وعليك أن تنصف ذكرى الأسلاف؛ لأنك إن تجافيت سنة الإنصاف، فاعلم أنه دين عليك سوف يتقاضاك إياه من يليك.
واحترم زملاءك واعلم أنه لخير لك معهم أن يلقوك حيث لا يترقبونك من أن يتفقدوك وهم مترقبوك.
ولا تذكر مكانك الرفيع في أحاديثك وأجوبتك لأصحاب الحاجات إليك، بل دعهم يقولون: إنك في مكانك إنسان غير ذلك الإنسان.
الصداقة
لقد كان عسيرا عليه - ذاك الذي نطق بهذه الكلمات - أن يجمع من الحق والباطل في كلمات قليلة، مثل ما جمعه في كلماته تلك، حيث قال: «من سرته الوحدة فهو أحد اثنين: إما حيوان آبد أو إله.»
فإنه من الحق الذي لا مراء فيه أن نفور الإنسان من المجتمع وبغضه إياه فيهما شيء من الحيوانية المستوحشة، ولكن ليس من الحق أن هذه الخلة تمت بشيء إلى الصفات الإلهية، إلا أن يكون حب الوحدة لغرض غير السرور بالوحدة، وهو رياضة النفس على سلوك في الحياة أرفع وأقوم، كما كان بعض الوثنيين يصنع خطأ وتمويها فيما زعموا من الروايات عن أبيمنديس الكندي، ونوما الروماني، وأمبيد كليس الصقلي وأبولنيوس التياني، أو كما كان بعض آباء الكنيسة الأولين وبعض النساك يصنعون عن صدق وحقيقة.
على أن الناس قلما يفهمون المقصود بالوحدة أو مداها، فإن الزحام لا يحسب صحبة، والوجوه المنظورة ما هي إلا معرض من معارض الصور، وأصداء الكلام ما هي إلا رنين أجوف حين يخلو من المودة، وصدق المثل اللاتيني القائل: «إنه كلما ازداد سكان المدينة ازدادت الوحدة.» لأن الصحاب في المدن الكبيرة يتفرقون فلا تنعقد بينهم تلك الآصرة التي تكون بين أهل الجيرة الواحدة.
ونخطو بعد هذا خطوة فنقول: إن الوحدة التي تعوزك فيها الصحبة الصادقة هي بؤس ونكد؛ لأن الدنيا بغير الصحبة الصادقة قفر موحش لا أنس فيه، ومن كان في هذه الوحشة محروما بفطرته من الشعور بالصداقة، فهو إنما يستمد فطرته من طبيعة الوحش لا من طبيعة الإنسان.
وأهم ثمرات الصداقة أن يفرغ الصديق فؤاده لصديقه ميلا طبيعيا توحي به، وتدعو إليه كل عاطفة وكل شعور، وقد علمنا أن أمراض الاحتباس والاختناق هي شر الأمراض الجسدية، وهي كذلك شر الأمراض العقلية.
وقد تتناول العشبة المغربية لإطلاق الكبد، وبرادة الحديد لإطلاق المرارة، ومسحوق الكبريت للرئة والجندباوستر للدماغ، ولكن القلب لا يطلقه دواء كدواء الاطمئنان إلى صديق صادق تبثه شكاتك وأفراحك ومخاوفك وآمالك، وشكوكك ومشوراتك، وكل ما يثقل على القلب ويجرحه، كأنك تؤدي مراسم الاعتراف.
ناپیژندل شوی مخ