لو تسو، وضحك في سره قائلا: لقد أمسكت عليه غلطة. ثم إنه سأل منشيوس قائلا: «لقد قمت بزيارة تشي تسو عندما ذهبت إلى جن، ولكنك لم تقم بزيارة تشو سو عندما ذهبت إلى تشي. هل فعلت ذلك لأن الثاني لم يكن إلا وزيرا؟»
فأجابه منشيوس: «أبدا. لقد ورد في كتاب القصائد: إن المهم في الهدية هو تقديمها بكياسة، وإذا افتقدت للكياسة تغدو كأن لم تقدم.»
لسماعه ذلك سر وو لو تسو، وعندما سئل عما عناه منشيوس بقوله أجاب: «لم يستطع تشي تسو الذهاب إلى تسو، أما تشو تسو فقد ذهب إلى بينغ لو.»
13
6
قال التلميذ تشن-يو كون
Ch’un-yu K’un
لمنشيوس: «أولئك الذين يضعون الشهرة والمكانة العالية والمنجزات في المقام الأول، يهدفون إلى خدمة الناس.
14
أما أولئك الذين يضعونها في المقام الثاني فلا يهدفون إلا إلى خدمة أنفسهم.
15
ولقد كنت يا سيدي واحدا من الوزراء الثلاثة المهمين في الدولة، ولكنك قبل أن تحقق الشهرة والمنجزات في خدمة الحاكم والشعب استقلت من منصبك.
16
فهل يحق لرجل فاضل مثلك أن يفعل ذلك؟»
أجابه منشيوس: «حتى إذا كان المرء يشغل منصبا ثانويا، فإنه لن يرضى بخدمة حاكم سيئ إذا كان رجلا فاضلا. هذا ما فعله بو يي،
17
وكذلك يي ين الذي خدم شانغ تانغ خمس مرات،
18
وشيا تشي خمس مرات. أما ليو شيا هوي فلم يشعر بالخجل من خدمة حاكم أحمق، ولم يرفض منصبا متواضعا. هؤلاء الرجال الثلاثة سلكوا طرقا مختلفة، ولكن هدفهم كان واحدا وهو الإحسان.»
فقال تشن-يو كون: «في أيام ميو
Miu
أمير لو
Lu ، كان قونغ-يي تسو
Gong-yi
Tso
موكلا بشئون إدارة الدولة، يساعده في ذلك كل من وتسو ليو
Tzu Liu
وتسو سو
Tzu Ssu .
19
ومع ذلك فقد تقلصت مساحة دولة لو بشكل متسارع.
20
أفلا يدل ذلك على أن أهل الفضيلة لا دور لهم يلعبونه في حياة الدولة؟»
أجابه منشيوس: «لقد سقطت دولة يو
Yu
لأنها لم توظف لديها بو-لي شي
Bo-li Xi ،
21
ولكن أمير تشن وظفه لديه فدان له بقية أمراء الإقطاعات. إذا فشلت الدولة في استخدام ذوي الكفاءة والفضيلة سوف تلحق بغيرها، لا أن تخسر فقط بعض أراضيها.»
قال تشن-يو كون: «في الماضي، عندما أقام وانغ باو
Wang Bao
عند نهر تشي
Ch’i (النهر الأصفر)، كان سكان الجهة الغربية من النهر يجيدون الغناء. وعندما أقام ميان تشو
Mien Chu
22
في قاو تانغ كان الناس في غربي نهر تشي يجيدون الغناء. عندما مات (الوزيران) هوي جو وتشي ليانغ (في الحرب)، ناحت عليهما زوجتاهما بمرارة شديدة، وبعد ذلك تغيرت عادات البلاد.
23
ما في داخل الإنسان لا بد وأن يظهر للخارج. لم أر شخصا بذل كل جهده لتحقيق أمر ما دون أن يحصل على مردود ذلك الجهد؛ لذلك أقول إنه لا وجود الآن لرجال الفضيلة والحكمة، وإلا لكنت قد عرفتهم.»
قال منشيوس: «عندما كان كونفوشيوس وزيرا لدى حاكم دولة لو لم يعمل الحاكم بمشورته، وعندما شارك في طقوس القربان لم يعط بعد ذلك نصيبا من لحم القربان، عند ذلك غادر لو على عجل، حتى إنه نسي أن يخلع قبعته الطقسية. إن من لم يفهم دوافع كونفوشيوس، ظن أنه فعل ذلك بسبب اللحم، أما من فهم دوافعه فقد عرف أنه فعل ذلك بسبب عدم مراعاة الحاكم للطقوس. لقد فضل كونفوشيوس أن يكون على خطأ طفيف في مغادرته بهذه الطريقة على أن يغادر دونما سبب. إن تصرف الرجل النبيل فوق مستوى فهم العامة.»
7
قال منشيوس: «أمراء الدويلات الخمس كانوا مذنبين بحق الملوك الثلاثة، وأمراء اليوم مذنبون بحق أمراء الدويلات الخمس، ووزراء اليوم مذنبون بحق أمرائهم.
عندما يقوم الملك بزيارة أمير تدعى زيارته هذه جولة تفقدية، وعندما يقوم أمير بزيارة الملك تدعى زيارته هذه رفع تقرير عن الأعمال. في الربيع يذهب الملك إلى الحقول لتفقد أعمال الحراثة وتقديم المساعدة لمن تنقصه البذور، وفي الخريف يذهب لتفقد الحصاد وتقديم المساعدة لمن خفت محاصيله.
إذا دخل الملك إلى مقاطعة ورأى أن العناية بالحقول على أتمها، وأن كبار السن يتلقون الرعاية، وأن الأفاضل يكرمون، وأن الرجال الأكفاء يعينون في المناصب الرفيعة؛ فإنه سيكافئ أمير المقاطعة بإعطائه المزيد من الأراضي. أما إذا دخل إلى مقاطعة ورأى حقولها يبابا، وكبار السن مهملون، والكفء لا يحصل على منصب رفيع بل الجشع، والأفاضل لا يكرمون؛ فإن الملك سوف يوبخ أمير المقاطعة.
إذا لم يحضر أمير المقاطعة إلى البلاط فإن الملك يخفض مرتبته في المرة الأولى، وفي المرة الثانية تقلص مساحة أراضيه، وفي المرة الثالثة تتحرك نحوه القوات الملكية لكي تعزله، وفي هذه الحالة فإن الملك يشن حملة عقابية ولكنه لا يقودها بنفسه، أما الأمير فيشن حملة (نيابة عن الملك) ولكنه لا يعاقب.
ولقد قام أمراء الدويلات الخمس بتحريض أمراء آخرين على المشاركة في أعمالهم العدوانية؛ ولهذا قلت إنهم كانوا آثمين بحق الملوك الثلاثة.
من بين أمراء المقاطعات كان الأمير هوان حاكم تشي هو الأقوى. وفي الاجتماع الذي عقدوه في كووي تشيو
K’uei Ch’iu
جرى تقييد حيوان القربان أمامهم، ووضعوا عليه العهد الذي قطعوه على أنفسهم كتابة، ولكنهم لم يمسحوا شفاههم بدم القربان لتوثيقه.
كان البند الأول من هذا العهد هو إعدام الابن العاق، وعدم تغيير قواعد الميراث، وعدم رفع العشيقة إلى مكانة الزوجة.
البند الثاني تكريم الأكفاء، وتدريب ذوي المواهب، والثناء على الأفاضل.
والبند الثالث إجلال الشيوخ واللطف مع الصغار، وإكرام الضيف والمسافر.
والبند الرابع عدم توريث المناصب، وعدم السماح لموظف واحد أن يشغل منصبين أو أكثر، وأن يوضع المثقفون فقط في وظائف الدولة العليا، والتأني في اتخاذ القرارات الخاصة بإعدام الوزراء (فلا ينفرد به الأمير).
والبند الخامس عدم وضع سد يحجز ماء النهر، وعدم تقييد صادرات القمح إلى الدولة المجاورة، وألا تتم الترفيعات دون إعلام رئيس التحالف.
وبعد ذلك تعاهد المتحالفون على إقامة علاقات ودية دائمة بعضهم مع بعض.
إن أمراء اليوم ينتهكون كل بنود العهد هذه؛ ولذلك أقول إن أمراء اليوم مذنبون بحق أمراء الدويلات الخمسة.
إن عون الحاكم على التمادي في آثامه ذنب صغير، ولكن العمل على إشباع رغباته المكبوتة ذنب عظيم. إن وزراء اليوم يقومون بكل ما من شأنه إرضاء أسيادهم؛ لذلك قلت إن وزراء اليوم مذنبون بحق أمرائهم.»
8
عندما عرف منشيوس أن دولة لو سوف تعين شن تزو
Shen Tzu
قائدا عاما على جيوشها، قال له منشيوس: «إن إرسال الجنود إلى ساح المعركة دون تدريب يعني هلاكهم، وأولئك الذين يرسلون الناس إلى الهلاك لم يكونوا مقبولين في أيام الملك ياو والملك شون. وأقول لك إنك حتى إذا قدرت على هزيمة تشي في معركة واحدة واسترجعت نان يانغ، عليك ألا تفعل ذلك.»
