عربي فکر حدیث
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
ژانرونه
جعلنا سبيلنا في هذا الفصل أن نعرض لأدبائنا ومفكرينا الذين حاولوا أن ينقدوا الثورة الفرنسية الكبرى نقدا يصح اعتباره. ونحن نعني بالطبع أننا لن نعرض الذين لم يستطيعوا أن يروا في الثورة إلا بعض مظاهر وقفوا عندها فأساءوا حتى فهم تلك المظاهر، وكتبوا وهمهم التشنيع على الثورة أو الإغراب الأدبي في سرد القصص والحوادث. وقد كان للروايات التي نقلتها إلى العربية «مجلة روايات الجيب» عن رافائيل سباتيني والبارونة أوركزي أثر سيئ في تصوير الثورة الفرنسية؛ فنحا هذا النحو بعض أدبائنا المحدثين كالأستاذ حسن الشريف في كتابه «تاريخ ما أهمله التاريخ»؛ إذ راح يشبع قراءه حديثا عن مواضيع كالملكة ماري أنطوانيت و«حزنها الملكي»، فكان الحزن أيضا طبقات كطبقات المجتمع! ومن هذه الطائفة أيضا الأستاذ عبد الله عنان الذي كتب سفرا في المؤامرات السياسية في التاريخ، فذكر غراكوس بابوف وحركته، وأظهر ما سطره عجزا ذريعا عن فهم الثائر الفرنسي وحقيقة مكانته.
47
مر بنا أن الأدباء والمفكرين العرب على وجه الجملة وقفوا موقف المعجب المتعلم من الثورة الفرنسية وأفذاذ مفكريها. ولكن تقصير الانقلاب العثماني عن تحقيق الإصلاح المرتجى أضعف الحماسة - بعض الشيء - للمبادئ التي رفع الانقلاب لواءها، وهي مبادئ الثورة الفرنسية. كما أن «حقوق الإنسان» وشعارات «الحرية والإخاء والمساواة» لم تصد دولا تدين بها أو بما يماثلها عن الزحف نحو الشرق بغية التسلط عليه. ناهيك عن أن «حقوق الإنسان» وشعارات «الحرية والإخاء والمساواة»، رغم قيامها في المجتمعات الأوروبية، لم تلغ كفاحا داخليا مستمرا في تلك المجتمعات، ومنها فرنسا نفسها؛ فقد ظل أدباؤنا ومفكرونا يسمعون مثلا بعمال يضربون، وبمفكرين يطالبون بالحرية والمساواة والإصلاح، فخالط بعضهم شك في أن الثورة الفرنسية غيرت شيئا، بل بات بعضهم يعتقد بأن مبادئ الثورة الفرنسية تخالف طبيعة الأمور ولا يتهيأ تحقيقها. وبلغت أذهان أدباء العرب أصداء من فردريك نيتشه الذي حمل حملة شعواء على الثورة ومبادئها، وكذلك لم تلبث أن بلغتهم أصداء من غوستاف لوبون وموقفه العدائي من الثورة، وقامت الحركات النازية والفاشستية فكانت مبادئ الثورة الفرنسية من أهم الأهداف التي صبت عليها نيرانها.
تلك عوامل أضعفت الإعجاب لدى بعض مفكرينا وأدبائنا بالثورة الفرنسية وضاءلت الثقة بقيمة مبادئها.
وكان فرح أنطون في طليعة أدبائنا الذين أخذوا يديرون ظهورهم لمبادئ الثورة بعد أن كانوا شديدي الحماسة لها. على أن فرح أنطون، وقد انتهى إلى الاعتقاد بالاشتراكية، ظن أن اعتقاده الجديد يضائل من قيمة الثورة الفرنسية ومبادئها ومنزلتها في التقدم التاريخي. وكأن الدكتور شبلي الشميل قصد الرد على فرح أنطون حين كتب القطعة التالية، وفيها يبين أن الثورة الفرنسية كانت مرحلة عظيمة في سير التقدم، ولكنها ليست بالمرحلة الأخيرة، ولا هي تفي بمطالب الإصلاح جميعها على ممر الأيام. قال الشميل: ... الغريب أن هؤلاء الذين كان أمثالهم يجورون في الحكم على فرنسا في الثورة الأولى، يعترفون جهارة اليوم بأنه لولا تلك الثورة لما ارتقى الإنسان واصطلح نوع الأحكام إلى ما هما عليه الآن ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا كلها، بل في العالم قاطبة. وهؤلاء الذين يعترفون بذلك اليوم يؤاخذون شعب فرنسا على عدم رضاه من نظام أحكام كانت تصلح له من مائة عام ولم تبق تصلح له اليوم؛ لأن الهيئة الاجتماعية المتمدنة ارتقت كثيرا عما كانت عليه من مائة