فردوس الحكمة في الطب لابي الحسن علي بن سهل بن ربن الطبري بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله الحي الدائم المنان الخالق البارئ وصلى الله العظيم على محمد النبي وآله وسلم هذا كتاب جامع، علي ابن ربن ابتدأ حامدا لله فقال إن مدح الخير والجود وتفضيل أهلها امر تجتمع عليه الأمم كلها، ومن ارتاد منافع الناس فهو خير ومن جاد بما عنده فهو جواد، ولم أزل بمن الله وتوفيقه أحب الخير وأجود بميسوره وتسمو نفسي إلى ما هو أعم للناس نفعا وأبقى على وجه الدهر مما نالته يدي منه إذ كان أفضل الخير أعمه وأدومه فلم أر ذلك يسهل الا للملوك ثم لواضع الكتب في الآداب المحمودة مثل علم الطب الذي يحتاج اليه كل انسان وفي كل حين ويمدحه اهل كل دين، وكان أبي من أبناء كتاب " مدينة " مرو وذوي الأحساب والآداب بها وكانت له همة في ارتياد البر وبراعة ونفاذ في كتب " الطب والفلسفة " (1) وكان يقدم الطب على صناعة آبائه ولم يكن مذهبه فيه التمدح والاكتساب بل التاله والاحتساب " فلقب " (2) لذلك بربن وتفسيره عظيمنا ومعلمنا، و كان أفهمني منه في صغري ما لم ادع التزيد اليه بقدر ما قسم الله لي منه وعلى حسب ما أعان عليه الزمان والطبع ووجدت فيما قرأت من كتب الحكماء كناشات " اي " مختصرات كثيرة لأهل سوريا وغيرهم قد اقتصر أصحابها فيها على فن واحد من فنون الطب
مخ ۱
المتفرقة (1) الكثيرة، فدعاني ذلك إلى أن ألفت منها كتابا جامعا لمحاسن كتب الأولين والآخرين ليكون زماما لها كلها واماما محيطا " لجوامع " الكناشات وحذفت منه المعاني المكررة والخطب المشكلة المبرمة وقصدت إلى الفوائد والعيون، فتهيأ لي " منها " بعون الله سر من اسرار الحكمة وكنز من كنوز الصناعة وكناش يحيط بأكثر مما يتمناه المتمني ويبلغه الواصف من علم الطب ومعرفة أصول هذا " العالم " (2) وفروعه وكيفية جواهره واعراضه وكون أنفسه و " أجسامه " (3) وتراكب حيواناته ونباته وعلل ألوانه ومذاقاته. و منافع ذلك كله ومضاره وحدود أشياء حدتها الحكماء، فما أشبه الناظر فيه بفهم الا كالمتردد في الفراديس المثمرة المونقة أو في أسواق المدن العظيمة التي توجد فيها لكل حاسة من الحواس لذتها و سرورها غير أن من اقتصر من معرفة الجنان والمدن على معاينة أبوابها فقط كان كمن لم ير منها شيئا وكذلك من عد أبواب كتابي هذا و لم يستقص قراءة ما في كل باب " منها " لم يعرف حقيقة " ما أقول " (4)، ولقد اجتمع " ذلك " لي في عدة سنين وبعد تعب وسهر " مع اشغال دائمة مما كنت اتولى من كتابة ملك بلادي فما كنت أتفرغ لجمعه الا في أوقات يحتاج البدن فيها إلى نصيبه من الراحة والجمام لكن النفس كانت تأبى الا شهوتها واحتسابها وتقديم العناية به على المنافع والملاهي والسكون، فلما شارفت الفراغ منه عرض لي حادث من الدهر أزعجني عن بلادي إلى مستقر الملك الأعظم وأمرني بملازمة بابه في بعض اعماله، فعاق ذلك أيضا عما أردت إلى الوقت الذي اذن الله تعالى في اتمامه " في مدينه سر من رأى، وذلك في السنة الثالثة من خلافة العدل المؤيد الوهاب جعفر الامام المتوكل على الله أمير المؤمنين،
مخ ۲
فمن قرأ كتابي هذا فليتدبره بعين المحبة وليتفضل بمرمته و اصلاح ما أنكر منه ويرعي لي بذلك حرمة ما نويت فيه وحق ما تجشمت " له " فإنما انا فيما ألفت كمن وجد جوهرا منثورا فنظم منه سلكا واتحد علقا باقيا لطلابه فقد كفيت المتعلمين مؤنة الجمع و سهلت لهم السبيل إلى هذه الصناعة بل " و " إلى معرفة الصانع و المصنوع " أيضا " وكيفية الأنفس والأبدان ومنافعها ومضارها و المواعظ الكافية " والخير " في امر الدين والدنيا وحققت وشرحت الكتاب وكشفته بالمقائس والأمثال ما أمكن، ومن شاء ان يجعل ورقة منه في جلد أمكنه لكنه يعيبه بذلك ويفسده لأنه إذا كثرت أوراقه نبئت عنه " العين " (1) وزهد فيه الناظر وعجز عن " انتساخه " (2) العوام ولذلك صير علماء الأمم كتبهم المتقدمة بخطوط متقاربة، فمن ظفر بهذا الكتاب وتنحره وتدبره وجد فيه جل ما يحتاج اليه المتخرج