فلم وثائقي مقدمه قصیره
الفيلم الوثائقي: مقدمة قصيرة جدا
ژانرونه
أصبحت تلك الرومانسية سمة مميزة لأعمال فلاهرتي، فأخرج، من بين أفلام أخرى، فيلم «موانا» (1926) في ساموا، و«رجل من آران» (1934) عن انفصال جزر آران عن إيرلندا، و«قصة لويزيانا» (1948)، وهو آخر أفلامه، في جداول لويزيانا. وقد محت هذه الأفلام تعقيدات الحياة الاجتماعية لمصلحة قصة عن إنسان في مواجهة الطبيعة؛ ففي البحار الجنوبية، ذهل فلاهرتي لاكتشافه أن الطبيعة كانت متسامحة مع سكان الجزر، لذا خلق دراما في عادة دق الوشم المؤلمة التي كانت في طريقها إلى الزوال آنذاك، وتجاهل، من بين أشياء أخرى، الوجود الاستعماري في ساموا، والخصخصة الجائرة للملكيات التي أحدثت تحولا في المجتمعات الساموية، وإصرار الحكومة على نظام الزواج الرسمي الغربي الذي يتعارض مع تقاليد الزواج الساموية. وفي فيلم «رجل من آران» (1934)، جعل فلاهرتي سكان جزيرة آران يحيون عادة صيد القروش المتشمسة (إذ كان لا بد من تعليمهم)، واستبعد من القصة عنصرين ساهما إسهاما كبيرا في تكوين حياتهم: عملهم في تجارة الأسماك مع البر الرئيسي، وحقيقة أن الملاك الغائبين، وليس قوى الطبيعة القاسية، هم من أجبروا شخصيات فيلمه على الاستقرار في الأرض المقفرة التي كانوا بحاجة إلى إثرائها بالأعشاب البحرية.
أحد أسباب جاذبية فيلم «نانوك» احتفاء فلاهرتي ب «البدائي النبيل»، وهو مفهوم شائع ذو تراث طويل في الفكر الغربي، ويعود تاريخه إلى بدايات عصر التنوير، وظهر في كتابات جان جاك روسو. يعبر مفهوم البدائي النبيل عن فلسفة تفاؤلية بأن الإنسان الطبيعي خير بفطرته، وقد أصبح له حضور قوي على نحو خاص في الإبداع الأوروبي والأنجلو أمريكي في أوج حقبة الاستعمار الأوروبي في العصر الفيكتوري ومع أيديولوجية «حتمية التوسع» الأمريكية. حتى مع تأكيد القوى الصاعدة لسيطرتها على مختلف الثقافات سياسيا، استهدف مستكشفوهم أراضي غريبة لم تطأها قدم من قبل تتجاوز حدود معرفتهم، واحتفوا بجمال الحياة البسيطة. وكما أشار ليو ماركس، هذه النظرة الرومانسية للثقافات الأخرى، التي تقدر لما يفترض فيها من بساطة وبراءة، لم تنم إلا مع فترة التصنيع السريع.
ثمة سبب آخر لاستمرار حب الجمهور لأفلام فلاهرتي، هو وضوح عشق فلاهرتي الشديد لأبطاله؛ فقد أقام فلاهرتي رابطة إنسانية دافئة مع الناس الذين عاش معهم وعمل لشهور في فترة من الفترات. وبعد أربعة عقود من إخراج فلاهرتي لفيلم «رجل من آران»، عاد المخرج جورج ستوني - الذي ألهمته مشاهدته لأفلام فلاهرتي بالعمل في مهنة الإخراج - إلى الجزيرة حيث كان جده أول طبيب يحاور الأشخاص الذين عملوا بالفيلم. ويستعرض فيلمه «كيف صنعت الأسطورة» (1978) فيلم «رجل من آران» كأسطورة صنعت من الواقع بمهارة. وقد كان الناس يذكرون فلاهرتي بإعزاز شديد، واستمتعت أجيال من سكان الإسكيمو أيضا بمشاهدة فيلم «نانوك»، معتبرين إياه هدية أتاحت لهم معرفة تقاليدهم.
