په عربي کلتور کې تازه
في تحديث الثقافة العربية
ژانرونه
وأما النقطة الثالثة مما أريد أن أقدم به بيتي أبي العلاء؛ فهي عن «العقل»، إذ يقيم أبو العلاء مقابلة بين «الإمام» من جهة، و«العقل» من جهة أخرى، فلأيهما يلقي الإنسان بزمامه؟ هل يقف أمام ما عساه ينشأ له في حياته من مشكلات وقفة من ينتظر الحل ينطق له به «إمام» أو إنه يعمل فيه عقله مجتهدا لإيجاد الحل المطلوب؟ ولقد كان ينبغي ألا يكون سؤال كهذا واردا على مسلم، وإلا فلماذا كان الإسلام آخر الديانات ظهورا؟ أكان ذلك لأن حياة الإنسان بعد ظهور الإسلام لن تتعرض لأي أمر مشكل لم يرد له حل في آيات الكتاب الكريم أم أن حياة الإنسان تفرز مشكلاتها جديدة مع كل يوم جديد؟ ولقد كان المستحدث من تلك المشكلات فيما قبل الإسلام نزل من أجل حله رسالات الرسل على تعاقب العصور، فأما وقد نضج العقل الإنساني؛ فقد جاء القرآن الكريم بحلول لطائفة كبيرة من مسائل الحياة التي عرضت للناس في مناسباتها، ثم أمر الإنسان بأن يركن إلى عقله بعد ذلك، كلما جد له في حياته جديد، ومن هنا كان الإسلام آخر الرسالات، فإذا كان الخيار بين «إمام» و«عقل» لم يتردد المعري في أن يقع اختياره على «العقل» أداة إرشاد لصاحبه، ما أصبح به صبح أو أمسى مساء. أما بعد، فهاك البيتين:
زعم الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الزعم لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صبحه والمساء
وحديثنا هو - كما تعلم - حول حاضر الثقافة العربية، فلو قرأت هذين البيتين، حين تكون منشغلا بموضوع الثقافة العربية؛ فبأي الصور تجيئك هذه القراءة؟ إنني لا أعرف بماذا تجيب، وأما أنا فكما حدثتك فيما أسلفته لك وجدتني كأنما أقرأ البيتين لأول مرة، رغم أني قد همست بهما لنفسي قبل ذلك ما يزيد على ألف مرة، وذلك لأني قرأتهما بهداية من الموضوع الذي يشغل فكري الآن، وهو حاضر الثقافة العربية، فكانت الصورة التي وثبت منهما إلى ذهني، هي صورة جمهور عريض أخرس، أو كالأخرس، لا يعرف كيف ينطق، ولا بأي شيء ينطق، فيتنازعه رجلان: أحدهما يضطلع بدور يشبه دور «الإمام المعصوم» الذي حدثتك عنه عند طائفة من مذاهب الإسلام، والآخر يؤدي دورا يشبه دور العقل حين يصدر أحكامه على الأشياء والمواقف. فأما أول الرجلين فسنده في اجتذاب الجمهور هو محفوظات ينقلها إليه عن مؤلفات السابقين ممن كانت - ولا تزال - لهم مكانتهم في قلوب المسلمين، وأما ثاني الرجلين فسنده أمور الواقع الحاضر، وكيف أنها في حاجة إلى نظر جديد وحل جديد، وإلى أي الرجلين - يا ترى - قد انجذب جمهورنا؟ لقد تغيرت معه وجهة الجذب بتغير المراحل الزمنية من هذا القرن، وإذا أردت وصفا عاما لاتجاه الجمهور، يقبل الاستثناء هنا وهناك، فقل إن رجل العقل كان أشد جذبا له في المرحلة الأولى، ورجل المحفوظات المأثورة أشد جذبا له في المرحلة الثانية: فهل كان تغير الجمهور في الجذابة بين المرحلتين راجعا إلى وعي زاد فيه هناك ونقص هنا أو نقص هناك وزاد هنا؟ أرجح الظن أن الأمر في تغيره بين المرحلتين يرجع إلى ظروف اجتماعية واقتصادية أضفت قوة على رجل العقل إبان المرحلة الأولى، وإلى ظروف أخرى حلت محل الأولى أضفت قوة على صاحب المحفوظات في المرحلة الثانية، وأما كتلة الجمهور في ذاتها، رغم التزايد المتصل في أعداد المتعلمين بها، فإذا أخرجت من حسابك القدرات النوعية المكسوبة لأصحابها، بالتعليم في المدارس أو بالتدريب بين الحرفيين؛ أقول إن كتلة الجمهور ذاتها ، بعيدا عن مجالات العمل المهني أو الحرفي، فهي في حالة من «القصور الذاتي» الذي نسبه «نيوتن» إلى الأجرام المادية المتحركة أو الساكنة، إذ قال إن كل جسم يظل على حالته من حركة أو سكون حتى يصادف عاملا خارجيا يغير من اتجاه حركته، أو يبث فيه الحركة بعد سكون، أما الجسم نفسه ففيه «قصور ذاتي» لا يستطيع معه أن يغير نفسه بنفسه، ليس الأمر في ذلك مقصورا على شعب دون شعب آخر، فالجمهور العام في كل شعب أميل جدا إلى المحافظة على قديمه المألوف، إنه يفضل السير على طرق دقتها قبل ذلك أقدام السائرين، فذلك عنده أفضل من المغامرة في طريق جديد قد يباغت المسافر بمفاجآت، ولقد صب المصري خبرته الخاصة بالمفاضلة بين قديم معروف وجديد مجهول في المثل السائر: «من ترك قديمه تاه.» فالجمهور أينما كان محافظ بطبعه، يتردد ألف مرة قبل أن يغير من رتابة حياته شيئا، وربما كان له في ذلك حكمته المستفادة من خبرات الزمن وتقلباته، فلو أن «الجديد» الذي يبشر به أصحابه مضمون الصواب مأمون النتائج؛ لحق اللوم على جمهور يرفضه، ولكن من ذا الذي يضمن له ذلك؟ فما أكثر ما يبشر المجددون بفكرتين متعارضتين فأيهما يكون الصواب؟ وانظر إلى الأحزاب السياسية المتعارضة، حتى في أكثر بلدان العالم تقدما، تجد حزبا منها يبشر بفكرة يراها خيرا كل الخير للناس، في حين يبشر الحزب الآخر بنقيضها، حزب يرى الخلاص الاقتصادي في تأميم المشروعات الكبرى، وحزب آخر يراه في الملكية الخاصة لتلك المشروعات! حزب يرى ضرورة الحرب مع أعداء الوطن، وحزب آخر يفضل السلام والمسالمة! انظر كم يختلف الرأي في المرأة الجديدة وحقوقها! فما الذي نريد من جمهور الناس قبوله وهو مطمئن؟ وحتى أولئك الذين يخلصون الدعوة إلى وضع اجتماعي جديد لا يتسرع هو نفسه في تطبيق دعوته تلك على حياته الخاصة، إلى أن يستقر ذلك الجديد في حياة الناس.