من علم الطب " والفلسفة " وفعل الطبائع في هذا العالم الصغير و في العالم الكبير أيضا، فلا ينبغي للقاري ان يستنكر ما فيه ويتبرم به فان من لم يصبر على مثل هذا الكتاب ولم يغتنم ان يأتي عليه في شهر أو شهرين فقد زهد في العلم " جميعه " وليس من اهله لان من طلب " خياطة أو نجارة أو غير ذلك من صناعات الأكف وأحب ان يستمر فيها " (3) لم يستكملها الا في عدة سنين ولا يبرمه ذلك ولا يمنعه من المواظبة والصبر عليه فكيف بمثل هذا الكتاب النافع الجامع، ولم ادع مع هذا ان اختصرت كتابا صغيرا طريفا لمن قل صبره وضاق صدره عن تفتيش فنون هذا الكتاب لكنه إذا قسته (4) به كان فيه بمنزله جوهرة حسنة تقاس بخزانة كثيرة الذخائر و الجواهر والاعلاق
مخ ۳
وقد قال أرسطوطيلس ان العلم من الأشياء الحسنة الشريفة وان بعض العلم أشرف من بعض كالعلم بالطب " لان موضوع الطب " أكرم الموضوعات يعني بموضوعه أجسام الناس فاما موضوع الصائغ فالذهب وموضوع النجار الخشب، وقد صدق الفيلسوف وأصاب فما يدرك شئ من امر الدنيا والآخرة الا بالقوة ولا قوة الا بالصحة ولا صحة الا باعتدال المزاجات الأربع ولا معدل لها بإذن الله الا اهل هذه الصناعة الذين تجردوا بسياسة أنفس الناس وأبدانهم " و صاروا مفزعهم حين لا مال ولا عشيرة تنفعهم "، و " قد " اجتمعت لهم خمس خصال لم يجتمعن لغيرهم، أولها الاهتمام الدائم بما يرجون به ادخال الراحة على الناس كلهم والثانية " مجاهدتهم " (1) أمراضا وأسقاما غائبة من ابصارهم والثالثة اقرار الملوك والسوقة بشدة الحاجة إليهم والرابعة اتفاق الأمم كلها على تفضيل صناعتهم والخامسة الاسم المشتق من اسم الله لهم فعلى قدر الصناعة ورفع مرتبتها وعام منفعتها ينبغي ان تكون همم أهلها فإنه لن يستحق أحد اسم الكمال فيها الا بأربع خصال هن الرفق والقناعة " والرحمة " والعفاف وأن يكون مع هذا ارق على المريض من اهله واخف مؤونة عليه من نفسه وان يجعل همته في الفعل دون القول لان زيادة الفعل على القول مكرمة وزيادة القول على الفعل منقصة و يكون حرصه على جميل الذكر والأجر لا على الاكتساب والجمع ويختار من كل شئ أفضله وأعدله ولا يكون قدما ولا مكثارا ولا خفيفا ولا مستثقلا " ولا منتهكا ولا سهك البدن ولا مفرط الطيب ولا محقور اللباس ولا مشهورا ولا معجبا بنفسه مستطيلا على غيره محبا لسقطات اهل صناعته بل يستر " زللهم " (2) و يحوطهم، فإنه إذا فعل ذلك طاب ذكره وظهر فضله، وكل داء
مخ ۴
قدر ان يدفعه بالأغذية والحمية لم يحاول دفعه بالأدوية لقول الحكيم أبقراط الدواء من فوق ومن أسفل والدواء لا من فوق ولا من أسفل، فاما من فوق فإذا كان الفساد في المعدة وما والاها عولج بسقي الأدوية وإذا كان الفساد في الشق الأسفل من البدن عولج بالحقن لأنها أسرع وصولا اليه مما يشرب، وإذا لم يجد في البدن داء لم يقدم على سقي الدواء ولا على الحقنة لان الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله ويحدره تحامل الدواء على الكيموسات الطبيعية " فأفزعها " (1) ولذلك قالوا لا ينبغي للطبيب ان يولع بسقي الأدوية ولا يعجل بالقضايا الا بعد التثبيت والروية ولا يغتر بالتجربة لقول الحكيم أبقراط ان العمر قصير والصناعة طويلة والزمان مسرع عجول والتجربة " خطر " (2) والقضاء عسر، ولانا ربما رأينا دواء واحدا قد نفع قوما وأضر بآخرين والعلة في ذلك اختلاف " مزاج " العلل أو " عفونة " (3) الدواء وفساده أو لأنه من البلد الذي لا يجود فيه مثله مثل الهليلج الذي لا يجود الا ما كان من الكابل، والكمون من كرمان والافتيمون من " افريطيا " (4) والصبر من الاسقوطري والصعتر من فارس والأفاوية من الهند وما أشبه ذلك أو أن يخطئ الطبيب في اجزائه وأوزانه وأخلاطه أو في معرفة مقاومة العلل التي يستقيم ذلك الدواء لها و " أوقات العلل " وحالات الأسنان " والفصول " وليحذر الطبيب استعمال الأشياء الضارة والقاتلة فإنها ضد هذه الصناعة ومن لزم صناعة " من الصناعات " ثم استعمل ضدها لم يبارك له فيها ومن امتثل ما كتبت بورك له في عمله وأجرى الله الشفاء على يده وفاز بدنياه وآخرته وقد قال أبقراط انه ينبغي لمن طلب هذا العلم ان يكون أيضا