أثار النقاد في تلك الفترة تساؤلات حول الهدف والأخلاقيات، خاصة فيما يتعلق بفيلم «رجل من آران»، وقد احتفى جريرسون وبول روثا - وهو رائد آخر من رواد ما عرف بالوثائقيات البريطانية - بفلاهرتي باعتباره أحد الفنانين العظماء الذين ارتقوا بالفيلم الوثائقي ليصبح فنا جميلا وليس مجرد تسجيل لأحداث، ويرى هذان المخرجان أن فلاهرتي قد افتقر إلى الضمير الاجتماعي والالتزام بالتواؤم مع العصر الصناعي الذي كان يمثل رمزا لحركتهما. وفي منتصف فترة الكساد العظيم، أثارت أعمال فلاهرتي حفيظة النقاد من يسار الوسط؛ إذ كتب الناقد البريطاني اليساري آيفور مونتاجيو يقول: «تماما مثلما تفعل هوليوود، ينشغل فلاهرتي بتحويل الواقع إلى خيال. وباعتباره شاعرا له عين شاعر، فإن المأساة هي أن كذبته هي الأعظم، لأن بإمكانه أن يجعل الخيال يبدو حقيقيا.»
بعد وفاة فلاهرتي، انقسمت الآراء النقدية إلى معسكرين، أطلق عليهما عالم الأنثروبولوجيا جاي روبي «فلاهرتي الأسطورة» و«فلاهرتي المخادع الرومانسي»، وقد أصبحت فرانسيس أرملة فلاهرتي، التي كانت عاملا مساعدا لا غنى عنه في كل مشروعاته الفنية، حامية الشعلة، فقد احتفت بما أسمته «منهج فلاهرتي»، الذي وصفته بأنها قدرة خاصة على «الاستسلام للمادة»، حتى يتمكن فلاهرتي من أن يعرض على المشاهدين «نظرته البريئة» للموضوع، وقد صاغت مصطلح «اللاتحيز» لوصف منهجه الذي صورته بأنه حدسي، وروحاني، ومعصوم من الخطأ. وقد رفضت هيلين فان دونجن، مونتيرة فلاهرتي في مشروعيه الأخيرين والشخص الذي كان يستخلص القصص من المشاهد، ادعاءات الروحانية التي أطلقتها فرانسيس فلاهرتي، ولكنها احتفت به باعتباره «شاعرا خياليا»، و«عبقريا»، وفنانا تقيد عمله بالمتطلبات التجارية بكل أسف.
كان لنمو الوعي المناهض للاستعمار، وظهور نخبة ثقافية وطنية في عصر الحرب الباردة في العالم الثالث، ونمو الأنثروبولوجيا الداعية لتدبر الذات؛ كل ذلك كان له دوره في تغذية الجدل الدائر حول «فلاهرتي المخادع الرومانسي»؛ إذ يذهب البعض إلى أن فكرته عن صراع الإنسان ضد الطبيعة عمقت افتراضات لا جدوى منها عن الشعوب الأصلية؛ فيبدو أن الشعوب الأصلية لا تحظى إلا باهتمامنا العاطفي حين تكون بعيدة عنا على مسافة آمنة، حيث توفر لنا مكانا للاسترخاء الذهني. أيضا ساهم صراع الإنسان مع الطبيعة في تعزيز فكرتنا عن الشعوب الأصلية كأشخاص سذج أشبه بالأطفال أو حتى الحيوانات الأليفة، وربما ضحايا للحضارة، وقد أدى ذلك بالناس إلى النظر بريبة إلى الجهود السياسية للسكان الأصليين للتأكيد على مزايا علاقتهم القائمة بالاقتصادات الأكبر، غير أن جاي روبي حذر علماء الأنثروبولوجيا من القسوة المبالغ فيها في الحكم على فلاهرتي قبل النظر إلى ممارساتهم الخاصة.
