Foundations of Grammar 1 - Al-Madinah University
أصول النحو ١ - جامعة المدينة
خپرندوی
جامعة المدينة العالمية
ژانرونه
-[أصول النحو ١]-
كود المادة: GARB٥٣٥٣
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ناپیژندل شوی مخ
الدرس: ١ حد أصول النحو، وحد النحو، وحد اللغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(حدّ أصول النحو، وحدّ النحو، وحدّ اللغة)
معنى أصول النحو
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فنتعرف على حد أصول النحو، وحد النحو، وحد اللغة.
أصول النحو: هي أدلة النحو التي تفرَّعت منها فروعه وفصوله، كما أن أصول الفقه أدلَّة الفقه التي تنوَّعت عنها جملته وتفصيله، ذكر هذا أبو البركات الأنباري في بداية كتابه (لمع الأدلة)، وفصل السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة في كتابه المسمى (الاقتراح) فصَّل القول في هذا التعريف فقال: "أصول النحو علم يُبحث فيه عن أدلة النحو الإجمالية من حيث هي أدلته، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل"، وهكذا أوضح السيوطي أن موضوع علم أصول النحو ثلاثة أمور:
أولها: البحث عن أدلة النحو الإجمالية من حيث هي أدلته.
وثانيها: البحث عن كيفية الاستدلال بهذه الأدلة.
وثالثها: البحث عن حال المستدل بها.
وألقى مزيدًا من الأضواء الكاشفة على هذا التعريف، مبينًا أن مراده بقوله: "علم" أنه صناعة يعني: أنه يحتاج في تحصيله إلى دُربة ومران؛ لتتكوَّن لدى من يتعلمه ملكة استحضار مسائله وقواعده وقضاياه، ولا يلزم فقده من فقد العالم به؛ لأنه صناعة مدوَّنة، وقواعد مقررة، وأدلَّة محررة؛ سواء وُجد العالم بها أو لم يوجد. وأفاد أن تقييده بقوله: "يبحث فيه عن أدلة النحو" يخرج كل صناعة
1 / 9
سوى هذا العلم وسوى النحو، أي: حتى يكون هذا العلم مقصورًا على موضوعه.
وفي ضوء ما ذكره علماء أصول النحو، وعلى رأسهم ابن جني المتوفى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، وأبو البركات الأنباري المتوفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة من الهجرة وجلال الدين السيوطي نقول: إن أدلة النحو التي اعتمد عليها علماء الصناعة النحوية في تقعيد القواعد كثيرة جدًّا تخرج عن حدِّ الحصر، لكن الغالب منها أربعة أنواع، وهي السماع، والقياس، والإجماع، واستصحاب الحال، وفي حديث السيوطي عن حدِّ أصول النحو في بداية كتابه المسمى بـ (الاقتراح) بيَّن أن ابن جني في كتابه الخصائص تحدَّث عن ثلاثة أنواع من هذه الأربعة، ولم يذكر الاستصحاب، وأن الأنباري تحدَّث أيضًا عن ثلاثة منها فقط، ولكنه لم يذكر الإجماع، ثم علَّق السيوطي على ذلك بقوله: "فزاد -يعني: الأنباري- الاستصحاب، ولم يذكر الإجماع؛ فكأنه لم يرَ الاحتجاج به في العربية كما هو رأي قوم" انتهى، والحق أن ذلك سهو من السيوطي ﵀ وقد نبَّه عليه الأستاذ الدكتور أحمد محمد قاسم محقق (الاقتراح) طيب الله ثراه، كما نبَّه عليه غيره ممن عُنوا بشرح هذا المؤلف القيم، فأوضحوا أن الأنباري ذكر الإجماع في مؤلفه المسمى بـ (لمع الأدلة)؛ حيث ذكر إن الإجماع حجة قاطعة.
تحليل الحدِّ الذي أورده السيوطي لعلم أصول النحو: أراد السيوطي أن يوضّح للدارسين أن هناك فرقًا دقيقًا بين الاستدلال عند علماء أصول النحو، والاستدلال عند علماء النحو، فلكل وظيفة وتخصص؛ فالأولون وهم علماء أصول النحو يبحثون عن الأدلة الإجمالية، أي: ككون القرآن الكريم حجة، أما علماء النحو فهم يبحثون عن الأدلة التفصيلية، وذكر لذلك أربعة أمثلة، وهي:
1 / 10
المثال الأول: مسألة جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار.
والمثال الثاني: مسألة جواز الإضمار قبل الذكر في باب الفاعل والمفعول.
والمثال الثالث: مسألة جواز مجيء الحال من المبتدأ.
والمثال الرابع: مسألة جواز مجيء التمييز مؤكدًا.
