Fiqh of Marriage and Inheritance
فقه النكاح والفرائض
خپرندوی
-
د ایډیشن شمېره
-
ژانرونه
المقدمة:
التمهيد:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأنعم علينا بنعمة الإيمان الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وصار على نهجه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛
فإن الشريعة الإسلامية قد امتازت عن الشرائع السماوية السابقة لكونها أوفى الشرائع بتحقيق مصالح العباد وإسعادهم، وقد جعلها الحق ﷾ خاتمة الشرائع لما اشتملت عليه من مروه ويسر، وبما تضمنته من قواعد كلية ومبادئ عامة تتفق مع طبائع البشر في كل بيئة وعصر، فقد رفعت الأغلال عن كاهل العباد وكونت منهم أمة سجل التاريخ لها آيات مشرقة وصحائف خالدة، وقضت بتعاليمها الربانية السمحة على كل ما كان يعانيه العالم من ظلم وذل وإرهاق فأخرجت الناس من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، وهدت العباد إلى طريق الله المستقيم.
لذا كان لزاما على علماء هذه الأمة الذين هم ورثة الأنبياء أن يبينوا دقائق هذه الشريعة الغراء وأصولها للناس في كل مناحي الحياة.
ونظرا لأن الزواج معنى جُبل عليه الإنسان لتكوين الأسر التي هي لبنة من لبنات المجتمع، وهذا أمر دعت إليه جميع الشرائع والأديان لما يترتب عليه من المحافظة على الأعراض والأنساب.
1 / 1
لذا كان هذا العقد من أهم العقود خطرا وأرفعها قدرا لأنه به يجمع الشمل ويتم الشوق وتتكون الأسرة التي هي نواة المجتمع الإنساني ويتم الترابط بين الأسر، ومن ثم فإنه يشترط فيه ما لا يشترط في غيره من اشتراط الولي والإشهاد والإعلان بين الناس حيث يقول ﷺ: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح، خاطب، وولي، وشاهدي عدل".
ويقول أيضا: "أعلنوا النكاح ولو بالدف".
فالشارع الحكيم إحطاط لهذا العقد ما لم يحطاط لغيره من سائر العقود، فمن أجل ذلك أبيح فيه الضرب بالدف وإظهار معالم البشر والسرور في جو إسلامي كله طهر وبهجة وعفاف.
وإنني بتوفيق من المولى ﷻ في هذه المحاضرات سأتناول الحديث عن النكاح، والطلاق، والخلع، والرجعة، والعدة، والإيلاء، والظهار، والكفارة، واللعان، والفرائض.
وحيث إن الدراسة معظمها إن لم تكن كلها من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة فإنني سأقدم لهذه الدراسة بذكر حال المرأة قبل الإسلام وبعده بإيجاز أملا في أن تعود المرأة المسلمة إلى التمسك بمبادئ دينها ولتعلم أن الإسلام كرمها في جميع مناحي حياتها، ليكون علمها بذل حجة عليها أمام الله ﷿ مستعينا بالله وحده راجيا منه العون والتوفيق، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك
1 / 2
والقادر عليه فإن أصبت الهدف المنشود فبتوفيق المولى -جلال جلاله- وإن كانت الأخرى فمن نفسي والشيطان.
"وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"
دكتور:
محمد عبد اللطيف محمد قنديل
مدرس الفقه الشافعي بقسم الفقه العام
كلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات بالإسكندرية
جامعة الأزهر
1 / 3
المرأة قبل الإسلام:
إننا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى صفحات التاريخ في حال المرأة قبل الإسلام فإننا نجد أن الملل القديمة كانت تنظر إلى المرأة نظرة كلها تحقير وإهانة مما لا يتفق مع آدميتها كإنسانه، بل كانت تعاملها بأبشع أنواع الظلم وتسومها سوء العذاب وتدفع بها نحو الهواية والذل والهوان وإليكم توضيح ذلك.
المرأة عن اليونان:
كان اليونانيون ينظرون إلى المرأة على أنها إنسانة حقيرة مسلوبة الحرية لا حقوق ولا أهلية لها تباع وتشترى في الأسواق، مما أدى إلى انتشار دور البغاء فتبوأ العاهرات والمومسات مكانة عالية، وشاعت الفاحشة بين الرجال والنساء حتى أصبح الزنا أمرا مألوفا غير منكر، وليس ذلك فحسب، بل انتشر بينهم اللواط بين الرجال والشباب انتشار السم في الدم.
