وفي بلادنا فريق من الشبان، جمال الوجوه، قباح النفوس، لا عمل لهم إلا الأكل والنوم والجلوس، وهؤلاء هم الذين كانت تصيدهم عزيزة.
وحدث أنها رأت يوما أحدهم، فراق في عينها، فأومأت إليه فتبعها في عجلة حتى خرجا من الطرق المزدحمة، ثم ترك عجلته ودخل عجلتها، فلانت له، وأطلق الشاب للسانه وليده العنان، فرضيت به رفيقا تعده تلقاه كلما شاء وشاءت.
وكانت أم عزيزة تكتم سرها، فباحت عزيزة لها بالأمر، فرأت الأم دارها أستر لأمرها من غيرها، وقد ساعدها على ذلك مرض الرجل الكبير وكونه مقعدا لا يستطيع أن يقوم، ولا يمكنه أن يعلم ما يجري في داره، ورأت ابنها الصغير لا يدرك الأمر، وبعد ذلك بقليل دخل الشاب محبوب عزيزة - وكان اسمه إبراهيم - دارها، ويا ليته ما دخل!
أما إبراهيم فكان شابا يبلغ العشرين من عمره، وكان أبوه مستخدما فقيرا، وكان صحيح الجسم قويا، أبيض الوجه أحمره، وهو في مشيته أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وكان يلبس ملابس ضيقة تظهر كل جمال في جسمه، وهو من الذين لا يعرفون في الحياة شيئا غير الأكل والشرب وما وراءهما، وهم في كل هيئة اجتماعية سبب شقائها وبلائها، فإن كانوا أغنياء فتحت في وجوههم ثروتهم أبواب الشر، فلم يتركوا ذنبا إلا وطرقوا بابه، ولم يغادروا جريمة أدبية إلا واقترفوها، ولا ندري من غرس في أفكار تلك الفئة الضالة مبادئ الماديين العقيمة، فإن أحدهم لا يبالي بشيء ما دام ماله في كفه وبطنه مملوءة بالطعام ومجالس أنسه عامرة والفقراء الجهلاء يخدمونه ويسجدون لذهبه، وهو لا يحس بأن للحياة أغراضا إلا الأكل واللذة والذهب. وإن كانوا فقراء التمسوا رزقهم بجمال وجوههم ورشاقتهم، وليس اللص الذي يقتل الناس ويسرق المتاع ليأكل ويسد عوزه بأكبر جرما من الذي يسرق العفة والطهارة من قلوب بنات الأمة، ويظن أن كل ما يأتيه حلال؛ لأنه شاب والشباب شعرة من الجنون.
وكانت عزيزة كل ذلك الوقت تنفق من جيبها على الشاب إبراهيم، ولا تمنعه شيئا، ولما رأى ثروتها وعلم بحبها له، قال إنه من عائلة شريفة، وإن الناس علموا بأمره وأمر عزيزة، وإنه يخشى الفضيحة، ففاتحت عزيزة أمها في الأمر، وشكت لها حبها لإبراهيم، وقالت: إنها إن لم تحظ به دائما تموت شهيدة حبه وغرامه، فوجدت أمها بدهائها ومكرها مخرجا لبنتها ومعشوقها من تلك الورطة، وذلك بالزواج، فامتنع الشاب عن الزواج بعزيزة بحجة أن أهله يغضبون عليه؛ لأنهم لا يرغبون في زواجه إلا من بنت بكر، ولكن لم تفرغ جعبة أم عزيزة من الحيل، فإنها قالت: إنه لا يعلم أهله بالزواج، وتبقى عزيزة في دارها، ويزورها إبراهيم كلما شاء، فقبل الشاب بعد إلحاح شديد، وبعد أن أتحفته عزيزة بمائة جنيه.
ومن الغريب أن الزواج أطفأ نار الغرام التي كان يشعلها الزنا، فقبحت عزيزة في عين إبراهيم، وأمسى قربها وبعدها لديه سيان، وبدأ إبراهيم يحس بثقل عزيزة على كاهله.
وكان كلما زاد تيها ودلالا تزداد عزيزة إليه شوقا وميلا، وكلما طلب مالا وهبته ما شاء، وأصبح المتصرف في كل شيء، وليت إبراهيم كان يأخذ مال عزيزة ويسد به حاجة عائلته، فإن ذلك يكون أفضل من حبسه، بل كان يأخذ مال تلك المسكينة فيلبس الملابس الجميلة، وينفق طول ليله على الخمر والنساء.
الفصل الحادي عشر
قال محدثي: وقد راقت زبيدة - أخت عزيزة الصغرى - في عين إبراهيم من كثرة تردده على الدار.
وكانت زبيدة أصغر من عزيزة وأجمل، وكانت في ذلك العهد لا تزيد عن سبعة عشر عاما، وهي مملوءة شبابا وصحة، نادية الخد، معتدلة القد، رخيمة الصوت، بارزة النهد، ولما قابلت عين إبراهيم عينها، احمر وجهها، وأغضت بنظرها إلى الأرض، فداعبها وتودد إليها، والتقيا يوما على انفراد، وقال لها: «قبلة.» وما زال يسأل وتمنع حتى أبرز لها قطعة من الذهب، وأين لزبيدة مثل هذه القطعة، وهي فتاة لم تتزوج ولا تحتاج إلى المال، فلما رأت الدينار رأت فيه حذاء جديدا ومنديلا جديدا وعطرا، ورأت كل ما يشترى بالدينار، فقالت له: ما أكرمك لو أعطيتنيه! فقال: ما أحلمك لو صبرت حتى أقطف وردة من بستان جمالك، وأطفئ نار قلبي بقبلة من خدك! فقالت له: يا للعار! أنا بكر، فقال لها: يا للأسف! وأنا عاشق، قالت: قف متأدبا وضع يديك على صدرك، ولا تفاجئني حتى أقرب إليك خدي.
ناپیژندل شوی مخ