وربما كان للعصر أثر آخر في أخلاقه من جانب يخصه، ولا يعم نظراءه في المنصب والمكانة، فإنه قد كان ولا جدال أكبر أبناء أمته في ذلك العصر عقلا، وأثبتهم نظرا وأقدرهم على فهم مرامي القوام وأطوار الأقوام، فدعاه اليقين من صوابه في هذه الشئون إلى إسداء النصح طواعية لكل من يملك تصريفها، ويقبض على مقاليدها، فكتب نصائحه إلى الملكة اليصابات في سياسة الكنيسة والشعب والنواب، وكتب نصائحه إلى الملك جيمس في السياسة الأوروبية، والسياسة الداخلية، ومحض النصح للورد إسكس واللورد بكنجهام واللورد سالسبري في مسائلهم ومسائل الأمة، فكان من العجب أنهم أعرضوا عنه، وأصموا آذانهم عن نصحه، ولم يقبلوا منه إلا الملق والنفاق. ومن دأب هذه الصدمات في النفوس التي لا تقوى عليها أن تضعف عندها قيمة النصح والإخلاص، وتغريها بالغش ومجاراة الأهواء ... ففي هذه على الأقل جدوى لمن يغش ويجاري أهواء الأعلياء، وأما النصح الخالص فقد يلوح لهم أنه لا جدوى فيه للناصح ولا للمنصوح، حيثما تعرض الأسماع وتجمع الأهواء.
ففي هذه الخلائق وما شاكلها كان عذر باكون ذنب عصره، أو كان عذره أن ذنوبه هي ذنوب مئات وألوف ، ولم يكن تجنبها من اليسير عليه، وماذا تقول في عصر كان اسم مكيافلي فيه أشهر الأسماء بين حكماء السياسة، ومعلمي الأمراء والوزراء؟
لكن الأخلاق لا ترجع كلها إلى العصور، حتى ما كان منها سمة من سمات تلك العصور؛ لأن الإنسان يأخذ منها أو يدع على حسب طبعه الموروث أو الأصيل فيه، وقد ينبذها كلها ويثور عليها لفرط المناقضة بينه وبينها، كلما بلغت هذه المناقضة حدا يتعذر فيه التوفيق.
وباكون كان فيه جرثومة الخلق الذي أنماه العصر وأرسخ جذوره، وكان فيه مع هذا ضعف مقاومة، وقلة جلد وإشفاق من مأزق العراك والمجازفة، وكل أولئك مما يعجل به إلى الاستسلام، ويزين له سلوك السهول دون الوعور.
ونحسبه قد ورث هذه الطبيعة من أبيه؛ لأن أباه كان يتخذ له شعارا لاتينيا يكتبه على باب بيته، فحواه أن الاعتدال أبقى، وكان يشفق في سياسته من المخاطر ولو كان من ورائها كبار المغانم، فلبث في منصبه نيفا وعشرين سنة لاجتنابه المقاحم التي تزلزل الأقدام في ذلك العصر القلب، وذلك البلاط المحشو بالدسائس والمنافسات.
ويبدو لنا أن النوازع الحيوية كلها في طبيعة باكون لم تبلغ من القوة والامتلاء مبلغا يدفعه إلى المقاومة والمجازفة في أي مطلب، وقد نرد إلى ذلك ولعه بالأبهة والمواكب والأزياء، وكل ما يلفت الأنظار، فالغالب في هذا الولع أنه يشغل في النفس مكان اللذات الحيوية والشهوات العارمة، على سبيل التعويض في الشعور، فإذا فاته سرور الشعور بنفسه أحب أن يعوضه بسرور من قبيله، وهو شعور الناس به واعتقادهم فيه الغبطة والاستمتاع.
ويعزز عندنا هذا الظن أنه لم تذكر له علاقة بالنساء على شيوع العلاقات الغرامية في زمانه، ولم تكن له سعادة بالزواج ولا بالذرية، ولم يشتهر عنه قط شغف بطعام أو شراب، فطلب المال عنده ضرورة لطلب المظاهر الخلابة، وطلب المظاهر الخلابة عنده ضرورة لتعويض الشعور باللذات والشهوات، وكل أولئك له حافز من عادات الزمن ومغرياته لا تسهل مقاومته على المستعد للمقاومة، فضلا عمن يشفق منها ويتعمد اجتنابها.
فالجهد ثقيل على طبع باكون سواء في الخيرات أو في الشرور، وحب الإعفاء والمعافاة صارف له عن تكليف نفسه ما لا يطيق؛ ولهذا كان ينصح بالخير ثم ينصح بغيره إذا لم يقبلوه منه، وكان يؤثر السلم والمسالمة ولا يقابل النقمة بمثلها، ولم يكن في طبعه الضغن على مسيء وإن بالغ في الإساءة إليه، فلم يحقد على الملكة اليصابات بعد موتها مع حرمانها إياه وإصرارها على إنكار حقه وتقريب منافسيه، وكتب عنها أجمل ما يكتبه عنها مستفيد من حظوتها ورعايتها، وليس له نفع مرجو من هذه الكتابة في عهد خلفها، الذي كان لا يحبها ولا يستريح إلى الثناء عليها، وقد ندب للوصاية على تركته الأدبية رجلا كان يرميه بالاحتيال ومخادعة الدائنين، وهو الأسقف وليامز عدوه في محنته وصديقه قبيل موته بأعوام قليلة، فليس من خلقه الإضرار المقصود ولو بأعدائه وثالبيه.
ويصعب أن يقال إنه كانت له شرور كبيرة من شرور الطبائع الجارمة والخلائق الضارية، وإنما كانت آفته كلها الطبع المغلوب لا الطبع الغلاب، أو كان يصدر في سيئاته كلها عن إشفاق وتوجس لا عن اقتحام وصولة، ولم تحص عليه سيئة واحدة تخرج عن هذا الطراز من السيئات.
فأشهر أخطائه المسجلة عليه هي حادثة إسكس، ومسألة الرشوة واتضاعه الشائن لاسترضاء بكنجهام.
ناپیژندل شوی مخ