ونتيجة لهذا الانحطاط الأخلاقي انهارت هذه الإمبراطورية وكأنها لم تكن شيئا يذكر.
وصدق الله العظيم حيث قال في محكم التنزيل: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ ١.
_________
١ الآية ١٠٢ من سورة هود.
1 / 4
المرأة عن الرومان:
كان الرومان ينظرون إلى المرأة على أنها شيطانة وأنها رجس لا سلطان لها على أنوثتها يجب ألا تأكل اللحم ولا تتكلم ولا تضحك، وكان للرجل الحق الكامل في أن يتصرف في أبنائه وزوجته كيفما يشاء يبيع من يشاء ويقتل منهم من يشاء لا سلطان عليه ويدخل على أسرته من يشاء ويطرد من أبناءه من يشاء أو يعذبهم فاستشرى الفساد، وانشرت بيوت الدعارة وراجت تجارة الخمور.
فكانت النتيجة أن تمزقت هذه الدولة شر ممزق وانهارت شر انهيار.
المرأة عند الإغريق:
كانت المرأة عندهم تعد مخلوقا حقيرا لا تصلح لغير النسل وخدمة المنزل، وإذا كانت ولودا استعيرت من زوجها لتلد للوطن أولاد من رجل آخر.
المرأة عند الهنود:
جاء في شريعة "مانو" الهندية أن الوباء والموت والسم والأفاعي كل ذلك خير من المرأة، ويجب أن تكون المرأة في طفولتها لأبيها وفي شبابها لزوجها، وفي تأيمها لأبنائها، وفي ثكلها لأقرباء بعلها ولا يجوز ترك أمرها لها.
1 / 5
وفيها أيضا أن المرأة إذا خلت برجل مدة تكفي لإنتاج بيضة يجب عليها أن تقوم بحرق جسدها على مقربة من جسد زوجها المحروق أو يحكمون عليها بالموت.
المرأة عن اليهود:
يعتبر اليهود المرأة لعنة فهي التي أغوت آدم حتى أكل من الشجرة فطرد بسبب ذلك من الجنة، لذلك فهي مجرد خادمة ليس لها حقوق أو أهلية، وكانوا لا يورثونها، وإذا حاضت فإنها تكون نجسة، وكل ما تلمسه بيدها ينجس بنجاستها، بل كان بعضهم يطردها من البيت فإذا ما طهرت من حيضها رجعت إلى بيتها.
المرأة عن النصارى:
يرى النصارى أن المرأة باب الشيطان، ناقضة لقانون الله مشوهة لصورة الله "الرجل" فهي مخلوق نجس يحرم عليها قراءة كتاب العهد الجديد خلقت لخدمة الرجل.
المرأة عن الفارسيين:
كانت المرأة عند أهل فارس في انحطاط وذلة، فهي سبب هيجان الشرور التي توجب العذاب والسخط لدى الآلهة، ولهذا يبيحون عليها أن تعيش تحت أنواع الظلم، وكانت المرأة في مذهب فارس تحت سلطة الزوج من حقه أن يتصرف فيها كما يتصرف في ماله ومتاعه.
1 / 6
وكان له أن يحكم بقتلها، مع أن تعدد الزوجات أيضا كان شائعا عندهم بدون شرط أو تحديد.
المرأة في جاهلية العرب:
كان العرب في الجاهلية يعتبرون المرأة جزءًا من الثروة، ولهذا فإن الأرملة كانت تعد ميراثا لابن المورث، وكان تعدد الزوجات شائعا في جميع القبائل العربية بدون شرط أو تحديد.
وليس ذلك فحسب بل كانت معظم القبائل العربية يظلمون المرأة ظلما أبشع مما تعرضت له المرأة عند غيرهم فكانوا يؤدون البنات وهن أحياء مخافة العار أو الفقر يذكرنا القرآن الكريم بهذا الظلم الشنيع للمرأة فيقول: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ ١.
ومن المؤلم أنه لم يفعل ذلك الرجل منهم فحسب، بل كانت المرأة منهم عندما يحين وقت وضعها تجلس على شفا حفرة وتضع مولودها على رأس هذه الحفرة فإن كان المولود أنثى رمت بها في الحفرة وردت عليها التراب، وإن كان المولود غلاما أبقت عليه.
