مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
على رصيف ميناء سميرنا
قال: إن الغريب في الأمر صراخهم كل ليلة في منتصف الليل. لست أدري السبب في صراخهم في ذلك الوقت. كنا في الميناء وكانوا جميعا على الرصيف، وعند منتصف الليل بدءوا في الصراخ. اعتدنا على توجيه ضوء الكشاف عليهم لكي نهدئ من روعهم. كان ذلك يفي بالغرض دوما. كنا نوجه الضوء باتجاههم صعودا وهبوطا مرتين أو ثلاث مرات وكانوا يتوقفون عن الصراخ. في إحدى المرات، كنت أنا الضابط المسئول على رصيف الميناء وجاءني ضابط تركي وقد بلغ به الغضب مبلغه؛ لأن أحد الملاحين قد أهانه إهانة كبيرة. قلت له بأن الرجل سيرسل على سفينة وسيعاقب عقابا شديدا. طلبت منه أن يشير إلى الرجل؛ فأشار إلى ضابط صغير مسئول عن صيانة السفينة وأسلحتها، وهو شاب مسالم للغاية. قال وهو يتحدث إلي من خلال مترجم: إن الشاب قد أساء إليه بشدة ولمرات عديدة. لم أستطع أن أتخيل كيف تمكن هذا الضابط الصغير من معرفة اللغة التركية بالقدر الذي يكفي لإهانة شخص ما. استدعيته وقلت له: «هل تحدثت إلى أي من الضباط الأتراك؟» «لم أتحدث إلى أي منهم، يا سيدي.»
قلت: «أنا متأكد من هذا، لكن الأفضل أن تظل على متن السفينة ولا تعود إلى الشاطئ ثانية بقية اليوم.»
بعد ذلك أخبرت الضابط التركي أن الرجل قد أرسل على متن السفينة وسوف يحاسب حسابا عسيرا. كلا ، بل أخبرته أنه سيحاسب بصرامة شديدة. سعد بشدة لذلك. لقد كنا صديقين رائعين.
قال إن الأمر الأسوأ على الإطلاق هو النساء وأطفالهن الموتى. لم تكن لتستطيع أن تحمل النساء على التخلي عن أطفالهن الموتى. كان من الممكن أن يبقين على الأطفال الموتى لستة أيام؛ فهن لن يتخلين عنهم. ولم يكن هناك ما يمكن أن تفعله حيال ذلك. كان عليك أن تأخذهم منهن في النهاية. ثم كانت هناك تلك المرأة العجوز، التي كانت حالة استثنائية للغاية. لقد أخبرت طبيبا بأمرها وقال إنني أكذب. كنا نخليهن عن رصيف الميناء، وكان علينا أن نتخلص من الموتى، وكانت تلك المرأة العجوز ترقد على ما يشبه النقالة. قالوا: «هلا ألقيت نظرة عليها يا سيدي؟» ألقيت نظرة عليها وعندها فقط ماتت وتصلبت تماما؛ توقفت ساقاها وتوقف جسمها بداية من الخصر، وأصبحت متصلبة تماما. بدا الأمر كما لو أنها قد ماتت أثناء الليل؛ لقد كانت ميتة ومتصلبة تماما. لقد أخبرت طبيبا بهذا وقال إن ذلك أمر مستحيل.
كانوا جميعا هناك على رصيف الميناء، ولم يكن هناك من شيء كزلزال أو أي شيء من هذا القبيل؛ إذ إنهم لم يعرفوا قط بشأن الأتراك. لم يعرفوا ما كان سيفعله التركي العجوز. أتتذكر حين أمرونا بألا نأتي لإخلاء المزيد؟ أصابتني حالة من التوتر الشديد حين أتينا في ذلك الصباح. لقد كان لديه الكثير جدا من الأسلحة، وكان يمكن أن يفجرنا تماما في المياه. كنا سندخل ونقترب من رصيف الميناء، ونحل المراسي الأمامية والخلفية، ثم نقصف الجزء التركي من المدينة. كانوا سيفجروننا في المياه، لكننا كنا ببساطة سنفجر المدينة ونحولها إلى جحيم. كانوا قد أطلقوا علينا للتو بضع قذائف فارغة في أثناء دخولنا الميناء، ثم جاء كمال وطرد القائد التركي؛ لأنه قد تجاوز سلطاته أو شيئا من هذا القبيل. لقد أعطى لنفسه بعض الشيء حجما أكبر من حجمه الحقيقي. لولا ذلك لتحول الأمر إلى فوضى عارمة.
أنت تتذكر الميناء. كان هناك الكثير من الأشياء الجميلة تطفو حوله. كانت تلك هي المرة الوحيدة في حياتي التي أبلغ فيها هذه المرحلة حتى إنني حلمت ببعض الأمور. أنت لم تكن مهتما بشأن النسوة اللائي كن يلدن أطفالهن مثلما كنت منزعجا بشأن النسوة اللائي كن يحملن أطفالهن الموتى. وقد ولد الأطفال بخير. من المدهش أنه لم يمت سوى القليل منهم. إنك لم تفعل شيئا سوى أنك غطيتهن بشيء وتركتهن وشأنهن. كانت النسوة يخترن البقعة الأكثر عتمة في عنبر التخزين في السفينة كي يلدن. لم تمانع أي منهن في أي شيء فور خروجهن من رصيف الميناء.
كان اليونانيون لطفاء أيضا؛ حين قاموا بالإخلاء أخذوا جميع الحيوانات التي كانت تحمل أمتعتهم لكنهم عجزوا عن أخذها معهم، فكسروا ساقيها الأماميتين، ورموها في المياه الضحلة. كل تلك البغال قد دفعت إلى المياه الضحلة بعد أن كسروا ساقيها الأماميتين. لقد كان ذلك كله أمرا مبهجا. أجل لعمري كان أمرا مبهجا للغاية.
ناپیژندل شوی مخ