وقال: إن البحث عن دليل خاصّ بكل مسألة من هذه المسائل ونحوها؛ إنما هو وظيفة علم النحو لا علم أصول النحو، يريد أن هذه المسائل الخلافية يتناولها علم النحو بالتفصيل والتحليل؛ مستعينًا على حسم الخلاف، والوصول إلى رأي معين بالترجيح، أو التضعيف، أو القبول، أو الرّدّ بما يحضر عالم النحو من الأدلة النحوية الخاصة من قرآن كريم، أو حديث نبوي شريف، أو كلام عربي، أو قياس نحوي، أو غير ذلك من الأدلة التي فاضت بها المؤلفات النحوية، والتي أفادها هذا العالم على سبيل الإجمال من تحصيله لعلم أصول النحو، وعرف عن طريق هذا العلم مدى قوة كل دليل أو ضعفه.
وقول السيوطي: "في حد أصول النحو من حيث هي أدلته بيان لجهة البحث عن هذه الأدلة بما له حجية في علم النحو -أي: في البحث عن القرآن الكريم بأنه حجة في النحو كما سبق- لأنه أفصح الكلام؛ سواء أكان متواترًا أم آحادًا، وعن السنة النبوية الشريفة بشرطها الآتي في مبحث الكلام عنها بالتفصيل، وعن الكلام العربي النثري أو الشعري الصادر عمن يُوثق بعربيته، ويُحتج بكلامه، وعن إجماع أهل البلدين البصرة والكوفة، وعن القياس، وما يجوز من العلل فيه، وما لا يجوز"، وقوله في الحد: "وكيفية الاستدلال بها" معطوف على قوله: "أدلة النحو الإجمالية". والمعطوف هنا هو الأمر الثاني من الأمور الثلاثة التي يتناولها موضوع علم أصول النحو، فكما يُبحث فيه عن الأدلة السابق ذكرها
1 / 11
يُبحث فيه أيضًا عن كيفية الاستدلال بهذه الأدلة أي: عند تعارضها واختلاف مقتضاها، ونحو ذلك كتقديم السماع على القياس؛ إذ لا بد من قبول المسموع، ثم لا يُقاس عليه غيره كـ ﴿اسْتَحْوَذَ﴾ في قوله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ (المجادلة: ١٩) فالقياس في مثله أن تُنقل حركة الواو إلى الحرف الساكن الصحيح قبلها وهو الحاء هنا، ثم تُقلب الواو ألفا لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها بعد نقل حركتها إليه، ولكن قُدِّم المسموع على هذا القياس في خصوص ما سُمع، ثم لا يُقاس عليه غيره؛ فحكم ما سُمع عن العرب مخالفًا لأقيسة العلماء تقديم المسموع على المقيس، اللهم إلا لمانع من ذلك التقديم، كإجماعهم على إهدار ذلك المسموع لضعفه، كقول العرب: "خرق الثوب المسمار" برفع المفعول ونصب الفاعل.
ومن أمثلة كيفية الاستدلال التي أوردها السيوطي: تقديم ما كثر استعماله على ما قوي قياسه، كتقديم اللغة الحجازية على اللغة التميمية، إلا لمانع من فقدِ شرط من شروط الإعمال، أو أكثر؛ لأن الحجازية أكثر استعمالًا، ولذا نزل بها القرآن الكريم، وإن كانت التميمية أقوى قياسًا، وكتقديم أقوى العلتين على أضعفهما، فإذا تعارض قياسان مثلًا أُخذ بأرجحهما، وهو ما وافق دليلًا آخر من سماع أو قياس، كقول الكوفيين إن "إنَّ" تنصب المبتدأ فقط؛ لشبهها بالفعل، أما الخبر فمرفوع بما كان مرفوعًا به قبل دخولها؛ لضعف الحرف عن القيام بعملين، وقول البصريين: إنها تنصب الاسم وترفع الخبر؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الاسم النصب إلا وهو يعمل في الخبر الرفع، فما ذهبتم إليه أيُّها الكوفيون يؤدّي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة.
وكتقديم أخف الأقبحين على أشدهما قبحًا، وذلك إذا قلت مثلًا: فيها قائمًا رجل. لما كنت بين أن ترفع قائمًا، فتقدم الصفة على الموصوف، وهذا لا يكون
1 / 12
بحال، وبين أن تنصبه حالًا من النكرة التي لا مسوّغ لها وهو خلاف القياس، ولكنه سُمع في لغة ضعيفة حكاها سيبويه في (الكتاب)، فالحمل على هذه اللغة الضعيفة أولى إلى غير ذلك.