ولم يكن ظلم العرب الجاهليين للمرأة يقف عند وأدها فحسب بل كانت كل جوانب حياة المرأة كلها ظلم.
_________
١ الآيتان ٥٨، ٥٩ من سورة النحل.
1 / 7
المرأة في ظل الإسلام:
عندما أشرق نور الإسلام على الوجود، كان العالم ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
قسم متحضر كالإمبراطورية الرومانية والفارسية وشعوب مصر والهند والحبشة والصين.
وكانت المرأة عند هذه الشعوب كالأسير ليست لها حرية الإرادة محرومة من جميع الحقوق على النحو الذي ذكرناه بالتفصيل السابق.
القسم الثاني:
قسم مختلف كالقبائل في إفريقيا وبقية الأقطار في البلدان المختلفة حضاريا والعرب في الجزيرة العربية، فالمرأة عند هذه الشعوب لا تعتبر إنسانا بل هي متطفلة على المجتمع وتعامل كما تتعامل الحيوانات الأهلية التي يستخدمونها وفي أوقات المجاعة كان يصنع من جسدها ولائم دسمة يتغذون بها، ويؤدها العرب حية مخافة العار والفقر.
إلى أن أشرق الإسلام بنوره فكرَّم المرأة جنينا وكرَّمها طفلة كرَّمها زوجة وكرَّمها أما بعد أن كانت سلعة لا قيمة لها في هذا الكون على مر العصور والأزمنة.
فما أكثر الآيات القرآنية التي يقرن فيها ذكر الرجل بذكر المرأة منها قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ ١.
_________
١ من الآية ١ من سورة النساء.
1 / 8
ومنها قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ ١.
وهذا هو الحبيب المصطفى ﷺ يقول فيما يرويه أبو داود والترمذي وأحمد من حديث عائشة ﵄: "إنما النساء شقائق الرجال".
ويوصينا بالنساء خيرا فيقول في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: "استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا".
والفضل ما شهدت به الأعداء، يقول المستشرق: آندريه سرفيه في كتابه عن الإسلام ونفسية المسلمين: من أراد أن يتحقق من عناية محمد -صلى الله عليه سلم- فليقرأ خطبته في مكة التي أوصى فيها بالنساء.
والتي يقول فيها: "أيها الناس: فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهن ألا يُوطِئنَ فُرشَكم أحد تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عوان لكم لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله،
_________
١ الآية ٣٢ من سور النحل.
1 / 9
فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنة رسوله".
لقد احترم الإسلام آدمية المرأة فقرر المساواة التامة بينها وبين الرجل في الإنسانية والنسب البشري، وجعلها تتمتع بجميع حقوقها من الإرث وجميع العقد المالية من بيع وخلافه وليس لأحد أن يمنعها من ذلك، ثم احترم الإسلام رأيها واستمع إليها وجعلها تعبر عن رأيها وكل ما تريد بصدق وصراحة وتدافع عن جميع حقوقها المشروعة وأعطاها حرية الكلام وإبداع الرأي والاستجابة إليها مما يطول المقام لذكره مع أدلته.
ومع هذا التكريم الإلهي للمرأة في ظل الإسلام فإننا نرى ونسمع بكل وقاحة الدعاوى المعاصرة التي ينادي بها أعداء الإسلام وأعداء المرأة والمجتمع من أهل الشر والفساد يوجهون مطاعنهم للإسلام من خلال خمسة مطاعن كلها تخص المرأة "الحجاب، وتعدد الزوجات، الطلاق، وتنصيف الإرث، وتنصيف الشهادة".
وهذا كله من مكر الماسونية اليهودية التي نجحت في القضاء على المرأة الأوروبية، وهي اليوم تتجه إلى المرأة في العالم الإسلامي، ولقد نجحت بعض الشيء بواسطة المستعمر الخبيث وبواسطة جمعيات النهضة النسائية التي تعمل بشعار الماسونية وتسير في ركابها وتنفذ أوامرها تارة باسم المساواة البريئة، وتارة باسم التقدم وركب الحضارة، وتارة باسم السياسة وهكذا تُسير الماسونية جمعيات النهضة النسائية في العالم الإسلامي.
1 / 10
ولكنهم: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ ١.
ولكنهم: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ .
