55

ولقد رزقه الله قصدا في كل ضواحي خلقه؛ فهو ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالبدين ولا بالهزيل، معتدل القامة، متناسب الأعضاء، له وجه لطيف مستدير، وفم حلو تترقرق عليه ابتسامة حلوة، يحدثك في هوادة وظرف، حتى لترى فيه خفر الكاعب وارتياح الغلام، ولا تجده، مهما لج بكما الحديث وتعلق بما يحفز ويثير، إلا وادع النفس، مطمئن القول، عذب الصوت، يقاولك في الجلى كما يقاولك في أتفه الشئون، حتى لتحسبن هذا الهيكل الذي يجتمع عليه نظرك لا يجن إلا طاقات من الزهر، أو قطعا من نسيم السحر، فلا غضب ولا مراح ولا ضغن ولا وجد ولا غريزة من تلك الغرائز التي تتفجر في صدور جميع الأحياء! ولكن، ارفع بصرك إلى عينيه تجد هناك كل ما يصول به اللسان، وتتنزى به في الحادثات جوارح الإنسان! ولصدقي باشا عينان حديدتان، وهما مستديرتان في غير سعة، وقد ركز الله فيهما مظاهر كل ما في الرجل من ألوان العواطف، فإذا استرسلت نفسك منه إلى مثل صفاء الغدير، فاحذر فلعلك بين براثن ليث خادر!

ولصدقي باشا صلعة شديدة الوضوح، تنحدر إلى مؤخر نافوخه حتى لتعرفنه بها موليا كما تعرفه مقبلا.

ويهب الله له دقة في الحس، وصفاء في الذهن لم يهبهما لكثير من الناس. وإليهما يرجع الفضل أعظمه في كل ما أدرك من براعة ونبوغ. ولصدقي باشا كل مواهب الرجل الفني حقا، وإنه لم يعالج من يوم نشأته إلى هذه الغاية موضوعا في هذا الباب إلا برع فيه، وأوفى على نهاية الإحسان. وبهذه المواهب تهيأ لإسماعيل صدقي أن يكون أكبر رجل مالي في البلاد، لا أريد مؤلفا ولا محاضرا، وإنما أريد رجل عمل، أنقذ بمهارته ميزانية الدولة مرة، وكان قد أشرف بها سلفه على الدمار. وما يزال يعالج بتلك العبقرية الفذة ميزانية الدولة وزيرا وعضوا في مجلس النواب.

من ذخائر الأمم.

وقد تطلعت الآمال من بضع عشرة سنة إلى وضع مشروع جامع لترقية شأن البلاد من الوجهتين: المالية والاقتصادية، وعهد بهذا إلى «لجنة» من أهل الخطر في هذه الأمور، مصريين وأجانب، وتولى صدقي باشا رياستها، فبحث في كل مرافق البلاد، لم يدع دقيقة ولا جليلة في ذاك إلا حررها ودل على مواضع النقص فيها، وكيف تطلب أسباب الكمال لها. وخرج بمشروع عظيم لو أن مصر وفقت إلى الأخذ به والسير بمرافقها على ما رسم فيه، لكان لثروتها المسكينة اليوم شأن آخر!

وهو من أعلى المثل للكفايات الواسعة المشبوبة التي لا تتحرج بمطلب، ولا تنخذل عن الغاية، وأنى شارك في عمل كان المجلي، وكان أول نظره جماع الرأي في النهاية. ومما يؤثر له أن المجلس الاقتصادي - ولا تنس أنه من بعض آثاره في وزارة المالية - انتخبه رئيسا للجنة الفرعية التي عهد إليها وضع النظام الجمركي، فأعد برنامجا بديعا اتخذته اللجنة دستورا لها، وما زالت تترسم آثاره إلى الآن.

ومما يحصى له إن كانت تحصى مفاخر آثاره، تلك المحاضرة الرائعة التي ألقاها في العام الماضي على محامي المحكمة المختلطة في موضوع الامتيازات الأجنبية وعلاقتها بالضرائب، وما كان أعظم انتصاره إذ يضرب تلك الامتيازات في أمنع قلاعها، ثم يتدلى عن المنبر بين تهليل صفوة «الأجانب» وهتافهم الطويل! •••

وأحرز صدقي باشا إجازة الحقوق من مدرسة الحقوق المصرية وسنه لم تتشرف بعد على الثامنة عشرة، وخرج من مراكز النيابة فلم يظهر له فيها كبير خطر، وأي خطر كبير يمكن أن يتهيأ لعضو نيابة محدود السعي، محدود العمل؟ ولكنه ما كاد يولى سكرتيرية المجلس البلدي في الإسكندرية، حتى ظهر نبوغه وظهرت معه تلك الجرأة النادرة. ويقبض رجل مصري لأول مرة على ناصية المجلس البلدي، فيضبط إدارته ويعمل على أن يطهره من أدرانه تطهيرا.

ثم جيء به سكرتيرا عاما لوزارة الداخلية فوكيلا لها، فكان له شأن أكبر من شأن «موظف» مصري في ذلك الزمان. وأنى صار صدقي باشا في مناصبه صارت معه الدقة والفطنة إلى خفايا الأمور والاضطلاع من مهام الحكم بكل عظيم.

وتولى الوزارة فلم يطل به الحظ فيها، فاعتزلها ولبث في داره بضع سنين، إلى أن ألف الوفد في أعقاب سنة 1918؛ ليتحدث على قضية مصر، فانتظم فيه صدقي باشا، وكان رابع أربعة من رجالاته امتدت إليهم يد السلطة العسكرية فنفتهم عن البلاد إلى جزيرة مالطة، حتى إذا أطلقوا بعد تلك الأحداث الجلى، انطلقوا من فورهم إلى باريس حيث وافاهم سائر أعضاء الوفد، وهناك جعلوا يرفعون صوت مصر ويطرقون بطلبتها كل باب، ويسعون إلى استقلالها ما وجدوا إلى السعي سبيلا. وإذا كانوا رفعوا صوت مصر، فلقد رفعوا كذلك رأس مصر. وإذا كانوا دونوا في إثبات حقها صحائف خالدة على التاريخ، فإن اسم إسماعيل صدقي سيظل في أجل هذه الصحائف خالدا على التاريخ.

ناپیژندل شوی مخ