ومن عجائب التناقض في أخلاق هذا «الفيلسوف» أن حماسته الوطنية، كانت تغلب حماسة ذوي الحق الأول فيها على الأقل في مسائل الفتوح والمطامع الخارجية. فكانت سياسته وطنية غالية يوم كان الملك جيمس يمضي على نهج السياسة العالمية، كلما طرأت له علاقة بالدول الأخرى، وسر ذلك أن باكون كان يعتقد - كما نرى في مقالاته - أن الدول لا تستقر لها سيادة بغير النزعة العسكرية، وأن ولاة الأمر مطالبون بإحياء هذه النزعة، والتحريض عليها، وإلا ركنت الأمم إلى السلم والدعة وشاع فيها الجبن والتفريط، وانتظرت ساعة الهزيمة والخضوع، وإن طال بها أمد الانتظار.
وإذا أشار مرة بالمسالمة والتحكيم، فإنما يشير بذلك أهبة للنزال والقتال، فاغتنم فرصة التمهيد للمصاهرة بين الأسرتين الإنجليزية والأسبانية، وبنى على ذلك خطة دولية رفعها إلى الملك لجمع الدول المسيحية إلى حلف عام، وتوحيد كلمتها على مرجع واحد للتحكيم، والتأهب بعد ذلك لمقاتلة الترك، وتجديد الحروب الصليبية، وكان من المعجبين بالترك؛ لأنهم أمة حرب يشبون ويشيبون في ميادين القتال، فكان يوصي بمناجزتهم وإحياء روح الشجاعة بمساجلتهم، كما يتصدى الأقران للأقران في ساحة الصراع.
ولا ينبغي أن يفهم مما تقدم أن حماسته الدينية أو المذهبية تضارع حماسته الوطنية أو القومية، فإنه في الواقع إنما أوصى بهذه الخطة؛ لأنها خطة وطنية تؤدي إلى سيادة قومه على القارة الأوروبية، وقيادتهم للدول الأخرى في سياستهم الخارجية، كما تؤدي إلى إحياء حافز الحرب في طباعهم، وهو عنده ضرورة من ضرورات السيادة والاستعلاء.
أما في الدين فقد كان أقرب إلى الفلسفة منها إلى الغيرة الحماسية، فكان على نشأته في أسرة من المتطهرين المتنطسين يميل إلى الاعتدال بين المذاهب، ويرى لكل مذهب محاسنه ومواضع نقصه، وكان إذا اشتد في محاربة مذهب منها، فإنما يشتد في ذلك لمحاربة السلطان الأجنبي والدسائس الخارجية، فحارب الأساقفة والكرادلة؛ لأنهم أتباع البابوية وأشياع الدولة الأسبانية، كأنه يعرف العداء في سبيل الوطن، ولا يعرف العداء في سبيل الدين.
وليس في هذا ولا ذاك عجب إذا رجعنا بهما إلى أسباب عصره، فإن حرية البحث التي غلبت على عقول المفكرين في عصر الرشد كانت تصد العقول عن مذهب التنطس، والغلو في تقديس النصوص، وتجنح بها إلى قبول المحاسبة في العقائد الموروثة وكف الحماسة عن تقييد الفكر والضمير، وبين هذه الحرية وبين الحماسة والغلواء حائل لا غرابة فيه.
أما عصر الغلبة والفتوح وارتياد البحار والأمصار، فهو عصر الفخر الوطني لطلاب الفخر في كل شيء، وهو عصر النعرة الوطنية ومجد الأفراد والأقوام، فلا يمنع الفيلسوف أن ينشد المجد لأمته، ويفخر مع الناس بفخر وطنه، وبخاصة حين يكون المجد والفخر طلبة العلية والسواد، وبغية العلماء والجهلاء أجمعين.
ومفصل القول في أخلاق باكون أنه كان ابن عصره في كل ما ينحو به إلى الفخر والوجاهة والخيلاء، وكان مدينا لعصره بهذه الغيرة الوطنية، وإن سبق المعاصرين فيها بالنظر الصائب والرأي الحصيف، وكان مدينا له بحب الاستطلاع والهيام بالمجهول، وكلتا الخصلتين مما يحسب لعصره دينا عليه.
ولكنه لم يكن باكون العظيم بهذا ولا بذاك، وإنما كان عظيما بالشيء الذي لا يستمده من العصر ولا يضارعه فيه جميع المعاصرين، وذاك هو العقل القدير وأمانة التفكير.
رسالة باكون
كل رسالة في عالم الفكر أو الروح، فهي رسالة توكيد وتقرير أو رسالة توسيع وتحويل، ويندر جدا أن نرى في عالم الفكر والروح رسالة ابتداء وابتداع لم يسبق لها تمهيد طويل.
ناپیژندل شوی مخ