ظهر الامتعاض على شن تزو وقال: «أنا لا أفهم ما تقول.» فقال منشيوس: «سأشرح لك الأمر بكل وضوح. إن مساحة أراضي الملك تصل إلى ألف لي مربع، وبدون هذه المساحة الواسعة لن يقيض للملك أن يبسط سلطته على أمراء المقاطعات. أما مساحة المقاطعة الواحدة فتصل إلى مائة لي مربع، وبدون هذه المساحة الواسعة لن يقيض للأمير الحفاظ على المؤسسات التي صنعها الأسلاف.
إن دولة لو، وهي إقطاعة منحت للأمير جو
Zhou ،
24
لم تكن مساحتها أكثر من مائة لي مربع، ومع ذلك فقد كانت هذه المساحة كافية. كما أن دولة تشي، وهي إقطاعة منحت لتاي قونغ
Tai Gong ،
25
لم تكن مساحتها أكثر من مائة لي مربع، ومع ذلك فقد كانت هذه المساحة كافية أيضا.
اليوم صارت مساحة دولة لو خمسة أضعاف مساحتها الأصلية. فماذا تظن أن حاكما فاضلا سيفعل بها إن وجد؟ هل سينقص من مساحتها أم يزيد؟ إن الرجل النبيل لا يسمح لنفسه بأن يأخذ من شخص ليعطي شخصا آخر، فما بالك بمن يضيف إلى مساحته على حساب الأرواح البشرية؟ في خدمة سيده على الرجل النبيل أن يضعه على الطريق الصحيح، ويوجه فكره نحو الإحسان.»
9
قال منشيوس: «وزراء اليوم يقولون: سوف أعين أميري على ملء خزائن أمواله وزيادة مساحة أراضيه. إن من يدعى اليوم وزيرا جيدا، كان ينظر إليه في الماضي على أنه وباء قاتل. إذا لم يتبع الحاكم طريق الفضيلة ويوجه فكره نحو الإحسان، فإن من يعمل على زيادة ثروته إنما يخدم طاغية مثل شيا (الذي تسبب في انهيار أسرته الحاكمة).
ووزراء اليوم يقولون: سوف أعين أميري على عقد تحالفات تضمن له النصر في حروبه. إن من يدعى اليوم وزيرا جيدا كان ينظر إليه في الماضي على أنه وباء قاتل. إذا لم يتبع الحاكم طريق الفضيلة ويوجه فكره نحو الإحسان، فإن من يعمل على دعمه في حروبه إنما يعين طاغية مثل شيا.
إذا بقي الحكام سائرين في هذا الطريق دونما تغيير، فإن أحدهم لن يقدر على الحفاظ على المملكة حتى ولو منحت له.»
10
قال باي قوي
Bai Gui (الوزير الأول في دولة لو) لمنشيوس: «أنوي أن أجعل الضريبة واحدا من عشرين، فماذا تقول في ذلك؟» أجابه منشيوس: «هذه طريقة دولة مو (الشمالية البربرية). هل تعتقد أن فخاريا واحدا يكفي لدولة ذات عشرة آلاف عائلة؟» رد عليه باي قوي: «لا؛ لأنه لن يكون لديهم ما يكفي من الأوعية الفخارية.»
فتابع منشيوس حديثه: «في دولة مو لا يزرعون من الحبوب الخمسة سوى الدخن، ولا يوجد لديهم مدن محصنة، ولا صروح مشيدة، ولا معابد للأسلاف، ولا طقوس قرابين، ولا يوجد لديهم تبادل هدايا مع الدول الأخرى أو ولائم دبلوماسية، ولا مكاتب وموظفون؛ ولهذا فإن ضريبة نسبتها تبلغ واحدا من عشرين على الإنتاج تكفيهم. أما في الممالك الوسطى
26
فإننا لا نستطيع الاستغناء عن العلاقات الإنسانية ورجال الحكم. إن أمور الدولة لا تنتظم إذا كان هنالك نقص في صانعي الفخار، فما بالك إذا كان النقص في رجال الحكم؟ إن من يرغب في إنقاص الضريبة إلى ما دون الحد الذي أقره ياو وشون إنما يعمل على جعل الدولة، إلى هذه الدرجة أو تلك، أشبه بدولة مو، أما من يرغب بزيادتها فهو، إلى هذه الدرجة أو تلك، أشبه بالملك تشيه.»
11
قال باي قوي
Bai Gui
لمنشيوس: «أنا أفضل من الملك (الحكيم القديم) يو في التحكيم بمياه الطوفان.» فأجابه منشيوس: «أنت مخطئ يا سيدي. لقد وضع يو خطته للسيطرة على الطوفان اعتمادا على طبيعة الماء، فأساله في قنوات وأفرغه في البحر، أما أنت فقد أسلته وأفرغته في أراضي الدول المجاورة (فأغرقها). عندما يجري الماء بعكس طبيعته فإن هذا يدعى إغراقا، وهذا ما يكرهه رجل الإحسان. أنت على خطأ يا سيدي.»
12
قال منشيوس: «إذا لم يكن المرء حافظا لوعوده فعلى أي شيء آخر يحافظ؟»
13
عندما سمع منشيوس أن أمير لو راغب في تسليم يوي-تسينغ تسو المهام الإدارية في الدولة، قال منشيوس: «عندما سمعت ذلك لم أنم من شدة السعادة.» فسأله قونغ-سن تسو
Gong-sun Tzu : «هل هو رجل قوي الشخصية؟» أجابه منشيوس: «لا.» فسأله: «هل هو رجل حكمة وتفكير عميق؟» أجابه منشيوس: «لا.» فسأله: «هل هو واسع المعرفة؟» أجابه منشيوس: «لا.» فسأله : «وما الذي جعلك سعيدا إذن ولم تنم من شدة السعادة؟» أجابه منشيوس: «لأنه رجل يقبل النصيحة.» فسأله: «وهل قبول النصيحة خصيصة كافية؟»
أجابه منشيوس: «إن قبول النصيحة خصيصة تكفي لأن يحكم المرء البلاد بأكملها لا دولة واحدة فقط. إذا أحب الوزير تلقي النصح والمشورة، فإن كل الرجال يأتون إليه ولو قطعوا مسافة ألف لي لكي يسدوا إليه النصح. ولكن إذا لم يكن الوزير محبا لتلقي النصح فسوف يقول (لمن يحاول نصحه): حسنا، حسنا، أنا أعرف كل شيء، وسيقلده الناس في ذلك قائلين: حسنا، حسنا، أنا أعرف كل شيء. مثل هذه العبارات التي تنم عن الغرور سوف تبقي الناس بعيدين عنه مسافة ألف لي، ولا يبقى حوله سوى المتملقين والمفترين والمتزلفين. وعندما يحيط أمثال هؤلاء بالوزير، هل سيفلح في إدارة الدولة حتى ولو كان جادا في ذلك؟»
14
تشن تزو
Ch’en Tzu
سأل منشيوس: «ماذا كانت شروط الرجل النبيل في الماضي لقبول الوظيفة الحكومية؟» أجابه منشيوس: «كان هنالك ثلاث حالات يقبلون فيها الوظيفة، وثلاث حالات يستقيلون فيها من مناصبهم.
الحالة الأولى:
إذا جرى استدعاؤهم باحترام كبير ووفق الأصول المتبعة، وإذا قيل لهم إن مشورتهم سوف تتبع؛ عندها يقبلون بالوظيفة. وفيما بعد إذا وجدوا أن مشورتهم لم تتبع، كانوا يستقيلون حتى وإن بقي الأمير على احترامه وتقديره لهم.
الحالة الثانية:
إذا جرى استدعاؤهم باحترام كبير ووفق الأصول، كانوا يقبلون الوظيفة حتى إذا لم تتبع مشورتهم. فإذا وجدوا أن احترام الأمير لهم بدأ يقل، كانوا يستقيلون.
الحالة الثالثة:
إذا لم يجدوا ما يأكلونه صباح مساء، وضعفت أجسامهم فلم يعودوا قادرين على الخروج. عند ذلك يقول الأمير: إنني أشعر بالخجل لأني لم أستمع إلى مشورتهم أو أعمل بها، وتسببت بجوعهم في دولتي. وبعد ذلك يقدم لهم معونة مالية، عند ذلك يقبلونها، ولكن فقط من أجل الحفاظ على حياتهم.»
15
قال منشيوس: «كان شون فلاحا، وفو يوي
Fu Yue
عبدا وعامل بناء، وتشياو قه
Chiao Ge
بائع ملح وسمك، وقوان يي وو
Yi Wu Guan
سجينا، وصن شو-آو
Sun Shu-ao
من ساحل البحر وبؤس الحياة هناك، وبو -لي شي
Bo-li Xi
من سوق النخاسة.»
