په عربي کلتور کې تازه
في تحديث الثقافة العربية
ژانرونه
كائنات كسائر الكائنات، تحيا وتموت: منها ما يولد ميتا، ومنها ما تمتد به الحياة حينا، ومنها ما كتب له الخلود، إنها كسائر الأحياء، تريد لنفسها الأجواء، الصالحة لبقائها، فبعض الأحياء يسبح في الماء، وبعضها يزحف على يابس الأرض أو يمشي على أرجل، وبعضها الآخر مجنح يطير في جو السماء؛ وإنها لكالجياد في مضمار السباق، فجياد تسقط في بعض الطريق، وجياد حرة كريمة تصمد إلى آخر الشوط؛ والعجب هو من إنسان لا يطيب له العيش إلا مع أفكار أصابها الإعياء في بعض الطريق فماتت، فتعفنت، أو حنطت لتبقى هياكلها هامدة في توابيتها على سبيل الذكرى.
وأما الأفكار التي هي كالطير الذي يضرب الهواء بأجنحته القوية، مخترقا طريقه فوق رءوس الزمن، محتفظا في يومه بقوته التي كانت له في أمسه، قريبه وبعيده، والتي سوف تكون له في غده، وما بعد الغد، وربما إلى آخر الدهر، فهي الأفكار التي ألقت عن ظهورها أثقال اللحظة العابرة، ولم يبق من الفكرة القوية إلا إطارها؛ وبذلك تخففت من أحمال الحجر والحصى، ليبقى الجوهر الثابت؛ ومن ثم استطاعت أن تطير عبر الزمان بهياكل تأخذ من كل عصر لحمه ودمه فتكتسي بما يلائم ذلك العصر؛ حتى إذا ما أدبرت أيامه عادت الفكرة القوية فخلعت عن هيكلها ذلك الحشو المؤقت لتنتقل إلى عصر جديد فيمتلئ إطارها بمضمون جديد، وهكذا دواليك عصرا بعد عصر على طول الزمن.
الأفكار القوية بحياة متجددة، هي كالغرف في فندق ممتاز، يشغلها الزائرون زائرا بعد زائر؛ فيراها كل زائر وكأنها جديدة بنت يومها، بنيت الآن من أجله هو، وذلك لأنها تنقي جدرانها وأثاثها من ضرورات الأمس، لتستقبل يوما جديدا له ضروراته الجديدة؛ وإذا لم يعجبك تشبيه الأفكار الشريفة بغرف الفنادق تخلو وتمتلئ، ثم تمتلئ لتخلو، محتفظة لنفسها بشروط الدوام؛ فانتقل معي إلى ميادين العلم؛ تجد ما شئت من أمثلة، فيها ما قد رأيناه في غرف الفنادق التي يتوالى عليها النزلاء، من صفات تجعلها صالحة في يومها بما صلحت به في أمسها، وما سوف تصلح به في غدها؛ وابدأ فخذ المثل من أية حقيقة في أي علم من علوم الرياضة؛ ولنجعل مثلنا الذي نختاره بسيطا ليكون واضحا، فخذ هذه المعادلة العددية: 3 + 4 = 7؛ فهي - كما تعلم - حقيقة لا يغير من صدقها طول الزمن، كلا ولا يغير من صدقها تغير المكان؛ فما الذي أكسبها هذه الحصانة؟ الذي أكسبها تلك الحصانة التي ضمنت لها البقاء، أنها لم تثقل هيكلها بمضمون معين، قد يوجد اليوم ولا يوجد غدا؛ فالأمر فيها يشبه الملابس الجاهزة، يلبسها من جاءت على قده؛ فهي لم تشترط مادة معينة يكون منها الثلاثة ويكون منها الأربعة أيضا، حتى يمكن أن يكون حاصل جمعها سبعة؛ إذ هي تصلح على أفراد الناس، وعلى الأنهار، وعلى حبات البرتقال، وعلى أي نوع شئت من أنواع الكائنات؛ وهي في كل حالة من حالات استعمالها، تفرغ نفسها من كل ما قد ملأها قبل ذلك، لتضع نفسها بين يديك؛ هيكلا خالصا بإطاره، لتملأه أنت بما عندك من أشياء وغير أشياء.