مخ ۵
حسيبا في " نفسه " (1) تاما في خلقته جميلا في صورته نظيف البدن طيب الريح رحيما وقورا متصرفا في فنون الآداب وقال أرسطوطيلس ان من طلب علم شئ من الأشياء لم يستغن عن معرفة أربعة أشياء أولها أموجود ذلك الشئ الذي يطلبه أو غير موجود فإن كان موجودا ما هو وكيف هو ثم لم هو فالطب شئ موجود لا يجحده الا معاند أو " معتوه " فاما ما هو فإنه حفظ الصحة ونفي العلة " وتمامه بأمرين " (2) هما العلم والعمل يعني العلم بالكتب والتدرب في العلاجات، فاما كيف هو ولم هو فان من عرفها عرف شيئا كبيرا شريفا وعاين فعل الطبيعة وحركتها، وقد ذكرت " من ذلك " في صدر كتابي هذا وفي آخره ما فيه المخرج و البيان وقد قال الفيلسوف أيضا ان أول الفكرة اخر العمل واخر العمل أول الفكرة " وذلك " كمن أراد أن يبني بيتا فيتفكر أولا في الحائط والسطح ثم في الاجر والجص والأساس فإذا ابتدأ في العمل كان أول عمله الأساس وآخره الحيطان والسطح وان أول فكرة المتفكر في الطب انما هو حفظ الصحة غير أن الصحة لما كانت للأبدان والأبدان مركبة من المزاجات الأربع وهذه المزاجات تتولد من الطبايع المركبة والمركبة تكون من المفرودة وتكون جميع ذلك فيما قالوا من الهيولى والصورة رأيت لذلك ان ابدأ بالشئ الذي اليه ينتهي آخر فكرة " المفكر " (3) في الطب وان اقدم القول في أصول الأشياء ثم في فروعها وان اذكر الكون والصحة قبل الفساد و " المرض " (4) وذلك لأني رأيت كون الجنين قبل فساده وصحته قبل مرضه فمن أنكر ذلك فقد آسي لأني قد رجعت إلى الأصول التي منها استخرج العلماء علم الطب وعليها " قاسوا " (5) ليكون
مخ ۶
الكتاب تاما كافيا ولا يكون أبتر منقوصا ليس له أول يدل على ما بعده ولا اخر يشهد بالصحة لما قبله ولان من عرف شيئا بكليته سهل عليه معرفة جزء من اجزائه ومن لم يعرف منه الا جزأ واحدا جهل أكثره وانما الانسان جزء من اجزاء العالم فمن اقتصر على معرفة علته و (أمراضه) (1) وعلاجه فقط لم يكن في العلم بذلك كمن عرف كيفية العالم كله لان معرفة قوى الطبائع الكبرى و الدلائل على آثارها أشهر وأبين من آثار مزاجات " الأبدان " (2) فان أبدان الناس جزويات في العالم والطبائع كليات وقد قالت الفلاسفة ان الاستدلال بجزء واحد من ا جزاء الشئ على كله ربما كذب " وأخطأ " وذلك مثل قولك ان كان زيد ضحاكا ومتكلما فكل انسان متكلم ضحاك وهذا حق وصدق وان قلت إن كان جالينوس طبيبا فكل انسان طبيب كان ذلك كذبا وكل ما صدق مرة وكذب أخرى فلا دلالة فيه فالحق " في " ان يستدل بكليات الأشياء على جزوياتها كقولك ان كان كل انسان متكلما ضحاكا فزيد أيضا متكلم ضحاك فهذا هو الحق وهي القضية التي لا تكذب ابدا كقولك ان كان كل عسل حلوا فكل حلو عسل ولذلك بدأت بالقول في الكليات ثم في الجزويات فمن فهم ما في أول كتابي هذا انتهى إلى باب العلل والاعراض وقد انكشف له الامر ووضح " له " الطريق فالكتاب كله على سبعة أنواع من العلم ولهذه الأنواع ثلاثون مقالة، ولمقالاتها كلها ثلث مائة وستون بابا " على ما فسرنا وأوضحنا، ابتدأ وبالله التوفيق "
مخ ۷
النوع الأول من " هذا " الكتاب مقالة واحدة وهي اثنا عشر بابا الباب الأول منها في اسم الكتاب ولقبه ونسبته ومستنبطه فاسم هذا لكناش فردوس الحكمة فاما لقبه فبحر المنافع وشمس الآداب واما نسبته فإنه الفه علي بن ربن " الطبري " واستنبطه وجمعه من كتب أبقراط الحكيم وجالينوس وغيرهما من علماء الأطباء ومن كتب أرسطوطيلس الفيلسوف وسائر الفلاسفة في الطب وغير ذلك ومن كتب عدة من اهل زماننا مثل يوحنا برما سويه طبيب الملك أعزه الله وحنين الترجمان " وغيرهما " وقال من أراد التجربة في الصناعة لم يستغن عن ملازمة المعلمين وقرأة كتب الماضين على انى قد فتشت كتبا كثيرة من كتب الحكماء المحمودين المشهورين واخذت صفوها وثمارها وطرائف معاينها فلم يشد عني ولم