27
لهذا؛ فإن السماء عندما تعتزم تكليف رجل بمهمة عظيمة فإنها تصيبه بكرب في الروح، وأتعاب في الجسد، وتجعله يعاني الفاقة والجوع، وتخيب كل مسعى له؛ وذلك لكي تلهب طموحه، وترفع قدرته على التحمل، وتقوي نواحي القصور عنده.
وبشكل عام فإن المرء لا يصلح طرقه إلا بعد ارتكابه الأخطاء، وهو لا يبدع إلا بعد ما يصيبه من إحباط نفسي وفكري، ولا يفهمه الآخرون إلا عندما تظهر مقاصده على وجهه ومن خلال نغمة صوته.
إذا لم يكن لدى الدولة وزراء ملتزمون بالقانون ومستشارون حكماء، فسوف يحم عليها القضاء حتى وإن لم يكن هنالك أخطار خارجية تتهددها.»
16
قال منشيوس: «هنالك طرق متعددة في التعليم، وعزوفي عن تعليم شخص لا يستحق تعاليمي هي واحدة منها.»
الباب الثالث عشر: تشن شن «1»
1
قال منشيوس: «من ينمي فضيلة القلب يفهم الطبيعة الإنسانية، ومن يفهم الطبيعة الإنسانية يفهم طريق السماء.
1
على المرء أن يحافظ على طيبة القلب وينمي طبيعته لكي يتوافق مع طريق السماء. عليه ألا يقلب في ذهنه ما إذا كان سيموت شابا أم سيطول به العمر، بل أن يستمر في تحسين نفسه في انتظار ما سيأتي به القدر، وبهذه الطريقة يكون صانعا لقدره.»
2
2
قال منشيوس: «كل شيء رهن بالقدر، والمرء لا يختار في سلوكه إلا ما هو مقدر له؛ ولهذا فإن من يفهم حقيقة القدر لا يقف تحت جدار آيل للسقوط. ومن يأته الموت بعد بذله كل الجهد في اتباع الطريق، فهو من تعامل مع القدر بطريقة إيجابية، أما من يموت في الأغلال، فهو من تعامل مع القدر بطريقة سلبية.»
3
3
قال منشيوس: «هنالك شيء إذا بحثت عنه وجدته، وإذا غفلت عنه أضعته؛ أي إن البحث هنا ضروري لتحقق النتيجة؛ لأن ما نبحث عنه موجود في داخلنا.
4
وهنالك شيء يمكن البحث عنه بوسائل معينة، ولكن تحقيق النتيجة متوقف على القدر؛
5
أي إن البحث هنا قد لا يؤدي إلى نتيجة؛ لأن ما نبحث عنه موجود خارجنا.»
4
قال منشيوس: «كل ما في العالم موجود في داخلي، وإنها لغبطة كبرى أن أتأمل في داخلي وأجد أنني صادق مع نفسي.
6
افعل ما بوسعك لكي تعامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك.
7
هذا هو الطريق الأقصر لتحقيق الإحسان.»
5
قال منشيوس: «هنالك أناس يعملون دون أن يعرفوا لماذا، ولا يعون ما تعودوا القيام به، أو الطريق الذي يسيرون عليه طيلة حياتهم. وهذا ديدن العامة.»
8
6
قال منشيوس: «لا ينبغي على المرء أن يكون مجردا من الإحساس بالخجل. إذا خجلت من عدم الخجل تكتسب الخجل.»
7
قال منشيوس: «الإحساس بالخجل ضرورة للإنسان، ولكن أهل المكر والخداع لا يشعرون بالخجل. كيف يمكن للمرء أن يرتقي إلى مستوى الآخرين إذا لم يخجل من كونه أدنى منهم؟»
8
قال منشيوس: «الملوك الحكماء في الماضي كرسوا أنفسهم للفضيلة وتناسوا مركزهم السامي وسلطانهم، فكيف يمكن ألا يجاريهم في ذلك المثقفون القدماء؟ لقد التزم هؤلاء المثقفون بالطريق غير آبهين لسلطة الآخرين؛ ولهذا لم يكن الملوك والأمراء يرونهم متى شاءوا إلا إذا أظهروا لهم الاحترام والأدب، فإذا كانت رؤية الملوك والأمراء لهم صعبة هكذا، فما بالك بإقناعهم بالوظيفة أو بقائهم فيها؟»
9
قال منشيوس لسونغ كو-تشين
Song Kou-chien : «أنت تحب الذهاب من بلاط إلى بلاط من أجل تقديم المشورة؛ لذلك دعني أشرح لك كيفية القيام بذلك. عليك أن تكون راضيا سواء قدر الأمير ما تقدمه أم لم يقدر.» فسأله سونغ-كو تشين: «وكيف يحصل المرء على الرضا؟»
أجابه منشيوس: «إذا التزم بالفضيلة وحافظ على الاستقامة. المثقف لا يتخلى عن الاستقامة في أوقات الشدة ولا يحيد عن الطريق في أوقات الرخاء، وهو عندما لا يتخلى عن الاستقامة في أوقات الشدة يحصل على الرضا، وعندما لا يحيد عن الطريق في أوقات الرخاء يغدو مثالا يحتذي الناس به. رجال الزمن القديم كانوا إذا حققوا طموحاتهم جعلوا الناس يشعرون بفوائد ذلك عليهم، وإذا ما أحبط مسعاهم كرسوا أنفسهم لتهذيب الذات لكي يظهروا للجميع ذواتهم الحقيقية. في أوقات الشدة كانوا يحسنون أنفسهم، وفي أوقات الرخاء كانوا يعملون على تحسين أهل البلاد.»
10
قال منشيوس: «الذين ينتظرون ظهور ملك مثل ون لكي ينهضوا هم عامة الناس، أما الخاصة فينهضون من دون ون.»
11
قال منشيوس: «إذا أعطي امرؤ ثروات أسرتي هان ووي ولم تك في عينيه شيئا، فإنه يمتلك شيئا بعيدا عن متناول الآخرين.»
12
قال منشيوس: «إذا كان العمل المفروض على الرعية هو من أجل رخائهم، عملوا دونما تذمر. وإذا جرى تعريض الرعية للقتل لخدمة سياسة تحفظ حياتهم، فسوف يقبلون دون أن يحملوا في أنفسهم ضغينة تجاه من تسبب في موتهم.»
13
قال منشيوس: «الناس الخاضعون لسلطة حاكم عدة مقاطعات يكونون سعداء، أما الناس الخاضعون لسلطة موحد البلاد وفق مبادئ الإحسان فيكونون راضين، وقد يرسلوا للموت دون ضغينة، وإذا نعموا لا يشعرون بالامتنان إلى أحد، يميلون إلى الفضيلة دون معرفة من دفعهم إليها. عندما يمر الحكيم من مكان يترك أثرا وراءه، وعندما يقيم في مكان يحدث فيه تغييرات عميقة. عمله يأتي في انسجام مع طريق السماء والأرض.
9
فهل هذا كله بقليل؟»
14
قال منشيوس: «الكلام الطيب لن يكون له أثر عميق على الآخرين إذا لم يقل بنغمة طيبة، والحكومة الجيدة لن تستميل الناس مثل ما يستميلهم التعليم الأخلاقي الجيد. أمام الحكومة الجيدة يقف الناس في رهبة، ولكنهم يكنون المحبة لمن يقدم لهم التعليم الأخلاقي. الحكومة الجيدة تكسب نقود الرعية، أما التعليم الأخلاقي فيكسب قلوبهم.»
15
قال منشيوس: «القدرات التي يمتلكها الإنسان دون تعلم هي قدرات فطرية، والمعرفة التي يمتلكها الإنسان دون تعلم هي معرفة فطرية. ما من طفل محمول على اليدين لا يحب أبويه، وعندما يكبر يتعلم كيف يحترم أخاه الأكبر. محبة الأبوين تعبير عن الإحسان، واحترام الإخوة الكبار تعبير عن الاستقامة، وما يبقى بعد ذلك هو توسيع هاتين الفضيلتين لتشملان العالم.»
16
قال منشيوس: «عندما كان شون يعيش في حضن الجبال، كانت الأشجار والصخور جيرانه، والغزلان والخنازير البرية أصدقاءه. لم يكن بينه وبين سكان الجبال البرابرة فرق يذكر، ولكنه كان ما إن يسمع كلمة طيبة أو يرى عملا حسنا، حتى يميل إليه دون أن يصده عنه شيء، وذلك مثل تيار دافق يخرج من سد متصدع على نهر اليانغتزي أو النهر الأصفر.»
17
قال منشيوس: «لا تفعل ما لا تريد أن تفعله، ولا تسع في سبيل ما لا ترغب فيه. هذا كل شيء.»
18
قال منشيوس: «أولئك الذين حازوا على الفضيلة والحكمة والكفاءة والبصيرة، أناس عاشوا في الضراء. الموظفون المبعدون عن البلاط وأبناء العشيقات، يبقون دائما متنبهين للمخاطر ومحتاطين للمصائب؛ ولذلك يفلحون حين يفشل الآخرون.»
