په عربي کلتور کې تازه
في تحديث الثقافة العربية
ژانرونه
ونبدأ بالسؤال الأول: أنستهدف جميعا هدفا بعيدا واحدا؟ وإن كنا نفعل، فما هو ذلك الهدف المتبقي؟ إننا لا نحتاج إلى أكثر من لفتة قصيرة وسريعة، لنرى أننا - منذ الأساس - على تمزق بين رؤيتين؛ سلفية ومستقبلية، تمزقا لم نشهد له مثيلا منذ أول نهضتنا في أوائل القرن الماضي، فالمشهود اليوم هو أكثرية غالبة تدعو إلى ارتداد إلى السلف ، وأقلية باتت خافتة الصوت، تحاول أن تذكر الناس بأن الله سبحانه وتعالى حين خلق للإنسان عينيه في جبهته، أراد له أن يكون النظر متجها في الأساس إلى أمام، وأنه إذا ما اقتضت الحال أن يتلفت خلفه، فما ذلك إلا ليؤمن خطواته السائرة إلى الأمام، خشية أن تكون وراء ظهره أخطار تهدده وتفاجئه، وإمعانا في هذا التمزق الذي أصابنا من حيث وجهة السير، أراد أنصار السلفية ألا يجعلوها تفرقة زمنية بين ماض وحاضر، بل أضافوا إليها أبعادا أخرى، كأن جعلوا الاختلاف بين الفريقين اختلافا بين مؤمن وزنديق، لا لأنهم حقا يعتقدون في صدق هذه الدعوى، بل لأنهم يعلمون أن هذه هي اللغة التي تجد طريقها إلى إفهام الجمهور، ثم لم يكفهم ذلك، فأضافوا بعدا آخر فيه لمسة من السياسة، إذ جعلوا الفرق بين الجماعتين فرقا بين من يرفض الغزو الثقافي الذي يهدد هويتنا الوطنية والقومية بالدمار، وبين من يرحب بذلك الغزو كأنه يناصر الأعداء على قومه.
نعم، قد يقال - وهو قول حق - بأن الدعوة السلفية بكل ما أضيف إليها من أبعاد، إنما هي أشبه بالحرب الكلامية التي لا تؤثر في شيء من أسس الحياة العملية، فحتى أصحاب الدعوة أنفسهم يعيشون كما يعيش سائر الناس، من حيث الإفادة بكل ما أنتجه «الغزاة» من ثمار العلم في إقامة البيوت والجسور ورصف الطرق وأجهزة العلاج للمرضى. ووسائل النقل، وغيرها وغيرها، والعجيب في أمرهم هو أنك إذا واجهتهم بهذه البداءة الواضحة، أجابوا بأنه ليس هذه الجوانب الحضارية ما يريدون، وإنما هم يريدون جانب «الأفكار» كأن تلك الأفكار قد خلقت للزينة، ولم تخلق لتجد سبيلها إلى التجسيد فإذا بها إذا ما تجسدت، كانت هي آخر الأمر ما ينعمون به من نتاج حضاري يغمر حياتهم الشخصية من ألفها إلى يائها ... ولا علينا، فالمهم في موضوعنا، هو أننا اليوم لا نلتقي على هدف، وأن اختلافنا هذا يبدأ معنا من أساس الأساس فصاعدا، وهو اختلاف إلا يكن ذا أثر إيجابي في حياتنا العملية، فلا أقل من أنه ذو أثر سلبي مميت، وذلك حين يصيب شبابنا بضعف الهمة وخيبة الأمل.