وقد اشتملت كتاب السيوطي (الاقتراح) بعد المقدمات على سبعة كتب، ويعني بها السيوطي: الأبواب أو الفصول، وعقد مبحثًا خاصًّا في التعارض والترجيح تضمَّن ست عشرة مسألة، تناول فيها كيفية الاستدلال بأدلة النحو عند تعارضها، وذلك في الكتاب السادس من هذه الكتب السبعة التي ضمها كتابه، ولذلك قال: "وهذا المعقود له الكتاب السادس"، وقوله في الحد: "وحال المستدل معطوف على ما قبله "، وهذا هو الأمر الثالث من الأمور التي يتناولها موضوع علم أصول النحو.
فهذا العلم يُبحث فيه كذلك عن حال المستدل -أي: المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة، أي: يبحث فيه عن صفاته وشروطه، وما يتبع ذلك من صفة المقلد والسائل قال: "وهذا هو الموضوع له الكتاب السابع" والكتاب السابع آخر مباحث كتاب (الاقتراح)، وقد ضمَّ أربع مسائل.
أما الأدلة غير الغالبة كالاستقراء والاستحسان، وعدم النظير، وعدم الدليل، فكان الكثير منها موضوع الكتاب الخامس، ولذلك قال بعد ذكره: أنه عقد أربعة الأبواب الأولى للحديث عن الأدلة الغالبة الأربعة، قال: "ودونها الاستقراء والاستحسان، وعدم النظير، وعدم الدليل المعقود لها الكتاب الخامس "، فائدة علم أصول النحو قال السيوطي نقلًا عن كتاب (لمع الأدلة) لأبي البركات الأنباري: "وفائدته -أي: فائدة علم أصول النحو- التعويل في إثبات الحكم على الحجة والتعليل، والارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على
1 / 13
الدليل، فإن المُخْلِد إلى التقليد لا يعرف وجه الخطأ من الصواب، ولا ينفك في أكثر الأمر عن عوارض الشك والارتياب" انتهى.
ومعنى ما قاله أبو البركات الأنباري: أن دراسة أصول النحو والوقوف على أدلة الاحتجاج تُعِين الدارس على إثبات الأحكام الموثقة بالحجة البينة، والدليل المعتمد؛ فيكون حكمه أبعد ما يكون عن عوارض الشك والارتياب، في حين أن من يعجز عن الوصول إلى الدليل والنظر، ويركن إلى التقليد من غير تحقيق أو تدقيق، أو إعمال فكر، أو إدارة بصر لا يعرف وجه الخطأ من وجه الصواب، ولا تخلص معلوماته عن شوائب الشك والارتياب.
حدود النحو
ذكر السيوطي أن للنحو حدودًا شتَّى يريد أن حدود النحو كثيرة مبثوثة متفرقة في بطون الكتب، واختار من بين هذه الحدود ستة حدود لستة علماء من ستة مؤلفات؛ موضحًا أن أليقها بكتابه -أي: أحسنها، وألصقها، وأقربها إلى تحقيق الغرض من تأليف كتابه- هو قول ابن جني في (الخصائص): "هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب، وغيره كالتثنية والجمع، والتحقير، والتكثير، والإضافة، وغير ذلك؛ ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، وأصلها -يعني: النحو- مصدر نحوت بمعنى قصدت، ثم خُصَّ به انتحاء هذا القبيل من العلم، كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت بمعنى فهمت، ثم خُصَّ به علم الشريعة" انتهى.
ونلحظ أن السيوطي قد تصرف في النقل عن ابن جني تصرفًا يسيرًا بالإيجاز غير المخل؛ خشية الإطالة على القارئ، ورغبة في الوفاء بما ذكره في مقدمة
1 / 14
(الاقتراح)؛ حيث قال: "واعلم أني قد استمديت -أي: استمدت بمعنى طلبت المدد والمعونة، فأصله بدالين ثم خُفف بإبدال الثانية ياء لكراهية التضعيف، وهذا الإبدال غير مطرد- هذا الكتاب كثيرًا من (الخصائص) لابن جني، فإنه وضعه في هذا المعنى وسماه (أصول النحو)، لكن أكثره خارج عن هذا المعنى، ثم قال: فلخصت منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى بأوجز عبارة، وأرشقها، وأوضحها معزوًا إليه" انتهى.
وهذا النص قد تضمن معنى النحو بأوجز عبارة وأفصح بيان، وأوضح أن النحو هو الاتجاه صوب كلام العرب، والميل جهة طرائقهم في تصرفه من إعراب وتصريف، أي: في تصرف الكلام العربي من وجه إلى آخر؛ سواء كان ذلك في التراكيب أو المفردات، وقال معللًا انتحاء سمت كلام العرب: ليلحق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة، وابن جني يُريد بالفصاحة هنا ما يشمل سلامة المفردات من مخالفة الاستعمال، أو القياس، أو هما معًا، وسلامة التراكيب من الوقوع في اللحن.