19
قال منشيوس: «هنالك موظفون لدى الحاكم يجدون سعادتهم في إرضائه، وهنالك موظفون يجدون سعادتهم في تحقيق الطمأنينة والاستقرار في الدولة. هنالك عاقلون يطبقون من المبادئ ما يمكن نشره في البلاد، وهنالك رجال عظماء يعملون من خلال إصلاح أنفسهم على إصلاح كل شيء.»
20
قال منشيوس: «هنالك ثلاثة أمور تجعل الرجل النبيل سعيدا، وحكم المملكة ليس واحدا منها؛ الأول: أن يكون والداه على قيد الحياة، وإخوته في صحة وأمان. والثاني: ألا يكون لديه ما يخجل منه إذا واجه السماء أو واجه الناس. والثالث: أن يكون لديه تلاميذ نجباء تقاطروا من كل مكان للاستماع إليه. هنالك ثلاثة أمور تجعل الرجل النبيل سعيدا، وحكم المملكة ليس واحدا منها.»
21
قال منشيوس: «ما يتمناه الرجل النبيل هو مساحة واسعة من الأرض مكتظة بالسكان. ولكن سعادته لا تتوقف فقط على ذلك؛ لأن ما يصبو إليه ويسعده هو أن يقف في مركز المناطق الوسطى (المتحضرة)، ويحل السلام والاستقرار للجميع. غير أن ذلك لا يعكس طبيعته؛ ذلك أن المنجزات العظيمة لا تضيف شيئا إلى طبيعته، والمحن لا تنقص منها شيئا؛ لأن هذه الأمور متوقفة على القدر. إن الإحسان والاستقامة وآداب السلوك متجذرة في قلبه، وهي التي تتجلى في محياه وتشع، وفي ظهره إذا استدار وبقية أعضائه، وتعلن عن نفسها دون كلمات.»
22
قال منشيوس: «بو يي فر من وجه الملك جو وأقام عند ساحل البحر الشمالي، وعندما سمع أن الملك ون حل محله قال في نفسه: لماذا لا أذهب إليه وأغدو من أتباعه؛ فقد سمعت أنه يعرف كيف يرعى المسنين؟ وتاي قونغ هرب من وجه الملك جو وأقام عند ساحل البحر الشرقي، وعندما سمع أن الملك ون حل محله قال في نفسه: لماذا لا أذهب إليه وأغدو من أتباعه؛ فقد سمعت أنه يعرف كيف يرعى المسنين؟
إذا كان المرء يعرف كيف يرعى المسنين، فإن كل رجال الفضيلة سوف يتقاطرون إليه من كل مكان ويحيطون به.
دع أشجار التوت تزرع في أرض مساحتها واحد مو ضمن سياج العائلة، ودع ربات البيوت يربين دودة القز، وسوف يكون لدى المسنين ملابس حريرية يرتدونها. دع خمس دجاجات وخنزيرين تربى بعناية في موسم تكاثرها، وسيكون لدى المسنين لحم يأكلونه. دع كل رب أسرة يزرع مائة مو من الأرض، وسيكون لدى كل أسرة مؤلفة من ثمانية أشخاص ما يكفي لمعيشتهم.
عندما نقول إن الملك ون يعرف كيف يرعى المسنين؛ فهذا يعني أنه خصص أرضا لكل رب أسرة، وعلمهم زراعة شجر التوت وتربية دودة القز، وبين لهم كيفية رعاية المسنين. إن المرء في سن الخمسين لا يدفأ بدون ملابس حريرية، والمرء في سن السبعين لا يشبع بدون لحم. إذا لم يجد المرء ملابس لدفئه، ولم يجد ما يأكله؛ يعني أنه سيعاني من البرد والجوع؛ ولهذا نقول إنه في زمن الملك ون لم يكن ثمة مسنون يعانون من البرد والجوع.»
23
قال منشيوس: «إذا نظمت شئون الزراعة وخففت من الضرائب؛ فإن الرعية تعيش في بحبوحة. إذا تم تخزين المؤن في وقتها وجرى استهلاكها وفق الأصول؛ فسيكون لدى الرعية أكثر من حاجتها. الناس لا يمكنهم العيش بدون ماء أو بدون نار، فإذا طرق أحدهم باب جاره ليلا ليطلب منه بعض الماء أو شعلة نار فسوف يعطى؛ وذلك لوفرة الماء والنار.
إذا ارتقى الحكيم سدة السلطان، فإنه يسعى لجعل محاصيل الحبوب وافرة مثل الماء والنار؛ وعندها ألن تعم الفضيلة بين الناس دون استثناء؟»
24
قال منشيوس: «عندما ارتقى كونفوشيوس قمة التل الشرقي رأى أن أراضي مملكة لو ضئيلة. وعندما ارتقى قمة جبل تاي رأى كل ما تحت السماء من الأراضي ضئيلا. ومن رأى البحر لن تبهره بعد ذلك رؤية أي ماء آخر، ومن تلقى العلم على يد حكيم لن يرضيه الاستماع إلى معلم آخر. هنالك طريقة في الحكم على المياه هي أن تراقب أمواجها. الشمس والقمر يشعان نورهما فيصل إلى أصغر شق في الأرض، والماء الجاري لا يتابع جريانه قبل أن يملأ كل الحفر في الأرض، والرجل النبيل الساعي في طريق الفضيلة لا يفلح إلا بارتقائه القمة.»
25
قال منشيوس: «أولئك الذين يصحون من نومهم مع صياح الديك ولا يتعبون من أداء الأعمال المفيدة، هم أناس من طينة شون الحكيم. أما أولئك الذين يصحون مع صياح الديك ولا يتعبون من تحصيل المكاسب لأنفسهم، هم أناس من طينة اللص جيه
Zhi . إذا أردت أن تعرف الفرق بين شون وجيه، ما عليك سوى النظر إلى الفجوة الواسعة التي تفصل بين المربح والمفيد.»
26
قال منشيوس: «لقد اختار يانغ تسو عقيدة الأنانية،
10
بحيث لم يكن مستعدا لبذل شعرة من رأسه لإنقاذ البلاد. أما مو تزو
11
فاختار عقيدة الحب الشمولي الذي لا تمييز فيه، بحيث كان مستعدا لأن يبلي جسده من إصبعه إلى كاحله لأجل مصلحة البلاد. أما تزو-مو
Tzu-mo
12
فقد اختار الطريق الوسط واختيار الوسط يجعلك أقرب إلى الصواب، ولكن الوسطية التي تفتقر إلى المرونة هو وقوف إلى جانب أحد النقيضين. أما لماذا لا نحب الذين يقفون إلى جانب أحد النقيضين؛ فلأنهم يعطلون طريق الحق. إنهم يركزون على أمر ويتجاهلون مائة أمر آخر.»
27
قال منشيوس: «الجائع يجد أي طعام لذيذا، والعطشان يجد أي شراب سائغا، وكلاهما يفتقر إلى الذائقة السليمة؛ لأن الجوع والعطش يعطلان الحكم على الأمور. ولكن كما أن الجوع والعطش يعطلان حكم الفم والمعدة على الطعام، فإن العقل قد يتشوش أحيانا بنفس الطريقة؛ لذلك إذا استطاع المرء أن يحول دون تشويش حكم عقله،
13
مثلما يستطيع أن يحول دون تعطيل حكم الفم والمعدة؛ فلن ينتابه القلق من أن يكون أقل شأنا من الآخرين.»
28
قال منشيوس: «لم يكن ليو شيا خوي
Liu Xia Hui
14
يساوم على تكامله الخلقي، حتى وإن أغري بأن يكون واحدا من الوزراء الثلاثة الكبار في الدولة.»
29
قال منشيوس : «إن سعي المرء في سبيل إنجاز أمر ما يشبه حفر بئر. إذا حفرت بعمق تسع قامات ولم تصل إلى الماء، فإن ما أنجزته هو بئر جافة.»
30
قال منشيوس: «كانت فضيلة الإحسان وفضيلة الاستقامة فطريتين لدى كل من شون وياو، أما شانغ تانغ ووو فقد تعلماهما وطبقاهما، والأمراء الخمسة بعد ذلك استعاروهما وعملوا بذريعتهما دون تراجع مدة طويلة. فهل كانت هاتان الفضيلتان لديهم أصلا؟»
15
31
قال قونغ-صن تشو
Gung-sun Ch’ou : «قام الوزير ين ين
Yin Yin
بنفي الملك الجديد تاي تشيا
Tai Chia
إلى تونغ
Tung
لافتقاده إلى الإحسان والاستقامة، فسرت الرعية بذلك. وعندما استرد الملك طيبته أعاده إلى العرش، فسرت الرعية أيضا. فهل يحق لوزير مهما كان فاضلا أن ينفي سيده بحجة افتقاده للفضيلة؟» أجابه منشيوس: «نعم، إذا كان دافعه إلى ذلك مثل دافع ين ين، وإلا عد مغتصبا.»
