{الله نور السموت والأرض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح المصباح فى زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مبركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثل للناس والله بكل شىء عليم} {فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والءاصال} {رجال لا تلهيهم تجرة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصر} {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} {والذين كفروا أعملهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيا ووجد الله عنده فوفىه حسابه والله سريع الحساب} {أو كظلمت فى بحر لجى يغشىه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمت بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يرىها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} {ألم تر أن الله يسبح له من فى السموت والأرض والطير صفت كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} {ولله ملك السموت والأرض وإلى الله المصير} {ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصر} {يقلب الله اليل والنهار إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصر} {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شىء قدير}
في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري. ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور. عالج عرامة اللحم والدم، وشهوة العين والفرج، ورغبة التجريح والتشهير، ودفعة الغضب والغيظ. وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة، وأن تشيع في القول. عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف. وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات. وعالجها بالوسائل الواقية: بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة، والنهي عن مثيرات الفتنة، وموقظات الشهوة. ثم بالإحصان، ومنع البغاء، وتحرير الرقيق.. كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم، ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق. وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ، ومن اضطراب في المقاييس، وقلق في النفوس. فإذا نفس محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مطمئنة هادئه. وإذا نفس عائشة رضي الله عنها قريرة راضية. وإذا نفس أبي بكر رضي الله عنه سمحة صافية. وإذا نفس صفوان بن المعطل رضي الله عنه قانعة بشهادة الله وتبرئته. وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة. وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه. فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته.. بهذا التعليم.. وهذا التهذيب. وهذا التوجيه. عالج الكيان البشري، حتى أشرق بالنور؛ وتطلع إلى الأفق الوضيء؛ واستشرف النور الكبير في آفاق السماوات والأرض، وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق، وكله نور: { الله نور السماوات والأرض }.. وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء، فيغمر الكون كله، ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح؛ وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر؛ وحتى تعانقه وترشفه العيون والبصائر؛ وحتى تنزاح الحجب، وتشف القلوب، وترف الأرواح. ويسبح كل شيء في الفيض الغامر، ويتطهر كل شيء في بحر النور، ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله، فإذا هو انطلاق ورفرفة، ولقاء ومعرفة، وامتزاج وألفه، وفرح وحبور. وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود، تتصل فيه السماوات بالأرض، والأحياء بالجماد، والبعيد بالقريب؛ وتلتقي فيه الشعاب والدروب، والطوايا والظواهر، والحواس والقلوب.. { الله نور السماوات والأرض }.. النور الذي منه قوامها ومنه نظامها.. فهو الذي يهبها جوهر وجودها، ويودعها ناموسها.. ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى، عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة بعد تحطيم الذرة إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور! ولا " مادة " لها إلا النور! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونات، تنطلق عند تحطيمها في هيئة إشعاع قوامه هو النور! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون. كان يدركها كلما شف ورف، وانطلق إلى آفاق النور. ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاض بها وهو عائد من الطائف، نافض كفيه من الناس، عائذ بوجه ربه يقول: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة " وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج. فلما سألته عائشة: هل رأيت ربك؟ قال: " نور. أنى أراه ". ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلا على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما، ولا يستشرف طويلا ذلك الأفق البعيد. فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي، عاد يقارب مداه، ويقربه إلى الإدراك البشري المحدود، في مثل قريب محسوس: { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح. المصباح في زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. نور على نور }.. وهو مثل يقرب للإدراك المحدود؛ ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس، حين يقصر عن تملي الأصل. وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير. ومن عرض السماوات والأرض إلى المكشاة. وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قويا متألقا: { كمشكاة فيها مصباح }.. { المصباح في زجاجة }.. تقيه الريح ، وتصفي نوره، فيتألق ويزداد.. { الزجاجة كأنها كوكب دري }.. فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة.. هنا يصل بين المثل والحقيقة. بين النموذج والأصل. حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير، كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير، الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل الكبير.. وبعد هذه اللفتة يعود إلى النموذج. إلى المصباح: { يوقد من شجرة مباركة زيتونة } ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون. ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل. إنما هو كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة. ظلال الوادي المقدس في الطور، وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب. وفي القرآن إشارة لها وظلال حولها: وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين وهي شجرة معمرة، وكل ما فيها مما ينفع الناس. زيتها وخشبها وورقها وثمرها.. ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير. فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة. إنما هي مثل مجرد للتقريب: { لا شرقية ولا غربية }.. وزيتها ليس زيتا من هذا المشهود المحدود، إنما هو زيت آخر عجيب: { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار }. . فهو من الشفافية بذاته، ومن الإشراق بذاته، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق؛ { ولو لم تمسسه نار }.. { نور على نور }.. وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف! إنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض. النور الذي لا ندرك كنهه ولا مداه. إنما هي محاولة لوصل القلوب به، والتطلع إلى رؤياه: { يهدي الله لنوره من يشاء }.. ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه. فهو شائع في السماوات والأرض، فائض في السماوات والأرض. دائم في السماوات والأرض. لا ينقطع، ولا يحتبس، ولا يخبو. فحيثما توجه إليه القلب رآه. وحيثما تطلع إليه الحائر هداه. وحيثما اتصل به وجد الله. إنما المثل الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك، وهو العليم بطاقة البشر: { ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم }.. ذلك النور الطليق، الشائع في السماوات والأرض، الفائض في السماوات والأرض ، يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله، تتطلع إليه وتذكره وتخشاه، وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة: { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب }.. وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا، على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه او المتقارب. وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة، والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله. تلك البيوت { أذن الله أن ترفع } وإذن الله هو أمر للنفاذ فهي مرفوعة قائمة، وهي مطهرة رفيعة. يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض. وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء. وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم الله: { ويذكر فيها اسمه }. وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة، المسبحة الواجفة، المصلية الواهبة. قلوب الرجال الذين { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة }.. والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء. ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة، وأداء حق العباد في الزكاة: { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار }.. تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب. وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وهم مع هذا الخوف يعلقون رجاءهم بثواب الله: { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، ويزيدهم من فضله }.. ورجاؤهم لن يخيب في فضل الله: { والله يرزق من يشاء بغير حساب } من فضله الذي لا حدود له ولا قيود. في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والأرض، المتبلور في بيوت الله، المشرق في قلوب أهل الإيمان.. يعرض السياق مجالا آخر. مجالا مظلما لا نور فيه. مخيفا لا أمن فيه. ضائعا لا خير فيه. ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار: { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج من فوقه موج، من فوقه سحاب. ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }.. والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين، حافلين بالحركة والحياة. في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة، يلتمع التماعا كاذبا، فيتبعه صاحبه الظامئ، وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك.. وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة.. فهذا السائر وراء السراب، الظامئ الذي يتوقع الشراب، الغافل عما ينتظره هناك.. يصل. فلا يجد ماء يرويه، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال، المرعبة التي تقطع الأوصال، وتورث الخبال: { ووجد الله عنده }! الله الذي كفر به وجحده، وخاصمه وعاداه. وجده هنالك ينتظره! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه، وهو ذاهل غافل على غير استعداد. فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار؟ { فوفاه حسابه }.. هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة، { والله سريع الحساب }.. تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع! وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب؛ ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي. موج من فوقه موج. من فوقه سحاب. وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض، حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام! إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون. وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى. ومخافة لا أمن فيها ولا قرار.. { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }.. ونور الله هدى في القلب؛ وتفتح في البصيرة؛ واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض؛ والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض. فمن لم يتصل بهذا النور فهو ظلمة لا انكشاف لها، وفي مخالفة لا أمن فيها، وفي ضلال لا رجعة منه. ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب؛ لأنه لا عمل بغير عقيدة، ولا صلاح بغير إيمان. إن هدى الله هو الهدى. وإن نور الله هو النور. ذلك مشهد الكفر والضلال والظلام في عالم الناس، يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون الفسيح. مشهد يتمثل فيه الوجود كله، بمن فيه وما فيه، شاخصا يسبح لله، إنسه وجنه، أملاكه وأفلاكه، أحياؤه وجماده. . وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه، في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه: { ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض، والطير صافات. كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون }.. إن الإنسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح؛ فإن من حوله، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته؛ وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال.. إخوان له من خلق الله، لهم طبائع شتى، وصور شتى، وأشكال شتى. ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله، ويتوجهون إليه، ويسبحون بحمده: { والله عليم بما يفعلون }.. والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله، وإلى من حوله من خلق الله في السماوات والأرض، وهم يسبحون بحمده وتقواه؛ ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه، فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه. ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد الله: { كل قد علم صلاته وتسبيحه }.. والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه؛ وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة. وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه، مسبحا بحمده، قائما بصلاته؛ وإنه لكذلك في فطرته، وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه. وإن الإنسان ليدرك حين يشف هذا المشهد ممثلا في حسه كأنه يراه؛ وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح لله. وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه.. كذلك كان محمد بن عبد الله صلاة الله وسلامه عليه إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه. وكذلك كان داود عليه السلام يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير. { ولله ملك السماوات والأرض، وإلى الله المصير }.. فلا اتجاه إلا إليه، ولا ملجأ من دونه، ولا مفر من لقائه، ولا عاصم من عقابه، وإلى الله المصير. ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين؛ وفيها متعة للنظر، وعبرة للقلب، ومجال للتأمل في صنع الله وآياته، وفي دلائل النور والهدى والإيمان: { ألم تر أن الله يزجي سحابا، ثم يؤلف بينه، ثم يجعله ركاما، فترى الودق يخرج من خلاله. وينزل من السماء من جبال فيها من برد، فيصيب به من يشاء، ويصرفه عمن يشآء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار }... والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة، وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع. كل أولئك لتؤدي الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه، وبعثه إلى التأمل والعبرة، وتدبر ما وراءها من صنع الله. إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان. ثم تؤلف بنيه وتجمعه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض. فإذا ثقل خرج منه الماء، والوبل الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة.. ومشهد السحب كالجبال لا يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد الجبال حقا، بضخامتها، ومساقطها، وارتفاعاتها وانخفاضاتها. وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس، إلا بعد ما ركبوا الطائرات. وهذه الجبال مسخرة بأمر الله، وفق ناموسه الذي يحكم الكون؛ ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء، ويصرفه عمن يشاء.. وتكملة المشهد الضخم: { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض، على طريق التناسق في التصوير. ثم مشهد كوني ثالث: مشهد الليل والنهار: { يقلب الله الليل والنهار. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }.. والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع الله. والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت الألفة بوقعها المثير؛ ليواجه القلب هذا الكون دائما بحس جديد، وانفعال جديد. فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب البشري، وهو يتأملها أول مرة. وهي هي لم تتغير؛ ولم تفقد جمالها وروعتها. إنما القلب البشري هو الذي صدئ وهمد، فلم يعد يخفق لها. وكم ذا نفقد من حياتنا، وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود، حين نمر غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حسنا وهي جديدة. أو وحسنا هو الجديد! والقرآن يجدد حسنا الخامد، ويوقظ حواسنا الملول. ويلمس قلبنا البارد. ويثير وجداننا الكليل؛ لنرتاد هذا الكون دائما كما ارتدناه أول مرة. نقف أمام كل ظاهرة نتأملها، ونسألها عما وراءها من سر دفين، ومن سحر مكنون. ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا، ونتدبر حكمته في صنعته، ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود. إن الله سبحانه يريد أن يمن علينا، بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره؛ فاستعدنا نعمة الإحساس بها كأننا نراها أول مرة. فنظل نجد الكون مرات لا تحصى. وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد؛ ونستمتع به من جديد. وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع. وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته، مستمدة من النبع الذي يستمد منه، قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه. فالاتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنسا وطمأنينة، وصلة ومعرفة، وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب! وإننا لنجد نور الله هناك. فالله نور السماوات والأرض.. نجده في الآفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير، والقلب المتفتح، والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير. لهذا يوقظنا القرآن المرة بعد المرة، ويوجه حسنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة، كي لا نمر عليها غافلين مغمضي الأعين، فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الأرض بغير رصيد. أو برصيد قليل هزيل.. ويمضي السياق في عرض مشاهد الكون، واستثارة تطلعنا إليها؛ فيعرض نشأة الحياة، من أصل واحد، وطبيعة واحدة، ثم تنوعها، مع وحدة النشأة والطبيعة: { والله خلق كل دآبة من مآء. فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع. يخلق الله ما يشآء. إن الله على كل شيء قدير }.. وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء، قد تعني وحده العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا، وهو الماء، وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء. ثم تنوعت الأنواع، وتفرعت الأجناس.. ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل.. لا نزيد على هذه الإشارة شيئا. مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية. وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء. فهي ذات أصل واحد. ثم هي كما ترى العين متنوعة الأشكال. منها الزواحف تمشي على بطنها، ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين. ومنها الحيوان يدب على أربع. كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته، لا عن فلتة ولا مصادفة: { يخلق الله ما يشاء } غير مقيد بشكل ولا هيئة. فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها: { إن الله على كل شيء قدير }.. وإن تملي الأحياء. وهي بهذا التنوع في الأشكال والأحجام، والأصول والأنواع، والشيات والألوان. وهي خارجة من أصل واحد، ليوحي بالتدبير المقصود، والمشيئة العامدة. وينفي فكرة الفلتة والمصادفة. وإلا فأي فلته تلك التي تتضمن كل هذا التدبير؛ وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير؟ إنما هو صنع الله العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
[25 - سورة الفرقان]
[25.45-62]