وقد ذكر شراح (الاقتراح) أن السيوطي في اختصاره كلام ابن جني حذف منه مواضع لا تخلو عن فائدة في الجملة، ولذلك نذكر كامل العبارة لإتمام النفع وإكمال الفائدة، قال ابن جني -رحمه الله تعالى- في (الخصائص): "باب القول على النحو هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع، والتحقير، والتكثير، والإضافة، والنسب، والتراكيب، وغير ذلك؛ ليلحق من ليس من أهل العرب بأهلها في الفصاحة، فينطق بها، وإن لم يكن منهم، وإن شذَّ بعضهم عنها رُدَّ به إليها، وهو في الأصل مصدر شائع -أي: نحوت نحوًا كقولك: قصد قصدًا، ثم خُصَّ به انتحاء هذا القبيل من العلم، كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت الشيء أي: عرفته، ثم خُصَّ به علم الشريعة
1 / 15
من التحليل، والتحريم، وكما أن بيت الله خُصَّ به الكعبة، وإن كانت البيوت كلها لله، وله نظائر في قصر ما كان شائعًا في جنسه على أحد أنواعه، وقد استعملته العرب ظرفًا وأصله المصدر" انتهى.
وولي تعريف ابن جني للنحو في كتاب (الاقتراح) تعريف صاحب (المستوفى)، وهو أبو سعيد الفرخان أو الفرُّخان بالفاء المفتوحة والخاء المعجمة بينهما راء ساكنة أو مضمومة مشددة، والضبط الأول هو الأصح واسمه علي بن مسعود بن محمود بن الحكيم القاضي جمال الدين، المتوفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من الهجرة قال في كتابه المذكور: "النحو صناعة علمية ينظر لها أصحابها في ألفاظ العرب من جهة ما يتألَّف بحسب استعمالهم؛ لتُعرف النسبة بين صيغة النظم، وصورة المعنى، فيتوصل بإحداهما إلى الأخرى" انتهى.
ونحن نلحظ أن ابن جني قد حدَّ النحو بمفهومه القديم الشامل للنحو والصرف معًا، باعتبار الصرف قسمًا من النحو فحدَّه بما يتناول أحكام المفردات والتراكيب.
أما صاحب (المستوفى) فقد حدَّه مقصورًا على ما يتألفه -أي: يتركب منه الكلام- ولا أدلَّ على ذلك من قوله في كتابه (المستوفى) عند حديثه عن فضيلة النحو: "وأما مرتبة هذا العلم من العلوم المناسبة له فبعد اللغة والتصريف، وقبل الكلام والفقه ... " إلى قوله: "فهو فوق ما قبله، ودون كثير مما بعده" انتهى.
ففرَّق بينه وبين التصريف، ولكنه أشار في التعريف إلى مراعاة الارتباط فيه بين الألفاظ والمعاني؛ فالنحو عنده مراعاة ما تقتضيه ظاهر الصناعة، ومراعاة ما تتطلبه المعاني معًا لما بينهما من كمال الارتباط.
أما الحد الثالث للنحو الذي أورده السيوطي في (الاقتراح) فقد نقله عن محمد بن يحيى بن هشام الأنصاري الخزرجي الأندلسي، المعروف بالخضراوي نسبة إلى
1 / 16
الجزيرة الخضراء المتوفى سنة ست وأربعين وستمائة من الهجرة قال: "النحو علم بأقيسة تغيير ذوات الكلم، وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب" انتهى.
والأقيسة هي القواعد -أي: القوانين- وقد شمل تعريفه النحو بأقيسة تغيير ذوات الكلم أي: المفردات؛ كالتثنية، والجمع، والتصغير، وسائر المباحث الصرفية، وأيضًا شمل تغيير أواخر الكلم أي: التراكيب؛ فالصرف عنده إذن قسم من النحو، فهو متابع في هذا لابن جني. وقد اتهم بأن في تعريفه هذا ركاكة غير خافية، وبخاصة قوله: "إلى لغة لسان العرب" فقيل: لو حذف كلمة "لسان" لكان أولى.
أما الحد الرابع للنحو الذي أورده السيوطي فقد نقله عن ابن عصفور الأندلسي المتوفى سنة تسع وستين وستمائة من الهجرة قال: "النحو علم يُستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها" انتهى.
