الدين، ويؤمن بأن الاجتهاد سُدَّ بابه فلا يُفتَح إلى يوم القيامة، كأنه قد امتنع على الله (أستغفر الله!) أن يخلق ذهنًا كذهن أبي حنيفة ورأيًا كرأي الشافعي ونظرًا كنظر مالك ورواية كرواية أحمد، ويرى أن الكتاب والسنة قد أُخذ منهما كل شيء وعُصرا عصر الليمونة استُنفد ماؤها، ولم يعد يجوز لأحد أن يستنبط منهما حكمًا أو يرى فيهما دليلًا، وما يصلحان بعدُ إلا للتبرك والتقبيل، وتلاوة القرآن بلا فهم وقراءة «البخاري» لاستنزال واستجلاب المطر، واعتقاد أن البيت الذي يكون فيه «البخاري» لا يصيبه حرق ولا غرق ... مع أنك لو ألقيت كتاب البخاري نفسه في النار لاحترق، ولو رميته في الماء فابتلّ لأصابه الغرق!
وآخر يرى الإسلام في ترك المذاهب كلها والعودة إلى السنّة، فكل من استطاع أن يقرأ في البخاري ومسلم ومَجْمَع الزوائد، وأن يفتش عن اسم الراوي في التقريب أو التهذيب، وجب عليه الاجتهاد وحرم عليه التقليد، ويسمون هذا الفقه العجيب الذي يشبه فقه بُرْد (والد بشّار) (١) «فقه السنّة»؛ لا يدرون أن الوقوفَ على الأحاديث ومعرفةَ أَسْنادها ودرجاتها شيءٌ واستنباطَ الأحكام منها شيءٌ آخر، وأن المحدّثين كالصيادلة والفقهاءَ كالأطباء، فالصيدلي يحفظ من أسماء الأدوية ويعرف من أصنافها ما لا يعرفه الطبيب، ولكنه لا يستطيع أن يشخّص
_________
(١) كان بشّار يهجو الناس وهو صبي فيشكونه إلى أبيه فيضربه، فلما طال ذلك عليه قال لأبيه: قل لهم إن ابني هذا أعمى، والله يقول ﴿لَيسَ على الأعْمَى حَرَج﴾، فقال لهم ذلك، فقالوا: لَفقه بُرْد أشدّ علينا من شعر بشار!
1 / 80