فمن هو الذي يصور مشاعرك هذه؟ من الذي يصف لذائذه النفسية وآلامك، وبؤسك ونعماءك؟ لن يصورها اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون. كل أولئك يعيشون مع الجسد والعقل، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس ... فمن هم أهل القلوب؟
إنهم الشعراء يا سيدي، وذلك هو الشعر!
إن البشر يكدّون ويسعون، ويسيرون في صحراء الحياة، وقيد نواظرهم كواكب ثلاثة، هي هدفهم وإليها المسير، ومنها الهدى وهي السراج المنير، وهي الحقيقة والخير والجمال، وإن كوكب الجمال أزهاها وأبهاها، إن خفي صاحباه عن بعض الناس فما يخفى على أحد، وإن قصرت عن دركهما عيون فهو ملء كل عين، والجمال بعدُ أسّ الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء، ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدمْنة المقفرة على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟
فكيف يكون فيها من يكره الشعر، وهو جمال القول، وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب. وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جمادًا. وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضيًا، ولم يرجُ مستقبلًا، ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألمًا، فليس بإنسان.
...
ومن قال لك يا سيدي إن الله نزَّه نبيه ﷺ عن الشعر لأن الشعر قبيح؟ إنما نفى عنه أن يكون شاعرًا كمن عرف من الشعراء وردّ عليهم قولهم: «إنه شاعر» لأن الشاعر يأتيه الوحي من داخل نفسه، والنبي يجيئه الوحي من السماء، وهذا الذي لم تدركه العرب، فقالوا قولتهم التي ردّها الله عليهم!
وأين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلام جميل، يصف
1 / 32