فتنه کبری (بړخ لومړی): عثمان
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
ژانرونه
فلم يكن بد للخليفة إذن من أن يجمع إلى كفايته في أمور السياسة والإدارة والحرب كفاية أخرى هي أشق منها مشقة وأعسر منها عسرا، وهي الكفاية في حماية الدين وحياطته وصيانته من أن يكيد له المغلوب أو يستغله الغالب أو يفتر فيه القائمون عليه الذين يجب عليهم ألا يخشوا في حياطته لومة لائم مهما يكن.
أضف إلى هذا كله تراثا آخر لم يكن بد لعمر من أن يفكر فيه ومن أن يلائم بينه وبين مصالح الناس وحقائق الدين، وهو هذه الأرستقراطية الجديدة التي أتيحت للعرب في هذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي أولا، وفي هؤلاء القواد المظفرين ثانيا: أرستقراطية جاءت من الدين لفريق من الناس، وأرستقراطية جاءت من الدنيا لفريق آخر، وأرستقراطية جاءت من الدين والدنيا جميعا لفريق ثالث.
هذا الصحابي الذي سبق إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد المشاهد مع النبي، ثم أقام بعد ذلك في المدينة، له أرستقراطيته الدينية. وهذا القرشي أو العربي الذي أسلم بأخرة ثم أبلى في الفتح بلاء حسنا وامتاز بين الفاتحين، له أرستقراطيته الدنيوية. وهذا الصحابي الذي سبق إلى الإسلام وهاجر لله ولرسوله وشهد المشاهد مع النبي وامتاز بعد ذلك في الفتح، له أرستقراطية الدين والدنيا جميعا. ولا بد للخليفة إن أراد أن يعهد ويستخلف من أن يلائم بين هذه المصالح المختلفة، ويخرج من هذه المشكلات المعضلات إلى حل يرضي مصالح الدين والدنيا وآراء الناس في أنفسهم وفي نظرائهم. فليس العجيب ألا يستخلف عمر، وليس العجيب أن يتردد حين يطلب إليه الاستخلاف؛ وإنما العجيب هو نقيض هذا، وقد اجتهد عمر ما وسعه الاجتهاد، واجتهد في أيام حرج وضيق، وأعجله الموت عن أن يطيل التفكير ويشاور من حوله من كبار الصحابة وزعماء المسلمين.
وما من شك في أن النظام الذي وضعه للشورى قد كان نظاما لا يخلو من نقص، ولعله لا يخلو من نقص شديد، وأول ما نلاحظه على هذا النظام ضيق مجلس الشورى؛ فقد ائتلف هذا المجلس من سبعة أحدهم يشير وليس له في الأمر شيء: وهو عبد الله بن عمر، فكان هو المشير الوحيد الذي لا مطمع له في شيء، ولم يكد المشيرون يجتمعون حتى تبينوا الآفة الخطيرة التي كانت توشك أن تذهب بمجلسهم غير مذهب، وهي أن ستة منهم كانوا مشيرين، وكانوا جميعا مرشحين للخلافة، فلم يكن لهم بد من أن يحملوا أنفسهم على ما لم تتعود النفوس أن تحمل عليه، لا لأنهم كانوا يؤثرون أنفسهم بالسلطان حبا للسلطان وحده، بل لأنهم كانوا يؤثرون أنفسهم بالسلطان نصحا للإسلام والمسلمين. يرى كل واحد منهم مخلصا أنه أقدر على احتمال العبء وأجدر أن يرعى ما ينبغي له من حق، وقد فوجئ المسلمون الذين كلفوا حراسة هؤلاء المشيرين مفاجأة أليمة حين رأوا هؤلاء المشيرين يختلفون في غير ائتلاف ، ويتنافسون في غير وفاق، حتى قال أبو طلحة رئيس الحرس: لقد كنت من أن تدافعوها أخوف مني من أن تنافسوها.