فأحذري أختي المسلمة فأنت المستهدفة أولًا وآخرًا وتمسكي بتعاليم دينك، وإياك ثم إياك ثم إياك أن تنخدعي يوما ما ويجرفك تيار ما يسمونه بالتحضر، وليس هو بتحضر، بل هو الفساد الأخلاقي الذي ينذر بعقاب الله ﷿ نسأل الله العظيم أن يحفظ علينا ديننا وأن يحفظنا من شر أعدائنا وأن يجعل كيدهم في نحورهم.
إنه نعم المولى نعم النصير
1 / 11
مقدمات النكاح
المقدمة الأولى: الاختيار
...
مقدمات النكاح:
لعقد النكاح مقدمتان:
المقدمة الأولى: الاختيار
الاختيار: خار يخير صار ذا خير، وخار الله لك من الأمر: جعل الله لك فيه الخير، وأنت بالخيار: أي اختر ما شئت، والاختيار: طلب الخير يقول المولى ﷻ:
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ ١.
في هذه الآية الكريمة يخبرنا ربنا ﷿ بأن الزجة سكن لزوجها، وحرث له، كما قال تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ ٢.
وشريكة حياته، وربة بيته، وأم أولاده، ومهوى فؤاده وموضع سره ونجواه، وهي أهم ركن من أركان الأسرة؛ لأنها المنجبة للأولاد، ويرث عنها أولادها الكثير من المزايا والصفات، وفي أحضانها يجد أولادها عواطف الأمومة، وتتربى ملكاتهم، ويكتسبون الكثير من العادات والتقاليد، ويعرفون أمور دينهم، لذلك وغيره حث الإسلام الرجل عند اختيار شريكة حياته أن يتحرى الدقة عند اختيارها وفقا لما حث عليه الإسلام.
_________
١ الآية ٢ من سورة الروم.
٢ الآية ٢٣٣ من سورة البقرة.
1 / 13
وأهم الصفات التي تختار الزوجة لأجلها أهمها:
١- أن تكون ذات دين وخلق فاضل نظرًا لأن عقد النكاح عقد يدوم العمر كله فإن الشارع الحكيم جعل له مقدمات وجه إلى الاختيار وجعله مرحلة تسبق الخطبة والعقد حيث يقول ﷺ: "تخيروا لنطفكم فأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم".
وفَصَّلَ ﷺ ما يدور بنفس كل من ينشد شريكة حياته فقال: "تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فأظفر بذات الدين تربت يداك" وللعلماء في المعنى المراد من قوله ﷺ: "ترتب يداك" تأويلات ثلاثة:
أحدها: أن تربت بمعنى استغنت فتكن دعاء من رسول الله ﷺ لمن يتمثل أمره، وإن كان معناها لغة "افتقرت" فتصير من أسماء الأضداد.
الثاني: أن معناه تربت يدالك إن لم تظفر بذات الدين؛ لأن من لم يظفر بذات الدين سلبت منه البركة فافتقرت يداه.
الثالث: أنها كلمة تخف على ألسنة العرب في خواتيم الكلام، ولا يريدون بها دعاء ولا ذما فيقولون: ما أشعره قاتله الله، وما رماه شلت يداه ففي هذا الحديث النبوي الشريف بين النبي ﷺ الرغبة التي تدور في نفس كل باحث عن الزواج فبين أن من الناس من يرغب في ذات المال وليستفيد بمالها، ومنهم من يؤثر ذات الحسب
1 / 14
ليشرف بمصاهرة أهلها، ومنهم من يؤثر الجمال لتمتلأ نفسه بهجة وسرور إذا نظر إليها، ومنهم من يفضل ذات الدين والخلق.
ورسولنا -صلوات ربي وسلامه عليه- يحث راغبي الزواج على اختيار ذات الدين والخلق الفاضل، وواضح أنه ليس معنى الظفر بذات الدين قصر الاختيار عليه والعدول عما سواه من الصفات الأخرى، وإنما القصد اعتبار الدين أساسا في الاختيار، ولا يمنع هذا من التطلع بعد ذلك إلى شيء من الاعتبارات الأخرى.
أما إذا كان اختيار من يرغب في الزواج الجمال وحده فذلك أمر لا يحقق الحياة الزوجية السعيدة؛ لأن الجمال كثيرا ما يولد الغيرة والشك، فضلا عن أنه عرضة للزوال فتزول الرغبة بزواله وتغيره.