{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا} {ثم قبضنه إلينا قبضا يسيرا} {وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا} {وهو الذى أرسل الريح بشرا بين يدى رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا} {لنحى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعما وأناسى كثيرا} {ولقد صرفنه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا} {ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا} {فلا تطع الكفرين وجهدهم به جهادا كبيرا} {وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا} {وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا} {ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا} {وما أرسلنك إلا مبشرا ونذيرا} {قل ما أسلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا} {وتوكل على الحى الذى لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا} {الذى خلق السموت والأرض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسل به خبيرا} {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا} {تبارك الذى جعل فى السماء بروجا وجعل فيها سرجا وقمرا منيرا} {وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}
في هذا الشوط يدع مقولات المشركين وجدالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليبدأ جولة في مشاهد الكون ومجاليه، يوجه إليها قلب الرسول ويصل بها مشاعره. وهذا الاتصال كاف وحده ليدفع خاطره عن مضايقات المشركين الصغيرة؛ ويفتح قلبه على تلك الآفاق الوسيعة التي يتضاءل معها كيد الكائدين وعداوة المجرمين.. والقرآن يوجه القلوب والعقول دائما إلى مشاهد هذا الكون؛ ويربط بينهما وبين العقول والقلوب. ويوقظ المشاعر لاستقبالها بحس جديد متفتح، يتلقى الأصداء والأضواء، وينفعل بها ويستجيب، ويسير في هذا الكون ليلتقط الآيات المبثوثة في تضاعيفه، المنثورة في أرجائه، المعروضة في صفحاته، ويرى فيها يد الصانع المدبر، ويستشعر آثار هذه اليد في كل ما تقع عليه عينه، وكل ما يلمسه حسه، وكل ما يلتقطه سمعه؛ ويتخذ من هذا كله مادة للتدبر والتفكر، والاتصال بالله، عن طريق الاتصال بما صنعت يداه. وحين يعيش الإنسان في هذا الكون مفتوح العين والقلب، مستيقظ الحس والروح، موصول الفكر والخاطر؛ فإن حياته ترتفع عن ملابسات الأرض الصغيرة، وشعوره بالحياة يتسامى ويتضاعف معا. وهو يحس في كل لحظة أن آفاق الكون أفسح كثيرا من رقعة هذه الأرض؛ وأن كل ما يشهده صادر عن إرادة واحدة، مرتبط بناموس واحد، متجه إلى خالق واحد؛ وإن هو إلا واحد من هذه المخلوقات الكثيرة المتصلة بالله؛ ويد الله في كل ما حوله، وكل ما تقع عليه عينه، وكل ما تلمسه يداه. إن شعورا من التقوى، وشعورا من الأنس، وشعورا من الثقة لتمتزج في حسه، وتفيض على روحه، وتعمر عالمه، فتطبعه بطابع خاص من الشفافية والمودة والطمأنينة في رحلته على هذا الكوكب حتى يلقى الله. وهو يقضي هذه الرحلة كلها في مهرجان من صنع الله وعلى مائدة من يد الصانع المدبر الجميل التنسيق. وفي هذا الدرس يتنقل السياق من مشهد الظل اللطيف، ويد الله تمده ثم تقبضه في يسر ولطف. إلى مشهد الليل وما فيه من نوم وسبات، والنهار وما فيه من حركة وانبعاث. إلى مشهد الرياح تبشر بالرحمة ثم يعقبها الماء المحيي للموات. إلى مشهد البحرين الفرات والأجاج وبينهما برزخ يمنعهما ويحجز بينهما فلا يختلطان. ومن ماء السماء إلى ماء النطفة، وإذا هو بشر يصرف الحياة. إلى مشهد خلق السماوات والأرض في ستة أيام. إلى مشهد البروج في السماء وما فيها من سراج مضيء وقمر منير. إلى مشهد الليل والنهار يتعاقبان على مدار الزمان. وفي خلال هذه المشاهد الموحية يوقظ القلب وينبه العقل إلى تدبر صنع الله فيها؛ ويذكر بقدرته وتدبيره؛ ويعجب معه إشراك المشركين، وعبادتهم مالا ينفعهم ولا يضرهم، وجهلهم بربهم وتطاولهم عليه، وتظاهرهم على الكفر والجحود والنكران. فإذا هو تصرف عجيب مريب في وسط هذا الحشد المعروض من آيات الله، ومشاهد الكون الذي خلقه الله. فلنعش نحن لحظات في ذلك المهرجان الذي يدعونا الخالق البارىء المصور إليه في طول الحياة. { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا }.. إن مشهد الظل الوريف اللطيف ليوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان. وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسم على الروح والبدن، وتمسح على القرح والألم، وتهدهد القلب المتعب المكدود.. أفهذا الذي يريده الله سبحانه وهو يوجه قلب عبده إلى الظل بعدما ناله من استهزاء ولأواء؟ وهو يمسح على قلبه المتعب في هذه المعركة الشاقة، وهو في مكة يواجه الكفر والكبر والمكر والعناد، في قلة من المؤمنين وكثرة من المشركين؛ ولم يؤذن له بعد في مقابلة الاعتداء بمثله وفي رد الأذى والتهجم والاستهزاء؟! إن هذا القرآن الذي كان يتنزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو البلسم المريح، والظل الظليل، والروح المحيي في هجير الكفر والجحود والعصيان. وإن الظل وبخاصة في هجير الصحراء المحرق لهو المشهد الذي يتناسق مع روح السورة كلها وما فيها من أنداء وظلال. والتعبير يرسم مشهد الظل ويد الله الخفية التدبير تمده في رفق، وتقبضه في لطف: { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل؟ }.. { ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا }.. والظل هو ما تلقيه الأجرام من الظلمة الخفيفة حين تحجب أشعة الشمس في النهار. وهو يتحرك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس، فتتغير أوضاعه وامتداداته وأشكاله؛ والشمس تدل عليه بضوئها وحرارتها، وتميز مساحته وامتداده وارتداده. ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يشيع في النفس نداوة وراحة كما يثير فيها يقظة لطيفة شفيفة، وهي تتتبع صنع البارئ اللطيف القدير.. وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب، وهي تطول وتطول، وتمتد وتمتد. ثم في لحظة. لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعا. لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال. أين تراها ذهبت؟ لقد قبضتها اليد الخفية التي مدتها. لقد انطوت كلها في الظل الغامر الطامي. ظل الليل والظلام! إنها يد القدرة القوية اللطيفة. التي يغفل البشر عن تتبع آثارها في الكون من حولهم وهي تعمل دائبة لا يدركها الكلال. { ولو شاء لجعله ساكنا }.. فبناء الكون المنظور على هذا النسق، وتنسيق المجموعة الشمسية هذا التنسيق هو الذي جعل الظل متحركا هذه الحركة اللطيفة. ولو اختلف ذلك النسق أقل اختلاف لاختلفت آثاره في الظل الذي نراه. لو كانت الأرض ثابتة لسكن الظل فوقها لا يمتد ولا يقبض. ولو كانت سرعتها أبطأ أو أسرع مما هي عليه لكان الظل في امتداده وقبضه أبطأ أو أسرع. فتنسيق الكون المنظور على ناموسه هذا هو الذي يسمح بظاهرة الظل، ويمنحها خواصها التي نراها. وهذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم، ونمر بها غافلين، هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائما في ضمائرنا، وفي إحياء شعورنا بالكون من حولنا، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي افقدها طول الألفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة. وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب. ومن مشهد الظل إلى مشهد الليل الساتر، والنوم الساكن، والنهار وما فيه من حركة ونشور: { وهو الذي جعل لكم الليل لباسا، والنوم سباتا، وجعل النهار نشورا }.. والليل يستر الأشياء والأحياء فتبدو هذه الدنيا وكأنها تلبس الليل وتتشح بظلامه فهو لباس. وفي الليل تنقطع الحركة ويسكن الدبيب وينام الناس وكثير من الحيوان والطيور والهوام. والنوم انقطاع عن الحس والوعي والشعور. فهو سبات. ثم يتنفس الصبح وتنبعث الحركة، وتدب الحياة في النهار. فهو نشور من ذلك الموت الصغير، الذي يتداول الحياة على هذه الأرض مع البعث والنشور مرة في كل دورة من دورات الأرض الدائبة التي لا يصيبها الكلال. وهي تمر بالبشر وهم غافلون عما فيها من دلالة على تدبير الله، الذي لا يغفل لحظة ولا ينام. ثم ظاهرة الرياح المبشرة بالمطر وما يبثه من حياء: { وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيي به بلدة ميتا، ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا }.. والحياة على هذه الأرض كلها تعيش على ماء المطر إما مباشرة، وإما بما ينشئه من جداول وأنهار على سطح الأرض. ومن ينابيع وعيون وآبار من المياه الجوفية المتسربة إلى باطن الأرض منه، ولكن الذين يعيشون مباشرة على المطر هم الذين يدركون رحمة الله الممثلة فيه إدراكا صحيحا كاملا. وهم يتطلعون إليه شاعرين بأن حياتهم كلها متوقفة عليه، وهم يترقبون الرياح التي يعرفونها تسوق السحب، ويستبشرون بها؛ ويحسون فيها رحمة الله إن كانوا ممن شرح الله صدورهم للإيمان. والتعبير يبرز معنى الطهارة والتطهير: { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } وهو بصدد ما في الماء من حياة. { لنحيي به بلدة ميتا، ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا } فيلقي على الحياة ظلا خاصا. ظل الطهارة. فالله سبحانه أراد الحياة طاهرة نقية وهو يغسل وجه الأرض بالماء الطهور الذي ينشئ الحياة في الموات ويسقي الأناسي والأنعام. وعند هذا المقطع من استعراض المشاهد الكونية يلتفت إلى القرآن النازل من السماء كذلك لتطهير القلوب والأرواح؛ وكيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للأرواح: { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا، فأبى أكثر الناس إلا كفورا، ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا }. . { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا }.. فعرضناه عليهم في صور شتى، وأساليب متعددة، ولفتات متنوعة؛ وخاطبنا به مشاعرهم ومداركهم، وأرواحهم وأذهانهم؛ ودخلنا عليهم به من كل باب من أبواب نفوسهم، وبكل وسيلة تستجيش ضمائرهم.. { ليذكروا }.. فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر. والحقيقة التي يحاول القرآن ردهم إليها مركوزة في فطرتهم، أنساهم إياها الهوى الذي اتخذوا منه إلها.. { فأبى أكثر الناس إلا كفورا }. ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم إذن ضخمة شاقة؛ وهو يواجه البشرية كلها وأكثرها أضله الهوى، وأبى إلا الكفر ودلائل الإيمان حاضرة.. { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا }.. فتوزع المشقة، وتخف المهمة. ولكن الله اختار لها عبدا واحدا، هو خاتم الرسل؛ وكلفه إنذار القرى جميعا، لتتوحد الرسالة الأخيرة، فلا تتفرق على ألسنة الرسل في القرى المتفرقة، وأعطاه القرآن ليجاهدهم به: { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا }.. وإن في هذا القرآن من القوة والسلطان، والتأثير العميق، والجاذبية التي لا تقاوم، ما كان يهز قلوبهم هزا، ويزلزل أرواحهم زلزالا شديدا؛ فيغالبون أثره بكل وسيلة فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلا. ولقد كان كبراء قريش يقولون للجماهير: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون وكانت هذه المقالة تدل على الذعر الذي تضطرب به نفوسهم ونفوس أتباعهم من تأثير هذا القرآن؛ وهم يرون هؤلاء الأتباع كأنما يسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين، والسورة والسورتين، يتلوهما محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فتنقاد إليه النفوس، وتهوى إليه الأفئدة. ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقالة، وهم في نجوة من تأثير هذا القرآن. فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روعتهم ما أمروا هذا الأمر، وما أشاعوا في قومهم بهذا التحذير، الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير! قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث: أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل ابن هشام، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة.. خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود! فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا. " فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه. ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها؛ وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!! قال: فقام عنه الأخنس وتركه ". فهكذا كانوا يغالبون أنفسهم أن تهفو إلى هذا القرآن فتغلبهم، لولا أن يتعاهدوا وهم يحسون ما يتهدد زعامتهم، لو اطلع عليهم الناس، وهم مأخوذون شبه مسحورين! وإن في القرآن من الحق الفطري البسيط، لما يصل القلب مباشرة بالنبع الأصيل، فيصعب أن يقف لهذا النبع الفوار، وأن يصد عنه تدفق التيار. وأن فيه من مشاهد القيامة، ومن القصص، ومن مشاهد الكون الناطقة، ومن مصارع الغابرين، ومن قوة التشخيص والتمثيل، لما يهز القلوب هزا لا تملك معه قرارا. وإن السورة الواحدة لتهز الكيان الإنساني في بعض الأحيان، وتأخذ على النفس أقطارها ما لا يأخذه جيش ذو عدة وعتاد!! فلا عجب مع ذلك أن يأمر الله نبيه أن لا يطيع الكافرين، وألا يتزحزح عن دعوته وأن يجاهدهم بهذا القرآن. فإنما يجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر، ولا يثبت لها جدال أو محال. وبعد هذه اللفتة يعود إلى مشاهد الكون، فيعقب على مشهد الرياح المبشرة والماء الطهور، بمشهد البحار العذبة والملحة وما بينهما من حجاز: { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج؛ وجعل بينهما برزخا، وحجرا محجورا }.. وهو الذي ترك البحرين، الفرات العذب والملح المر، يجريان ويلتقيان، فلا يختلطان ولا يمتزجان؛ إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من طبيعتهما التي فطرها الله. فمجاري الأنهار غالبا أعلى من سطح البحر، ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح، ولا يقع العكس إلا شذوذا. وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر وهو أضخم وأغزر على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات. ولا يكون هذا التقدير مصادفة عابرة وهو يطرد هذا الاطراد. إنما يتم بإرادة الخالق الذي أنشأ هذا الكون لغاية تحققها نواميسه في دقة وإحكام. وقد روعي في نواميس هذا الكون ألا تطغى مياه المحيطات الملحة لا على الأنهار ولا على اليابسة حتى في حالات المد والجزر التي تحدث من جاذبية القمر للماء الذي على سطح الأرض، ويرتفع بها الماء ارتفاعا عظيما. يقول صاحب كتاب: الإنسان لا يقوم وحده (العلم يدعو إلى الإيمان): " يبعد القمر عنا مسافة مائتين وأربعين ألفا من الأميال، ويذكرنا المد الذي يحدث مرتين تذكيرا لطيفا بوجود القمر. والمد الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدما في بعض الأماكن. بل إن قشرة الأرض تنحني مرتين نحو الخارج مسافة عدة بوصات بسبب جاذبية القمر. ويبدو لنا كل شيء منتظما لدرجة أننا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مساحة المحيط كلها عدة أقدام، وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية ". " والمريخ له قمر. قمر صغير. لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال. ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلا، بدلا من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلا، فإن المد كان يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها. وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة، وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب، وكان المد الذي هو في الهواء يحدث أعاصير كل يوم ". " وإذا فرضنا أن القارات قد اكتسحت، فإن معدل عمق الماء فوق الكرة الأرضية كلها يكون نحو ميل ونصف. وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلا في أعماق المحيط السحيقة على وجه الاحتمال؟ ". ولكن اليد التي تدبر هذا الكون مرجت البحرين وجعلت بينهما برزخا وحاجزا من طبيعتهما ومن طبيعة هذا الكون المتناسق الذي تجري مقاديره بيد الصانع المدبر الحكيم، هذا الجري المقدر المنسق المرسوم. ومن ماء السماء وماء البحر والنهر إلى ماء النطفة الذي تنشأ منه الحياة البشرية المباشرة: { وهو الذي خلق من الماء بشرا، فجعله نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا }.. فمن هذا الماء يتخلق الجنين: ذكرا فهو نسب، وأنثى فهو صهر، بما أنها موضع للصهر. وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء. فمن خلية واحدة (من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل) تتحد ببويضة المرأة في الرحم، ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب.. الإنسان.. أعجب الكائنات الحية على الإطلاق! ومن الخلايا المتشابهة والبويضات المتشابهة ينشأ ذكور وإناث بطريقة عجيبة، لا يدرك البشر سرها، ولا يستطيع علم البشر ضبطها أو تعليلها. فما من خلية من آلاف الخلايا يمكن أن تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لأن تنتج ذكرا أو أنثى، وما من بويضة كذلك لوحظ فيها مثل هذه الميزات. . ومع ذلك تصير هذه إلى أن تكون رجلا، وهذه إلى أن تكون امرأة، في نهاية المطاف! { وكان ربك قديرا }.. وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها في هذا العجب العجاب! ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان، لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة، التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله، وللأبوين وأسرتيهما القريبتين، لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة. وهذه لمحات من كتاب: " الإنسان لا يقوم وحده " عن خصائص الوراثة الكامنة في تلك الذريرات الصغيرة: " كل خلية ذكرا أو أنثى. تحتوي على كروموزومات وجينات (وحدات الوراثة) والكروموزومة تكون النوية (نواة صغيرة) المعتمة التي تحتوي الجينة. والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان. والسيتوبلازم هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين. وتبلغ الجينات (وحدات الوراثة) من الدقة أنها وهي المسؤولة عن المخلوقات البشرية جميعا، التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وألوانها وأجناسها لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد، لكان حجمها أقل من حجم " الكستبان "! " " وهذه الجينات الميكروسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات. " والكستبان " الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم. ومع ذلك فإن هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها ". " وإن الجنين وهو يخلص في تطوره التدريجي من النطفة (البروتوبلازم) إلى الشبه الجنسي، إنما يقص تاريخا مسجلا، قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم ". ... " لقد رأينا أن الجينات متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية. وهي تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التي لكل شيء حي. وهي تتحكم تفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات. تماما كما تقرر الشكل، والقشر، والشعر، والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان ". وبهذا القدر نكتفي من عجائب الحياة، التي أودعتها إياها القدرة الخالقة المدبرة. { وكان ربك قديرا }.. وفي مثل هذا الجو. جو الخلق والتقدير. وأمام تلك الحياة الناشئة من ماء السماء وماء النطفة. المزودة بتلك الخصائص، التي تجعل من خلية ذكرا بمميزاته كلها ووراثاته، وتجعل من خلية أنثى بمميزاتها كذلك ووراثاتها.. في مثل هذا الجو تبدو عبادة غير الله شيئا مستغربا مستنكرا تشمئز منه الفطرة. . وهنا يعرض عباداتهم من دون الله. { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم. وكان الكافر على ربه ظهيرا }.. { وكان الكافر على ربه ظهيرا }.. كل كافر ومشركو مكة من ضمنهم! إنما هو حرب على ربه الذي خلقه وسواه. فكيف ذلك، وهو صغير ضئيل لا يبلغ أن يكون حربا ولا ضدا على الله؟ إنه حرب على دينه. وحرب على منهجه الذي أراده للحياة. إنما يريد التعبير أن يفظع جريمته ويبشعها، فيصوره حربا على ربه ومولاه! فهو يحارب ربه حين يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته، فلا على الرسول منه، فإنما الحرب مع الله، وهو به كفيل. ثم يطمئن الله عبده، ويخفف العبء عن عاتقه، ويشعره أنه حين يؤدي واجبه في التبشير والإنذار، وجهاد الكفار بما معه من قرآن فلا عليه من عداء المجرمين له ولا عناد الكافرين. والله يتولى عنه المعركة مع أعدائه الذين إنما يعادون الله. فليتوكل على ربه . والله أعلم بذنوب عباده! { وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا. قل: ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا. وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده، وكفى به بذنوب عباده خبيرا }.. وبهذا يحدد واجب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو التبشير والإنذار. ولم يكن بعد مأمورا بقتال المشركين وهو في مكة لضمان حرية التبشير والإنذار كما أمر به بعد ذلك في المدينة. وذلك لحكمة يعلمها الله. نحدس منها أنه كان في هذه الفترة يعد الرجال الذين ترتكز إليهم هذه العقيدة الجديدة، وتعيش في نفوسهم، وتترجم في حياتهم، وتتمثل في سلوكهم، لكي يكونوا نواة المجتمع المسلم الذي يحكمه الإسلام ويهيمن عليه. ولكي لا يدخل في خصومات وثارات دموية تصد قريشا عن الإسلام، وتغلق قلوبهم دونه؛ والله يقدر أنهم سيدخلون فيه بعضهم قبل الهجرة وسائرهم بعد الفتح، ويكون منهم نواة صلبة للعقيدة الخالدة بإذن الله. على أن لب الرسالة بقي في المدينة كما كان في مكة هو التبشير والإنذار. إنما جعل القتال لإزالة الموانع المادية دون حرية الدعوة، ولحماية المؤمنين حتى لا تكون فتنة؛ فالنص صادق في مكة وفي المدينة على السواء: { وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا }.. { قل: ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا }.. فليس للرسول صلى الله عليه وسلم من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا يناله ممن يهتدون إلى الإسلام. ليست هناك إتاوة. ولا نذر ولا قربان يقدمه المسلم. وهو يدخل في الجماعة المسلمة بكلمات ينطق بها لسانه ويعتقد بها قلبه. وهذه ميزة الإسلام. ميزته أن ليس هناك كاهن يتقاضى ثمن كهانته، ولا وسيط يقبض ثمن وساطته؛ ليس هنالك " رسم دخول " ولا ثمن لتناول سر ولا بركة ولا استقبال! هذه هي بساطة هذا الدين وبراءته من كل ما يحول بين القلب والإيمان؛ ومن كل ما يقف بين العبد وربه من وسطاء وكهان. . ليس هنالك سوى أجر واحد للرسول صلى الله عليه وسلم هو اهتداء المهتدي إلى الله وتقربه إلى ربه بما يراه! { إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا }.. هذا وحده هو أجره.. يرضي قلبه الطاهر ويستريح وجدانه النبيل أن يرى عبدا من عباد الله قد اهتدى إلى ربه، فهو يبتغي رضاه، ويتحرى طريقه، ويتجه إلى مولاه. { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده }.. وكل ما عدا الله ميت، لأنه صائر إلى موت، فلا يبقى إلا الحي الذي لا يموت. والتوكل على ميت، تفارقه الحياة يوما طال عمره أم قصر، هو ارتكان إلى ركن ينهار، وإلى ظل يزول. إنما التوكل على الحي الدائم الذي لا يزول.. { وسبح بحمده } ولا يحمد إلا الله المنعم الوهاب.. ودع أمر الكفار الذين لا ينفعهم التبشير والإنذار إلى الحي الذي لا يموت فهو يعلم ذنوبهم ولا يخفى عليه منها شيء: { وكفى به بذنوب عباده خبيرا }. وفي معرض الخبرة المطلقة والقدرة على الجزاء يذكر خلق الله للسماوات والأرض، واستعلاءه على العرش: { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، الرحمن، فاسأل به خبيرا }.. وأيام الله التي خلق فيها السماوات والأرض غير أيامنا الأرضية قطعا. فإنما أيامنا هذه ظل للنظام الشمسي، ومقياس لدورة فلكية وجدت بعد خلق السماوات والأرض. وهي مقيسة بقدر دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس. والخلق لا يقتضي إلا توجه الإرادة الإلهية المرموز له بلفظة: " كن " فتتم الكينونة " فيكون ". ولعل هذه الأيام الستة من أيام الله التي لا يعلم مقدارها إلا هو إنما تمت فيها أطوار متباعدة في السماوات والأرض حتى انتهت إلى وضعها الحالي. أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ { ثم } لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة. رتبة الاستواء والاستعلاء. ومع الاستعلاء والسيطرة الرحمة الكبيرة الدائمة: { الرحمن }.. ومع الرحمة الخبرة: { فاسأل به خبيرا } الخبرة المطلقة التي لا يخفى عليها شيء. فإذا سألت الله، فإنما تسأل خبيرا، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. ومع هذا فإن أولئك المتبجحين المتطاولين، يقابلون الدعوة إلى عبادة الرحمن باستخفاف واستنكار: { وإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن: قالوا: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ وزادهم نفورا }! وهي صورة كريهة من صور الاستهتار والتطاول؛ تذكر هنا للتهوين من وقع تطاولهم على الرسول صلى الله عليه وسلم فهم لا يوقرون ربهم، فيتحدثون بهذه اللهجة عن ذاته العلية، فهل يستغرب من هؤلاء أن يقولوا عن الرسول ما قالوا؟ وهم ينفرون من اسم الله الكريم، ويزعمون أنهم لا يعرفون اسم { الرحمن } ويسألون عنه بما، زيادة في الاستهتار. { قالوا: وما الرحمن؟ }. ولقد بلغ من تطاولهم واستخفافهم أن يقولوا: ما نعرف الرحمن إلا ذاك باليمامة. يعنون به مسيلمة الكذاب! ويرد على تطاولهم هذا بتمجيد الله سبحانه وتكبيره والتحدث ببركته وعظمته، وعظمة خلقه، وآياته المذكرة به في هذا الخلق العظيم. { تبارك الذي جعل في السماء بروجا. وجعل فيها سراجا. وقمرا منيرا. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورا }.. والبروج على الأرجح منازل الكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة. والفخامة هنا تقابل في الحس ذلك الاستخفاف في قولة المشركين: { وما الرحمن }؟ فهذا شيء من خلقه ضخم هائل عظيم في الحس وفي الحقيقة؛ وفي هذه البروج تنزل الشمس ويسميها { سراجا } لما تبعث به من ضوء إلى أرضنا وغيرها. وفيها القمر المنير الذي يبعث بنوره الهادئ اللطيف. ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما. وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس، وفيهما الكفاية: { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا }. ولولا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس، ويخلف أحدهما أخاه، ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات. بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة. جاء في كتاب: " الإنسان لا يقوم وحده " (العلم يدعو إلى الإيمان). " تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة. والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة. ولم لا؟ عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هما الآن عشر مرات. وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار. وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض! ". فتبارك الذي خلق السماوات والأرض، وخلق كل شيء فقدره تقديرا. وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا. { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا }..
[31 - سورة لقمان]
[31.1-19]
{بسم الله الرحمن الرحيم الم} {تلك ءايت الكتب الحكيم} {هدى ورحمة للمحسنين} {الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالءاخرة هم يوقنون} {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} {ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين} {وإذا تتلى عليه ءايتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} {إن الذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم جنت النعيم} {خلدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم} {خلق السموت بغير عمد ترونها وألقى فى الأرض روسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم} {هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظلمون فى ضلل مبين} {ولقد ءاتينا لقمن الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد} {وإذ قال لقمن لابنه وهو يعظه يبنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} {ووصينا الإنسن بولديه حملته أمه وهنا على وهن وفصله فى عامين أن اشكر لى ولولديك إلى المصير} {وإن جهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} {يبنى إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن فى صخرة أو فى السموت أو فى الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} {يبنى أقم الصلوة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش فى الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور} {واقصد فى مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوت لصوت الحمير}
جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة، والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها، ويعلم كيف يخاطبها، ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل؛ والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن، لأنها قائمة عليها أصلا في تكوينها الأول.. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده، والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح.. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض؛ وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم؛ وتنحرف بها عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجيء هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه؛ ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه؛ ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله، مستقيما مع العقيدة، مستقيما مع الفطرة، مستقيما على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير.. وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى، ومن زوايا منوعة، تتناول القلب البشري من جميع أقطاره؛ وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها.. هذه القضية الواحدة قضية العقيدة تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل الله والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات. والسورة تتولى عرض هذه القضية بطريقة تستدعي التدبر لإدراك الأسلوب القرآني العجيب في مخاطبة الفطر والقلوب. وكل داع إلى الله في حاجة إلى تدبر هذا الأسلوب. إنها تعرض هذه القضية في مجال العرض القرآني. وهو هذا الكون الكبير. سماؤه وأرضه. شمسه وقمره. نهاره وليله. أجواؤه وبحاره. أمواجه وأمطاره. نباته وأشجاره... وهذا المجال الكوني يتكرر في القرآن الكريم. فيحيل الكون كله مؤثرات ناطقة، وآيات مبثوثة عن الأيمان والشمائل، تخاطب القلوب البشرية وتؤثر فيها وتستحييها، وتأخذ عليها المسالك والدروب. ومع أن القضية واحدة ومجال العرض واحد، فإنها تعرض في السورة أربع مرات في أربع جولات، تطوف كل منها بالقلب البشري في ذلك المجال الفسيح، مستصحبة في كل مرة مؤثرات جديدة، ومتبعة أسلوبا كذلك جديدا في العرض والتناول. وتتبع هذه الجولات وهي تبدأ وتنتهي بطريقة عجيبة فيه متاع للقلب والعقل. إلى جانب ما فيه من دواعي التأثر والاستجابة. تبدأ الجولة الأولى بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطعة؛ فتقرر أن هذه السورة من جنس تلك الأحرف، هي آيات الكتاب الحكيم، وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم: { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون } فتقرر قضية اليقين بالآخرة وقضية العبادة لله. ومعها مؤثر نفسي ملحوظ هو أن { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } ومن ذا الذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟. وفي الجانب الآخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذ تلك الآيات هزوا. