Spedding : إنه لم يخط خطوة واحدة في الطريق التي تقدم فيها العلم تقدمه الصحيح، وإنه كان في بحثه كمن يسلك المتاهة الدائرة، فلا يزال يتأخر كلما تقدم ليفضي إلى وجهته المقصودة. وشك أليس
Ellis
في إمكان الوصول من طريقة باكون إلى أسرار الطبيعة، سواء على يده أو يد غيره، بل تعدى الحكم على حظه من الابتكار نخب المعجبين به إلى ما قاله هو عن نفسه وعن قيمة سعيه، فإنه كان يقول: إنه كمن ينفخ في البوق ولا يخوض المعركة! وقال في كتابه تقدم المعرفة: إنه كالصورة التي تشير إلى وجهة المسير، ولكنها لا تستطيع المسير إليها.
وأفرط الناقدون فزعموا أنه مدين بكل شيء لسابقيه ... أما أنه استفاد من سابقيه كثيرا، فذلك ما لا ريب فيه ولا غرابة ولا هو مما يقال عنه دون غيره من رواد العلوم والآداب، ولكن لا ريب أيضا في أنه «شيء جديد» إلى جانب سابقيه، وأن أشد المنكرين عليه لا يستطيع أن يزعم بحق أن ظهوره وعدمه يستويان، فظهور باكون شيء جديد في تاريخ الحركة الفكرية ما في ذلك جدال، ولا يطلب من المبتكرين المفيدين في تاريخ هذه الحركة أثر غير ذاك، على تفاوت الآثار في القوة والمقدار.
ويحضرنا هنا خاطر عبر بنا في صدد الكلام على باكون وأسلوبه التجريبي، فحواه أنه اقتدى بعلماء العرب في تنظيم هذا الأسلوب.
والذي لا نشك فيه أن سلف باكون وسميه روجرز باكون قد كان يقتدي بعلماء العرب، ويصرح بذلك في مصنفاته ومحاضراته، وأن فرنسيس باكون قد استفاد من سلفه وسميه، كما استفاد علماء الإنجليز جميعا بعد القرن الثاني عشر من ذلك القس الغيور على أمانة العلم والتفكير، وقد أشار باكون في كتابه «طوبى الجديدة» إلى العرب، وذكر فيه بعض الأسماء العربية، ولكننا لم نجد في كتبه كلها دليلا على استفادة مباشرة من مطالعة الكتب العربية المترجمة إلى اللغات الأوروبية، وكل ما استفاده من هذه الكتب، فهو منقول من المصادر الأخرى كما ينقل التابعون عن السابقين، شاعرين بذلك أو غير شاعرين. •••
ولا يقال: إن باكون «شيء جديد» في تاريخ الحركة الفكرية من قبيل الاعتراف بمكانه الملحوظ في تلك الحركة وكفى، ولكنه «شيء جديد» من قبيل النوع الذي يضاف إليه بين ذوي المكانة الملحوظة في حركات الفكر البشري عامة؛ لأن نوع هذه المكانة مبهم ككلمة «الشيء» التي تشمل كل شيء!
ففي أي طائفة من طوائف رسل الثقافة والمعرفة تسلكه وتستبقيه؟ أهو فيلسوف؟ أهو شاعر؟ أهو عالم؟ أهو مؤرخ؟ أهو فقيه؟ أهو خطيب؟ أهو أديب؟ فيه من كل هؤلاء شيء وليس هو بشيء مستقل بين جميع هؤلاء.
فيه قبس من الفيلسوف؛ لأنه يبحث ويعلل ويعمم ويراجع مذاهب الفلاسفة، ويصحح منها ما يراه موضعا للتصحيح، ولكنه لم يخلق للفلسفة كما خلق لها رجل مثل فيثاغوراس في الأقدمين، أو رجل مثل كانت أو هيوم في المحدثين. وقد تجنب علل الحقائق الأولى وأعفى عقله من الكد في الأصول الأبدية، التي شغل بها الفلاسفة من قديم الزمان، ويشغلون بها إلى آخر الزمان. وأدركه في ذلك ما كان يدركه دائما من حب الدعة، وإيثار للإيمان الذي يرجى الفراغ من بحثه على وجه من الوجوه العملية النافعة، فأسلم عقله للإيمان الديني كما كان يفهمه كل رجل من طبقته في زمانه. ويحسب مؤرخوه أنه فارق الدنيا وهو يظنها بنية تاريخية لا تتجاوز من العمر خمسة آلاف عام، على ما جاء في ظاهر نصوص التوراة.
وفيه قبس من الشاعرية؛ لأنه يتخيل ويأنق للمعاني الجميلة ويستخدم فنون المجاز، ولكنه لم يكن بين الشعراء في طبقة ملتون أو بيرون بل في طبقة دريدن أو بوب؛ لأنه دون هؤلاء في اشتعال النفس وحماسة الروح وجيشان العاطفة، واتساع آفاق الخيال.
ناپیژندل شوی مخ