وأما عن السؤال الثاني ... الذي نسأل به عن مدى الموازاة بين مختلف فروع الفاعلية الثقافية بين من ينتجون لنا ثقافة، فأغلب ظني أننا إذا ما دققنا النظر في ميادين الإنتاج الثقافي، فقد نجد قليلا من تلك الموازاة المنشودة، وأما الأكثر والأغلب فهو أن كل جنس من الأجناس الثقافية شاطح وحده في واد خاص به، يغلب أن يكون متأثرا تأثرا فرديا مع اختلاف الأفراد في مصادرهم الفكرية. ولكي أيسر عليك طريق النظر، أقترح عليك أن تنظر إلى البنيان الثقافي وكأنه عمارة ذات ثلاثة طوابق تعلو كلما ارتفعت درجة التجريد النظري في كل منها، فأول الطوابق وهو الطابق اللاصق بأرض الواقع هو طابق الأدب والفن، يتلوه طابق العلوم، ويتلو هذا طابق الفكر ذي الطابع الفلسفي من حيث تجريد الأفكار وتعميمها، ولكي أيسر عليك طريق النظر مرة أخرى، أقترح عليك أن تصور تلك الطوابق الثلاثة في ثلاثة أشخاص؛ هم مثلا؛ أديب معين يقرض الشعر أو يكتب الرواية، ثم ناقد معين يعرض بالنقد إنتاج ذلك الأديب، ثم رجل معين من رجال الفكر المائل نحو التجريد، يوضح أسس الفلسفة الجمالية التي تحدد المبادئ العامة لما يجوز أن يعد أدبا أو فنا، فإذا صورت لنفسك الموقف بهذه الصورة المجسدة بقي عليك أن تسأل هذا السؤال: هل هناك في مناخنا الثقافي العام، ما يجعلنا نتصور مقدما في أي اتجاه يبدع الأديب العربي؟ ثم في أي اتجاه يمارس الناقد الأدبي أو الفني عمله النقدي؟ ثم هل هناك في مناخنا الثقافي العام خطوط رئيسية انتزعناها من مقومات هويتنا التاريخية ترسم لنا الخطوط العامة للذوق الفني؟ إنك لن تجد إزاء هذه الأسئلة كلها، إلا اتجاهات فردية صرف، كل يتجه متأثرا بما قرأ، مما يؤيدنا في الزعم بأن حياتنا الثقافية الراهنة تفقد المقومين للحياة السوية في هذا الصدد، فلا هي تعرف لنفسها هدفا، ولا المشتغلون بها يتجاوبون بعضهم مع بعض في إطار مشترك، بحيث تختلف وسائط الإبداع صوتا ولونا وكلمة، ولكن تبقى بين أيديهم معان مشتركة يعرضونها، فإذا الشعب المتلقي قد أصبح ذا رؤية وطنية أو قومية موحدة، ومعلومة الملامح والقسمات.
ثقافة التغيير
كتبت ذات يوم مقالة جعلت عنواها، «ثقافة السكون وثقافة الحركة» بينت فيها بعض الفوارق الهامة والخطيرة بين ثقافة وثقافة، فهنالك ثقافة تحرك صاحبها إلى عمل، وأخرى تميل بصاحبها نحو ركود بليد، حتى وإن بدا في ظاهر الأمر كما لو كانتا متشابهتين. وأذكر أني بدأت حديثي ذاك بمثل ضربته: رجلين تقابلا بعد أن فرقت بينهما الأيام، فقال أحدهما للآخر: الحمد لله أن رأيتك، ثم أردف قائلا: إن شيئا من الغبار قد علق على ثوبك عند الكتف. فهذان قولان: أما أولهما فلم يكن فيه ما يحرك سامعه إلى فعل يؤديه، حتى وإن كان قد أشاع في نفسه السرور، وأما القول الثاني فقد استجاب له سامعه استجابة سريعة، بأن أخذ ينفض عن ثوبه الغبار الذي قيل له إنه قد علق به، فلو أننا وسعنا نطاق المثل الأول لنجعله نموذجا لثقافة شاملة لجوانب الحياة كلها عند شعب معين في عصر معين، لوجدنا الحاصل بين أيدينا شعبا لا يجد في نفسه دافعا يحفزه إلى عمل يؤديه حتى وإن أحس في دخيلة نفسه بسعادة المطمئن القانع الراضي، وأما إذا وسعنا نطاق المثل الثاني ليشمل المناخ الثقافي كله عند شعب معين في عصر معين، رأينا صورة أخرى، هي صورة شعب يدأب كل فرد من أفراده على فعل ينجزه!
