حتى يمر على المنطقة الخيالية (الأدبية) ولا تبنى القانون العلمي إلى على هذا الركن الأدبي. وبيان ذلك أن للقانون العلمي أربع مراحل: المشاهدة والفرضية والتجربة والقانون. فالعالم يشاهد حادثة طبيعية، فيتخيل القانون تخيُّلًا مبهمًا ويضع الفرضية ثم يجربها فإما أن تكذبها التجربة فيفتش عن غيرها، وإما أن تثبتها فتصير قانونًا، فالمرحلة التي بين المشاهدة والفرضية مرحلة أدبية لأنها خيالية. وقد شبَّه هنري بوانكاره الرياضي الفرنسية (أو غيره فلست أذكر) شبَّه عمل الذهن في هذه المرحلة بعمل الذي يبني جسرًا على نهر، فهو يقفز أولًا إلى الجهة المقابلة قفزة واحدة ثم يعود فيضع الأركان ويقيم الدعائم. وكذلك الفكر يقفز إلى القانون على جناح الخيال، ثم يعود فيبنيه على أركان التجربة. فالقانون العلمي نفسه مدين إذن للخيال أي للأدب.
ثم إن الخيال يخدم العلم من ناحية أخرى هي أن أكثر الكشوف العلمية والاختراعات قد وصل إليها الأدباء بخيالهم، ووصفوها في قصصهم قبل أن يخرجها العلماء. فبساط الريح هو الطيارة، والمرآة المسحورة هي التلفزيون، والحياة بعد قرن هي خيال وِلْز في روايته مستقبل العالم ...
أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب، ولكني أقول ذلك متابعة للناس، وسيرًا على المألوف، والواقع غير ذلك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر، وتغير دائم. فما كان يُظن في وقت ما قانونًا علميًا ظهر في وقت آخر أنه نظرية مخطئة. والكتاب العلمي الذي ألِّف قبل خمسين سنة لم يعد الآن شيئًا ولا يقبله طالب ثانوي، في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته، مهما اختلفت الأعمار، وتناءت الأمصار. فإلياذة هوميروس، أو روايات شكسبير، أو حكم المتنبي، كل ذلك يقرأ اليوم كما كان يقرأ في حينه ويُتلى في الشرق كما يتلى في الغرب، ولا يعتريه تبديل ولا تغيير.
فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟
...
وعَدِّ عن هذا ... وخبِّرني يا سيدي الكاتب: ما هي فائدة هذا العلم الذي يطنطن به وتدافع عنه؟ وماذا نفع البشرية؟
1 / 22