74

وما كاد مختار يعرض تمثاله في «صالون باريس» حتى هرع إليه كبار رجال الفن، وأقبلوا على «المثال» المصري بأتم الهناء والإعجاب، وتطايرت الأخبار إلى مصر، فسرعان ما اجتمع من شبابها كل ندب وطني نجيد، وسرعان ما ندوا بالأموال واستندوا أبناء الوطن ليسجلوا «نهضة مصر» ويرفعوا تمثال مختار، ويرفعوا معه اسم مواطنهم النابغة مختار، فجمعوا آلافا من الدنانير إذا لم تغن في العمل الجسيم، فقد مهدت السبيل لأن تتولاه حكومة الشعب، ومن حق حكومة الشعب أن تتولاه.

وقد مضى العمل في تمثال «نهضة مصر» جدا بمعونة الحكومة وعطف الأمة، وهو الآن يستشرف بفضل الله للتمام.

وإذا كان مختار قد لقي بادئ الرأي تجنيا وعنتا من الدهماء وأشباه الدهماء، فتلكم سنة الكون في هؤلاء، وهل قام في الدنيا مصلح إلا قاوموه واعترضوا سبيله؟ وهل نبغ فيهم نابغ إلا ملكهم الحسد من كل جانب فمضوا يتنقصونه بكل ما أحرزوا من جهل وتضليل؟

ولقد تظاهر الجهل والحسد جميعا على تمثال مختار. أما الجهل فمن أولئك «العلماء الأقطاب» الذين تراهم يقضون بياض نهارهم وسواد ليلهم على متون القهوات العامة، أكفاء لأن يفهموا كل نظرية، ويبتوا في كل قضية، بحيث لا تخفى عليهم خافية من دقائق الفلك والطب والهندسة والسياسة وعلوم القانون وفن تعبئة الجيوش - التكتيك، وكل ما تنقطع دونه جهود فحول العلماء في جميع العالم! وأما الحسد فمن أولئك الذين يصابون بضعف الهمة وقوة الشهوة، وهم يأبون إلا أن يكونوا عظاما، إذ لم تعدهم مداركهم ولا مساعيهم في الحياة لعظيم.

تظاهر هؤلاء وأولئك على مختار وعلى تمثال مختار، فانطلقوا بكل ما فيهم من «ذكاء» و«إخلاص» ينتقصونه ويتحيفون من قدره، ومن الجهة «الفنية» ما شاء الله أيها «الجدعان»!

وسار هذا الروح الخبيث في البلد تعضده دسائس ممن أدلى إليهم الزمن «الخائر» بمناصب لها شأن في بعض الحكم، ولها جميع الشأن في أمر التمثال. فما زالوا يدافعونه ويعترضونه بألوان العواثير، ومختار ساكن سكون الواثق بأن عبقريته وحدها كفء لما أعد الحسدة وتفيهق الجهال!

وشاء الله أن تقدر هذه العبقرية قدرها، وأن يقرر مجلس النواب، بين التهليل والتصفيق، فرض المال الضخم لإتمام تمثال «نهضة مصر»، وكذلك تم الانتصار لمختار، وإن شئت قلت تم الانتصار للعبقرية الفخمة على حسد الحسدة وعلى جهل الجهال.

وتظفر مصر أخيرا بمثال نابغة من بنيها، وأولئك الذين لا يطيقون أن يسمعوا مقالة الخير في أحد من مواطنيهم، قد أمست أنوفهم في الرغام.

وفي الوقت الذي كان ينكر فيه عبقريو «القهوات» على مختار خطر فنه وخطر أثره، كانت تترادف عليه الدعوات من أكبر معاهد الفن في أوروبا لتستثمر موهبته في عملها الجليل، إذ يأبى مختار أن ينصرف عن تمثال «نهضة مصر» في سبيل المال، وما هو أعز من المال.

وحسبه من الجزاء على هذا التمثال، أنه مخلد نهضة مصر على تطاول الأعصار والأجيال. فهناء ثم هناء «يا سي مخطار»!

ناپیژندل شوی مخ