16
عندما خلف تاي تشيا أباه شانغ تانغ على العرش، لم يسر على طريق أبيه حتى بدا أن كل ما فعله شانغ تانغ مهدد بالزوال؛ ولذلك فقد أبعده ين ين إلى مدينة تونغ مدة ثلاث سنوات لكي يصلح نفسه. وعندما ندم وأصلح نفسه أعاده إلى عرشه. ولم يكن في نية ين ين أبدا أن يكون مغتصبا للعرش.
32
قال قونغ-صن تشو: «ورد في كتاب القصائد: لا قوت بلا عمل. فكيف إذن يحصل الرجل النبيل على قوته دون المشاركة في أعمال الحقل؟»
أجابه منشيوس: «إذا أقام الرجل النبيل في دولة ما واستخدمه حاكمها، فإنه سيجلب الطمأنينة والثروة للحاكم، وإذا قصده الصغار فإنه سيعلمهم بر الوالدين وطاعة الكبار والإخلاص في العمل والوفاء بالوعد والعهد. أليس هذا مثالا عن: لا قوت بلا عمل؟»
33
سأل ديان
Dian
ابن ملك تشي منشيوس: «ما هو عمل الرجل المثقف؟» أجابه منشيوس: «أن يركز قلبه على المبادئ السامية.» فسأله ثانية: «وما معنى ذلك؟»
أجابه منشيوس: «أن يكون أخلاقيا. هذا كل شيء. إن قتل إنسان بريء فيه مخالفة لمبدأ الإحسان، وأخذ المرء لما ليس له فيه مخالفة لمبدأ الاستقامة. المثقف يجعل قدمه راسخة في الإحسان ويسير في طريق الاستقامة ؛ وبذلك يغدو قادرا على تحقيق أعظم الإنجازات.»
34
قال منشيوس: «يقول البعض: لو أن مملكة تشي عرضت على تشن تشونغ
Ch’en Chung
لرفضها، إذا كان العرض يخالف مبدأ الشرعية، والكل يصدق ذلك. ولكن ما يدعوه تشن تشونغ بمبدأ الشرعية هو شرعية رفض قصعة من الأرز وزبدية من الحساء. إذا أهمل الفرد في علاقته مع الأهل، وفي علاقة الرئيس بالمرءوس، والأدنى بالأعلى، فكيف نثق أن سلوكه في المسائل الكبرى سيأتي متطابقا مع سلوكه في المسائل الصغرى؟»
35
سأل التلميذ ياو ينغ
Yao Ying
منشيوس: «في زمن الملك شون كان قاو ياو
Gao Yao
قاضيا. لو أن أبا شون الأعمى ارتكب جريمة قتل، كيف كان قاو ياو يتعامل مع المسألة؟» أجابه منشيوس: «كان سيلقي القبض عليه.» فسأله ثانية: «في هذه الحالة، ألم يكن شون يتدخل لمنع ذلك؟» أجابه منشيوس: «كيف يتدخل شون وقاو ياو يعمل ضمن صلاحياته؟» فسأله: «وماذا كان سيفعل إذن؟» أجابه منشيوس: «كان التخلي عن الملك بالنسبة لشون مثل رمي حذاء عتيق. كان سيحمل أباه على كتفه ويختفي عند ساحل البحر فيعيش معه هناك بقية حياته في سعادة وهناء، وينسى كل ما له علاقة بالمملكة.»
17
36
في أحد الأيام جاء منشيوس من بلدة فان إلى مملكة تشي، فرأى ابن الملك عن بعد فتنهد وقال: «إن محيط المرء يغير من هيئته مثلما يغير الطعام من جسمه. كم للمحيط من أثر علينا على الرغم من أننا جميعا أبناء البشر! إن بيت ابن الملك وعربته وجياده وملابسه لا تختلف كثيرا عن بقية الناس، ومع ذلك يبدو مختلفا، وما ذلك إلا لأن المحيط الذي تربى فيه مختلف، فما بالك إذن بالتغيير الذي تحدثه فيك الإقامة بأسمى مكان في البلاد وهو الإحسان؟
عندما جاء أمير لو إلى دولة سونغ ووقف عند البوابة الجنوبية للمدينة الشرقية، نادى حارس البوابة لكي يفتح له، فقال حارس البوابة: هذا ليس صوت أميرنا، ومع ذلك فإن صوته يشبه صوت أميرنا.
والسبب في ذلك أن الاثنين عاشا في محيط واحد.»
37
قال منشيوس: «إطعام المثقف دون إظهار المحبة له مثل إطعام خنزير، وإظهار المحبة له دون احترام، مثل العناية بحيوان منزلي أليف. إن الاحترام والتقدير ينبغي أن يسبقا تقديم الهدية، والاحترام والتقدير إذا لم يقدما بإحساس صادق، عبارة عن سلوك زائف؛ ولذلك فإن المثقف لن ينخدع، ويرى فيهما تظاهرا فارغا.»
38
قال منشيوس: «أجسامنا وملامحنا من عند السماء (= وهبتنا إياها الطبيعة). الحكيم هو الذي يرتقي بجسده نحو كمال غاياته.»
39
أراد شوان
Xuan
ملك تشي أن يقصر مدة الحداد، فسأل التلميذ قونغ-صن تشو منشيوس: «هل يعني ذلك أن الحداد لمدة سنة أفضل من عدم الحداد؟» فأجابه منشيوس: «هذا يشبه قولك لمن يلوي ذراع أخيه أن يفعل ذلك برقة، في الوقت الذي يتوجب عليك فيه تعليمه احترام الوالدين ومحبة الإخوة.» فسأله قونغ-صن تشو: «كان هنالك ابن ملك توفيت أمه، فالتمس له مربيه من الملك أن يسمح له بالحداد عدة أشهر،
18
فماذا تقول في ذلك؟»
فأجابه منشيوس: «هذا لأنه لم يسمح له بالتزام مدة الحداد كاملة (= ثلاث سنوات)، وفي هذه الحالة فإن إطالة مدة الحداد ليوم واحد أفضل من ألا تطيلها أبدا، وهذا ينطبق أيضا على من لا يحال بينهم وبين إقامة الحداد، ومع ذلك لا يقيمونه.»
40
قال منشيوس: «الرجل النبيل يعلم تلاميذه بخمس طرق: في الأول تأتي إرشاداته مثل المطر يهطل في أوانه، في الثانية يساعد التلميذ على تحقيق فضيلته، في الثالثة يساعده على تنمية مواهبه وقدراته، في الرابعة يجيب عن أسئلته ويبدد شكوكه، في الخامسة يجعل من نفسه نموذجا يحتذيه التلميذ؛ بهذه الطرق الخمسة يعلم الرجل النبيل تلاميذه.»
41
قال قونغ-صن تشو: «الطريق سام ورائع، ولكن الوصول إليه صعب مثل الارتقاء إلى السماء الذي يبدو مستحيلا. لماذا لا تجعلونه سهلا بحيث يأمل الناس في الوصول إليه، ويبذلون الجهد في سبيل ذلك؟»
أجابه منشيوس: «معلم النجارة لا يضع جانبا قواعد حرفته لكي تتلاءم مع متدرب غبي، والنبال لي
Li (المشهور في الرماية) لا يغير قواعد الرماية لكي تتلاءم مع متدرب أخرق. الرجل النبيل مثل معلم الرماية الذي يوتر قوسه، ولكنه لا يطلق سهمه لكي يجعل المتدرب يتلهف لفعل ذلك. إنه يستخدم القواعد المتبعة لكي يتعلمها المتدرب الكفء.»
42
قال منشيوس: «عندما يسود الحكم الصالح، طبق بنفسك المبادئ الصحيحة. وعندما يسود الحكم الطالح ضح بحياتك من أجل المبادئ الصحيحة. أنا لم أسمع بأن على المرء التضحية بمبادئه من أجل إرضاء رؤسائه.»
43
سأل قونغ-تو تسو
Gong-tu Tsu : «عندما كان تينغ قينغ
Teng Geng
يتعلم منك، كان يستحق منك الكياسة والمجاملة، ولكنك لم تكن تجيبه على أسئلته. لماذا؟»
أجابه منشيوس: «أنا لا أجيب سائلا يستغل في سؤاله ما يتمتع به من: (1) منصب ومكانة. (2) مواهب ومهارات. (3) السن. (4) الصداقة القديمة معي، وقد كان تينغ قينغ ملوما على اثنتين مما ذكرت.»
44
قال منشيوس: «إذا تخلى المرء عما لا يجب التخلي عنه، فلن يكون لديه شيء لا يمكن التخلي عنه.»
إذا عامل المرء بخفة شخصا يستحق المعاملة بكياسة، فسوف يعامل الآخرين بخفة أيضا كائنا من كانوا.
التحرك بعجلة يؤدي إلى الوقوف بسرعة.
من يتحرك بسرعة سوف يتقهقر بسرعة.»
45
قال منشيوس: «الرجل النبيل يعامل الكائنات الحية بعطف لا بحب، ويعامل الناس بحب ولكن دون تعلق. يعامل والديه بتعلق ثم يحول هذه العاطفة إلى حب للناس، وحب الناس يحوله إلى عطف على الكائنات الحية.»