من هنا كان الشبه بين كتلة الجمهور، وكتلة الصخر، من حيث إن كلتيهما مقيدة «بالقصور الذاتي» شبها واردا من بعض الوجوه فكلتاهما تحافظ على الوضع الذي هي فيه من حركة أو سكون، حتى تصدمها العوامل الخارجية فتغير لها وضعا بوضع، كأن تتحرك بعد سكون، أو أن تسكن بعد حركة، أو نغير من اتجاه حركتها، إلا أن الفرق الكبير بين الحالتين، الذي هو فرق ذو مغزى بعيد، هو أن كتلة الحجر يجيئها التغير بفعل عامل خارجي ليس منها، كالكرة المقذوفة نحو وجهة معينة يعترض سيرها لاعب فيضربها ضربة تغير من وجهة السير. وأما كتلة الجمهور، فهي وإن لم تكن قادرة من تلقاء نفسها على تغيير شيء من أوضاع حياتها؛ فالذي يحدث فيها ذلك التغير المطلوب عامل من أفرادها، وها هنا تجب علينا وقفة متأنية؛ لأننا الآن أمام مسألة تمس التعليم من أساسه كما تمس الثقافة في صميمها، وأعني بها مسألة «المواهب» في من هم ذوو موهبة وهبهم إياها ربهم الذي خلقهم وبراهم وسواهم، ولم يعد يحق لأحد إنكار موهبة إلهية على موهوب؛ إذن «فالكتيبة الخرساء» التي أشار إليها أبو العلاء، وإن تكن خرساء في مجموعها؛ فإن منها هي قد يخرج فرد «ناطق»، وإن ما ينطق به ليزداد ارتفاعا في الصوت، وانتشارا في الأرجاء حتى يبلغ من الناس مبلغه، فيأخذ الجمهور عندئذ في التحول عن قديم نحو جديد، على أن الينبوع الدفاق الذي استقى منه ذلك الابن الناطق من أبناء الكتيبة الخرساء؛ إنما هو تلك الكتيبة الخرساء نفسها، والفرق بينها وهي في خرسها وبين ابنها الموهوب الذي ارتفع صوته هو الفرق بين من يكتم الألم ومن يبوح، أو بين من يخفي آماله ومن يفصح عنها ويعلنها، وكأنه هو نفسه الفرق بين كتاب في جماعة أمية لا تقرأ المسطور على صفحاته؛ فيظل ذلك المسطور رموزا مكتومة الصوت، حتى يقيض الله لتلك الأمة ذاتها ابنا من أبنائها؛ فيقرأ لهم كتابا بصوت مسموع، وبهذا يصبح السؤال الأهم في حياتنا هو: من ذا الذي يخرج لنا من جمهورنا الصامت أصحاب المواهب ليغيروه؟ أو قل إنهم سيخرجون ما قد كمن في صدورهم من ألم ومن أمل؛ لتصير على ألسنتهم وعلى أقلامهم دعوة صريحة مفهومة الكلمات والجمل.
وإنهم لكثيرون أولئك المفكرون من علماء التربية من نادوا بأن يكون الهدف البعيد من العملية التعليمية كلها هو فرز أصحاب المواهب من أبناء الأمة؛ لأنهم هم من تلك الأمة عقلها وقلبها معا، فكأننا في العملية التعليمية من وجهة نظر هؤلاء أمام تل من الرمل والحصى، يشتمل في رمله وحصاه على جواهر تبعثرت في جوفه، ونريد أن نغربل عناصره كلها لكي نقع على تلك الجواهر، وما عملية الغربلة هذه إلا تعليم المواطنين جميعا، للكشف عن المواهب المخبوءة فيهم، فنرعاها حق رعايتها. وإذا نحن آخر الأمر في أمة لها من أبنائها علماؤها وفنانوها، وأدباؤها ومحاربوها، وكل صنف من الرجال الهداة إلى طريق النهوض والتقدم. لكننا اليوم نتطلب تعديلا ضروريا في هذه الرؤية؛ إذ هي رؤية تجعل تعليم عامة الناس من أبناء الشعب وسيلة وليس غاية في ذاته، والصواب هو أن يكون التعليم حقا للجميع، على ألا ننسى فوق ذلك أن الرعاية الخاصة حق لأصحاب المواهب.