يفتني من أصولها وفصوصها وفروعها الا اليسير القليل ولقد دعاني الحرص على تكثير فوائد الكتاب واذاعته في الناس (إلى أن) (1) ألحقت به مقالة تنحلتها من كتب الهند ثم نقلت الكتاب إلى السريانية وفرقت له نسخا كثيرة في كون الشرق والغرب وأردت بذلك أيضا التحرز من قوم من اهل سوء " الطريقة " (2) بلغني ان الرجل منهم ينتحل كتاب غيره ويتخلق بذلك بأهجن الاخلاق وأدناها فان من فعل ذلك استحق من الله المقة واللعنة ومن الناس السب والبغضة وكان كالكلب الذي يأتي فريسة الأسد فيفرح بما يجد من فضالته وسوره ويمرح به ولم اكره افتتاح سائر الأبواب بذكر الهيولى والصورة بقول وجيز خفيف ليعرف القاري ما أراد القوم بذكرهما و
مخ ۸
لا يكون كالجاهل بقولهم وبما لهم وعليهم " منه ولا يجعل القاري ما ذكرت من ذلك وغيره مما في كتابي هذا وليس مما يتعلق بالطب ذنبا لي وعيبا على الكاتب فقد اعتذرت منه وأردت أن يكون الكتاب جامعا لطب الأبدان والأنفس مستمدا العون في ذلك من الله تعالى، " الباب الثاني في الهيولى والصورة والكمية والكيفية على ما قالت الفلاسفة " ومن خالفهم فيه " اني رأيت كل مصنوع اما جوهرا واما عرضا وكل مطلوب اما معقولا واما محسوسا فالذي لا يدرك الا بالعقل " فهو " خالق كل مخلوق وعلة كل معلول ثم الأنفس وغيرها من الروحانيات، فاما الأجسام فإنها محسوسة مركبة من الكميات والكيفيات، وحامل الكمية والكيفية فيما قالت الفلاسفة الهيولي وهي رأس الطبائع كلها وقالوا انه محال أن لا يكون للطبائع الأربع رأس وأن يكون رأسها بعضها لأنه ان كان رأسها بعضها وجب ان يكون ذلك الرأس مرة رأسا ومرة ذنبا لان كل واحدة منها تستحيل إلى غيرها مثل الأرض التي تستحيل إلى الماء والماء يستحيل إلى الهواء فخاصة الهيولى الأولى انها تجمع قوة الكمية والكيفية، وانما كانت الهيولى من أجل الصورة ولم تكن الصورة من أجل الهيولى لان الهيولى هي التي تقبل الصور كلها وتحملها والشئ المحمول إذا كان محمولا بالطبيعة أكرم من الشئ الذي يحمله كالنفس التي هي أكرم من البدن الذي هي فيه والصورة لا تتقدم الهيولى في الكون بل في الفكرة وانما يفكر البناء أولا في صورة البيت و شكله ثم في هيولاه أعني في الشئ الذي يبني البيت منه والصورة هي التي تتغير من حال إلى حال فاما الهيولى فإنها لا تتغير من حال
مخ ۹
الجسمية إلى غيرها، والمثل في ذلك النحاس الذي تتخذ منه صورة الفرس مرة ثم تنقص ذلك وتتخذ منه صورة انسان ثم تنقص فتتخذ منه صورة طائر فتبطل صورة بعد صورة والنحاس قائم على حاله لان الصورة عرض " في الجوهر " والهيولي جوهر وعلى هذا تكون استحالات الصور في الهيولى حالا بعد حال غير أن الأسماء انما تقع على الصور دون الهيولى كقولك الباب والكرسي والسرير فهيولى هذه كلها الخشب وانما اختلفت أسماؤها لاختلاف صورها، وكذلك أجناس الحيوانات كلها انما اختلفت أسماؤها لاختلاف صورها وكذلك الأجناس فاما هيولاها كلها فاللحم والعظم والدم وكذلك هيولى الإبرة والسكين والفأس والسيف هو الحديد فلما اختلفت صورها سمي كل واحد باسم آخر، والصورة اثنتان الأول منها الكمية والثانية الكيفية وانما تقدمت الكميات لأنها هي التي تحمل الكيفيات أعني بالكميات قولك كم هذا الشئ و (بالكيفيات) (1) (قولك) (2) كيف هذا الشئ فالكمية هي مثل الطول والعرض والعمق والكيفية هي الألوان والأرائح والمذاقات والحر والبرد والرطوبة واليبس فهذه الكيفيات كلها اعراض في الجسم وسأذكرها فيما بعد انشاء الله. وحد الجسم انه شئ ذو طول وعرض وعمق فكل شئ له طول وعرض وعمق فهو جسم، وحد الطول انه ابتداء العرض، وحد العرض انه ابتداء السمط، وحد السمط انه غاية الجسم، و حد الهيولى من جهة التعليم انها قوة قابلة للصور المختلفة وحدها من جهة الطباع انه شئ لأقوام له الا بغيره مثل البياض والسواد و انه شئ قائم بذاته وقابل للمتضادات وذلك أن الجسم يصير مرة اسود ومرة ابيض ومرة حلوا ومرة مرا واما الجسمية فقائم
مخ ۱۰