46
قال منشيوس: «الرجل النبيل يعرف الكثير، ولكنه يركز على المسائل الملحة التي تستدعي الاهتمام. الرجل المحسن يحب الجميع، ولكنه يركز على الأقارب وعلى الأفاضل.
ياو وشون كانا حكيمين، ولكنهما لم يستخدما حكمتهما في التعامل مع كل الأمور؛ لأنهما ركزا على الأهم فالأهم. ياو وشون كانا محسنين، ولكنهما لم يشملا بإحسانهما الكل؛ لأنهما ركزا أولا على الأقارب والأفاضل.
إذا لم يقم المرء الحداد (على والديه) مدة ثلاث سنوات، ولكنه بالمقابل أظهر اهتماما بالتفاصيل الثانوية لإقامة الحداد ثلاثة أشهر أو خمسة
19
على الأقارب، أو إذا تساءل إن كان المسموح به أن يقضم بأسنانه اللحم المقدد، بينما هو يلتهم طعامه ويزدرد شرابه، فإنه امرؤ جاهل بمبدأ الأولويات.»
الباب الرابع عشر: تشن شن «2»
1
قال منشيوس: «كم كان هوي ملك ليانغ عديم الشفقة. إن الرجل المحسن يوسع دائرة محبته لتتجاوز من يحبهم إلى من لا يحبهم. وعديم الشفقة يوسع دائرة قسوته لتتجاوز من لا يحبهم إلى من يحبهم.» فسأله قونغ-صن تشو: «ماذا تعني بذلك؟» أجابه منشيوس: «لكي يكتسب مزيدا من الأرض شن حربا قتل فيها الكثيرون من شعبه. وعندما لقي هزيمة شنيعة ورغب فيما بعد بالحرب مرة أخرى خشي من الفشل، فجند لها أبناءه وإخوته وتسبب في مقتلهم؛ ولهذا قلت إنه وسع دائرة قسوته لتتجاوز من لا يحبهم إلى من يحبهم.»
1
2
قال منشيوس: «فترة الربيع والخريف لم تشهد حربا عادلة، ولكن بعضها أحيانا أفضل من البعض الآخر. الحملة التأديبية هي حملة يقوم بها الملك
2
ضد واحد من أمراء المقاطعات التابعين له، ولكنه لا يحق للأمراء الأنداد أن يشنوا حملات تأديبية على بعضهم.»
3
قال منشيوس: «إن تصديقنا لكل ما ورد في كتاب التاريخ أمر سيئ كسوء عدم وجوده أصلا؛ فمن فصل وو تشينغ
Wu Ch’eng
قبلت ثلاثة مقاطع فقط.
الحاكم الرشيد لا ند له في طول البلاد وعرضها. وعندما تشن القوة الأكثر رحمة الحرب على القوة الأكثر قسوة، فكيف تجري الدماء بغزارة، حتى إنها تجعل الهراوة تطفو؟ (على ما ورد في الكتاب).»
3
4
قال منشيوس: «يقول البعض (= الحكام) أنا خبير في الإعدادات العسكرية، وأنا مجل في المعارك، وفي هذه الأقوال إثم. إذا تبنى العاهل الحكم الرشيد فلن يكون له منازع في طول البلاد وعرضها.
عندما شرع شانغ تانغ بحملاته (التحريرية) في الجنوب، راح أهل القبائل الشمالية يحتجون. وعندما شرع بحملاته في الشرق، راح أهل القبائل الغربية يحتجون، والكل يقول: لماذا لم يأت إلينا أولا؟
وعندما شرع الملك وو بحملاته ضد حكم سلالة ين، قاد ثلاثة آلاف من محاربيه في ثلاثمئة عربة قتالية، وأرسل إلى رعية ين قائلا: لا تخافوا، ما جئت لقتالكم وإنما لإحلال السلام عليكم. عند ذلك سجد الجميع أمامه حتى سمع صوت ارتطام جبهاتهم بالأرض وكأنه زلزال.
إن شن حملة تأديبية يعني تصحيح الأمور،
4
وإذا كان الشعب ينتظر من أحدهم تصحيح الأمور في البلاد، فما الحاجة إلى الحرب وسفك الدماء؟»
5
قال منشيوس: «يستطيع النجار وصانع العربات ومصلح العجلات تعليم الآخرين استخدام الفرجار والإطار المربع، ولكن اكتسابهم للمهارة ليس بيده.»
5
6
قال منشيوس: «عندما كان شون يقتات الأرز المجفف والنباتات البرية، كان قابلا بذلك على أنه نمط دائم في الحياة. وفيما بعد عندما صار ملكا يلبس الحلل الفاخرة ويعزف على قيثارته، وزوجتاه بنتا ياو تخدمانه، كان ذلك أيضا نمطا في الحياة طالما عاشه.»
6
7
قال منشيوس: «الآن صرت أعرف النتائج الكارثية لقيام امرئ بقتل أحد أفراد أسرة أخرى؛ لأنه إذا قتل المرء أب رجل آخر فسوف يقتلون أباه، وإذا قتل أخاه الأكبر فإنهم سوف يقتلون أخاه؛ وبالنتيجة فإنه سيغدو مسئولا عن موت أبيه وأخيه على الرغم من أنه لم يفعل ذلك بنفسه.»
8
قال منشيوس: «في الماضي كانت الممرات الحدودية تبنى من أجل الحماية من الاعتداء الخارجي، أما اليوم فإنها تستخدم من أجل تحصيل المكوس الثقيلة.»
9
قال منشيوس: «الذي لا يلتزم بالطريق لا يستطيع حتى إدارة شئون زوجته وأولاده، والذي لا يفرض العمل على الآخرين وفق الطريق لا يستطيع فرض العمل على زوجته وأولاده.»
7
10
قال منشيوس: «من يحتفظ بمخزون وافر لا يعاني الشدة في سنوات المجاعة، والذي يتزود بالفضائل لن يضل في أوقات الفوضى والاضطرابات.»
11
قال منشيوس: «الرجل الحريص على سمعته ربما تخلى عن مملكة ذات ألف عربة حربية، ولكنه يعبس إذا طلب منه تقديم قصعة من الأرز وزبدية حساء للشخص الخطأ.»
8
12
قال منشيوس: «إذا لم نقدر الفاضل والكفء فسوف تغدو الدولة قشرة فارغة. وبدون قواعد الأدب والمعاملات فإن الهرم المراتبي سوف يضطرب. وإذا لم تدر شئون الدولة على الوجه الصحيح فلن يكون لديها من الإيرادات ما يسد النفقات.»
13
قال منشيوس: «ربما استطاع رجل عديم الفضيلة حكم مملكة، ولكن مثل هذا الرجل لن يكون موحدا للبلاد.»
14
قال منشيوس: «الرعية هي الأولى في الأهمية والتقدير، يليها مذابح آلهة الأرض والحبوب، وأخيرا الحاكم؛ لهذا فإن من يكسب قلوب الرعية يغدو ملكا، ومن يكسب قلب الملك يغدو أمير مقاطعة، ومن يكسب قلب أمير المقاطعة يغدو موظفا عالي المرتبة.
إذا قام أمير المقاطعة بتعريض سيادة الدولة للخطر يتم استبداله. إذا كانت حيوانات القربان في صحة جيدة، وحبوب القربان نقية، وجرى تقديم القرابين في وقتها لآلهة الأرض والحبوب، ومع ذلك فشلت في منع الجفاف والفيضانات؛ فإنها تستبدل أيضا.»
15
قال منشيوس: «الحكيم نموذج يحتذيه ألف جيل. هكذا كان بو يي وليو شيا خوي. بعد سماع ما كان عليه بو يي، فإن الجشع يغدو عفيفا، وواهن العزيمة يغدو طموحا. وبعد سماع ما كان عليه ليو شيا خوي، فإن ضيق الأفق المتشدد يغدو متسامحا، والدنيء يغدو كريم الخلق.
لقد قدما إنجازاتهما قبل مائة جيل، وبعد مائة جيل ما زالت مسيرتهما تلهم من سمع بها، فما بالك بأولئك المحظوظين الذين رأوهما عن قرب واستمعوا إليما. لقد بلغا حقا ذروة الحكمة.»
16
قال منشيوس: «الإحسان هو العلاقة بين إنسان وآخر. الطريق هو الإحسان والإنسان مجتمعين.»
9
17
قال منشيوس: «عندما كان كونفوشيوس يستعد لمغادرة موطنه في لو قال: سوف أتمهل قدر استطاعتي؛ لأنه هكذا يغادر الإنسان موطنه ومسكن أمه وأبيه. وعندما كان يستعد لمغادرة دولة تشي، شرع بالتحرك وهو يحمل وجبة الأرز التي لم تنضج بعد، وقال: هكذا يغادر المرء دولة غريبة.»
18
قال منشيوس: «السبب الذي جعل الرجل النبيل (= كونفوشيوس) يقع في محنة كبيرة بين دولتي تشن وتساي
Ts’ai ، هي أنه لم يكن له علاقات طيبة مع أميري الدولتين أو وزرائهما.»
