عربي فکر حدیث
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
ژانرونه
ولقيت كل الناس في إنسان
ومن فوائدها أن الإنسان إذا فعل فعلا عظيما أو رديئا، وكان من الأمور المهمة، كتبه أهل الجرنال ليكون معلوما للخاص والعام، لترغيب صاحب العمل الطيب، ويرتدع صاحب الفعلة الخبيثة. وكذلك إذا كان الإنسان مظلوما من إنسان كتب مظلمته في هذه الورقات فيطلع عليها الخاص والعام فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدول عما وقع فيها ولا تبديل، وتصل إلى محل الحكم ويحكم فيها بحسب القوانين المقررة، فيكون مثل هذا الأمر عبرة لمن يعتبر. وأما المادة التاسعة فإنها عين العدل والإنصاف، وهي واجبة لضبط جور الأقوياء على الضعفاء، وتعقيبها بما في العاشرة من باب اللياقة الظاهرة. وفي المادة الخامسة عشرة نكتة لطيفة وهي أن تدبير أمر المعاملات لثلاثة مراتب: المرتبة الأولى الملك مع وزرائه، والثانية مرتبة البيريه المحابية للملك ، والثالثة مرتبة رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية والمحابون عنهم حتى لا تظلم من أحد، وحيثما كانت رسل العمالات قائمة مقام الرعية ومتكلمة على لسانها كانت الرعية كأنها حاكمة نفسها، وعلى كل حال فهي مانعة للظلم عن نفسها وهي آمنة منه بالكلية. ولا يخفى عليك حكمة باقي المواد. (3) ثورة السنة 1830 في ذكر التغييرات التي حصلت ما ترتب عليها من الفتنة
وقد سبق لنا من القوانين السالفة في الكلام على حقوق الفرنساوية في المادة الثامنة، أنه لا يمنع إنسان في فرنسا من أن يظهر رأيه ويطبعه، بشرط ألا يضر ما في القوانين، فإن أضر به أزيل؛ فما كانت سنة 1830 وإذا بالملك قد أظهر عدة أوامر منها النهي عن أن يظهر الإنسان رأيه وأن يكتبه أو يطبعه بشروط معينة خصوصا الكازيطات اليومية؛ فإنه لا بد في طبعها من أن يطلع عليها أحد من طرف الدولة فلا يظهر منها إلا ما يريد إظهاره، مع أن ذلك ليس حق الملك وحده فكان لا يمكنه عمله إلا بقانون، والقانون لا يصنع إلا باجتماع آراء ثلاثة: رأي الملك ورأي أهل ديواني المشورة، يعني: ديوان البيريه وديوان رسل العمالات؛ فصنع وحده ما لا ينفذ إلا إذا كان صنعه مع غيره. وغير أيضا في هذه الأوامر شيئا في مجمع اختيار رسل العمالات يعني في الذين يختارون رسل العمالات ليبعثوها في باريس، وفتح ديوان العمالات قبل أن يجتمع مع أنه كان حقه ألا يفتحه إلا بعد اجتماعهم كما فعله في المرة السابقة، وهذا كله على خلاف القوانين. ثم إن الملك لما أظهر هذه الأوامر كأنه أحس في نفسه بحصول مخالفة فأعطى المناصب العسكرية لعدة رؤساء مشهورين بأنهم أعداء للحرية التي هي مقصد رعية الفرنساوية. وقد ظهرت هذه الأوامر بغتة حتى ظهر أن الفرنساوية كانوا غير مستعدين لها. وبمجرد حصول هذه الأوامر قال غالب العارفين بالسياسات إنه يحصل في المدينة محنة عظيمة يترتب عليها ما يترتب كما قال الشاعر:
أرى بين الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له اضطرام
فإن النار بالعيدان تذكو
وإن الحرب أولها الكلام