على حالها، وحد العرض من جهة التعليم انه شئ يكون في آخر ثم يزول عنه من غير أن يفسد الجسم الذي كان فيه، وحده من جهة الطباع انه شئ لا قوام له الا بغيره مثل البياض والسواد و الحلاوة والمرارة وما أشبهها، وسأزيد ما ذكرت من الهيولى شرحا في بابه ان شاء الله تعالى وقال من أبطل الهيولى انه ان كانت محسوسة أو معقولة فإنها لا تخلو من أن يكون جوهرا أو عرضا وفي مكان أو لا في مكان ومتحركة أو ساكنة وخفيفة أو ثقيلة فان كانت متحركة أو ساكنة فإنها اذن في مكان لان التحرك لا يكون الا في مكان كذلك الساكن لا يسكن الا في مكان والمتحرك اما ان يكون خفيفا أو ثقيلا فان كانت الهيولى خفيفة فإنها من جواهر النار والهواء وان كانت ثقيلة فمن جوهر الماء والأرض وإن لم تكن بجوهر ولا عرض ولا متحركة ولا ساكنة ولا خفيفة ولا ثقيلة ولا في مكان ولا في غير مكان فهذا ابطال وليس يثبت إذ جئتم باسم شئ ثم قلتم انه غير محسوس ولا معقول الباب الثالث في الطبائع المفردة والمركبة والرد على من ذكر طبيعة خامسة ان الطبائع المفردة التي تقال لها مبسوطة أربع، اثنتان منها فاعلتان وهما الحرارة والبرودة واثنتان مفعولتان وهما الرطوبة واليبوسة والطبائع المركبة أيضا أربع وفي قولك انها مركبات دليل على أن المفردات قبلها لان المتركب انما يتركب من الافراد، وأول المركبات النار وهي حارة يابسة خفيفة وحركتها من الوسط إلى العلو ثم الهواء وهو حار رطب خفيف وحركته الهبوب في كل وجه ثم الماء وهو بارد رطب ثقيل يتحرك إلى السفل ثم الأرض و
مخ ۱۱
هي باردة ثقيلة تتحرك إلى أسفل فالماء محيط بالأرض والهواء محيط بهما والنار محيطة بالهواء، وكل ما كان منها ارفع فهو أخف حركة والماء أخف من الأرض والهواء أخف من الماء والنار أخف من الهواء، ولذلك صارت فوقها كلها وكل حركة تكون لجسم من الأجسام " طبيعية فإنها تكون لجسم " اخر عرضية من ذلك " مثل " حركة النار إلى فوق فإنها طبيعية لها وحركة الأرض إلى فوق عرضية لها أعني الأرض وذلك " مثل ما " (1) إذا رميت مدرة أو نشابة إلى فوق، وحركة النار إلى (أسفل) (2) عرضية للنار، وحركة الأرض إلى (أسفل) (3) طبيعية للأرض، وعامة الأرضيات موضوعة للنار فهي تفعل " فيها " وتغيرها وانما صارت الطبائع أربعا لان الفاعل انما يكون فاعلا بمفعول ينفعل منه، فالفاعلان هما الحرارة والبرودة، ولكل فاعل مفعول واحد، فذلك أربعة، ومن ذكر طبيعة خامسة فقد أخطأ، لأنها ان كانت فهي لا محالة في مكان، وكل ما كان في مكان فإنه خفيف أو ثقيل، صاعد من الوسط أو هابط إلى الوسط، أعني بالوسط الأرض التي هي في وسط الفلك، فان كانت الطبيعة الخامسة التي ذكرنا انهم يذكرونها خفيفة صاعدة فهي من جوهر الهواء والنار، وان كانت ثقيلة هابطة فهي من جوهر الماء والأرض، وحد الطبيعة من جهة التعليم انها ابتداء الحركة والسكون، و انما يكون ابتداء كون الأشياء كلها بالحركة وانتهاؤها بالسكون، وحدها من جهة الطباع انها القوة المدبرة للأجسام، وحد المكان من جهة التعليم انه الشئ القابل للأجسام، وحده من جهة الطباع انه نهاية السطح المحيط بالجسم والمفرق بينه وبين غيره، وحد النار من
مخ ۱۲
جهة التعليم انها جسم محرق مضئ يذهب علوا، وحدها من جهة الطباع انها عنصر لطيف دائم الحركة، الباب الرابع في تعادي هذه الطبائع والرد على من ذكر ان الهواء بارد، وهذه الطبائع متعادية متضادة، وأشد تعاديها ما كان من وجهين والطرفين جميعا، كالنار التي هي مضادة بحرارتها ويبسها لبرودة الماء ورطوبته، والهواء الذي هو مضاد بحرارته ورطوبته لبرودة الأرض ويبسها، وإذا كان التعادي من أحد الوجهين كان أيسر كالهواء الذي يضاد الماء بحره ويوافقه برطوبته ولذلك جعل الله الهواء حاجرا بين الماء والنار وجعل الماء حاجرا بين الأرض و الهواء، والدليل على تضادهما وتعاديهما فعل الماء بالنار إذا التقيا، وفعل الصيف بالشتاء، فان الحر إذا ظهر في الهواء بطن البرد في بطن الحيوان والأرض، فبردت. لذلك مياه القنى والابار، وإذا ظهر البرد بطن الحر في القني والابار