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثر نفسي مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله: { أولئك لهم عذاب مهين }.. ثم يمضي في وصف حركات هذا الفريق: { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها }.. ومع الوصف مؤثر نفسي يحقر هذا الفريق: { كأن في أذنيه وقرا } ومؤثر آخر يخيفه مع التهكم الواضح في التعبير: { فبشره بعذاب أليم } والبشارة هنا فيها ما فيها من التهكم الملحوظ!.. ثم يعود إلى المؤمنين يفصل شيئا من فلاحهم الذي أجمله في أول السورة؛ ويبين جزاءهم في الآخرة، كما كشف عن جزاء المستهزئين المستكبرين: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا، وهو العزيز الحكيم }.. وهنا يعرض صفحة الكون الكبير مجالا للبرهان الذي يطالع الفطرة من كل جانب، ويخاطبها بكل لسان، ويواجهها بالحق الهائل الذي يمر عليه الناس غافلين: { خلق السماوات بغير عمد ترونها، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبث فيها من كل دابة، وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم }.. وأمام هذه الأدلة الكونية التي تهول الحس وتبده الشعور يأخذ بتلابيب القلوب الشاردة، التي تجعل لله شركاء وهي ترى خلقه الهائل العظيم: { هذا خلق الله. فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟ بل الظالمون في ضلال مبين }.. وعند هذا الإيقاع الكوني الضخم العميق تنتهي الجولة الأولى بقضاياها ومؤثراتها معروضة في ساحة الكون الكبير. فأما الجولة الثانية فتبدأ من خلال نفوس آدمية، وتتناول القضية ذاتها في المجال ذاته بأسلوب جديد ومؤثرات جديدة.. { ولقد آتينا لقمان الحكمة } فما طبيعة هذه الحكمة وما مظهرها الفريد؟ إنها تتلخص في الاتجاه لله بالشكر: { أن اشكر الله } فهذه هي الحكمة وهذا هو الاتجاه الحكيم.. والخطوة التالية هي اتجاه لقمان لابنه بالنصيحة: نصيحة حكيم لابنه. فهي نصيحة مبرأة من العيب، صاحبها قد أوتي الحكمة. وهي نصيحة غير متهمة، فما يمكن أن تتهم نصيحة والد لولده. هذه النصيحة تقرر قضية التوحيد التي قررتها الجولة الأولى وقضية الآخرة كذلك مصحوبة بهذه المؤثرات النفسية ومعها مؤثرات جديدة: { وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم }.. ويؤكد هذه القضية بمؤثر آخر فيعرض لعلاقة الأبوة والأمومة بأسلوب يفيض انعطافا ورحمة: { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين } ويقرن قضية الشكر لله بالشكر لهذين الوالدين، فيقدمها عليها: { أن أشكر لي ولوالديك }. . ثم يقرر القاعدة الأولى في قضية العقيدة، وهي أن وشيجة العقيدة هي الوشيجة الأولى، المقدمة على وشيجة النسب والدم. وعلى ما في هذه الوشيجة من انعطاف وقوة إلا أنها تالية للوشيجة الأولى: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي }. ويقرر معها قضية الآخرة: { ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون }.. ويتبع هذه القضية بمؤثر هائل وهو يصور عظمة علم الله ودقته وشموله وإحاطته، تصويرا يرتعش له الوجدان البشري وهو يتابعه في المجال الكوني الرحيب: { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة ، أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله. إن الله لطيف خبير }.. ثم يتابع لقمان وصيته لابنه بتكاليف العقيدة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما يستتبعه هذا وذلك من مواجهة المتاعب التي لا بد أن تواجه صاحب العقيدة، وهو يخطو بها الخطوة الطبيعية، فيتجاوز بها نفسه إلى غيره: { واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور }.. ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصاب الأدب الواجب. أدب الداعي إلى الله. ألا يتطاول على الناس، فيفسد بالقدوة ما يصلح بالكلام: { ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا، إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك واغضض من صوتك. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير }.. والمؤثر النفسي بتحقير التصعير والنفخة ملحوظ في التعبير. وبه تنتهي هذه الجولة الثانية، وقد عالجت القضية ذاتها في مجالها المعهود، بمؤثرات جديدة وبأسلوب جديد. ثم تبدأ الجولة الثالثة.. تبدأ بعرض القضية المعهودة في مجال السماوات والأرض، مصحوبة بمؤثر منتزع من علاقة البشر بالسماوات والأرض وما فيها من نعم سخرها الله لناس وهم لا يشركون: ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة. ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وفي ظل هذا المؤثر يبدو الجدل في الله مستنكرا من الفطرة، تمجه القلوب المستقيمة.. ثم يتابع استنكار موقف الكفر والجمود: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا وهو موقف سخيف مطموس، يتبعه بمؤثر مخيف: أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟ ومن ثم يعرض قضية الجزاء في الآخرة مرتبطة بقضية الإيمان والكفر: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور.. ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم، فننبئهم بما عملوا ويشير إلى علم الله الواسع الدقيق: إن الله عليم بذات الصدور ويصحب ذلك العرض بتهديد مخيف: نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ وقرب ختام الجولة يقفهم وجها لوجه أمام منطق الفطرة وهي تواجه هذا الكون، فلا تملك إلا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن: الله. قل: الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون ويختم الجولة بمشهد كوني يصور امتداد علم الله بلا نهاية، وانطلاق مشيئته في الخلق والإنشاء بلا حدود؛ ويجعل من هذا دليلا كونيا على البعث والإعادة وعلى الخلق والإنشاء: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله. إن الله عزيز حكيم. ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. إن الله سميع بصير وتبدأ الجولة الرابعة بمشهد كوني ذي إيقاع خاص في القلب البشري. مشهد الليل وهو يطول فيدخل في جسم النهار ويمتد؛ والنهار وهو يطول فيدخل في جسم الليل ويمتد. ومشهد الشمس والقمر مسخرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلا خالقهما الخبير بهما وبالناس وبما يعملون: ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، وأن الله بما تعملون خبير ويتخذ من هذا المشهد الكوني دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة: ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ويلمس القلوب بمؤثر آخر من نعمة الله على الناس في صورة الفلك التي تجري في البحر: ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته؟ ويعقب على هذا بوقفهم أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر مجردة من غرور القدرة والعلم الذي يبعدها عن بارئها؛ ويتخذ من هذا المنطق دليلا على قضية التوحيد: وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد؛ وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور وبمناسبة موج البحر وهوله يذكرهم بالهول الأكبر، وهو يقرر قضية الآخرة. الهول الذي يفصم وشائج الدم التي لا يفصلها في الدنيا هول : يا أيها الناس اتقوا ربكم. واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. إن وعد الله حق. فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وعند هذا المقطع وهذا المؤثر الذي يرتجف له الكيان يختم السورة بآية تقرر القضايا التي عالجتها جميعا، في إيقاع قوي عميق مرهوب: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام. وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير وهذه الجولات الأربع بأساليبها ومؤثراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب. هذا الأسلوب المختار من خالق القلوب العليم بمداخلها. الخبير بما يصلح لها وما تصلح به من الأساليب. . والآن نأخذ في تفصيل هذا الإجمال. فنعرض هذه الجولات الأربع في درسين لما بين كل اثنين منها من ترابط واتساق... { ألم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدى ورحمة للمحسنين، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }... الافتتاح بالأحرف المقطعة. " ألف. لام. ميم " والإخبار عنها بأنها: { تلك آيات الكتاب الحكيم } للتنبيه إلى أن آيات الكتاب من جنس تلك الأحرف على نحو ما تقدم في السور المبدوءة بالأحرف واختيار وصف الكتاب هنا بالحكمة، لأن موضوع الحكمة مكرر في هذه السورة، فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب في وجوه المناسب على طريقة القرآن الكريم. ووصف الكتاب بالحكمة يلقي عليه ظلال الحياة والإرادة، فكأنما هو كائن حي متصف بالحكمة في قوله وتوجيهه، قاصد لما يقول، مريد لما يهدف إليه. وإنه لكذلك في صميمه. فيه روح. وفيه حياة. وفيه حركة. وله شخصية ذاتية مميزة. وفيه إيناس. وله صحبة يحس بها من يعيشون معه ويحيون في ظلاله، ويشعرون له بحنين وتجاوب كالتجاوب بين الحي والحي، وبين الصديق والصديق! هذا الكتاب الحكيم. أو آياته. { هدى ورحمة للمحسنين } فهذه حاله الأصيلة الدائمة.. أن يكون هدى ورحمة للمحسنين. هدى يهديهم إلى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه. ورحمة بما يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار؛ وما يقود إليه من كسب وخير وفلاح؛ وبما يعقده من الصلات والروابط بين قلوب المهتدين به؛ ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه، والقيم والأحوال والأحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية، وتتعارف الفطر التي لا تزيغ.. والمحسنون هم: { الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون }.. وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملا تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك، وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب، ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة.. وإيتاء الزكاة يحقق استعلاء النفس على شحها الفطري، وإقامة نظام لحياة الجماعة يرتكن إلى التكافل والتعاون. ويجد الواجدون فيه والمحرومون الثقة والطمأنينة ومودات القلوب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان.. واليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري، وتطلعه