ففي مساء اليوم الذي ظهرت فيه هذه الأوامر في الكازيطات، أخذ الناس في الحركة بقرب المحل المسمى باليروايال، يعني السراية السلطانية التي سكنها عيلة أقارب الملك المسماة عيلة أرليان التي الملك الآن منها، وهذا الوقت ظهر الغم على وجوه الناس. وكان هذا اليوم السادس والعشرين في شهر يوليو، وفي اليوم السابع والعشرين لم يظهر غالب كازيطات الحرية لعدم رضائها بالشروط؛ فلذلك بلغت الأوامر جميع الناس وحصلت حركة عظيمة بعدم ظهور الكازيطات التي من عادتها أنها لا تفتر عن الظهور إلا لمهم عظيم. فأغلقت الورشات والمعامل والفبريقات والمدارس، فظهر بعض كازيطات الحرية آمرة بعصيان الملك والخروج من طاعته ومعددة لمساويه، وفرقت على الناس من غير مقابل. وبهذه الديار، بل وفي غيرها قد يبلغ الكلام حيث تقصر السهام، خصوصا مادة الخطابات فإنها قوية، وخصوصا بلاغة الإنشاء فلها مدخلة عظيمة كما قيل: إن ينزل الوحي على قوم بعد الأنبياء نزل على بلغاء الكتاب، خصوصا إذا كان ما يذكر في تلك اليوميات مقبولا عند العامة ومقصودا عند الخاصة، فإن هذا هو عين البلاغة الصحيحة؛ فإنها (أي البلاغة) ما فهمته العامة ورضيت به الخاصة، فلما سمع بذلك ولاة الحسبة
5
حضروا في المحال العامة ومنعوا الناس من قراءة هذه الكازيطات وحاصروا مطابعها، وهموا بكسر آلات الطباعة، وكسروا بعضها، وحبسوا من اتهموه من الطباعين، وبهدلوا كثيرا، مما أظهر شيئا مخالفا لترتيب الملك من الرعية. وهذا أيضا مما قوى غضب الفرنساوية فكتب أرباب هذه الكازيطات - يعني رؤساء الفرنساوية الذين هم يكتبون فيها آراءهم - ورقة إنكار وأشهروها وعددوا نسخها ولصقوها بجدران المدينة وأمروا فيها الرعية بالحرب وعينوا محله. وكان الميعاد في درب سراية باليروايال، فازدحم فيه كثير من الأمم وفيما حوله من الحارات، فكانت العساكر السلطانية تحاول تفريق هذه الزحمات، فعظم دوي الرعية وكثرت أصواتهم وظهر غضبهم في سائر الدروب والحارات، فهجم العسكر على الرعية والتحم القتال بين الفريقين؛ فكانت الرعية تقاتل أولا بالأحجار والعساكر بالسيوف وآلات الحرب، فكثر القتال وعظمت المطاردة من الجانبين. ثم بحث الرعية عن آلات الحرب، وظهر صوت البارود من الجانبين في مدينة باريس، فكأنما لسان حال الفرنساوية الذي هو أصدق من لسان مقالهم جعل يقول: إن بني عمك فيهم رماح. فعظم القتال وكان أكثر المقتول من الرعية، فاشتد غضبهم وعرضوا القتلى في المحال العامة لتحريض الناس على القتال وإظهار عيوب العساكر. وقامت أنفس الناس على ملكهم لاعتقادهم أنه أمر بالقتال؛ فما مررت بهذا الوقت بحارة إلا وسمعت فيها: السلاح! السلاح! أدام الله الشرطة، وأهلك شدة الملك! فمن هذا الوقت كثر سفك الدماء، وأخذت الرعية الأسلحة من السيوفية بشراء أو غصب، وأغلب العملة والصنائعية خصوصا الطباعين هجموا على القرقولات وخانات العساكر وأخذوا منها السلاح والبارود وقتلوا من فيها من العساكر. وخلع الناس صورة علامة الملك من الحوانيت والمحال العامة - وعلامة ملك الفرنسيس هي صورة زهر الزنبق، كما أن علامة ملك الإسلام صورة هلال، وملك الموسقوبية صورة عقاب - وكسروا قناديل الحارات، وقلعوا بلاط المدينة وجمعوه في السكك المطروقة حتى يتعذر مشي الفرسان عليه، ونهبوا جبخانات البارود السلطانية، فلما اشتد الأمر وعلم الملك بذلك، وهو خارج، أمر بجعل المدينة محاصرة حكما وجعل قائد العسكر أميرا من أعداء الفرنساوية مشهورا عندهم بالخيانة لمذهب الحرية، مع أن هذا خلاف الكياسة والسياسة والرياسة؛ فقد دلهم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي، فإنه لو كان كذلك لأظهر أمارات العفو والسماح فإن عفو الملك أبقى للملك، ولما ولى على عساكره إلا جماعة عقلاء أحبابا له وللرعية غير مبغوضين ولا أعداء، ولكن أراد هلاك رعاياه حيث أنزلهم بمنزلة أعدائه، مع أن استصلاح العدو أحزم من استهلاكه، ويحسن قول بعضهم:
ناپیژندل شوی مخ