كما أن اعتبار المال وحده أساس للاختيار أو الحسب كذلك لا تتحقق معهما الحياة الزوجية المنشودة ويُعَرِض الزوجة للتعالي على زوجها والطغيان فتفسد بينهما الحياة الزوجية وإلى هذا المعنى ينبهنا النبي ﷺ فيقول: "لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يُرْدِيهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تُطْغيهن، ولكن تزوجهن على الدين ولأمة سوداء ذات دين أفضل".
فأفضل كنز يحصل عليه الرجل في حياته هو المرأة الصالحة ذات الدين يقول ﷺ: "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته".
1 / 15
فهذا دليل على اختيار صاحبة الدين؛ لأن ذلك عامل رئيسي في إسعاد الحياة الزوجية ليتحقق بذلك السكن والمودة والرحمة من منطلق قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ ١.
وعلى العكس من ذلك إذا لم يكن كل من الزوجين على جانب كبير من الخلق والدين فإن ذلك يعرض الحياة الزوجية للتقوض والانهدام.
فليكن الأساس الأول للاختيار عند الزواج هو الدين؛ لأن ذلك يحقق للرجل هدفين عظيمين:
أولهما: إسعاد الرجل.
ثانيهما: تنشئة الأولاد نشأة صالحة تتميز بالاستقامة وحسن الخلق لذا قال -صلى الله عليه سلم: "تخيروا لنطفكم فأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم".
٢- أن تكون بكرًا:
بكارة الجارية عذرتها، وأصله من ابتكار الفاكهة وهو أكل باكروتها ومنه: ابتكر الخطبة: أدرك أولها، وبكَّر بالصلاة صلاها في أول وقتها، والبكر: بفتح الباء الفتي القوي من الإبل، والباكورة أول الفاكهة.
والبِكْرُ: هي العذارء الباقية على حالها الأول لم تفض بكارتها أو التي زالت عذرتها بغير وطء كإصبع أو زيادة طمث أو النزول من أعلى إلى أسفل.
_________
١ من الآية ٢١ من سورة الروم.
1 / 16
ويستدل على اختيار البكر بما رواه جابر في الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه سلم- أنه قال له: "هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك".
وقوله -صلى الله عليه سلم: "عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحامًا وأرضى باليسير".
وفي رواية أخرى: "عليكم بالأبكار فإنهن أطيب أفواها وأضيق أرحامًا وأرضى باليسير من الجماع".
وقوله -صلى الله عليه سلم: "أنتق أرحاما" أي أكثر أولادًا يقال للمرأة كثيرة الأولاد ناتق.
وفي الحرص على الزواج بالمرأة البكر ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: أنها تحب زوجها الأول وتألفه؛ لأن النفس البشرية مجبولة على الأنس بأول مألوف، بخلاف المرأة التي مارست الرجال وسبق لها الزواج فربما لا ترضى ببعض الأوصاف في زوجها الثاني والتي تخالف ما ألفته في زوجه الأول فيؤدي إلى أن تكره الزوج الثاني.
الفائدة الثانية: أن البكر تكون كاملة التودد لزوجها.
الفائدة الثالثة: أن البكر لا تحن إلا للزوج الأول:
وفي ذلك يقول الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل
1 / 17
إلا إذا كان هناك ما يدعو الرجل إلى نكاح الثيب كأن كانت له زوجة وفارقها بالموت أو الطلاق وتركت له أبناء يحتاجون إلى من تتولى تربيتهم فالثيب أفضل قال جابر ﵁ لرسول الله ﷺ: هلك أبي وترك سبع بنات، أو تسع بنات فكرهت أن أجيئهن بمثلهن، فتزوجت ثيبا، فقال ﷺ: "بارك الله لك".
ووجه الدلالة: هو أن الرسول ﷺ عندما علم حاجة جابر إلى نكاح الثيب لتقوم على تربية أخواته أقره على ذلك ودعا له بالبركة.
٣- أن تكون جميلة:
أي باعتبار الطبع فيما يظهر ولو سوداء مثلا؛ لأن من مقاصد النكاح العفة وهي لا تحصل إلا بجمال حسب طبعه ولقوله ﷺ: "تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك".
ولكن يكره اختيار بارعة الجمال؛ لأنها إما أن تزهو أي تتكبر بجمالها أو تمتد الأعين إليها.
والمراد بالجمال: الوصف القائم بالذات المستحسن لذوي الطباع السليمة.
وقال الأصمعي: الحسن في العينين، والجمال في الأنف والخد، والملاحة في الفم.
وهذا هو الفرق بين الحسن، والجمال، والملاحة.
