الملكة والثقافة
[سألني سائل هل الشعر مَلَكَة أم ثقافة، وأيهما أظهر أثرًا في تكوين الشاعر.]
وأنا أسأله قبل أن أجيبه: هل الصوت الحسن أظهر أثرًا في تكوين المغنِّي المطرب أم الثقافة الموسيقية؟ وأنا أعرف أنه سيقول، إنه لا يكون مغنيًا مطربًا حتى يجمع الحسنيين، فيكون حسن الصوت (بالخلقة) واقفًا على المقامات وأصول النغمات (بالتعلُّم). فإن اقتصر على حسن الصوت، لم يستقم غناؤه، ولم يحفظ عنه، وربما أفسد ملكته بجهله. وإن اقتصر على الثقافة الموسيقية، وكان قبيح الصوت، لم يُطرب ولم تُعجب. هذا حق، وكذلك الشاعر.
لا بد للشاعر (أولًا) من ملكة شعرية: استعداد فطري، وحسّ مرهف وخيال مبدع، وما هو من هذا بسبيل، وهذا شيءٌ لا يحصل بالمرانة، ولا يُنال بالتعلُّم، وإنما هو فطرة، كالصوت الحسن، وإن كانت الملكة تصقل وتهذِّب، بالاطِّلاع على آثار البلغاء، كما يهذب الصوت الحسن ويصقل بحفظ أصوات المغنين. ولا بد له (ثانيًا) من معرفة اللغة التي ينظم فيها، والوقوف على قواعد التعبير بها، وسنن أهلها في كلامهم، وأن ينظر في آثار أربابها، في عصورها كلها، ويرويها رواية فهم وتذوُّق.
فإن اقتصر على الملكة وحدها، ولم يطَّلع على شيء من هذا كله، كان كشعراء العامة، وفي الشعر العامي ما يزري (بصوره وأخيلته) بكثير من الشعر الفصيح، ولكنه لاتبقى، فهو كتمثال فني بالغ من الجودة غايتها، غير أنه مصنوع من الثلج، فلا تطلُّ عليه شمس الغد حتى يذوب ...
1 / 58