وتعبيره بالفعل المضارع "يستخرج" أبلغ من التعبير باسم المفعول "مستخرج"، لما في الفعل المضارع من الدلالة على الدوام والاستمرار، كما أن التعبير بالجمع الأقصى "مقاييس" أبلغ من تعبير الخضراوي بصيغة جمع القلة "أقيسة"؛ إذ القواعد النحوية لا تكاد تُحصى لكثرتها، فجمع الكثرة إذًا أولى بها من جمع القلة. والمراد بمعرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها ما يشمل الأحكام التصريفية والأحكام النحوية. ولم يَسْلَم هذا التعريف أيضًا من النقد؛ فقد اعترضه أحمد بن محمد الإشبيلي المشهور بابن الحاج المتوفى سنة سبع وأربعين وستمائة من الهجرة اعترضه من وجهين:
1 / 17
أحدهما: أن بيان ما يُستخرج منه النحو ليس بيانًا لحقيقة النحو.
والآخر: أن كلامه يقتضي أن المقاييس شيء غير النحو مع أن علم مقاييس كلام العرب هو النحو.
وقد رُدَّ عليه بأن قول ابن عصفور: "علم يستخرج بالمقاييس ... " إلى آخره مراده به إدراك حاصل من القواعد الحاصلة من المقاييس المستنبطة من الاستقراء، أي: من تتبع كلام العرب، وهو تبيينٌ لحقيقة النحو، لا تبيين لما منه استخراجه، ويُعلم بهذا أن علم مقاييس كلام العرب هو النحو، فيسقط النقد بوجهيه.
أما الحد الخامس للنحو فقد نقله السيوطي عن صاحب كتاب (البديع)، وهو محمد بن مسعود الغزني المتوفى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة من الهجرة، قال: "النحو صناعة علمية يُعرف بها أحوال كلام العربي من جهة ما يصح ويفسد في التأليف؛ ليعرف الصحيح من الفاسد وبهذا يعلم أن المراد بالعلم المصدر به حدود العلوم الصناعة، ويندفع الإيراد الأخير على كلام ابن عصفور" انتهى.
وبهذا الحد يتفق صاحب (البديع) مع صاحب (المستوفى) فقد عرف كلاهما النحو بأنه صناعة نحوية، أي: ملكة حاصلة بالتمرّن والدُّربة، وأشار صاحب (البديع) إلى أنه بتعريف النحو بأنه صناعة نحوية يندفع ما أورد على تعريف ابن عصفور السابق الذي لم يشر في صدارته إلى أن النحو صناعة، من أنه يقتضي فقد العلم عند فقد العالم بما ذكر، وليس كذلك لثبوته؛ لأنه قواعد مقررة، وأقيسة محررة سواء وجد العالم بها أم لم يوجد. كما أشار إلى ذلك السيوطي عند تعريفه أصول النحو.
1 / 18
أما الحد السادس للنحو فأورده السيوطي نقلًا عن الإمام أبي بكر محمد بن الثري البغدادي المعروف بابن السراج المتوفى سنة ثلاثمائة وستة عشرة من الهجرة قال في كتابه المسمى بـ (الأصول في النحو): "النحو علم استخرجه المتقدمون من استقراء كلام العرب" وقد قيل: إن هذا التعريف تقريبي؛ لأنه يصدق على علوم الأدب كلها، فإن هذا شأن كل منها، ولم يشر السيوطي إلى فائدة علم النحو كما أشار إلى فائدة علم أصول النحو؛ لأن كتابه (الاقتراح) ليس موضوعه النحو، وإنما موضوعه أصول النحو.
كما أن الحديث عن فائدة علم النحو حديث يحتاج إلى الإسهاب والإطناب، ولا تغني فيه الإشارة عن المقالة، ولكن الأمر كما يقول المثل العربي: حسبك من القلالة من أحاط بالعنق. ويكفي أن نطلع على ما ذكره المؤرخون لنشأة علوم اللغة العربية، وفي مقدمتها علم النحو، وكيف كانت الملكة اللسانية عند العرب من أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد والقدرة على الوصول إلى أجلّ المعاني، وأكثرها بأوجز الألفاظ وأقلها، وهذا هو معنى قول الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الأطهار-: «أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا»، ولكن لما اختلط العرب بالعجم، تغيَّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين، والسمع أبو الملكات اللسانية -كما قال ابن خلدون- ففسد بما ألقي إليها مما يُغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع، وخشي العلماء أن تفسد تلك الملكة رأسًا، ويطول العهد بها فينغلق فهم الكتاب والسنة، ولا يسلما من عادية اللحن والتحريف، وهما موئل الدين وذخيرة المسلمين فبادر الغيور على دين الله إلى تأليف تلك القواعد والقوانين في ضوء أدلة علم أصول النحو، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو.