1 / 18
وحث النبي ﷺ الرجال عند اختيارهم أن تكون المرأة المختارة جميلة حيث قال ﷺ في الحديث المتفق عليه: "تنكح المرأة لأربع" ومن بينها "الجمال" ولا يتعارض هذا مع ما أخرجه ابن ماجه والبزار والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو ﵄ مرفوعا عن رسول الله ﷺ قال: "لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يُرْدِهن، ولا لمالهن فلعله يُطغهن، وانكحوا للدين".
وذلك لأن الحديث المتفق عليه والذي يرغب في صفة الجمال عند اختيار شريكة الحياة القصد منه الإخبار من النبي ﷺ بما يفعله الناس في العادة أنهم يرغبون في هذه الخصال الأربع وآخرها ذات الدين.
أما الحديث الثاني والذي ظاهره النهي عن اختيار ذات الجمال والمال ذلك؛ لأن كلا منهما عرضة للزوال فلا معنى لإيثار شيء من ذلك على الدين والخلق.
٤- ألا تكون صاحبة ولد من زوج سابق:
لما روي أن رسول الله ﷺ قال لزيد بن حارثة: "لا تتزوج خمسًا: شَهْبَرة وهي الطويلة المهزولة، ولا لَهْبَرة وهي الزرقاء البذية، ولا نَهْبَرة وهو العجوز المدبرة، ولا هَنْدَرة وهي القصيرة الدميمة،
1 / 19
ولا لفوتا وهي ذات الولد من غيرك".
وقوله ﷺ: "الزرقاء" أي في العين.
"البذية": أي في اللسان.
وقد قيل: النساء ثلاثة؛ واحدة لك، وواحدة عليك، وواحدة لا لك ولا عليك.
أما التي لك فهي البكر، وأما التي عليك فهي الثيب التي لها ولد من غيرك، وأما التي لا لك ولا عليك فهي الثيب التي ليس لها ولد من غيرك.
وقال بعض العلماء يكره نكاح خمسة:
أنانة: أي كثيرة الأنين والتشكي وتعصب رأسها كل ساعة فنكاح المريضة والمتمرضة لا خير فيه.
وحنانة: وهي التي تحن إلى زوج آخر كل ساعة.
وحداقة: وهي التي ترمي بعينها إلى كل شيء تكلف زوجها شراءه.
وبراقة: وهيا التي تعمل على تجميل وجهها وتزينه، وقيل: هي التي تغضب على الطعام ولا تأكل إلا وحدها تشتغل بنفسها في كل شيء.
والشداقة: وهي التي تتشدق كثيرا بالكلام.
٥- ألا تكون أعلى منه قدرًا ونسبًا ومالًا وجاهًا ولا أصغر منه سنا.
لأن ذلك كله يؤدي إلى ترافعها عليه وعدم احترامه وربما يؤدي ذلك إلى النشوز والمخالفة والهجر في المضجع وعدم تمكينه من المباشرة فيؤدي كل ذلك إلى قطع العشرة.
1 / 20
فالأولى أن يختار الرجل إما من هي مثلة في المنزلة، أو من هي دونه فيها ليعظم قدره عندها وليحقق معها القوامة التي عبر عنها القرآن الكريم حيث يقول ربنا ﷻ ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ ١.
٦- ألا يكون في حلها خلاف:
ينبغي على الرجل عند اختيار شريكه حياته أن يختار التي تحل له قولا واحدا ويبتعد عن اختيار المختلف في حلها كالتي زنى هو بها أو تمتع بأمها، أو التي زنى بها أصله أو فرعه، أو التي شك في تحريمها عليه بسبب الرضاع المحرم.
٧- أن تكون ولودا ودودا:
وقوله ﷺ: "تزوجوا الولود الودود".
وقوله ﷺ: "سوداء ولود خير من حسناء عقيم".
وتعرف البكر بأقاربها من النساء، والودود التي تتودد لزوجها بحبها له بسبب ما تتصف به من صفات حميدة.
٨- ألا يكن لها مطلق يرغب في نكاحها:
لأن ذلك يؤدي في الغالب إلى إفساد العلاقة الزوجية بينها وبين الزوج الثاني لها بسبب رغبتها وحنينها إلى الزوج الأول.
٩- أن تكون خفيفة المهر:
لقوله ﷺ: "أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة".
_________
١ من الآية ٣٤ من سورة النساء.
1 / 21