10
19
قال الموظف مو تشي
Mo Qi : «أنا عرضة لكلام السوء.» فقال له منشيوس: «لا عليك. كثيرا ما يتعرض المثقفون لملاحظات مزعجة. وقد ورد في كتاب القصائد: قلبي مثقل بالأسى لأنني مكروه من التافهين. هذه كانت حال كونفوشيوس. وقد ورد أيضا في الكتاب: لم أستطع تبديد كراهية الآخرين، ولم أفقد سمعتي الطيبة. هذه كانت حال الملك ون.»
20
قال منشيوس: «الحكماء القدماء كانوا ينورون أنفسهم قبل أن يعملوا على تنوير الآخرين، أما اليوم فنرى من يحاول تنوير الآخرين وهو في الظلام.»
21
قال منشيوس للتلميذ قاو تسو: «الدرب الجبلي الذي يسلكه كثيرون قد يتحول إلى طريق، فإذا لم يطرقه أحد سدته الأعشاب. وإني لأرى الآن أن الأعشاب قد سدت عقلك.»
22
قال قاو تسو لمنشيوس: «كانت الموسيقى في عصر الملك يو أفضل منها في عصر الملك ون.» فقال له منشيوس: «ما الذي يجعلك تقول هذا؟» أجابه قاو تسو: «لأن حبال أجراس الأدوات الموسيقية من عصر يو متآكلة (من كثرة الاستعمال).» قال منشيوس: «هذا ليس برهانا كافيا. هل الأخاديد تحت بوابة المدينة صنعها زوج من الأحصنة؟»
23
عندما كانت دولة تشي تعاني من المجاعة، قال تشن جن
Chen Zhen
لمنشيوس: «يعتقد الناس يا سيدي أنك ستطلب من الملك أن يفتح مخازن الحبوب في تانغ لتوزيعها على الناس، كما فعلت في المرة السابقة، ولكنني لا أظن أنك ستفعل ذلك مرة أخرى.» أجابه منشيوس: «كلا، لن أفعل ذلك، وإلا كنت مثل فينغ فو.»
كان هنالك رجل طالح في دولة تشن يدعى فينغ فو، ذاع صيته بعد أن صرع نمرا بيديه العاريتين. وبعد ذلك انصلح وافتتح صفحة جديدة في حياته. وفي يوم من الأيام رأى جماعة من الرجال في أطراف المدينة تطارد نمرا محاصرا يدافع عن نفسه بضراوة عند منحدر تل، ولم يكن أحد يجرؤ على التقدم منه. وعندما رأى المطاردون فينغ فو هرعوا إليه مستبشرين، عند ذلك نزل فينغ فو من عربته وشمر على ساعديه، فسر الحشد لذلك، أما المثقفون المتواجدون هناك فقد سخروا منه.»
11
24
قال منشيوس: «الفم يحب المذاق الطيب، والعين تنجذب إلى الألوان البهيجة، والأذن تطرب للموسيقى العذبة، والأنف يتنشق الروائح العطرة، والأطراف الأربعة تميل إلى الراحة والاسترخاء؛ وهذه جميعا جزء من الطبيعة الإنسانية، ولكن القدر يتدخل في تحقيقها، والرجل النبيل لا يعزوها إلى الطبيعة.
الإحسان يحكم العلاقة بين الأب والابن، والصلاح يحكم العلاقة بين الرئيس والمرءوس، وقواعد الأدب تحكم العلاقة بين الضيف والمضيف، والتعقل يحكم العلاقة بين الأفاضل، وطريق السماء ينتظر الحكيم؛ هذه أيضا جزء من الطبيعة الإنسانية، ولكن الرجل النبيل لا يعزوها إلى القدر.»
26
قال منشيوس: «الذين انشقوا عن مدرسة مو سوف يتحولون إلى مدرسة يانغ،
12
والذين انشقوا عن مدرسة يانغ سوف يتحولون إلى المدرسة الكونفوشية. في حال عودتهم إلينا يتوجب علينا استقبالهم، ولكن البعض منا في هذه الأيام ممن يجادلون أتباع مو تزو ويانغ وكأنهم يطاردون خنازير هاربة، لا يكتفون بأنهم عادوا إلى الحظيرة، بل يريدون تقييد أقدامهم.»
27
قال منشيوس: «هنالك ضريبة على قماش القنب والحرير، وضريبة على محصول الحبوب، وضريبة على العمل. على الأمير أن يفرض واحدة من هذه الضرائب في كل مرة ويؤجل اثنتين، فإذا فرض اثنتين معا سيتسبب في إحداث مجاعة، وإذا فرض الثلاث معا سوف يتسبب في تفريق الابن عن أبيه وتفكيك الأسرة.»
28
قال منشيوس: «هنالك ثلاثة أمور على الحاكم أن يعلي من شأنها هي: الأرض والرعية والحكومة. أما إذا أعلى من شأن اللآلئ والأحجار الكريمة، فإن الكارثة تقبع عند بابه.»
29
عندما استلم بن-تشنغ كوو
Ben-cheng Kuo
منصبا رفيعا في دولة تشي، قال منشيوس: «سوف يلقى حتفه.» بعد ذلك لقي بن-تشنغ كوو حتفه، فجاء تلاميذ كونفوشيوس يسألونه عن كيفية معرفته بذلك، فقال لهم: «لقد كان رجلا على جانب من الكفاءة، ولكنه لم يعرف المبادئ الأساسية التي يتوجب على الموظف الحكومي معرفتها؛ وهذا سبب كاف لخسارته حياته.»
30
عندما جاء منشيوس إلى دولة تينغ أعطي مع تلاميذه سكنا في بيت ضيافة فخم. جاء العاملون في البيت للبحث عن صندل غير مكتمل كان موضوعا في النافذة فلم يجدوه، فسأل أحدهم منشيوس: «هل أخذه أحد من رجالك؟» فأجابه: «هل قطعنا إليكم كل هذه المسافة لكي نسرق صندلا؟» أجابه الرجل: «لا أعتقد ذلك.» فقال منشيوس: «لقد جئت إلى هنا من أجل التعليم، والمتعلمون أحرار في القدوم وفي المغادرة ما دام أنهم جاءوا بقلب سليم.»
31
قال منشيوس: «هنالك أمور لا يحتمل كل الناس القيام بها، فإذا وسعوا هذه الحالة الذهنية لتشتمل على كل الأمور التي يحتملون القيام بها حققوا الرحمة.
13
وهنالك أمور لا يرغب كل الناس في القيام بها، فإذا وسعوا هذه الحالة الذهنية لتشتمل على الأمور التي يرغبون في القيام بها حققوا الاستقامة.
14
إذا طبق المرء الحالة الذهنية التي تمنعه من تسبيب الأذى للآخرين في كل موقف، بلغ منتهى الرحمة. وإذا طبق الحالة الذهنية التي تمنعه من تسلق جدار أو نقبه لغاية السرقة في كل موقف، حقق منتهى الاستقامة. وإذا طبق الحالة الذهنية التي تمنعه من إذلال نفسه في كل موقف حقق الاستقامة أنى توجه.
إذا تحدثت مع مثقف لا يجوز لك التحدث معه، كنت كمن يحاول استغلاله. وإذا رفضت التحدث مع مثقف يتوجب عليك التحدث معه، كنت كمن يستغل الصمت. كلا الحالتين أشبه بتسلق جدار أو نقبه لغاية السرقة.»
32
قال منشيوس: «الكلمات الطيبة هي الكلمات البسيطة والعميقة الأثر، والمبادئ الجيدة هي المبادئ الواضحة والقابلة للتطبيق في جميع المجالات. الرجل النبيل يتحدث في مسائل عامة ولكنها تنطوي على مبادئ عظيمة. وهو في حفاظه على تكامله الذاتي وتطوير نفسه إنما يجلب الطمأنينة للبلاد.
إنه لمن الخطأ أن تقوم بتعشيب حقل جارك وتغفل عن تعشيب حقلك، وأن تكون صارما مع الآخرين ومتساهلا مع نفسك.»
33
قال منشيوس: «الملك ياو والملك شون سلكا بما تمليه عليهما طبيعتهما الأصلية، أما الملك شانغ تانغ والملك ون فقد جاهدا لكي يعودا إلى طبيعتهما الأصلية. إذا سلكت وفق قواعد الأدب والمعاملات في كل مجال، حققت أعلى درجات الفضيلة.
عندما لا يبكي المرء على الأموات لكي يرضي الأحياء، وعندما لا يلتزم سبيل الفضيلة لكي يحصل على منصب عال، وعندما لا يصدق في كلامه للتباهي بحسن السلوك؛ يكون إنسانا نبيلا يقوم بما يتوجب عليه ويترك الباقي للقدر.»
