فتنه کبری (بړخ لومړی): عثمان
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
ژانرونه
إنا فتحنا لك فتحا مبينا
إلى آخر الآية.
ولو أردنا أن نستقصي المواطن التي شاور فيها النبي أصحابه لطال بنا الحديث إلى أبعد مما نريد. ولكن في هذه الأحداث اليسيرة التي رويناها ما يكفي لإثبات أن الحكم في أيام النبي لم يكن يتنزل من السماء في جملته وتفصيله، وإنما الوحي كان يوجه النبي وأصحابه إلى مصالحهم العامة والخاصة دون أن يحول بينهم وبين هذه الحرية التي تتيح لهم أن يدبروا أمرهم على ما يحبون في حدود الحق والخير والعدل. وربما كان من أصدق الأدلة وأقطعها على ما نذهب إليه أن القرآن لم ينظم أمور السياسة تنظيما مجملا أو مفصلا، وإنما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ورسم لهم حدودا عامة، ثم ترك لهم تدبير أمورهم كما يحبون على ألا يتعدوا هذه الحدود، وأن النبي نفسه لم يرسم بسنته نظاما معينا للحكم ولا للسياسة، ولم يستخلف على المسلمين أحدا من أصحابه بعهد مكتوب أو غير مكتوب حين ثقل عليه المرض، وإنما أمر أبا بكر فصلى بالناس، وقال المسلمون بعد ذلك: رضيه رسول الله لأمور ديننا فما يمنعنا أن نرضاه لأمور دنيانا؟! ولو قد كان للمسلمين نظام سياسي منزل من السماء لرسمه القرآن أو لبين النبي حدوده وأصوله، ولفرض على المسلمين الإيمان به والإذعان له في غير مجادلة ولا مناضلة ولا مماراة.
وأخرى تدل على أن نظام الحكم في أيام النبي وصاحبيه لم يكن إلهيا منزلا من السماء، وهي البيعة التي سنها رسول الله للمسلمين حتى في أيامه هو، والناس جميعا يعلمون أنه استنفر أصحابه لوقعة بدر ولم يأمرهم بها أمرا، وإنما دعاهم إليها ورغبهم فيها ووعدهم بأمر الله إحدى الحسنيين، وكان العهد بينه وبين الأنصار ألا يخرجهم لقتال، وأن يدافعوا عنه إذا تعرض للأذى، فلما كانت غزوة بدر شاور أصحابه وانتظر أن يدلوا إليه بآرائهم، ولم يمض بهم إلى القتال حتى قال له زعماء الأنصار: لو سلكت بنا هذا البحر لاتبعناك، فعرف أنهم يرضون أن يخرجوا معه للقتال. والناس جميعا يعلمون أنه لم يأمر أصحابه بقتال قريش حين بلغه أنها مكرت بعثمان يوم الحديبية، وإنما ندبهم لذلك فبايعوه على الموت، ولو قد شاء أحدهم ألا يبايع لكان له مخرج، ولكنهم بايعوه جميعا؛ لأنهم كانوا يؤمنون به وبالله الذي أرسله ويستجيبون إذا دعاهم. وقد أنزل الله في هذه البيعة من سورة الفتح:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم . وفي القرآن آيات كثيرة ترغب المؤمنين في الجهاد وتدعوهم إليه، وتذكر الذين تخلفوا عن الجهاد فعذرهم الله ورسوله، والذين تخلفوا وتكلفوا الأعذار فلم يقبل منهم، ولكن النبي مع ذلك لم يعاقبهم ولم يعرض لهم بما يكرهون، وإنما ترك أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء تاب عليهم.
وليس أقل من هذا خطرا أن أمر الخلافة كله قام على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقدا بين الحاكمين والمحكومين، يعطي الخلفاء على أنفسهم العهد أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل، وأن يرعوا مصالحهم، وأن يسيروا فيهم سيرة النبي ما وسعهم ذلك، ويعطي المسلمون على أنفسهم العهد أن يسمعوا ويطيعوا وأن ينصحوا ويعينوا.