فسخنت. مياهها، قال الفيلسوف ومن جعل الهواء باردا فقد أبطل لأنه جسم خفيف، وان كانت علة خفته البرد فما بال الأرض ليست خفيفة وهي أيضا باردة، وان كانت علة خفته الرطوبة فما بال الماء ليس بخفيف مثله وهو أيضا رطب، فخفة الهواء ولطافته اذن من الحرارة لامن غيرها، لكن الذي يلينا من الهواء هو أبرد لقربته من الأرض والماء، والذي يلي الأثير وهو محل النار فإنه حار يابس ملهب لأنه يدور ويتحرك ابدا لقربته من الفلك الدائر، وما كان من الهواء متوسطا بين الموضعين فهو حار رطب، وهذه صورة دائرة يتبين بها كيف تتواصل وتتمازج هذه الطبائع المتعادية بعضها ببعض حتى يحدث منها هذا لخلق العظيم
مخ ۱۳
بإذن الله، وان صيرتها مربعا تبينت أيضا كيف تتصل الحرارة بالحرارة والبرودة بالبرودة والرطوبة بالرطوبة، سبحان المقدر بلطف تدبيره!
الباب الخامس في كون الطبائع بعضها من بعض وكل طبيعة من هذه الطبائع في الاخري بالقوة، أعني ان الماء هو هواء بالقوة والهواء نار بالقوة، لان في قوة الهواء ان يستحيل إلى النار، غير أن استحالتها كلها انما تكون بكيفياتها لا بكمياتها فإنها انما يستحيل منها الجزء (بعد الجزء) ولا تستحيل بكلياتها كالماء الذي يستحيل بعضه فيصير هواء أو يلطف بعض الهواء فيصير نارا ويتغير بعض النار فيصير هواء، مثل السراج إذا انطفأ، ويغلظ بعض الماء فيصير أرضا ويلطف بعض الأرض فيصير ماء، والنار تحلل الماء شيئا بعد شئ وتصيره هواء، وذلك بين في
مخ ۱۴
رؤوس القدور وقباب الحمامات، فان الماء يلطف فيها فيصعد إلى أعاليها فإذا تكاثفت تلك البخارات عادت قطرا، وأبين من ذلك ما قد رايته كثيرا في جبال طبرستان، فان البخارات تصعد من الجبال ثم تتكاثف و " تتراكم " (1) في الهواء وتستحيل من يومها مطرا أو من بعد أيام حتى ربما اصطكت تلك البخارات الغليظة بالرياح فيحدث من بينها الصواعق ويحدث من احتكاكها البروق، وربما كان في سفح تلك الجبال وسهلها المطر والرعد والبرق وفي رؤوس الجبال الصحو والشمس، وان قال قائل ان الماء هو نار بالقوة والهواء ارض بالقوة لم يكذب لان في قوة الماء ان يستحيل أجزأ منه فيصير هواء ويستحيل ذلك الهواء فيصير نارا وكذلك الهواء في قوته ان يصير ماء ويصير ذلك الماء أرضا على ما بيناه لأنه ان فسدت حرارة جزء من اجزاء النار صار ذلك الجزء من النار باردا يابسا كالأرض وان فسدت حرارة جزء من اجزاء الهواء صار ذلك الجزء من الهواء باردا رطبا كالماء فافهم هذا وقس عليه تغير الطبائع والمزاجات و استحالاتها على ما بينت.
الباب السادس في الاستحالة ان الاستحالة اثر من فاعل في مفعول، وكل مستحيل فإنما يستحيل إلى ضده، وما لا يستحيل فلا ضد له، وما لا ضد له فليس بواقع تحت الكون والفساد، وكل عنصرين متجاوزين فان أحدهما ينفعل من الاخر، فالفاعل منهما هو العلة. وهو الذي يحول ضده إلى نفسه، والمفعول منهما هو المعلول وهو الذي يتحول إلى ضده، وانما يحول الشئ ضده إلى نفسه إذا كان تضادهما بالصورة كالماء
مخ ۱۵
الذي يستحيل هواء، وقد قال أفلاطون ان الشئ لا يصير مع ضده ابدا لكنه إذا صار الشئ في جسم من الأجسام بطل ضده الذي كان في ذلك الجسم، مثل جسم ابيض يصير اسود فلا يقال ان البياض انتقل إلى السواد بل نقول إن أحدهما بطل، وكل كيفية فإنها تستحيل على قدر سعتها وكثرتها وقلتها، فما كان منه أوسع وأقوى فإنه أبطأ استحالة مما قل وضعف، مثل العسل فإنه إذا طبخ تغير أولا لونه وبقي طعمه ولزوجته لان هاتين القوتين أغلب عليه وأوسع فيه من لونه، مثل الخمر التي لا يتغير لونها ويتغير طعمها، لان لونها أقوى وأكثر فيها من طعمها، وأسهل الاستحالة ان يستحيل الشئ إلى ما يضاده من أحد الطرفين مثل استحالة الماء إلى الأرض وأعسر الاستحالة ان يستحيل الشئ إلى ما يضاده من الطرفين جميعا مثل استحالة الماء إلى النار والنار إلى الماء فإنه لا يستحيل أحدهما إلى الاخر الا بتوسط بينهما كالماء الذي يستحيل أولا إلى الهواء ثم من الهواء إلى النار، فقس استحالات الأشياء كلها على ما بينت.