سنة مع بقاء نظام الأحكام على حاله ... فاضطراب فرنسا وعدم رضاها من نظام جمهوريتها لا يفيدان - كما يتوهمه قصار النظر - أنها تميل للرجوع إلى الملكية، أو أنه إذا قام فيها ملك حازم يستطيع أن يقبض عليها بيد من حديد ويسير بها كيف شاء؛ فهذا حلم يجوز على عقول الأطفال، ولكن لا يجوز على الذين يدركون بعض الشيء من أسرار العمران؛ ففرنسا لن تعود إلى الملكية، ولكن الجمهورية التي تطلبها فرنسا عن حاجة في النفس مندفعة إليها بالطبع، لا عن إجهاد في قوى العقل، والتي تتوقعها أوروبا، هي الجمهورية الحقيقية الديمقراطية التي تصبح فيها الأمة الكل والحكومة لا شيء، بخلاف حكومات أوروبا وجمهورية فرنسا اليوم، فإنها كلها متقاربة في نظاماتها، متساوية في نقصها، ولو اختلفت في أسمائها، وكلها مقصرة عما تتطلبه الهيئة الاجتماعية اليوم وفي المستقبل القريب ... ... ولا سيما أن الأسباب الداعية اليوم إلى النفور من نظامات الهيئة الاجتماعية وأحكامها هي أثقل جدا على عاتق الأمم مما في عصر الثورة الأولى؛ فالثورة الأولى أسبابها الاستئثار بالأعناق والأرزاق لشرف المولد، وقد كان الناس قليلهم يدرك حق المساواة، وأما اليوم فالثورة هي ... بين قوى العقل المستنبط واليد العاملة، وبين فساد نظام الأحكام، حتى أصبحت مستنبطات العقول وأعمال الأيدي خادمة ل «نفر» يستفيدون منها.
وقد كان على التاريخ أن يقطع شوطا كبيرا، فتقع الحرب العظمى الأولى، وتقع الثورة الروسية السنة 1917، ثم تقع هذه الحرب بين قوى التقدم من جهة وقوى الرجعية التي تتزعمها ألمانيا النازية؛ كان على ذلك كله أن يقع، وأن تعثر فرنسا، ثم تأخذ في النهوض من جديد، ويهتف الجنرال ديغول: «من يقل فرنسا يقل ثورة»، ويتحدث عن «فرنسا الغد التي لن تكون كفرنسا الأمس»، وعن الجمهورية الرابعة، وتثار في بريطانيا وكل مكان مشكلة الضمان الاجتماعي، وتمتلئ الدنيا حديثا عن الديمقراطية الصحيحة والعهد العالمي الجديد - كان على ذلك كله أن يقع حتى يظهر كلام الدكتور الشميل في مدى عمقه وصحته.
قبل فرح أنطون أرسل أديب إسحاق هذه الكلمات التي تجذبنا إلى النظر والتأمل فيها، قال:
ليس في الوجود الطبيعي ولا المدني من واجب إلا بحق يماثله، وليس فيه من حق إلا بواجب يقابله؛ فإذا وجب على الوالد للهيئة المدنية تعليم ولده، فقد حق له إمكان ذلك التعليم على قدر الكفاءة. وإذا حق للهيئة الحاكمة إجباره عليه، فلقد لزمها توفير أسبابه وتمهيد سبيله على قدر الإمكان؛ فإن كان الوالد من الذين أصابهم النظام المدني باختلاله ... فهو فقير معدم ... لا يقوى على تعليم ولده ... فالهيئة الحاكمة مأمورة بأن تيسر له ما لا يستطيع.
وهي كلمات أيدها الكاتب بقول الاقتصادي الفرنسي الشهير ساي: «إن مركز المحترف العامل يدني مقدار دخله إلى حد أنه لا يكاد يفي بحاجته إلا بشق النفس، فإذا استطاع تربية الولد وتعليمه حرفة فهو لا شك عاجز عن أن ينيله من العلم القدر الذي يقتضيه حسن الحال في الهيئة المدنية، فإن رامت هذه الهيئة التمتع بنفائع هذا القدر من العلم في الفئة المحترفة العاملة وجب عليها أن تبثه فيهم على نفقتها بإنشاء المدارس المجانية» («الاقتصاد»، الكتاب 3، الفصل 6).
فأديب إسحاق يثير بما قاله وما قبسه من ساي مشكلة عظمى هي مشكلة الذين يصيبهم النظام المدني باختلاله - على حد تعبيره - وهو يعني أولئك الذين يقعون ضحية العجز الاقتصادي فلا يستطيعون أن يعلموا أولادهم. وإلى جانب ذلك يثير أديب إسحاق مبدأ عاما يتناول بمداه شئونا كثيرة غير التعليم الإلزامي، فما هو هذا المبدأ العام؟
ناپیژندل شوی مخ