34
قال منشيوس: «عندما تقف أمام ذوي الشأن لتقديم المشورة عليك أن تنظر إليهم بترفع ودونما تأثر بجلال قدرهم. قاعاتهم فسيحة وعالية، ذات أعمدة بارتفاع عشرات الأقدام، وتيجان بعرض عدة أقدام. ولو أنني حققت طموحي لما فعلت مثل ذلك. مناضد موائدهم عرضها عشرة أقدام، ومئات النساء يقمن على خدمتهم، ولو أنني حققت طموحي لما فعلت مثل ذلك. يقضون وقتهم في خدمتهم، ولو أنني حققت طموحي لما فعلت مثل ذلك. يقضون وقتهم في الشرب والقنص ترافقهم عربات لا حصر لها، ولو أنني حققت طموحي لما فعلت مثل ذلك.
إذا كنت لا أقوم بكل ما يقومون به، بل أقوم بكل ما يتفق مع السنة القديمة، فلماذا أقف أمامهم بإجلال؟»
35
قال منشيوس: «الطريقة المثلى لتنمية الطيبة في القلب هي التقليل من الرغبات. الشخص الذي يبقي على عدد قليل من الرغبات، قد يخسر بعض الطيبة لا كلها، والشخص الذي تكثر رغباته قد يحتفظ ببعض الطيبة لا كلها.»
36
كان تسغ شي
Zeg Xi
يحب أكل ثمر العناب كثيرا، أما ابنه تسغ تسي
15
فقد كان يتفادى أكله. عن هذه المسألة سأل قونغ-صن تسو فقال: «أيهما ألذ مذاقا اللحم المشوي أم العناب؟» فأجابه منشيوس: «اللحم المشوي طبعا.» فسأله ثانية: «إذن لماذا كان تسغ تسي يأكل اللحم المشوي ويتفادى أكل العناب؟»
أجابه منشيوس: «اللحم المشوي مذاق مشترك بين الناس، أما العناب فمذاق خاص للبعض. وهذا يشبه حظرنا لاستخدام اسم العلم لأكثر من شخص في العائلة، بينما يشترك الجميع باسم العائلة.»
37
قال وانغ شانغ: «عندما كان كونفوشيوس في دولة تشن قال: علي أن أعود إلى وطني. الشباب هناك طموحون ولكنهم غير ناضجين، ومغامرون ولكنهم لا ينسون أصولهم.
فما الذي جعل كونفوشيوس وهو في تشن يفكر بأولئك المتهورين في موطنه لو؟»
أجابه منشيوس: «عندما لم يجد كونفوشيوس من يخالطهم من أصحاب مبدأ الوسطية وعدم الانحياز، التفت إلى المندفعين وإلى المتحفظين؛ فالمندفعون يستمرون في الانطلاق نحو الأمام، والمتحفظون يسلكون في حذر. لقد كان كونفوشيوس راغبا في رفقة أصحاب مبدأ الوسطية ولكنه لم يجدهم؛ ولذلك فقد فكر بمن يليهم في الأهمية.»
فسأله وانغ شانغ ثانية: «من من الرجال يمكن أن نطلق عيله صفة المندفعين؟» أجابه منشيوس: « تشن جانغ
Qin Zhang
وتسنغ تشي
Zeng Xi
ومو بي
Mu Bi
وأمثالهم، هم الذين وصفهم كونفوشيوس بالمندفعين.» فسأله أيضا: «ولماذا وصف هؤلاء بالمندفعين؟»
أجابه منشيوس: «لأن عندهم طموحا وغلوا. كانوا يقولون دوما: عليكم بالأقدمين، عليكم بالأقدمين. ولكننا إذا قارنا كلامهم بأفعالهم لما وجدنا الأفعال متطابقة مع الأقوال. عندما لم يكن كونفوشيوس يجد من يخالطه من المندفعين، كان يميل إلى المتحفظين الذين يكتفون بعدم إتيان الفواحش، وهؤلاء يأتون بالدرجة الثانية عنده . وقد قال مرة: أولئك الذين يمرون من أمام باب بيتي ولا أشعر بالأسف لعدم دخولهم، هم الذين يتكلفون الفضيلة. هؤلاء أجلاف مخربون للفضيلة.»
فسأله أيضا: «ومن من الرجال يمكن أن نطلق عليهم صفة الأجلاف متكلفي الفضيلة؟»
أجابه منشيوس: «هم من يقولون للمندفعين: لماذا أنتم طموحون إلى هذه الدرجة؟ ومع ذلك يعيدون القول: عليكم بالأقدمين، عليكم بالأقدمين. ثم إنهم يقولون للمتحفظين: لماذا أنتم انعزاليون؟ أنتم تحيون في هذه الدنيا، وتعملون في هذه الدنيا، وما عليكم سوى الانسجام مع كل ما حولكم. ولكنهم يخفون حقيقتهم ويتملقون. هؤلاء هم الأجلاف مخربو الفضيلة.»
فسأله أيضا: «إذا كان المرء ممدوحا في قريته على إخلاصه، فمعنى ذلك أنه سينظر إليه على أنه مخلص أنى ذهب، فلماذا اعتبرهم كونفوشيوس مخربين للفضيلة؟»
أجابه منشيوس: «عندما تحاول انتقادهم يبدون وكأنهم فوق النقد، وعندما تحاول لومهم يبدون فوق اللوم. إنهم يتبعون الممارسات السائدة وينسجمون مع السوقة الأجلاف. في الحياة اليومية يبدون مخلصين صادقين، وفي سلوكهم يظهرون الطهارة والعفة. الكل يرضى عنهم، وهم يظنون أنهم يقومون بما هو صائب. أما في الحقيقة، فإن كل ما يقومون به لا يتفق مع طريقة ياو وشون؛ ولهذا نقول إنهم مخربون للفضيلة.
وقد قال كونفوشيوس: أنا لا أحب الأشياء التي تبدو صحيحة، ولكنها في حقيقة الأمر خاطئة. لا أحب الزؤان لأنه يختلط مع القمح. لا أحب المتملقين لأنهم يشوهون البر. لا أحب ذلقي اللسان لأنهم يشوهون الصدق. لا أحب موسيقى جنغ
Zheng
لأنها تفسد الموسيقى الكلاسيكية. لا أحب اللون الأرجواني لأنه يتماهى باللون القرمزي. لا أحب الأجلاف متكلفي الفضيلة لأنهم مخربون للفضيلة.
الرجل النبيل هو الذي يسعى لإعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي. وعندما تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي فإن عامة الناس سوف يرتقون ، وعندما يرتقي عامة الناس يتلاشى الضلال.»
38
قال منشيوس: «كانت المدة الفاصلة بين عصر ياو وشون وعصر شانغ تانغ نحو خمسمائة سنة. وقد تهيأ لأشخاص مثل يو
Yu
وقاو
Gao
وياو
Yao
رؤية ياو وشون والتعرف على طرقهما. كما عرفهما أشخاص مثل شانغ تانغ بسماع أخبارهما وتعرفوا على طرقهما.
وكانت المدة الفاصلة بين عصر شانغ تانغ وعصر الملك ون نحو خمسمائة سنة. وقد تهيأ لأشخاص مثل يي ين
Yi Yin
ولاي جو
Lai Zhu
رؤية شانغ تانغ والتعرف على طريقه، كما عرفه أشخاص مثل الملك ون بسماع أخباره وتعرفوا على طريقه.
وكانت المدة الفاصلة بين عصر الملك ون وعصر كونفوشيوس نحو خمسمائة سنة. وقد تهيأ لأشخاص مثل تاي قونغ وانغ
Tai Gung Wang
و سان-يي شنغ
San-yi Sheng
رؤية الملك ون والتعرف على طريقه، كما عرفه أشخاص مثل كونفوشيوس بسماع أخباره والتعرف على طريقه.
والمدة الفاصلة بين عصر كونفوشيوس ويومنا هذا نحو مائة سنة، وهي مدة ليست بالطويلة. فإذا لم يوجد الآن من يعرف عنه ويتبع طريقه، فلن يكون هنالك في المستقبل من يفعل ذلك.»
المراجع
مراجع النصوص
Raymond Dawson, The Analects, Oxford, 2008.
Simon Leys and Michael Nylan, The Analects, Norton London, 2014.
James Legge, Confucius, Dover, New York.
A. Charles Muller, The Analects of Confucius,
http.//www.acmuller.net-dao/analects.html .
D. C. Lau, Mencius, Penguin Books, London 1970.
Wu Guozhen, The Works of Mencius, The Stratts Publishing Group.
D. C. Lau, Tao Te Ching, Penguin Books, London 1978.
Gia Fu Feng, Tao Te Ching, A. knpf, New York 1972.
Chung Yuan Chang, Creativity and Taoism, Wild Wood House, London 1975.
James Legge, Chuang Tzu Works, Ace Books, New York 1971.
مراجع عامة
Fung Yu-Lan, A Short History of Chinese
1976.
Fung Yu-Lan, The Spirit of Chinese
Joseph Needham, Science and Civilization in China, Cambridge 1974.
Allan Watts, The Way of Zen, Penguin Books, London 1962.
Richard Wilhelm, The I. Ching, or Book of Changes, Princeton, 1977.
ناپیژندل شوی مخ