ولا أحب أن أفيض في هذا الموضوع، كما أنني لا أحب أن أدعه من غير أن أنبه إخواننا إلى أن الكتَّاب ثلاثة:
كاتب همُّه أن ينقل الفكرة التي في رأسه إلى رأسك على أهون سبيل؛ فلا يتخيَّر من الألفاظ إلا أقربها دلالة على هذه الفكرة. ولا من الجمل إلا أقلها إتعابًا لك، وأشدها وضوحًا، وهذا هو أسلوب ابن المقفَّع.
وكاتب يحافظ على الفكرة. ويريد أن ينقلها إليك، ولكنه يحبُّ أن يختار الألفاظ الجميلة، والعبارات الأخَّاذة ليحمِّلها فكرته، أي أنه لا يكتفي بوضوح الأسلوب، بل يفتِّش عن الجمال الفني في هذا الأسلوب، وهذه هي طريقة الجاحظ وابن العميد.
وكاتب يصرف همَّه إلى هذا الجمال الفني اللفظي ولو ضاعت فيه الفكرة أو تقطَّعت أوصالها، وهذا هو أسلوب القاضي الفاضل، وهذا هو شرُّ الأساليب!
وأن أنبِّههم إلى أن من الواجب عند دراسة الأثر الأدبي، دراسة أسلوبه، ومميزات هذا الأسلوب لا من ناحية المعنى فقط، ولا من ناحية الألفاظ فقط، بل من الناحيتين معًا، ولا يمكن أن تنفكَّ الألفاظ عن المعاني أبدًا، ولا يمكن أن نذكر كلمة السماء من غير أن نفكر في مدلولها أي في السماء - وأن من الواجب مقارنة هذا الأسلوب بالأساليب الأخرى؛ والبحث عن مصادر هذا الأسلوب، أي عن الكتَّاب الذين تأثَّر بهم صاحب هذا الأسلوب، وعن الكتاب الذي أثَّر فيهم والذين احتذوا أسلوبه، ونسجوا على منواله.
...
فإذا انتهينا إلى هذا الحدِّ من البحث، أي إذا عرفنا الرجل، وعرفنا آثاره، وجب علينا أن نبحث عن الصلة بينها وبينه، عن مبلغ تعبير أدبه عن أخلاقه، ومبلغ وصفه للحياة التي تحيط به، ومبلغ اقترابه من العواطف الإنسانية الثابتة، وتعبيره عنها، أي مبلغ دنوِّه من الخلود!
1 / 56