1 / 19
حدُّ اللغة
أما المعنى المعجمي لكلمة لغة، وتصريفها، ومعرفة حروفها؛ فإنها فعلة من لغوت أي: تكلمت، ومن المعاني التي دارت حولها مادة اللام والغين والواو، في كلام العرب: الخطأ، والباطل، والفحش في القول، والنطق، والتلفظ، والتكلم، يقال: لغى الرجل في القول يلغى، كسعى يسعى، ولغى يلغو لغوًا: تكلم باللغو، وهو أخلاط الكلام، ولغي يلغى كرضي يرضى لغًا وملغاة: أخطأ وقال باطلًا، واللاغية: الفاحشة، ولغي بالأمر يلغى من باب رضي أيضًا: لهج به، ويقال: إن اشتقاق اللغة من ذلك، وحذفت اللام وعُوّض منها التاء، وأصلها لغوة كغرفة؛ فلامها واو، قال ابن جني: "وأصلها لغوة ككرة وقلة وثبة، كلها لاماتها واوات لقولهم كروت بالكرة، وقلوت بالقلة، ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب" انتهى.
وقول ابن جني: "وأصلها لغوة ككرة ... " إلى آخره، يريد أنها كانت في الأصل لغوة، أي: قبل الإعلال والتعويض، ثم نقلت حركة الواو إلى الساكن الصحيح قبلها، وهو حرف الغين؛ فبقيت الواو ساكنة فحذفت وعوض منها التاء كما مر، والكرة معروفة، والقلة هي الخشبة الصغيرة تُنصب ليلعب بها الصبيان، والثبة الجماعة من الناس وغيرهم.
وأما في الاصطلاح فقد حدها ابن جني "بأنها أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم"، ومعنى ما قاله ابن جني ﵀ أن اللغة هي وسيلة التعبير والتفاهم بين أعضاء المجتمع الواحد، ولقد أخذ ابن خلدون هذا المعنى؛ فذكر في (المقدمة) في الفصل السادس الذي عقده في علوم اللسان العربي الأربعة: اللغة، والنحو، والبيان، والأدب، ذكر: "أن اللغة هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعلٌ لساني، فلا بد أن تصير ملكة متقرّرة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم" انتهى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 / 20
الدرس: ٢ اللغة: وضع أم اصطلاح؟ ومناسبة الألفاظ للمعاني
1 / 21
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(اللغة: وضع أم اصطلاح؟ ومناسبة الألفاظ للمعاني)
اختلاف العلماء في وضع اللغة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فنتعرف فيه على إجابة هذا السؤال:
اللغة: أهي من وضع الله تعالى أم من وضع البشر وعلى مناسبة الألفاظ للمعاني، وعلى الدلالات النحوية؟
اختلف العلماء اختلافًا طويلًا في بيان واضع اللغة، وقد عقد ابن جني بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب القول على أصل اللغة، أإلهام هي أم اصطلاح؟ وقال في صدارة هذا الباب، "هذا موضع مُحوج إلى فضل تأمّل" وهي عبارة توحي بأنه موضوع دقيق يحتاج إلى شدَّة معاناة، وإمعان نظر؛ ولذلك اختلف العلماء قديمًا وحديثًا فيه، وتنوعت آراؤهم، وتعددت مذاهبهم، ومع ذلك -كما قيل- لم يصل في بحثهم إلى نتائج يقينية، بل كان جُلّ آرائهم يصطبغ بالصبغة الشخصية ولم يتجاوز مرحلة الظن والحدس والتخمين، ونسوق هنا أشهر هذه المذاهب في ضوء ما أورده السيوطي منها:
المذهب الأول: مذهب الوحي والإلهام، أو هو مذهب التوقيف، وهو أن اللغة بوضع الله ﵎ علمها الله تعالى نبيه آدم ﵇ ووقَّف عليها عباده، وهذا المذهب منسوب إلى الأشعري، وهو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق المتوفى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة من الهجرة، وقد اختار هذا المذهب جماعة من العلماء، منهم: أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي المعروف المتوفى سنة خمس وتسعين وتسعمائة من الهجرة، وبسط القول في كتابه المسمى بـ (الصاحبي) في توضيح هذا الرأي، وبيان الأسباب التي دعته إلى اختياره، فذكر: "أن دليل ذلك قول الله -جل ثناؤه-: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: ٣١)
1 / 23
فكان ابن عباس ﵄ يقول: علمه الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة، وأرض، وسهل، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها"، وأجاب ابن فارس على ما قد يوجه إلى هذا المذهب من اعتراض مضمونه: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال الخالق ﵎: "ثم عرضهنَّ"، أو "ثم عرضها"، لكنه سبحانه قال: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ (البقرة: ٣١) فمنطوق الآية يدل على أن المعروض عليهم جماعة العقلاء، أي: أعيان بني آدم أو الملائكة؛ لأن موضوع الضمير في كلام العرب أن يقال لمن يعقل: عرضهم، ولما لا يعقل: عرضها أو عرضهنّ.