وأظنني قد زعمت في تلك المقالة أن الذي يسودنا نحن، في هذه المرحلة من حياتنا، هو ضرب من ثقافة السكون، إذ نرى كثرة غالبة من صناع الحياة الثقافية في شعبنا، قد اتجهوا - بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر - إلى عرض ما كان عند السلف، وشرحه، والتعليق عليه بالتمجيد، وبالحث على الاقتداء به، وها هنا تكمن مغالطة قد تفلت من رؤية القائل والسامع معا، فنحن إذا تركنا الأمر عند هذا الحد، فقد يسأل سائل متعجبا: وما العيب في ذلك؟ ما العيب في أن يعرض علينا العارضون ما قاله الأسلاف في مواقف حياتهم لعلنا نحن أن نهتدي به؟ ووجه المغالطة هنا، هو أن مواقف الحياة الجارية كما يحياها الناس بالفعل لا تتكرر، فكل موقف حياتي لفرد معين من الناس، أو مجموعة معينة منهم، هو فريد نوعه إذا نحن أخذناه بتفصيلاته كما وقع، إن التاريخ لا يعيد نفسه إذا ما كان المقصود به تفصيلات السلوك البشري في مواجهة الأحداث، وإنما هو يعيد نفسه لو كان المقصود هو «مبادئ» السلوك أو «قوانينه»، والفرق بعيد - بعد الثرى عن الثريا - بين أن نطالب الناس بمحاكاة أسلافهم في تفصيلات مواقفهم السلوكية، وبين أن نترك لهم حرية التغيير في تلك التفصيلات، ما دام «المبدأ» مصونا؛ فانظر - مثلا - إلى الفرق بين أن نطالب المرأة اليوم بأن يجيء ثوبها على غرار ما كان الثوب عند سالفتها، وبين أن نترك لها حرية التصرف شريطة أن تراعي «مبدأ» الاحتشام في ظروف الحياة الجديدة، أو انظر - وهذا مثل آخر - إلى الفرق بين أن تطالب الناس بأن يفهموا عن «الربا» ما كان يفهمه السلف، برغم التغير الشديد في تفصيلات الموقف الاقتصادي، فبعد أن كان الدائن والمدين شخصين يواجه أحدهما الآخر، ويعلم الدائن عجز المدين وشدة حاجته، أصبحنا أمام موقف جديد لا صلة فيه بين دائن ومدين، فالدائن شخص يضع ماله في مصرف، والمدين شخص مجهول يبني عمارة - مثلا - أو ينشئ مصنعا، فيقترض من المصرف ما يعينه على إتمام مشروعه، وواضح من ذلك أن العلاقة الشخصية قد غابت عن الموقف غيابا تاما، وهي علاقة لو كانت قائمة لوجب علينا أن نضيف إلى الموقف ما تقتضيه تلك العلاقة من تعاطف بين من يملك ومن لا يملك. وإذا شئت مثلا ثالثا فانظر إلى السفر الطويل وما كان يحدثه للمسافر من مشقة وعناء مما اقتضى أن يكون للمسافر أحكام خاصة في فروض العقيدة الدينية، وقارن ذلك بمسافر اليوم، وهو مطمئن في الطائرة على مقعد وثير، يقدم له طعامه وشرابه كما يشتهي ويرسل نفسه في نعاس، متكئ الرأس على وسادة لينة كما يريد، لكن هذا التغير البعيد في تفصيلات المواقف الحياتية، إذا جاز أن تتغير الأحكام فهو يظل مستوجبا أن تبقي «المبادئ» الأساسية ثابتة، ففي العلاقة بين الدائن والمدين، وهما في الموقف الجديد طرفان مجهولان، إلا أن «مبدأ» العدالة ضروري في تحديد نسبة الربح الذي يتقاضاه الدائن عن وديعته في المصرف، والربح الذي يتقاضاه المصرف من المدين، والذي يحدد حد العدالة هنا هو الموقف الاقتصادي العام، في كل فترة زمنية معينة، بحسب ما يراه خبراء ذلك الميدان، وفي حالة المسافر وما يجب عليه في أدائه لفروض دينه، يكون الاحتكام إلى مبدأ الراحة وجودا وعدما، فالاستمرارية التاريخية بين سلف وخلف في الأمة الواحدة، أو قل في أصحاب ثقافة معينة، أمر لا بد منه، وإلا لما جاز أن نصف الأمة الواحدة بالوحدانية، ما دامت هي في يومها، شيئا آخر غيرها في أمسها، إلا أن تلك الاستمرارية التاريخية لا تكون في تفصيلات المواقف، وإنما تكون في مبادئها.