وهذا الذي قلناه عن الصياغات الرياضية بشتى أنواعها، نقول ما يقرب منه، عن أي قانون علمي في أي ميدان من ميادين البحث في ظواهر الطبيعة: فقوانين العلوم الطبيعية هي الأخرى صور مفرغة من مضموناتها العينية، لكي يملأها كل بمضمونات مما يقع له في بيئته ؛ فإذا قلنا مثلا إنه مع ارتفاع الأرض تقل درجة الحرارة، فنحن قد تركنا تفصيلات المكان؛ أين؟ وما نوع الارتفاع؟ فقد يكون ارتفاعا على قمة جبل في كينيا، وقد يكون ارتفاعا في عمارة شاهقة في القاهرة، وقد يكون ارتفاعا في طائرة فوق الصحراء؛ وإذا قلنا إن العصا المغموسة في الماء تبدو للعين مكسورة، فقد تركنا كل تفصيلات الموقف مكانا وزمانا وعصيا وأعينا؛ وإذا قلنا إن السلعة إذا زاد المعروض منها في السوق على طلب الناس، مال سعرها نحو الانخفاض؛ فقد أسقطنا من الحساب ذكر تفصيلات الحدوث: أي سلعة؟ وأي ناس؟ وهكذا قل في كل فكرة علمية.
بل إن ذلك القول نفسه يصدق على أي حكم عام - حتى ولو لم يكن مأخوذا من دنيا العلوم، وكان تكثيفا لخبرة بشرية في شيء مما يتصل بحياة الإنسان؛ وهو ما نسميه «بالحكمة» فإذا قال المتنبي: «إذا رأيت نيوب الليث بارزة، فلا تظنن أن الليث يبتسم» قاصدا بذلك أن يقول إن المظاهر كثيرا ما تخدع الناس عن الحقائق التي تكمن وراءها، فهو إنما يقدم بذلك فكرة تدوم ما دامت حياة، لأنها استخرجت من تفصيلات الواقع العيني ما يشبه أن يكون إطارا مفرغا، ليملأه كل إنسان بمادة من الحياة التي حوله.
هذا ما قصدت إليه حين قلت إن الأفكار الخالدة التي تحيا مع الناس على امتداد الزمن؛ هي «صور» أو «أطر» مفرغة من مادتها، وتفريغها هذا يتدرج مع درجات قابليتها للبقاء؛ فأكثرها تجريدا وتفريغا أكثرها بقاء وأوسعها شمولا؛ وكلما زادت فيها مقادير الحشو المادي الذي يربطها بمكان معين أو بزمان معين، كانت أسرع إلى الزوال سرعة تتناسب مع حشوها؛ فإذا قلت - مثلا: «الناس يرتدون الثياب.» فقد قلت حقيقة إنسانية على كثير جدا من التجريد، ولذلك فهو قول يكاد يصدق على كل مجموعات البشر أينما كانوا وأنى كانوا؛ لأنك تركت فكرة ارتداء الثياب مطلقة من القيد الذي يحدد صورتها؛ ولكن زد هذه الصورة بما يقيدها، كأن تقول عن الناس إنهم يلبسون ثيابا من صوف الغنم، فعندئذ ترى أن دائرة الصدق التطبيقي قد ضاقت؛ وبالتالي فلم يعد للفكرة كل ما كان لها من الدوام والشمول؛ وعلى الأساس نفسه، إذا قلت بأن النساء يراعين الحشمة في ثيابهن، كانت الصورة أقدر على البقاء، مما لو قلت إن النساء يراعين في الثوب أن يكون على طول معين وسعة معينة، لأن هذا التقييد في الوصف يضيع على الفكرة بعض صلاحيتها للدوام، وهكذا.