وقد أجاب ابن فارس بأن ما ورد في الآية الكريمة جاء مطابقًا لسنّة من سنن العرب في كلامهم؛ فمن سنن كلامهم ما يُعرف بالتغليب، فهم يغلّبون على الشيء ما لغيره لاختلاط بين الشيئين، فإذا اختلط جمع ما لا يعقل بجمع من يعقل غُلّب جمع من يعقل كقول الله ﵎: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (النور: ٤٥) فقال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ﴾ تغليبًا لمن يمشي على رجلين، وهم بنو آدم، وأشار ابن فارس إلى أنه ليس معنى أن اللغة توقيفية أنها جملة واحدة في زمان واحد، بل وقف الله ﷿ آدم ﵇ على ما شاء أن يُعلّمه إيَّاه في زمانه، ثم علَّم بعده من عرب الأنبياء -صلوات الله عليهم- نبيًّا نبيًّا ما شاء أن يعلمه، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فآتاه الله ما لم يؤتِه أحدٌ قبله، ثم قر الأمر قراره، فلا نعلم لغةً حدثت بعده. وقال السيوطي: "ومال إلى هذا القول ابن جني، ونقله عن شيخه أبي علي الفارسي وهما من المعتزلة".
والمذهب الثاني: أنها اصطلاحية وضعها البشر، وهو مذهب أبي هاشم الجبائي المعتزلي المتوفى ببغداد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة، ثم اختلف
1 / 24
أصحاب هذا المذهب فيمن وضع اللغة من البشر على ثلاثة آراء، فقيل: وضعها آدم ﵇ وقد ذكر ابن جني أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة، إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف، وعندما قال له شيخه أبو علي الفارسي يومًا: هي من عند الله، واحتج بآية البقرة السابقة: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: ٣١) ذكر ابن جني أن الآية الكريمة لا تقطع بكون اللغة توقيفية؛ إذ يجوز أن تؤوَّل على معنى أقدر الله آدم ﵇ على أن واضع عليها، وقيل: لعله كان يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومة، فوضعوا لكل واحد منها سمة ولفظًا؛ إذا ذُكر عُرف به مسماه، وامتاز به عن غيره، وأغنى ذكره عن إحضاره إلى مرآة العين؛ إذ ربما قد يُحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يُمكن إحضاره كالمعاني، وقيل: إن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدويّ الريح، وخرير الماء، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونهيق الحمار ... ونحو ذلك، ثم وُلدت اللغات عن ذلك فيما بعد. قال ابن جني: "وهذا عندي وجه صالح ومذهب مُتقبَّل".
والمذهب الثالث: الوقف -أي: لا يُدرى أهي من وضع الله ﵎ أم من وضع البشر، وهذا المذهب هو الذي اختاره ابن جني بعد طول تردُّد؛ لعدم وجود دليل قاطع على مذهب غيره من وجهة نظره، فالعقل يجوّز ذلك كله. ومن هنا ذكر السيوطي أن بعضهم زعم أنه لا فائدة لهذا الخلاف، قال السيوطي: "وليس كذلك بل ذُكر له فائدتان: الأولى فقهية، ولذا ذُكرت هذه المسألة في أصوله -يعني: في أصول الفقه- والأخرى نحوية، ولهذا ذكرتها في أصوله -يعني: في أصول النحو- تبعًا لابن جني في (الخصائص)، وهي جواز قلب اللغة، فإن قلنا: إنها اصطلاحية؛ جاز وإلا فلا".
1 / 25
أما الفائدة الفقهية التي أشار إليها السيوطي فهي المعروفة بمهر السّرّ والعلانية، وهي: إذا تزوج رجل امرأة بألف واصطلح على تسمية الألف بألفين، هل الواجب ألف لأنه مقتضى الاصطلاح اللغوي، أو ألفان نظرًا لهذا الوضع الحادث؟ اختلف في ذلك الفقهاء وصحَّحوا كلًّا من الاعتبارين.
وأما الفائدة النحوية فهي النظر في جواز قلب اللغة، فحُكي عن بعض القائلين بالتوقيف منع القلب مطلقًا؛ فلا يجوز تسمية الثوب فرسًا، والفرس ثوبًا، وعن القائلين بالاصطلاح تجويزه. وأما المتوقفون فاختلفوا، فذهب بعضهم إلى التجويز كمذهب قائل الاصطلاح، وبعضهم إلى المنع، وهذا كله فيما لا يؤدّي قلبه إلى فساد النظام، أو تغييره إلى اختلاط الأحكام، فإن أدَّى إلى ذلك فلا يختلف في تحريم قلبه.