ولعل مشكلة الثبات والتغير، في هذه الدنيا التي نعيش فيها، أن تكون بحاجة منا إلى مزيد من إيضاح؛ إنها في يومنا هذا، وبالنسبة إلينا نحن بصفة خاصة، تقع في صميم الصميم من مشكلاتنا الحيوية واليومية، فالسؤال مطروح علينا في كل لحظة من حياتنا، حتى ليسد علينا منافذ الهواء، وهو: هل نترسم خطى الأقدمين أو نجدد؟ هل نلتمس حلول مشكلاتنا فيما قال السلف وأثبتوه في دفاترهم التي جمعناها وأسميناها، «تراثا» أو نلتمس تلك الحلول في وقائع الحياة العملية، نستقرئها لتنطق لنا بالجواب الصحيح؟ فمثلا هناك الآن في حياتنا العملية نساء يعملن خارج بيوتهن جنبا إلى جنب مع الرجال، وقد تنشأ مشكلات خاصة بالعمل من جهة، وبشئون الأسرة الداخلية من جهة أخرى، فأين نبحث عن حلول تلك المشكلات؟ أنبحث عنها في الكتب؟ أم نبحث عنها في عناصرها الفعلية الواقعة أمام أبصارنا؟ فإذا نحن اخترنا البديل الأول حرصا منا على توثيق الروابط بيننا وبين أصولنا، جاءنا السؤال يصرخ في وجوهنا: كيف تغمضون أعينكم عما هو واقع وكأنه لم يقع؟ وإذا نحن اخترنا البديل الثاني، كان السؤال هذه المرة: وماذا يبقى من الهوية القومية إذا تفككت العرى بين اليوم وأمسه؟ ومعنى ذلك كله، هو أننا مطالبون بأمرين في وقت واحد: مطالبون بأن يكون في حياتنا حبل ثابت متصل، ومطالبون في الوقت نفسه بأن نعطي لجديد عصرنا حقه الكامل من الاهتمام حتى ولو كان ذلك على حساب العروة الرابطة بيننا وبين أسلافنا؛ فقد عاش هؤلاء الأسلاف حياتهم، ومن حقنا كذلك أن نعيش حياتنا.
فلا غرابة - إذن - أن تحتل مشكلة «الثبات» و«التغير» المكانة الأولى بين ما عرض لأئمة الفكر في العالم أجمع، وعلى امتداد العصور: فما الذي هو ثابت لا يتغير، بل ولا يجوز لأحد أن يغيره؟ وما الذي يتغير من أمور الدنيا - بل وينبغي له أن يتغير؟ وقد اتسع السؤال مع الفلاسفة - كعادتهم - ليعمموه على الكون بأسره، لكن تلك التوسعة تزيد الأمر وضوحا ولا تضيف غموضا إلى غموضه، وقد انقسم الرأي بينهم ثلاثة اتجاهات: فمنهم من رأى عنصر الثبات جوهرا يتعذر على العقل أن يتصور إمكان زواله، فلولا ذلك الثبات لما كنت أنت هو أنت ولا أنا هو أنا، ولا القاهرة هي القاهرة ولا الكون هو الكون، إلا أنهم ذهبوا بالفكرة إلى حدها الأقصى - أحيانا - حتى لقد أنكروا «التغير» باعتباره مناقضا للعقل، زاعمين أنه وهم تتوهمه الحواس في إدراكها للأشياء، ومنهم من ذهب إلى نقيض ذلك، بأن جعل التغيرات في أي كائن حقيقته التي لا حقيقة له سواها، فما الشيء من الأشياء إلا سلسلة طويلة من حالات يعقب بعضها بعضا، وأما أصحاب الرأي الثالث فربما كانوا أصحاب الجواب الصحيح - على الأقل بالنسبة لمشكلتنا الخاصة التي عرضناها، وأعني مشكلة الجمع في بنائنا الثقافي بين حاضر يحترم الواقع الذي بين يديه، ولكنه كذلك يتمسك بالماضي الذي هو ضمان لا بد منه إذا أردنا لهويتنا الذاتية ألا تنحل وتنهار - وذلك الرأي الثالث هو أن «الثبات» و«التغير» يسيران معا، فأما الثبات فهو من شأن «المبادئ» أو «الأطر»، وأما التغير فهو من شأن الحالات التفصيلية التي تندرج تحت تلك المبادئ ، أو التي تملأ تلك الأطر، وقد نجد في علوم الرياضة في صورتيها: «البحتة» و«التطبيقية» مثلا جيدا يوضح المعنى المقصود، خذ شكل «الدائرة» فإذا اتجهت ببصرك إلى دنيا الأشياء