إلى ما عند الله، واستعلائه على أوهاق الأرض، وترفعه على متاع الحياة الدنيا؛ ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل؛ والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة؛ لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة؛ ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور، ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة، وتصطلح نفوسهم عليه، وتحس بالتوافق والتناسق ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق. وإن هذا القرآن ليعطي كل قلب بمقدار ما في هذا القلب من حساسية وتفتح وإشراق؛ وبقدر ما يقبل عليه في حب وتطلع وإعزاز. إنه كائن حي يعاطف القلوب الصديقة، ويجاوب المشاعر المتوجهة إليه بالرفرفة والحنين! وأولئك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يوقنون بالآخرة.. { أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون }. ومن هدي فقد أفلح، فهو سائر على النور، واصل إلى الغاية، ناج من الضلال في الدنيا، ومن عواقب الضلال في الآخرة؛ وهو مطمئن في رحلته على هذا الكوكب تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود؛ فيحس بالأنس والراحة والتجاوب مع كل كائن في الوجود. أولئك المهتدون بالكتاب وآياته، المحسنون، المقيمون للصلاة، المؤتون للزكاة، الموقنون بالآخرة، المفلحون في الدنيا والآخرة.. أولئك فريق.. وفي مقابلهم فريق: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزوا. أولئك لهم عذاب مهين. وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا. فبشره بعذاب أليم }.. ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها، ويرسم لها الطريق. والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان. وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى. وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم. ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه. وهو يصور فريقا من الناس واضح السمات، قائما في كل حين. وقد كان قائما على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات. { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }.. يشتريه بماله ويشتريه بوقته، ويشتريه بحياته. يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص، يفني فيه عمره المحدود، الذي لا يعاد ولا يعود، يشتري هذا اللهو { ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا } فهو جاهل محجوب، لا يتصرف عن علم، ولا يرمي عن حكمة؛ وهو سيئ النية والغاية، يريد ليضل عن سبيل الله. يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة. وهو سيئ الأدب يتخذ سبيل الله هزوا، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس. ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة: { أولئك لهم عذاب مهين }.. ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم. ثم يمضي في استكمال صورة ذلك الفريق: { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها } وهو مشهد فيه حركة ترسم هيئة المستكبر المعرض المستهين. ومن ثم يعالجه بوخزة مهينة تدعو إلى تحقير هذه الهيئة: { كأن في أذنيه وقرا } وكأن هذا الثقل في أذنيه يحجبه عن سماع آيات الله الكريمة، وإلا فما يسمعها إنسان له سمع ثم يعرض عنها هذا الإعراض الذميم. ويتمم هذه الإشارة المحقرة بتهكم ملحوظ: { فبشره بعذاب أليم } فما البشارة في هذا الموضوع إلا نوع من التهكم المهين؛ يليق بالمتكبرين المستهزئين! وبمناسبة الحديث عن جزاء الكافرين المستكبرين المعرضين يتحدث عن جزاء المؤمنين العاملين، الذين تحدث عنهم في صدر السورة؛ ويفصل شيئا من أمر فلاحهم الذي أجمله هناك: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم، خالدين فيها وعد الله حقا، وهو العزيز الحكيم }.. وحيثما ذكر الجزاء في القرآن الكريم ذكر قبله العمل الصالح مع الإيمان. فطبيعة هذه العقيدة تقتضي ألا يظل الإيمان في القلب حقيقة مجردة راكدة معطلة مكنونة؛ إنما هو حقيقة حية فاعلة متحركة، ما تكاد تستقر في القلب ويتم تمامها حتى تتحرك لتحقق ذاتها في العمل والحركة والسلوك؛ ولتترجم عن طبيعتها بالآثار البارزة في عالم الواقع، المنبئة عما هو كائن منها في عالم الضمير. وهؤلاء الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح { لهم جنات النعيم خالدين فيها }.. لهم هذه الجنات وهذا الخلود تحقيقا لوعد الله الحق. { وعد الله حقا } فقد بلغ من فضل الخالق على العباد أن يوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه! وهو الغني عن الجميع! { وهو العزيز الحكيم }.. القادر على تحقيق وعده، الحكيم في الخلق والوعد والتحقيق. وآية القدرة، وآية الحكمة، وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة.. آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل، الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه، ولا أن أحدا آخر خلقه من دون الله؛ وهو ضخم هائل دقيق النظام، متناسق التكوين، يأخذ بالقلب، ويبهر اللب، ويواجه الفطرة مواجهة جاهرة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها؛ ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم، وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلما للحق الواضح المبين: { خلق السماوات بغير عمد ترونها، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبث فيها من كل دابة، وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟ بل الظالمون في ضلال مبين }.. وهذه السماوات بظاهر مدلولها ودون تعمق في أية بحوث علمية معقدة تواجه النظر والحس، هائلة فسيحة سامقة. وسواء أكانت السماوات هي هذه الكواكب والنجوم والمجرات والسدم السابحة في الفضاء الذي لا يعلم سره ومداه إلا الله؛ أو كانت هي هذه القبة التي تراها العين ولا يعرف أحد ما هي على وجه التحقيق. سواء أكانت السماوات هذه أو تلك فهناك خلائق ضخمة هائلة معلقة بغير عمد تسندها؛ والناس يرونها حيثما امتدت أبصارهم بالليل والنهار. ومهما نأت بهم الأبعاد والأسفار على ظهر كوكبهم السيار. ومجرد تأملها بالعين المجردة، ودون إدراك حقيقة ضخامتها التي تدير الرؤوس، كاف وحده لرعشة الكيان الإنساني وارتجافه أمام الضخامة الهائلة التي لا نهاية لها ولا حدود. وأمام النظام العجيب الذي يمسك بهذه الخلائق كلها في مثل هذا التناسق. وأمام هذا الجمال البديع الذي يجتذب العين للنظر فلا تمل، ويجتذب القلب للتأمل فلا يكل؛ ويستغرق الحس فلا يكاد يؤوب من ذلك التأمل الطويل المديد! فكيف إذا عرف الإنسان أن كل نقطة من هذه النقط الصغيرة المضيئة السابحة في هذا الفضاء الهائل قد تبلغ كتلتها أضعاف كتلة الأرض التي تقله ملايين المرات؟ ومن هذه الرحلة الهائلة في أجواز الفضاء على إيقاع تلك الإشارة السريعة: { خلق السماوات بغير عمد ترونها } يرتد السياق بالقلب البشري إلى الأرض فيستقر عليها وما يكاد! إلى الأرض الصغيرة. الذرة، التي لا تبلغ أن تكون هباءة في كتلة الكون الضخمة. يرتد إلى هذه الأرض التي يراها الإنسان فسيحة لا يبلغ أطرافها فرد واحد في عمره القصير، ولو قضاه في رحلة دائمة على هذا الكوكب الصغير؟ يرتد بالقلب إلى هذه الأرض ليعيد النظر إليها بحس مفتوح يقظ، وليجلو عنه ملالة التكرار والألفة لمشاهد هذه الأرض العجيبة: { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم }.. والرواسي الجبال. ويقول علماء طبقات الأرض؛ إنها تضاريس في قشرة الكرة الأرضية تنشأ من برودة جوف الأرض وتجمد الغازات فيه، ونقص حجمها، فتنكمش القشرة الأرضية وتتجعد، وتقع فيها المرتفعات والمنخفضات وفق الانكماشات الداخلية في حجم الغازات حين تبرد ويصغر حجمها هنا وهناك. وسواء أصحت هذه النظرية أم لم تصح، فهذا كتاب الله يقرر أن وجود هذه الجبال يحفظ توازن الأرض فلا تميد ولا تتأرجح ولا تهتز. وقد تكون نظرية علماء الأرض صحيحة ويكون بروز الجبال على هذا النحو حافظا لتوازن الأرض عند انكماش الغازات وتقبض القشرة الأرضية هنا وهناك، ويكون نتوء الجبال هنا موازنا لانخفاض في قشرة الأرض هناك. وكلمة الله هي العليا على كل حال. والله هو أصدق القائلين. { وبث فيها من كل دابة }.. وهذه إحدى عجائب الوجود الكبيرة. فوجود الحياة على هذه الأرض سر لا يدعي أحد حتى اليوم إدراكه ولا تفسيره. الحياة في أول صورها. في الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة. فكيف بضخامة هذا السر والحياة تتنوع وتتركب وتتعدد أنواعها وأجناسها وفصائلها وأنماطها إلى غير حد يعلمه الإنسان أو يحصيه؟ ومع هذا فإن أكثر الناس يمرون بهذه العجائب مغمضي العيون مطموسي القلوب وكأنما يمرون على شيء عادي لا يستلفت النظر. بينما هم يقفون مدهوشين مذهولين أمام جهاز من صنع الإنسان ساذج صغير بسيط التكوين حين يقاس إلى خلية واحدة من الخلايا الحية، وتصرفها الدقيق المنظم العجيب. ودعك من الأحياء المقعدة. فضلا على الإنسان، الذي يحوي جسمه مئات المعامل الكيماوية العجيبة ومئات المخازن للإيداع والتوزيع، ومئات المحطات اللاسلكية للإرسال والاستقبال؛ ومئات الوظائف المعقدة التي لا يعرف سرها إلا العليم الخبير!!! { وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم }.. وإنزال الماء من السماء إحدى العجائب الكونية التي نمر عليها كذلك غافلين. هذا الماء الذي تفيض به مجاري الأنهار، والذي تمتلئ به البحيرات، والذي تتفجر به العيون.. هذا كله ينزل من السماء وفق نظام دقيق، مرتبط بنظام السماوات والأرض، وما بينهما من نسب وأبعاد، ومن طبيعة وتكوين.. وإنبات النبات من الأرض بعد نزول الماء عجيبة أخرى لا ينقضي منها العجب. عجيبة الحياة، وعجيبة التنوع، وعجيبة الوراثة للخصائص الكامنة في البذرة الصغيرة، لتعيد نفسها في النبتة وفي الشجرة الكبيرة. وإن دراسة توزيع الألوان في زهرة واحدة من نبتة واحدة لتقود القلب المفتوح إلى أعماق الحياة وأعماق الإيمان بالله مبدع هذه الحياة.. والنص القرآني يقرر أن الله أنبت النبات أزواجا: { من كل زوج كريم } وهي حقيقة ضخمة اهتدى إليها العلم بالاستقراء قريبا جدا. فكل نبات له خلايا تذكير وخلايا تأنيث، إما مجتمعة في زهرة واحدة، أو في زهرتين في العود الواحد، وإما منفصلة في عودين أو شجرتين، ولا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاء وتلقيح بين زوج النبات، كما هو الشأن في الحيوان والإنسان سواء. ووصف الزوج بأنه { كريم } يلقي ظلا خاصا مقصودا في هذا الموضع ليصبح لائقا بأن يكون { خلق الله } وليرفعه أمام الأنظار مشيرا إليه.. { هذا خلق الله } وليتحداهم به ويتحدى دعواهم المتهافتة.. { فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟ }.. وليعقب على هذا التحدي في أنسب وقت: { بل الظالمون في ضلال مبين }.. وأي ضلال وأي ظلم بعد هذا الشرك، في هذا المعرض الكوني الباهر الجليل؟ وعند هذا الإيقاع القوي يختم الجولة الأولى في السورة ذلك الختام المؤثر العميق. بعد ذلك يبدأ الجولة الثانية. يبدؤها في نسق جديد. نسق الحكاية والتوجيه غير المباشر. ويعالج قضية الشكر لله وحده، وتنزيهه عن الشرك كله، وقضية الآخرة والعمل والجزاء في خلال الحكاية. { ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله؛ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد }. ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد وقضية الآخرة تختلف في حقيقته الروايات: فمن قائل: إنه كان نبيا، ومن قائل: إنه كان عبدا صالحا من غير نبوة والأكثرون على هذا القول الثاني ثم يقال: إنه كان عبدا حبشيا، ويقال: إنه كان نوبيا. كما قيل: إنه كان في بني إسرائيل قاضيا من قضاتهم.. وأيا من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل آتاه الله الحكمة. الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله: { ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله }.. و هذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله اقتداء بذلك الرجل الحكيم المختار الذي يعرض قصته وقوله. وإلى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه آخر، فشكر الله إنما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه هو، والله غني عنه. فالله محمود بذاته ولو لم يحمده أحد من خلقه: { ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه. ومن كفر فإن الله غني حميد }.. وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف عن الحكمة؛ ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد. ثم تجيء قضية التوحيد في صورة موعظة من لقمان الحكيم لابنه: { وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه : يا بني لا تشرك بالله. إن الشرك لظلم عظيم }.. وإنها لعظة غير متهمة؛ فما يريد الوالد لولده إلا الخير؛ وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك؛ ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بإن واللام.. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد صلى الله عليه وسلم على قومه، فيجادلونه فيها؛ ويشكون في غرضه من وراء عرضها؛ ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بهأ؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة من الناس؛ يرارد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه.. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود. وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة. ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة: { ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك، إلي المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي. ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون }.. وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد وهي حالة خاصة في ظروف خاصة ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه. فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها الله؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في أدبار الحياة، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية: { حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين } ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق.. روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده بإسناده " عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة " هكذا.. ولا بزفرة.. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهنا على وهن. وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين؛ ويرتب الواجبات، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين.. { أن اشكر لي ولوالديك }.. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة: { إلي المصير } حيث ينفع رصيد الشكر المذخور. ولكن رابطة الوالدين بالوليد على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما }.. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك بالله ما يجهل ألوهيته وكل ما عدا الله لا ألوهية له فتعلم! فهو مأمور بعدم الطاعة من الله صاحب الحق الأول في الطاعة. ولكن الاختلاف في العقيدة، والأمر بعدم الطاعة في خلافها، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: { وصاحبهما في الدنيا معروفا } فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة: { واتبع سبيل من أناب إلي } من المؤمنين { ثم إلي مرجعكم } بعد رحلة الأرض المحدودة { فأنبئكم بما كنتم تعملون } ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران، ومن شرك أو توحيد. روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه (كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت). وروي أنها نزلت في سعد بن مالك. ورواه الطبراني في كتاب العشرة بإسناده عن داود بن أبي هند. والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص. وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في الله هي الوشيجة الأولى، ويجيء التكليف بحق الله هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها لا غموض. وبعد هذا الاستطراد المعترض في سياق وصية لقمان لابنه، تجيء الفقرة التالية في الوصية، لتقرر قضية الآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. ولكن هذه الحقيقة لا تعرض هكذا مجردة، إنما تعرض في المجال الكوني الفسيح، وفي صورة مؤثرة يرتعش لها الوجدان، وهو يطالع علم الله الشامل الهائل الدقيق اللطيف: { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض، يأت بها الله. إن الله لطيف خبير }.. وما يبلغ تعبير مجرد عن دقة علم الله وشموله، وعن قدرة الله سبحانه، وعن دقة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور. وهذا فضل طريقة القرآن المعجزة الجميلة الأداء، العميقة الإيقاع.. حبة من خردل. صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة. { فتكن في صخرة }.. صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها. { أو في السماوات }.. في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة. { أو في الأرض } ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين. { يأت بها الله }.. فعلمه يلاحقها، وقدرته لا تفلتها. { إن الله لطيف خبير }.. تعقيب يناسب المشهد الخفي اللطيف. ويظل الخيال يلاحق تلك الحبة من الخردل في مكامنها تلك العميقة الوسيعة؛ ويتملى علم الله الذي يتابعها. حتى يخشع القلب وينيب، إلى اللطيف الخبير بخفايا الغيوب. وتستقر من وراء ذلك تلك الحقيقة التي يريد القرآن إقرارها في القلب. بهذا الأسلوب العجيب. ويمضي السياق في حكاية قول لقمان لابنه وهو يعظه. فإذا هو يتابع معه خطوات العقيدة بعد استقرارها في الضمير. بعد الإيمان بالله لا شريك له؛ واليقين بالآخرة لا ريب فيها؛ والثقة بعدالة الجزاء لا يفلت منه مثقال حبة من خردل.. فأما الخطة التالية فهي التوجه إلى الله بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إلى الله، والصبر على تكاليف الدعوة ومتاعبها التي لا بد أن تكون: { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك. إن ذلك من عزم الأمور }.. وهذا هو طريق العقيدة المرسوم.. توحيد لله، وشعور برقابته، وتطلع إلى ما عنده، وثقة في عدله، وخشية من عقابه. ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. والتزود قبل ذلك كله للمعركة مع الشر، بالزاد الأصيل. زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة. ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله، من التواء النفوس وعنادها، وانحراف القلوب وإعراضها. ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي. ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء.. { إن ذلك من عزم الأمور }.. وعزم الأمور: قطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم. ويستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى أدب الداعية إلى الله. فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس؛ والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير. ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل: { ولا تصعر خدك للناس، ولا تمش في الأرض مرحا. إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك، واغضض من صوتك. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير }.. والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها. والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر. حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار! والمشي في الأرض مرحا هو المشي في تخايل ونفخة وقلة مبالاة بالناس. وهي حركة كريهة يمقتها الله ويمقتها الخلق. وهي تعبير عن شعور مريض بالذات، يتنفس في مشية الخيلاء! { إن الله لا يحب كل مختال فخور }.. ومع النهي عن مشية المرح، بيان للمشية المعتدلة القاصدة: { وأقصد في مشيك }.. القصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف. وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال. ومن القصد كذلك. لأن المشية القاصدة إلى هدف، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق. والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته. وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب، أو شاك في قيمة قوله، أو قيمة شخصه؛ يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق! والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله: { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير }.. فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية، مع النفور والبشاعة. ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع، ثم يحاول.. شيئا من صوت هذا الحمير..! وهكذا تنتهي الجولة الثانية، بعدما عالجت القضية الأولى، بهذا التنويع في العرض، والتجديد في الأسلوب.
ناپیژندل شوی مخ