مناسبة الألفاظ للمعاني
هدف السيوطي من إيراد هذه المسألة تالية لمسألة الحديث عن وضع اللغة، وواضعها أن يبيّن أن اللغة هي لفظ ومعنًى؛ فاللفظ إطار المعنى، أو هو الصورة التي تُعبّر عن المضمون، فينبغي أن تكون هناك مناسبة بين الألفاظ ومدلولاتها، وقد نقل أهل أصول الفقه عن عباد بن سليمان الصيمري، وهو من المعتزلة أنه ذهب إلى أنه بين اللفظ ومدلوله مناسبة بالطبع، أي: طبيعية حاملة للواضع على أن يضع، قال: "وإلا لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحًا من غير مُرجح"، وأنكر الجمهور هذه المقالة وقال: "لو ثبت ما قاله لاهتدى كل إنسان إلى كل لغة، ولما صح وضع اللفظ للضدّين كـ"القرء" للحيض والطهر، و"الجون" للأبيض والأسود"، وأجابوا عن دليل عباد بأن التخصيص بإرادة الواضع
1 / 26
المختار؛ خصوصًا إذا قلنا: إن الواضع هو الله ﵎، فإن ذلك كتخصيصه وجود العالم بوقت دون وقت. وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يجمعون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، لكنهم يُخالفون عبَّادًا بأنهم لا يرونها ذاتية دالة بالطبع أو طَبَعِية كما قال، وعلى سبيل الوجوب كما يراها.
وقد ذكر السيوطي المناسبة بين الألفاظ والمعاني نقلًا عن ابن جني الذي عقد لها في كتابه القيم (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني وملخص هذا الباب: أن الواضع الحكيم قد وضع الحرف القوي للمعنى القوي، والحرف الضعيف للمعنى الضعيف، وقد صدره ابن جني بقوله: "اعلم أن هذا موضع شريف لطيف، وقد نبَّه عليه الخليل وسيبويه، وتلقته الجماعة بالقبول له، والاعتراف بصحته"، ثم أورد أمثلة كثيرة توضح قوة المناسبة بين اللفظ ومعناه، ومن هذه الأمثلة قول الخليل: كأن العرب توهَّموا في صوت الجُندب استطالة ومدًّا، فقالوا: سرّا، وتوهّموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر" انتهى.
والجُندُب أو الجُندَب -بضم الجيم وضم الدال أو فتحها، بينهما نون ساكنة-: هو نوع من الجراد أو طائر يقع في النار، ويقال: صر الجندب يصرّ صريرًا أي: صوّت، وفي المثل العربي: يا جندب ما يصرك -أي: ما يحملك على الصرير- قال: أخاف من حرِّ غدٍ. يُضرب هذا المثل لمن يخاف ما لم يقع بعد. والبازي أو الباز: نوع من الصقور التي يصطاد بها، ويقال: صرصر البازي صرصرة، وقال الشاعر:
إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ ... ...........................
وكأنهم تخيَّلوا في صوت الجندب المدَّ، وفي صوت البازي الترجيع؛ فحكوهما على ذلك، وفي (الخصائص): "وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على
1 / 27
الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة نحو: النقذان، والغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال. قال ابن جني: ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حدَّاه، ومنهاج ما مثَّلاه، وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضاعفة تأتي للتكرير نحو: الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والصعصعة، والجرجرة، والقرقرة، ووجدت أيضًا الفعلى في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو: البَشَكى، والجَمَذى، والوَلَق" انتهى.
فابن جني يفتتح هذا الباب بإيراد ما يدْعَم به مسألة المناسبة بين الألفاظ والمعاني من الأمثلة الدالة على ذلك مما نقله عن شَيْخَي البصرة الخليل وسيبويه، وقد شرحنا ما نقله عن الخليل. أما ما نقله عن سيبويه فكعادته نراه قد تصرَّف فيه، ولقد سبق شيخنا التعلامة الشيخ محمد علي النجار، محقق (الخصائص) طيَّب الله ثراه حين قال: "ويبدو أنه -أي: ابن جني- قد يعتمد في النقل على حفظه فينال نقله بعض التغيير" انتهى.
وعبارة سيبويه في (الكتاب) وليس ابن جني منها ببعيد، سوى في بعض الأمثلة التي لم ترد في نص الكتاب، وتفسير ما جاء في (الخصائص) من أمثلة: أما النقذان فمصدر قولك: نقذ الظبي وغيره في عدْوِه نقذًا ونقذانًا، أو وثب صُعُدا وقفز، والغليان مصدر: غلت القدر وغيرها غليًا وغليانًا، والغثيان مصدر: غثت النفس غثيًا وغثيانًا اضطربت وتهيأت للقيء، ونص سيبويه من (الكتاب) قال: "ومن المصادر التي جاءت على مثال واحد حين تقاربت المعاني قولك النزوان، والنقذان، وإنما هذه الأشياء في زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع، ومثله العسلان والرتكان" انتهى.
1 / 28