المتغيرة، وجدت الشكل الدائري متمثلا في كثير جدا مما تراه: فرغيف الخبز المستدير، وقطعة النقود المستديرة، ومنضدة مستديرة، وحديقة مستديرة، ودوائر مرسومة على الورق، وهكذا لكن تلك الأشكال الدائرية كلها ليست متساوية في دقة الدائرة، ويغلب أن يكون بعضها أدق دائرية من بعضها الآخر، وقد يعن لأحدنا أن يسأل نفسه إزاء هذا التغير في درجات الدقة، قائلا: إذا نحن رتبنا الأشياء ترتيبا تصاعديا بحسب دقتها، فأين نصل إلى ذروة الدقة التي ليس فوقها ما هو أدق منها؟ وعندئذ يجيء الجواب الصحيح، وهو أن تلك الذروة لا تتمثل قط في شيء بعينه، وإنما تتمثل في «التعريف» العقلي للدائرة، وعلى أساس ذلك التعريف يمكننا ترتيب الأشياء الدائرية بحسب تدرجها في الدقة صعودا أو هبوطا؛ ومثل ذلك المعيار العقلي، في حياة الناس العملية - هو ما أسميته فيما أسلفت ب «المبادئ» أو ب «الأطر»! فالمبدأ أو الإطار، تصور عقلي ذو ثبات، لكنه في الوقت نفسه حقيقة مفرغة من تفصيلات الحياة، ثم نأتي حياة الناس العملية بما يملأها من أحداث، فنقيسها - ارتفاعا أو انخفاضا - بذلك المعيار الرياضي المفرغ، وهو «المبادئ» أو «الأطر» أو «الأنماط».
والذي بيننا وبين أسلافنا، من حيث الحياة العملية، وأين يجب، وأين لا يجب، أن تكون أشكال سلوكنا متطابقة مع ما كان منها عند أسلافنا، هو شيء كهذا؛ فنستطيع القول بأن ثقافات الشعوب قد تميز بعضها من بعضها، بأن كلا منها قد رتب المبادئ بأولويات تختلف عما رتبها به سائر الثقافات، فحتى لو اتفق الناس جميعا على ما يصح أن يكون «مبدأ» أو «صورة» لحياة الإنسان فإن الشعوب بعد ذلك تعود فتختلف في ترتيب درجاتها، وللشعب المصري، أو قل للأمة العربية في مجموعها، صورة خاصة بها في ترتيب المبادئ، وبالتالي فإن لها موقفا ثقافيا متميزا، فالثابت بيننا وبين أسلافنا هو تلك المبادئ، والمتغير هو تفصيلات المواقف والأحداث التي تملأها. ومن هنا تنشأ نتيجة هامة جدا، أرجو من القارئ رجاء مخلصا ألا يدعها تفلت منه، وهي أنه ما دام المعيار الحياتي أو الثقافي مشتركا بيننا وبين أسلافنا، فالمفاضلة بيننا وبينهم ليست أمرا مقطوعا به مقدما؛ إذ من هو منا أكثر تحقيقا لتلك المبادئ الأولية يكون أفضل من الآخر، وقد نجد بعد المراجعة، أن أسلافنا كانوا أفضل منا في مواضع، وأننا اليوم أفضل منهم في مواضع، فمثلا ربما وجدنا الأسلاف أقدر منا على المبادرة والإبداع، ووجدنا أنفسنا أكثر شعورا بحقوق الفرد في التعلم، والعمل وحرية الاختيار.
على أنه لا جدوى من إحياء الحاضر لمبادئ السلف، إذا اقتصر الأمر - كما يحدث كثيرا في حياتنا الآن - على «تسميع» تلك المبادئ كتابة وخطابة وإذاعة، فلمن شاء أن يقدم إلى الناس ألف ألف قول مأثور من أقوال السالفين كل يوم، لكنه لن يغير بذلك شيئا من سلوك فرد واحد، لأن السلوك مجموعة عادات، ولا يتغير إلا أن تتكون عند الناس عادات جديدة لتحل محل عادات قديمة، وتغيير عادة لا يتم في لحظة، كما نضغط على مفتاح فتضاء مصابيح الكهرباء، وإنما هو بمثابة تربية جديدة، تقوم على سلوك تتجسد فيه تلك المبادئ المراد لها أن تكون موصولة بين الماضي والحاضر، ولا يتم ذلك على الوجه الأكمل إلا إذا زرعت تلك المبادئ على أرض الظروف الجديدة، وذلك هو ما يحتاج منا إلى تفكير هادئ يتدبر على مهل كيفية التنفيذ.
ناپیژندل شوی مخ