وما من شك في أن خليفة من خلفاء المسلمين ما كان ليفرض نفسه وسلطانه عليهم فرضا، إلا أن يعطيهم عهده ويأخذ منهم عهدهم، ثم يمضي فيهم الحكم بمقتضى هذا العقد المتبادل بينه وبينهم. ومن أجل ذلك لم يورث السلطان عن النبي وراثة؛ لم يرثه عنه أهل بيته، ولم يرثه عنه أبو بكر نفسه، وإنما تلقى هذا السلطان من الجماعة التي بايعته به وائتمنته عليه، ثم لم يرث أبناء أبي بكر عنه الخلافة، ولم يرثها عنه عمر نفسه، وما كان استخلاف أبي بكر لعمر إلا مشورة على المسلمين، وآية ذلك أن عهد أبي بكر لم ينفذ ولم يصبح عمر خليفة إلا بعد أن بايعه المسلمون رضا برأي أبي بكر وقبولا لمشورته، وآية ذلك أيضا أن عثمان خرج بعهد أبي بكر إلى الناس مختوما وأبو بكر لم يمت بعد، فقال لهم: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا: نعم؛ لأنهم كانوا يثقون بأبي بكر ويرضون رأيه ويرون أنه لهم ناصح وبهم رءوف. ولم يرث أبناء عمر عنه الخلافة، وكره عمر أن تكون الخلافة بعده في أحد من ولده، وأشرك ابنه عبد الله في الشورى على ألا يكون له في الأمر شيء، ومن أجل ذلك أيضا سخط عامة المسلمين على توريث السلطان في أيام معاوية، وقال قائلهم: إنه جعلها هرقلية أو كسروية. فإذا دل هذا كله على شيء، فإنما يدل على أن الحكم أيام النبي لم يكن مفروضا من السماء لا رأي للناس فيه. وإذا كان الأمر كذلك أيام النبي الذي كان يتنزل عليه الوحي، فأحرى أن يكون الأمر كذلك أيام صاحبيه بعد أن تقطع عن الناس خبر السماء.
والذين يظنون أن نظام الحكم في هذا الصدر من حياة المسلمين كان إلهيا، يخدعون عن رأيهم هذا بما يجدون في أحاديث الخلفاء وخطبهم، وفي أحاديث الناس عنهم وإليهم من ذكر الله وأمره وسلطانه وطاعته؛ يحسبون أن هذا كله يدل على أن نظام الحكم منزل من السماء، مع أنه لا يدل في حقيقة الأمر إلا على شيء يسير خطير في وقت واحد، وهو أن الخلافة عهد بين المسلمين وخلفائهم، وأن الله أمر المسلمين بأن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا سواء أكان هذا العهد متصلا بشئون الحكم، أم متصلا بالعلاقات الخارجية، أم متصلا بما يكون بين الأفراد من العهود والمواثيق؛ فالله يأمر باحترام العهود، والله شاهد على ضمائر الناس حين يوفون بالعهود أو ينكثونها، والله يثيب من وفى بالعهد ويعاقب من نكثه عقابا شديدا.
فليس بين الإسلام وبين المسيحية مثلا فرق من هذه الناحية؛ فالإسلام دين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويوجه إلى الخير ويصد عن الشر، ويريد أن تقوم أمور الناس على العدل وتبرأ من الجور، ثم يخلي بعد ذلك بينهم وبين أمورهم يدبرونها كما يرون ما داموا يرعون هذه الحدود. ولا تزيد المسيحية على هذا ولا تنقص منه، ولأمر ما قال عيسى عليه السلام للذين جادلوه من بني إسرائيل: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.» وما أشك في أن عيسى عليه السلام لم يرد أن يعطي ما لقيصر لقيصر بغير حقه، أو أن تقوم الصلة بين قيصر وبين الناس على الظلم والجور والخوف.
وسنرى في غير هذا الموضع من هذا الحديث أن من المسلمين من أنكر على بعض العمال أيام عثمان قولهم: إن ما كان يأتي من الفيء ويجنى من الخراج مال الله، وقالوا: هو مال المسلمين، وتعرضوا في سبيل ذلك لبعض الأذى. ولو قد فهم المسلمون نظام الحكم في ذلك الصدر من حياتهم على أنه نظام إلهي، لما أنكروا أن يقال مال الله؛ لذلك اعتذر معاوية من هذا التعبير حين أنكر عليه، بأن الناس وما ملكوا لله، فهم عباد الله ومالهم مال الله.
ناپیژندل شوی مخ