لا يزال تراث فلاهرتي قائما. يبرز فيلم «قصة الجمل الباكي» (2003) أسرة في صحراء جوبي تنقذ حياة جمل صغير تنبذه أمه من خلال تجسيد طقس شعبي يغني فيه أحد الموسيقيين للجمل. كتبت القصة وابتكرت فكرتها على يد صناع الفيلم، الذين كان أحدهم منغوليا. لقد جسدوا الحياة في صحراء جوبي منذ أجيال عديدة كما صورتها لهم مخيلتهم، بمساعدة أفراد مرحين عاديين في عائلة نموذجية مترابطة. وحين سئل المخرج المساعد للفيلم لويجي فالوني عن مصدر إلهامه، اعترف قائلا: «حسنا، سوف تضحك مني، ولكنه كان نانوك ابن الشمال.»
جون جريرسون
صنعت الحياة المهنية لجون جريرسون صراعات وتناقضات في مجال الأفلام الوثائقية ضاهت في روعتها تلك التي صنعها فلاهرتي على أقل تقدير. ولد جريرسون في اسكتلندا، وهو ابن لمعلم كالفيني محافظ، وعمل بالإخراج باعتباره أداة قوية لمواجهة المشكلة التي شغلت حياته: كيف تسيطر على الصراعات الاجتماعية في مجتمع صناعي ديمقراطي. بعد مشاركته في الحرب العالمية الأولى، شاهد صراعات عمالية وحشية في مدرسة بأحد الأحياء الفقيرة، وكان يلقي عظات عن الأعمال الخيرية، وفي النهاية فاز بإحدى منح روكفلر الدراسية في الولايات المتحدة. وهناك تأثر بالناقد والتر ليبمان الذي ذهب إلى أن مجتمعنا الذي يزداد تعقيدا يتطلب خبراء يستطيعون ترجمة القضايا للجماهير الذين كانوا سيصعقون من كم الخبرة اللازم لمواجهة أي قضية. انجذب جريرسون أيضا إلى مجال العلاقات العامة الناشئ، الذي ولد مع ظهور حركة الكفاح العمالي في أواخر القرن التاسع عشر. وأخيرا رأى في فيلم «نانوك» لفلاهرتي نموذجا مقنعا لقدرة الفيلم على جذب الجماهير نحو واقع آخر، وأسره فلاهرتي نفسه بسحره الدائم، وحين كتب عن فيلم «موانا»، احتفى بطابعه «الوثائقي»، ليضع بذلك تسمية نهائية لهذا الشكل الفني.
بعد عودته إلى بريطانيا، استطاع إقناع مسئولين بريطانيين بقوة الفيلم؛ إذ كان الوقت مناسبا لمثل هذه المناقشات، وفي عام 1927، أصبح جون ريث - وهو اسكتلندي أيضا - رئيسا لأول هيئة عامة لخدمات البث في العالم، وهي هيئة الإذاعة البريطانية، التي كانت مهمتها توعية وتحسين مستوى العامة، وكانت فترة الكساد العظيم قد تسببت في تفاقم التوترات الطبقية في بريطانيا وجعلت الاشتراكية - بل الشيوعية أيضا - بديلا يبدو معقولا لكثيرين، وفي نفس الفترة، ظهر أيضا عدد هائل من حركات الإصلاح الاجتماعي، كتلك التي أثارها برنامج الإصلاح الاقتصادي في الولايات المتحدة. كان الكثير من الفنانين من شتى الأطياف، كالمصورين والمخرجين الذين كان موضوعهم هو الواقع، يرون أن الفن يتضافر على نحو معقد مع الإصلاح السياسي والاجتماعي.
ناپیژندل شوی مخ