الباب السابع في الكون والفساد ان الكون استحالة شئ إلى شئ اخر، وهو ان يستحيل الشئ الوضيع " فيصر " رفيعا، كالنطفة التي تصير انسانا وكالنواة التي تصير نخلة، فاما الفساد " فهو " ان يصير الشئ الرفيع وضيعا، كالانسان الذي يصير ترابا " وكلاهما يطلق عليهما الاستحالة لكن الكون ان يستحيل من خسة إلى شرف والفساد من شرف إلي خسة " غير أن كون كل شئ فساد لشئ اخر، وفساد كل شئ كون لشئ اخر، وللكون ثلاثة وجوه، اما بالصناعة، واما بالهوى، واما بالجواهر، فالذي بالصناعة كالخشب الذي يستحيل بالصنعة فيصير بابا
مخ ۱۶
أو كرسيا، والذي بالهوى كالحب يستحيل بغضا، والذي بالجوهر كالحيوان يستحيل إلى التراب ومن التراب إلى النبت، وليس " يتكون " (1) شئ ولا يفسد الا بالاستحالة، ولا يستحيل شئ الا بالفعل والانفعال، ولا يكون الفعل والانفعال الا بالاختلاط، و لا يختلط شئ بشئ الا ان يحس أحدهما بالاخر، فالحس ها هنا هو المتقدم لغيره، لكن من الحس فاضل ومنه خسيس، فالحس الفاضل ان يكون الشئ يحس بغير ويحس غيره أيضا به كالدواء الذي يحس به البدن ويحس الدواء به لان الدواء، يحول البدن ويحول البدن أيضا الدواء، والحس الخسيس مثل حس العاشق فإنه يحس بمعشوقه ورب معشوق لا يحس بعاشقه، وإذا اختلط شيئان فاما ان يثبتا جميعا على حالهما أو يثبت أحدهما ويفسد الاخر فاما اللذان يثبتان جميعا فمثل الطينة ونقش الخاتم فإنهما يثبتان ويختلطان وكالخمر والماء إذا امتزجا لم تقل ان أحدهما بطل لان هناك خمر وهناك ماء، والذي يفسد أحدهما فمثل الحطب والنار فان النار تفسد وتحولها إلى نفسها لأنها فاعلة والحطب مفعول، ومحال ان يفسد المختلطان جميعا لأنهما ان فسدا معا لم يكن هناك اختلاط، واعلم أن الكون والفساد يكونان في الجواهر وتكون الاستحالة والتغير في الكيفيات مثل حرارة تستحيل بردا أو حلو يصير مرا ويكون " الربو والاضمحلال " (2) في الكميات لأنها زيادة ونقصان تحدث في طول الجسم وعرضه وعمقه، ومعنى الربو ان يصيره الشئ الصغير كبيرا، ومعنى الاضمحلال ان يصير الشئ الكبير صغيرا، ومن قال إن الشيئين الممتزجين يدخل بعضهما في بعض فقد أخطأ لأنه ان دخل الماء في الخمر والخمر في الماء عند امتزاجهما فكل واحد منهما اذن قد دخل في صاحبه ودخل في نفسه أيضا
مخ ۱۷
لأنه قد دخل في الداخل عليه فصار داخلا ومدخولا وفاعلا و مفعولا في حال ووقت واحد وهذا من المحال، الباب الثامن في الفعل والانفعال ان من الأشياء ما له قوة ظاهرة بالفعل مثل الحرارة التي هي قوة ظاهرة في النار والكتابة قوة ظاهرة للكاتب، ومن الأشياء ما له قوة بالامكان كالماء الذي في قوته، وامكانه ان يستحيل إلى النار والطفل الذي في قوته ان يصير كاتبا وطبيبا، وهذا يكون على ثلاثة وجوه، منها فاضل ووسط وخسيس، فالفاضل من هذه القوى هو الذي يقال إنه في الشئ بالفعل الظاهر مثل الحرارة في النار، والخسيس من القوى هو الذي يقال إنه في الشئ بالقوة مثل اليبس في النار فإنها قوة خفية فإذا التقت قوتان من قوى الطبائع أحدهما فاضلة في فعلها والأخرى فاضلة في قوتها كان من بينهما فعل وانفعال سهل، وحدث من ذلك كون قوي خفيف، وإذا التقت قوتان أحدهما خسيسة في فعلها والأخرى خسيسة في قوتها كان من بينهما فعل وانفعال عسر، وحدث من ذلك كون ضعيف بطئ، وإذا التقت قوتان متوسطتان بالفعل والقوة كان من بينهما فعل وانفعال وكون وسط " ضعيف " ومثل الفعل والانفعال مثل رجل وطي ترابا فالوطي هو فعل الرجل فاما اثره الباقي في التراب فإنه انفعال من التراب، ولا يكون الفعل والانفعال الصحيح الا إذا لامس الفاعل منهما المفعول، وذلك على وجهين اما ان يلامسه من غير واسطة بينهما كالنار التي تلامس الحطب وتغيره، واما ان تلامسه بواسطة وحاجر كالنار التي لا تلامس الماء الا وبينها وبينه قدر أو قمقم، وأسهل الأشياء انفعالا ما كان رطبا معتدلا
