وتسلسلها، لأن الفكرة عماد الأولى، والصورة عماد الثانية ثم التفتيش عن طابع الأديب أي مقارنة هذه القطعة بسائر آثار الأديب، وتحرِّي روح الأديب وأسلوبه فيها، ولنضرب على ذلك مثلًا ابن المقفَّع وابن المقفَّع حين يريد الكلام في فكرة من الفكر، يعرضها موجزة على القارئ كما تعرض الدعوى الرياضية، ثم يثبتها بالجدل أو بالمثال كما يثبت صاحب الرياضة دعواه، ثم يسوق لك نتيجة هذا الجدل، أو مغزى هذا المثل، وإذا هي الفكرة بعينها، وإذا هو كالرياضي ينتهي به الإثبات من حيث بدأ الدعوى (وهو المطلوب!).
وإني عارض عليك فقرة من كليلة ودمنة من الباب الذي أجمعوا على أنه لابن المقفَّع، وهو باب غرض الكتاب ولم أتخيَّرها تخيُّرًا وإنما أخذتها كما اتَّفق، قال:
(ومن استكثر من جمع العلوم، وقراءة الكتب، من غير إعمال الرويَّة كان خليقًا أن يصيبه ما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه اجتاز ببعض المفاوز فظهر له موضع آثار الكنوز، فجعل يحفر ويطلب فوقع على شيء من عين وورق، فقال في نفسه: إن أنا أخذت في نقل هذا المال قليلًا قليلًا طال علي وقطعني الاشتغال بنقله وإحرازه عن اللذَّة بما أصبت منه؛ ولكن سأستأجر أقوامًا يحملونه إلى منزلي وأكون أنا آخرهم، ولا يكون بقي ورائي شيء يشغل فكري بفعله، وأكون قد استظهرت لنفسي في إراحة بدني عن الكدِّ بيسير أجرة أعطيها لهم، ثم جاء بالحمَّالين فجعل يحمل كل واحد منهم ما يطيق فينطلق به إلى منزله فيفوز به حتى إذا لم يبق منه الكنز شيء انطلق خلفهم إلى منزله فلم يجد فيه من المال شيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا، وإذا كل واحد من الحمَّالين قد فاز بما حمله لنفسه ولم يكن له من ذلك إلا العناء والتعب لأنه لم يفكر في آخر أمره).
وهاك مثالًا آخر، تجد فيه الطريقة بعينها، كما تجدها في جميع آثار ابن المقفَّع الفنيَّة، وكدت أقول القصصية، وهذا المثال تتمة الكلام السابق؛ قال:
(الفكرة) وكذلك من قرأ هذا الكتاب ولم يفهم ما فيه ولم يعلم غرضه
1 / 54