على أن الفكرة التي يتوافر لها قدر كاف من «الصورية» فيكون لها - بالتالي - قدرة على الصمود عبر الزمن، تتطلب شرطا آخر كي تتم لها هذه القدرة على البقاء، وذلك أنها يجب أن تقع على تربة اجتماعية تمكنها من الوجود ومن النماء؛ ولنأخذ مثلا فكرة «الحرية» فبادئ ذي بدء لا بد من ملاحظة أن فكرة «الحرية» إنما هي فكرة إطارية - أو صورية - إلى حد كبير، وهي ذات مضمون معين إلى حد صغير؛ فمهما بحثت عن تعريف يبين حقيقة «الحرية» فأنت مضطر آخر الأمر إلى الوقوف عند درجة معينة من التجريد؛ فقد تقول - مثلا - إن الحرية هي فك القيود، فيبقى السؤال: أي قيود؟ وهنا ترى كيف أن الأمر قد ترك لكل موقف وظروفه، ولكل عصر وقيوده؛ فقد يقف الأمر عند حد تفك فيه الرقاب، بمعنى ألا يكون بين الناس رق، بحيث لا يملك إنسان إنسانا آخر ملكيته للماشية والأثاث؛ لكن إلغاء الرق لا يتضمن بالضرورة إلغاء التفاوت الاقتصادي والاجتماعي - الذي يقسم الناس طبقات - ثم يستتبع ذلك أن يكون إنسان في حاجة ماسة إلى إنسان آخر يمده بأسباب العمل والعيش، حتى لو أدى ذلك بالأعلى أن يستغل الأدنى وأن يستذله؛ وهكذا تبقى «الحرية» فكرة مرهونة بظروف تطبيقها، يملؤها كل عصر - وكل مجتمع - بما عنده من تفصيلات الثقافة العامة التي يعيشها؛ ومن هنا رأينا شعوبا كثيرة ترفع لواء الحرية في حياتها، ثم تنظر فإذا أنت أمام أنماط من الحياة ملئت بالقيود أشكالا وألوانا، وهكذا الحال في فكرة الديمقراطية وما إليها من أفكار إطارية تتنوع فيها أنماط الحشو الفعلي الذي يملأ ما بين جدرانها من فراغ ؛ لكن هذا التنوع الشديد في مضمونات الفكرة، لا يحجب الرؤية أمام البصائر القادرة؛ لأنه ما دام هنالك «تعريف» نموذجي للفكرة - كفكرة «الحرية» - وهو أن تفك عن الإنسان قيوده، فيصبح في حدود الإمكان النظري أن نرتب التنويعات الكثيرة في أشكال التطبيق، ترتيبا يبين أي الشعوب اقتربت بحريتها من التعريف، وأيها ابتعد، وذلك بالطبع بعد أن نحلل «القيود» وأنواعها، إذ قد يكون القيد غلا من حديد في الأيدي والأقدام، وقد يكون فقرا شديدا بجماعة من الناس، يدفعهم إلى الحاجة، ومن ثم يدفعهم إلى الخضوع، وقد يكون جهلا بما للإنسان من حقوق، وقد يكون مجموعة من التقاليد الحديدية التي تكتم الأنفاس، وهكذا.