كان رحمه الله في سذاجته وطهارة قلبه يرى - كما كان يرى عمر - أن الخلافة عبء ثقيل ينبغي ألا يطمع فيه، بل ينبغي أن يرغب الرجل عنه إيثارا للعافية في دينه ودنياه، ولكن المشيرين لم يكونوا يرون هذا الرأي، وإنما كانوا يرون أن الخلافة واجب يجب أن يتنافس المتنافسون في النهوض بأعبائه مهما تثقل، تقربا لله إن حسنت بهم الظنون، ويجب أن تحسن بهم الظنون، ورفقا بالناس إن صدقت فيهم الآراء، ويجب أن تصدق فيهم الآراء. وكان أسرع المشيرين إلى التنبه لهذه الآفة ومحاولة الطب له، عبد الرحمن بن عوف؛ فقد عرض على أصحابه أن يخلع أحدهم نفسه من الأمر وأن يختار بعد ذلك للمسلمين، فأسكتوا جميعا، أو قل أسكت منهم أربعة، هم: علي وعثمان وسعد والزبير، ولم يسكت طلحة ولم يتكلم لأنه كان غائبا لم يحضر الشورى، فلما رأى عبد الرحمن أنهم قد أسكتوا، وأنهم لا تطيب نفس واحد منهم عن هذا الأمر، خلع هو نفسه منه على أن يختار للمسلمين من هؤلاء الخمسة ناصحا لله وللمؤمنين. ولم يكن من اليسير أن يرضى الأربعة منه بما عرض عليهم؛ فقد كان علي يخاف أن يميل عبد الرحمن إلى عثمان لصهر كان بينهما، وكان غير علي يخاف أن يميل عبد الرحمن إلى سعد لقرابة كانت بينهما، ولكن القوم تعاطوا العهود والمواثيق على ألا يألو عبد الرحمن المسلمين نصحا، وعلى ألا يميل مع الهوى ولا يتأثر بقرابة أو صهر، وعلى أن يقبل القوم من يختاره لهم من بينهم.
ولو قد وسع عمر مجلس الشورى وأكثر فيه من أمثال عبد الله بن عمر من أولئك الذين يحضرون الشورى ويشاركون فيها ولا يكون لهم من الأمر شيء؛ لكان من الممكن ألا يتعرض مجلس الشورى لما تعرض له من الشك والاختلاف. وأكاد أعتقد أن الخير قد كان يكون لو تصور عمر مجلس الشورى لا على أنه مجلس مؤلف من المرشحين أيهم انتخب فهو خليفة، بل على أنه مجلس مؤلف من المشيرين الذين تعرض عليهم أسماء هؤلاء الستة ليختاروا من بينهم رجلا يستخلفونه. ولم يخطر لعمر رحمه الله ولم يخطر للمسلمين من بعده أن الأنصار كانوا خليقين أن يشهدوا الشورى، وأن يكون لهم أن يقولوا رأيهم ويشاركوا في الاختيار بين المرشحين، فقد نعلم أن الإمامة في قريش ما دام المسلمون قد اتفقوا على ذلك، ولكن لا نعلم أن معنى هذه القاعدة أن قريشا وحدها هي التي تختار الإمام، فليس الإمام إماما لقريش وحدها ولكنه إمام للمسلمين جميعا، فالمسلمون جميعا ولاة هذا الاختيار على أنهم مقيدون بأن يكون الإمام الذي يختارونه من قريش، وقد استقر في نفوس المسلمين لذلك العهد وبعد ذلك العهد أن الاختيار إنما يكون لأهل الحل والعقد، وما نعلم أن الحل والعقد قد كانا إلى قريش وحدها أيام أبي بكر وعمر، وقد قال أبو بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فجعلهم من أهل الحل والعقد؛ لأن الوزراء فيما نعتقد يحلون ويعقدون. كان من الطبيعي إذن أن يشهد الأنصار مجلس الشورى ويشاركوا في اختيار الإمام، بل كان من الطبيعي أن يأتلف مجلس الشورى من جماعة تتجاوز قريشا والأنصار وتشمل قوما غيرهم من زعماء العرب وقواد المسلمين في الحرب وكبار الولاة والعمال، فلو قد ائتلف مجلس الشورى على هذا النحو لكان خليقا أن يجنب المسلمين كثيرا مما تعرضوا له من الشر.
وآفة أخرى نراها في تنظيم الشورى على هذا النحو، وهي أن سلطان المشيرين كان سلطانا موقوتا حدد له عمر ثلاثة أيام وقبل المسلمون منه هذا التحديد، وكان من الطبيعي أن يختاروا من بينهم رجلا وأن يستخلفوه، وأن يبايعه من حضر من المسلمين، وأن يكتب ببيعته إلى الأمصار، أو بعبارة أدق: أن يكتب هو ببيعته إلى الأمصار وينفذ فيها أمره ونهيه بحق الخلافة التي استمدها من هؤلاء الذين بايعوه.
