إن الذي يدفن بعد الموت ويحتويه الثرى ليس شيئا إلى جانب هذا الشخص القوي الحي الذي تدفنه في قلبك، وتحتفظ به في حياتك الداخلية الخاصة، تناجيه، وتفكر فيه، وتقدم إليه من ألوان المودة والتحيات من آن إلى آن ما يلائم مكانته في نفسك. نعم، ليس هذا الجسم الذي يواريه التراب، والذي يستحيل إلى تراب، شيئا إلى هذه النفس التي تواريها نفسك، والتي تستحيل إلى قطعة من نفسك، والتي تحيا معك لا تفارقك أو تفارقك الحياة.
لله قلوب الأصدقاء ونفوسهم، فهي قبور حية، ولكنها لا تحتوي الموتى، وإنما تحتوي نفوسا حية، لها حسها وشعورها، ولها عقلها وتفكيرها .
لقد فقدت فلانا وفلانا من الأصدقاء، فأقسم ما فقدت منهم إلا أشخاصهم المادية، ولكن نفوسهم وصورهم المعنوية ملازمة، أراها في كل يوم يقظان ونائما، وأناجيها في كل يوم. وإذا كان للموت أثر في هذه النفوس والصور فإنما هو تصفيتها وتخليصها من أعراض الحياة الدنيا وأدرانها، وتحويلها إلى صور مطهرة نقية، ليس فيها إلا الخير والبر والمودة والوفاء.
الآن أستطيع في مشقة أن ألائم بين اسم «ثروت» ولفظ الموت، وأن أحقق في نفسي هذه الجملة: «ألا إن ثروت قد مات!» نعم لن ألقاه، ولن أراه، ولن أسمع له، ولن أتحدث إليه؛ لأنه في نفسي، فهو معي أبدا، وأنا أسمع له أبدا، وأتحدث إليه أبدا، ولا أجد إلى الانصراف عن حديثه وحبه ومودته سبيلا.
وأنا أستطيع أن أصعد إلى هذه السفينة التي أعرف أنها تقل رفاته في شيء من الجزع وفي شيء الغبطة أيضا؛ فقد أتيح لي أن أشيع شخصه تشييعا فيه بعض الطول، وأن أقطع معه من آماد الحياة مسافة غير قصيرة، أتيح لي أن أعبر البحر معه، فأنا جزع لأني لا أستطيع أن أسمع صوته العذب، ولا أن أعي كلامه العذب، ولا أن أسيغ نفسه الحلوة، ولا أن أتذوق أخلاقه الرضية، وأنا مع ذلك مغتبط؛ لأني أرافق شخصه على كل حال، ولأني أحس أن هذه السفينة تصل بيني وبين ما بقي منه. غريب هذا الشعور بالجزع تخالطه الغبطة، وباليأس تمازجه الطمأنينة! غريب هذا الشعور الذي لم يفارقني طوال أيام السفينة ولياليها! وكثيرة هذه الخواطر التي كانت تزدحم على نفسي في النهار والليل فتقطع الصلة بيني وبين الحياة ومن فيها أكثر الوقت.
نعم! لقد مات ثروت ... والناس يقولون إن موته كارثة آلمت مصر كثيرا فأفقدتها كثيرا، وأنا أعلم ذلك وأقدره.
والناس يتحدثون فيما عمل ثروت لمصر، وأنا أعرف ذلك وأقدره.
والناس يتحدثون أيضا في مصير مصر بعد ثروت، وأنا أفكر في ذلك أحيانا وأجزع له، ولكني أثر مسرف في الأثرة، وأنا أزعم أن الأصدقاء جميعا أثرون مسرفون في الأثرة، فأنا لا أفكر كثيرا في ثروت السياسي، ولا في ثروت الزعيم، وإنما أفكر دائما في ثروت الصديق، فخسارة الأصدقاء لا سبيل إلى تعويضها، وفقد الأصدقاء لا عزاء عنه، بينما خسارة السياسيين والزعماء شيء مهما يكن شديد الوقع فإلى العزاء عنه سبيل، تعيش الأمم قبل الزعماء، وتعيش الأمم بعد الزعماء، وقلما تقدر الأمم زعماءها، وقلما تعرف لهم حقهم عليها. وهل قدرت مصر ثروت حيا؟ وهل عرفت مصر لثروت حقه حيا؟ ولكن الصديق لا يستطيع أن يعيش حقا إذا فقد الصديق. هو لا يفقد منفعة ولا غرضا من أغراض الحياة، وإنما يفقد جزءا من نفسه وقطعة من قلبه.
أنا أرثي لمصر من رزئها في ثروت، ولكني أشد رثاء لنفسي ولأصدقاء ثروت من رزئنا فيه. وهل مات ثروت حقا؟ هل فقدته مصر؟ كلا؛ فلن تراه يذهب ويجيء، ولن تراه يدافع الإنجليز عن حقها، ولن تراه يذود عن حريتها الداخلية، ولكن ثروت كغيره من عظماء الرجال حقا لم يمت ولا يمكن أن يموت، لا لأن آثاره باقية خالدة، بل لأنه كان صاحب رأي وفكرة، ولأنه صاحب نفس وروح، ولأنه استطاع أن يقنع برأيه وفكرته قوما هم خلفاؤه، واستطاع أن يبث فيهم نفسه وروحه، فسيعملون كما كان يعمل، وسيجدون كما كان يجد، وسيضحون كما كان يضحي، وسيشقون كما كان يشقى، وسيجزون على حسن البلاء بالعقوق كما كان يجزى على حسن البلاء بالعقوق، وسيتمون الاستقلال الذي كسبه ثروت، وسيثبتون الدستور الذي وضعه ثروت.
فثروت لم يمت، وثروت لا يمكن أن يموت إذا نظرت إليه من حيث هو سياسي، ومن حيث هو زعيم، ولكن أسرة ثروت وأصدقاء ثروت هم الذين فقدوه، وهم أحق الناس بالرثاء، وهم الذين لن يجدوا إلى العزاء عنه سبيلا؛ في نفوسهم صورته المطهرة ماثلة قوية، تلازمهم ولا تفارقهم، ولكنها صورته وليست شخصه، في قلوبهم ذكراه قوية حلوة شديدة الأثر متمكنة في مكانها، ولكنها الذكرى ليس غير.
ناپیژندل شوی مخ