وحديثنا هذا هو حديث عن الثقافة العامة والنهوض بها، فأين هذا الهدف مما أسلفناه؟ وتكمن الإجابة في تصورنا «للثقافة» العامة ما طبيعتها وما دورها في نهضة نريدها لأمتنا، وما أكثر ما تحدثنا عن «الثقافة» ومعناها ودورها فيكفينا في هذا السياق أن نجتزئ من ذلك البحر الواسع الغامض قطرة واحدة هي التي نستعين بها على بسط ما نريد توصيله إلى القارئ، وتلك القطرة الواحدة هي أن الثقافة ليست مجموعة معينة من معلومات، من جمعها في وعائه كان «مثقفا» بدليل أنك قد تجد مثقفا هنا يعرف من المعلومات: أ، ب، ج، ومثقفا هناك يعرف منها: د، ه، و، ومع هذا الاختلاف بينهما فيما يعرفانه، يحسبان على الثقافة! فماذا يكون العامل المشترك إذن الذي يدور مع «الثقافة» وجودا وعدما؟ فإذا وجد ذلك العامل وجدت وإذا غاب غابت؟ إنه - آخر الأمر - حالة من الحساسية تمكن صاحبها من قبول ما يقبله ومن رفض ما يرفضه، فورا وبغير تدبر أو تردد، وإنها لحساسية تشيع في الشعب المعين شيوعا قد يختلف فيه الأفراد قليلا هنا أو قليلا هناك، لكنها بوجه عام مناخ مشترك يتنفسه المواطنون جميعا؛ فالفرد من أفراد شعب معين، كالمصري أو الفرنسي أو الإنجليزي ... إلخ، له طريقته الخاصة في كيف يحزن وكيف يفرح، وكيف يجامل شخصا آخر أو لا يجامله، وهكذا وهكذا، عندما كنت في بعثتي الدراسية في إنجلترا جاء مبعوث مصري من إحدى الكليات العلمية بالجامعة، فما إن علم بأن أستاذته سيدة، ولم يألف بعد في مصر أن تكون الأستاذية لامرأة؛ حتى اضطرب اضطرابا عكر عليه صفو حياته، وكان يطلب إلغاء البعثة والعودة إلى مصر، فإلى هذا الحد تبلغ «الحساسية» الثقافية في الشعوب!
ومن هذه الزاوية نقول: إن استقامة حياتنا بعد عوج لا بد أن تسبقها عوامل تشيع في الناس «حساسية» جديدة لما يقبلونه وما يرفضونه، ومهما تباينت تلك العوامل في مختلف الظروف المحيطة بالناس، فإن أهم مصادرها هي تلك المصادر الأساسية نفسها التي تستقى منها «القيم» فيما يجوز فعله وما لا يجوز، وهي: الدين، والفن، والأدب، والأعراف والتقاليد التي يتوارثها أبناء الشعب جيلا عن جيل، وقد تأخذك حيرة التساؤل هنا فتقول: لكن إذا كانت هذه هي المصادر التي تنتج عنها الحساسية الثقافية؛ أفليست هذه العوامل ثابتة في الشعب الواحد إلى حد كبير؟ إذن كيف يتاح لشعب أن يغير مناخه الذوقي لينتقل من عصر إلى عصر؟ وللسؤال وجاهته، وفي الإجابة عنه لا مفر لنا من درجة من الغموض، إلا أنه في مستطاعنا مع ذلك أن نقول: إن تلك المصادر التي ذكرناها هي - لحسن الحظ - مما يصاغ في وسائط مرنة تقبل أن تضيق وتقبل أن تتسع، وليس فيها تلك الدقة الحادة الباردة التي تجدها في مصطلحات العلوم الفيزيائية والكيميائية - مثلا - أو في العلوم الرياضية. ولأضرب لك مثلا واحدا من عنصر واحد مما يدخل جزءا في التركيبة الثقافية عند المصري، وهو شعور المصري بالفخر لأنه من شعب «طيب»، ولذلك فالمصري حريص - في الظاهر على الأقل - أن يكون «طيبا» في تعامله مع الآخرين ، وإذا وجد في شعوب أخرى لونا آخر من السلوك الصارم ازدراه وعف عنه، فمن ذا الذي يستطيع أن يحدد لي في شيء من الدقة ما يراد بكلمة «طيب» عندما نفاخر بها - نحن المصريين - ونجعلها صفة مميزة لشعبنا دون كثير من الشعوب الأخرى؟ وإنني لأصرح هنا عن نفسي، إنني - لأمر ما - شغلت نفسي بالبحث عن تعريف محدد لهذه الصفة الأساسية بين صفاتنا الوطنية، ولعل ما حرك رغبتي في الوصول إلى تحديد المعنى المقصود هو ما قد أصاب شعبنا في مرحلته الأخيرة من تنافر ملحوظ بين أفراده، بل ما هو أكثر من مجرد التنافر؛ لأن التنافر قد يسود بين الأفراد في جماعة دون أن يستتبع بالضرورة نهشا ينهشون به الأبدان والنفوس بغير داع مرئي أحيانا، بل لمجرد إثبات الذات وشطارتها وتفوقها ونجاحها.
ناپیژندل شوی مخ