ومعنى هذا كله أن أهل المدينة كانوا وحدهم بمقتضى هذا النظام هم الذين إذا بايعوا ألزموا المسلمين في جميع أقطار الأرض، وعلة ذلك أن المدينة كانت مستقر أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار ومواطن أهل الحل والعقد، وعلة ذلك أيضا أن الانتظار الطويل في اختيار الإمام كان خليقا أن يثير القلق ويحدث الأحداث، ولكن ليس من شك في أن بعض أصحاب النبي من أولي الرأي والبصيرة كانوا قد تفرقوا في الأمصار ومواطن الحرب بأمر عمر أو عن إذنه، وكانوا خليقين لو استشيروا أن يشيروا وينصحوا.
على أن الخطر كل الخطر لا يأتي من هذه العجلة التي قد تدعو إليها المصلحة، وما نشك في أن عمر قد قدر هذه المصلحة فأحسن تقديرها، وإنما يأتي الخطر من أن هذا المجلس قد كان موقوتا ينحل متى تم اختيار الإمام، ولو قد وسع مجلس الشورى أولا وجعل نظاما دائما بعد ذلك، بحيث يصبح مجلس مراقبة للإمام في عمله من جهة، ومجلس اختيار للأئمة كلما احتاج المسلمون إلى اختيار الإمام من جهة أخرى، لكان المسلمون قد سبقوا إلى النظام البرلماني، وهم كانوا خليقين أن يسبقوا إليه، فقد رأيت من سيرة عمر أنه كان يسعى إلى هذا النظام سعيا حثيثا. ولكني أعيد ما قلته آنفا من أن عمر قد أعجل عن التفكير في هذا النظام، ولو قد مدت له الحياة لكان من الممكن جدا أن يفرغ لهذا الأمر وأن يشاور فيه، وأن ينتهي إلى نظام يشبه هذا الذي صورناه. إذن لما حدثت الأحداث، ولما نشأت هذه المشكلة الخطيرة التي نشأت بين عثمان وبين الذين ثاروا به وخرجوا عليه، وهي: أيجوز للمسلمين أن يخلعوا إمامهم إن أنكروا سيرته أم لا يجوز؟ بل أيجوز للإمام نفسه أن يخلع نفسه إن ضاقت به الرعية أم لا يجوز؟
ومهما يكن من شيء فقد جعل المشيرون أمرهم إلى عبد الرحمن ثم تفرقوا فأقاموا في بيوتهم، وجعل صهيب يصلي بالناس كما أمر بذلك عمر، وقام أبو طلحة وأصحابه على باب عبد الرحمن ينتظرون به انتهاء الأيام الثلاثة ليختار للمسلمين إماما. وقيل: إن عبد الرحمن لم يكتف بتفكيره وتقديره واستخارته الله للمسلمين ، وإنما جعل يشاور الناس يسعى إليهم ويدعوهم إليه، لا يستشير الرجال منهم خاصة، وإنما يستشير ذوات الفضل من النساء وفي طليعتهن أمهات المؤمنين، حتى إذا كان يستوفي الأيام الثلاثة أرسل إلى علي وعثمان فدعاهما إليه وخلا بهما واحدا في إثر صاحبه، وسأل عليا قائلا: أرأيتك لو لم أولك فمن تشير علي أن أختار؟ فقال له: عثمان. ثم ألقى السؤال نفسه على عثمان حين خلا به فقال: علي. وإن كان هذا موضع شك، فلم يشهد أحد ما كان من الحديث بين عبد الرحمن وصاحبيه، وعلى كل حال فقد خلا عبد الرحمن إلى صاحبيه أحدهما في إثر الآخر، ثم أمر فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فازدحم الناس إلى المسجد حتى اكتظ بهم، وصعد عبد الرحمن إلى منبر النبي وجلس منه حيث كان النبي نفسه يجلس، وكان أبو بكر قد نزل عن مجلس النبي درجة، وكان عمر قد نزل عن مجلس أبي بكر درجة أخرى، فلما استخلف عثمان قال: إن هذا يطول، ثم جلس مجلس النبي.
ناپیژندل شوی مخ