خذ فكرة «الديمقراطية» في معظم أقطار «العالم الثالث»؛ فالديمقراطية - كالحرية - فكرة إطارية يختلف فيها الحشو المضموني، من بلد إلى بلد، ومن عصر إلى آخر، والذي أمدها بالدوام هو صوريتها هذه؛ إذ يكفي لتعريفها أن يقال إن الأمر يكون شورى بين الناس، أو بعبارة أخرى تشيع اليوم، أن يكون صنع القرار متروكا للشعب، ما دام القرار ماسا بجانب من جوانب الحياة المشتركة بين الناس؛ لكن هذه الصورة العامة المجردة، إذا لم تجد تربة اجتماعية تخلو من التقاليد التي قد تحول دون أن تكون تلك الشورى على وجهها الصحيح ممكنة الحدوث، وفي هذه الحالة يظل الناس يقولون عن حياتهم إنها تجري تحت مظلة «الديمقراطية» بغض النظر عن تلك الحوائل التي تجعل لزيد من الناس رأيا أرجح من رأي عمرو، لأنه أغنى، أو لأنه أقوى أسرة، أو أعلى منصبا، أو غير ذلك؛ ولقد بلغ بنا خلط فكري كهذا إلى حد أن نصيح بالديمقراطية ثم نقول في الوقت نفسه إننا نأخذ بتقليد يجعل الأمة «أسرة» ويجعل رئيس الدولة أبا لتلك الأسرة؛ وبهذا الخلط ضاعت من أبصارنا الحدود الفاصلة بين طبيعة الحياة الاجتماعية «داخل» الأسرة، وطبيعة تلك الحياة «خارج» الأسرة؛ فداخل البناء الأسري لا ديمقراطية في صنع القرار، وذلك بحكم طبيعة التركيب الأسري؛ ففي الأسرة والدان وأبناء كبار وصغار، ولا ضير في أن يؤخذ رأي الأعضاء جميعا إزاء مشروع معين، حتى إذا ما جاءت لحظة «القرار» كان الأمر لواحد فقط، هو رب الأسرة كما اعتاد الناس أن يصفوا الوالد؛ تلك هي طبائع الأمور؛ وإنك لتجد هذه الصورة نفسها في الجيش وهو في ميدان القتال، أو في السفينة وهي في عرض البحار؛ كل هذه الحالات لا ديمقراطية فيها بحكم طبيعة تكوينها، وإن تكن مما يلجأ صاحب الأمر فيها إلى «الشورى» فكما قد يلجأ الوالد في الأسرة إلى استطلاع آراء زوجته وأبنائه، كذلك قد يلجأ قائد الجيش في ميدان القتال إلى استطلاع ضباطه وجنوده، أو قد يلجأ ربان السفينة إلى استطلاع آراء معاونيه؛ أما «القرار» في هذه الحالات كلها، فمتروك لمسئول واحد؛ ومعنى هذا أن هذه كلها ضروب من النظم لا ديمقراطية فيها عند صنع القرار.
وأما «خارج» الأسرة، عندما يكون الأمر أمر مواطنين ووطن، فلا بد من ديمقراطية القرار؛ في كل هيئة تتولى شأنا من الشئون العامة، فحتى لو فرضنا أن والدا وولده اجتمعا معا عضوين في مجلس الشعب، أو في مجلس إدارة إحدى المؤسسات، أو فيما يشبه ذلك، فعندئذ لا تكون للوالد أبوة في الرأي على ابنه، لأنهما قد أصبحا «خارج» الأسرة، وإزاء موضوع وطني عام؛ وقد نذكر ونحن في هذا السياق من الحديث، أن القرآن الكريم، في تحديده للعلاقة بين الولد ووالده، قد بين هذا الفرق بين أن يكون حيال مسألة أسرية، وعندئذ تصبح طاعة الولد لولده واجبة، وأن يكون الموقف متعلقا بالدين وعقائده وفروضه، فها هنا ترتفع الطاعة عن الولد، وإن بقي عليه واجب الرعاية والعطف؛ فما بالك - إذن - أن يحدث خلط في حياتنا السياسية، يؤدي بنا إلى الجمع - عن غير وعي - بين أن يكون رئيس الدولة منتخبا من الشعب (وانتخابه هذا نوع من «القرار») وأن يكون هذا الرئيس نفسه، وفي الوقت نفسه، على علاقة مع الشعب توازي علاقة رب الأسرة مع سائر أعضائها؟ لست أشك هنا في حسن النوايا، ولكنني أشك في وضوح المعنى عندما نستخدم كلمة «ديمقراطية» وكلمة «أسرة» على النحو الذي يخلط بينهما في صورة أخذ القرار.
وإنما أردت بهذا الاستطراد أن أوضح أمرين: أولهما أن أفكارا «كالحرية» و«الديمقراطية» هي من الأفكار المزودة بما يعين على دوام قيامها مثلا عليا في حياة الناس، لأنها - كما قلت - أقرب إلى «الإطار» منها إلى تعيين المضمون؟ وأما الأمر الثاني، فهو أن تلك الأفكار وأشباهها، لا تحيا وفق نموذجها الأسمى إلا في مجتمعات خلت من قيود أخرى قد تعرقل تساميها.
ناپیژندل شوی مخ