مخ ۱۸
وأعسرها انفعالا ما كان يابسا لان الشئ الرطب متهئ للاجتماع والانبساط مثل زرع الحيوان والفضة والشمعة، واليابس ممتنع من ذلك مثل الحجر والأجر " وغير ذلك " الباب التاسع في كون الأشياء من الطبائع وفعل الفلك والنيرات فيها اني لما رأيت كل متنفس لا بقاء له الا بالهواء والماء، و رأيت هذين لا يثبتان على حالة واحدة لكنهما يتغيران باختلاف الأزمنة والرياح فيصيران مرة حارين ومرة باردين ومرة رطبين ومرة يابسين ومرة صافيين ومرة كدرين وعلى قدر تغيرهما يحدث تغير الأبدان من حر إلى برد ومن صلابة إلى استرخاء و من صحة إلى سقم و (لما) رأيت الأزمنة أيضا انما هي عدد حركات الفلك والشمس ذكرت لذلك في أول كتابي هذا وفي آخره من آثار الفلك والنيرات ما فيه قوة للمتعلم وتذكية لفهمه، وليس مذهب الفلاسفة فيما نسبوا إلى الكواكب من الفعل مذهب التعطيل، بل قولهم في ذلك شبيه بقولهم في الطبائع الأربع وكون " هذه الأشياء الأرضية " (1) منها، وليس قول القائل ان الحيوان لا يبقى الا بالمطعم والمشرب مما يبطل قدرة الله وتدبيره وانما دعاهم إلى ما قالوا في الطبائع والنيرات انهم لم يروا ولدا يكون الا من زرع ولا يروا زرعا يكون الا لمن يأكل ويشرب ولا ما كلا يتم الا بالمياه و الأمطار ولا مطرا يكون الا من السحاب والغيم ولا سحابا الا من بخارات ترفعها حرارة الشمس إلى الهواء وبعد ان تهب عليها الرياح ولا رياحا تتحول وتهب الا بحركة السماوات على ما انا
مخ ۱۹
موضحه في آخر كتابي هذا، ولأنهم لم يروا في طول هذا الدهر مطرا كان ولا رعدا، ولا برقا ولا سحابا ولا دابة ولدت أو شجرة نبتت وأثمرت بحيث لا تطلع عليها الشمس والقمر، فالانسان كما تري من الزرع، والزرع من الدم، والدم من الأغذية والأشربة، والأغذية والأشربة من النبات، والنبات من المياه والأمطار في الأرض، والأمطار من البخارات والسحاب الذي يصعد من الأرض في فصول السنة، وفصول السنة هي مسير الشمس في فلكها على ما انا واصفه، وكل ذلك يجري بتقدير من حكيم قدير خلق ذلك كله على ما قدر وأراد من احداث بعض خلقه من بعض وإقامة بعضه ببعض، كالكواكب التي لأقوام لها الا " بأفلاكها " (1) والنار التي لا توجد الا في الاحجاز " وغيرها "، و الماء الذي لاثبات له الا بالأرض، والأرض التي لا " قوام لها " (2) الا بالهواء الذي يشيلها من جوانبها، فهي كالخردلة التي تلقى في مثانة شاة لا تستقر فيها فتبقى معلقة في وسطها، فكذلك الحيوانات والنبات لا كون لها ولا فساد الا بالأرض والهواء و النار والماء، وقد قال أرسطوطيلس ان الطبائع طبيعتان طبيعة مستعلية على الكون والفساد بكلها وجزوها، وهي الفلك والنيرات، وطبيعة تقع اجزاءها تحت الكون والفساد ولا تقع كلها تحت الفساد، وهي الطبائع الأربع، فمن اجزاء الطبائع تكون المزاجات الأربعة، ومن تلك المزاجات تكون الحيوانات، فاما ما ينشأ في الهواء من مطر وثلج " وريح " فإنه يكون من البخار الرطب، ويكون الرعد والبرق والنيازل والشهب من البخار " الحار " اليابس، و علة ذلك كله اختلاف حركات الأفلاك، لان الفلك الأعلى يدور
مخ ۲۰