المستقرة في جبال الفوج
Vosges
على بحيرة صغيرة بديعة هادئة، فإذا جو كأحسن ما عرفت من الأجواء، وإذا هدوء لم أشهده قط، وإذا مقام ملائم للراحة حقا، وملائم للعمل حقا، لولا هذه الجبال القريبة التي تدعوك وتكرهك على أن تدع الراحة وتدع العمل، وتمضي فيها صاعدا هابطا، واقفا من حين إلى حين تنظر وتسمع، وتستنشق هذا النسيم الخفيف النقي.
ولقد طفت في هذه الأنحاء غير قليل، ولكني أشهد ما خرجت إلا كارها، وبعد خصومات عنيفة كانت بين زوجي وبيني. أريد أن أخلو إلى كتابي، وتريد أن أنشط وأتحرك وآخذ من التروض بحظ، وأشهد ما خرجت كارها إلا عدت راضيا مبتهجا شديد الحزن؛ لأن ما لدي من العمل لا يسمح لي باستئناف مثل هذه الرياضات التي كنت أجد فيها لذة وراحة وجمالا لا تشبهها لذة ولا راحة ولا جمال.
ولست أنسى يوما خرجنا فيه بعد الظهر إلى مجتمع من الماء، فأقمنا عليه حينا ثم مضينا نتبع الغدير في غابة كثيفة لا تستوي فيها الطريق ولا تعتدل، ولا تخترقها أشعة الشمس إلا على مشقة وجهد، قد فرشت أرضها ببساط كثيف من العشب فأخذنا نتبع شاطئ الغدير في هدوء ودعة، وكنت منصرفا عمن كان معي وعما كان من حولي إلى هذا الغدير أسمع خريره وأبتهج به، وما هي إلا دقائق حتى أنسيت كل شيء غيره، وحتى اقتنعت بأني لا أسمع خرير الماء، وإنما أسمع نجوى المحبين، لا أقصد إلى خيال ولا إلى شعر، وإنما أذكر ما أحسست وما وجدت كما أحسسته وكما وجدته.
نعم، كنت مقتنعا بأني أسمع في هذا الماء المنحدر حديث المحبين، وكان هذا الحديث مختلفا باختلاف انحدار الماء قوة وضعفا: هنا ينحدر الماء في قوة وينزلق على جماعة من الصخور قائمة، فتسمع لانحداره أصواتا مختلفة مرتفعة في اعتدال، وما هي إلا أن تتمثل الحبيبين في ثورة ولوعة واضطراب وعتب وخصام، ثم تمضي فإذا مجرى الغدير قد لان واعتدل، وإذا الماء يمشى عليه هينا لينا، وإذا خريره هادئ رفيق، وإذا أنت تتمثل هؤلاء المحبين وقد هدأت ثورتهم، وبردت لوعتهم، وانصرفوا عن الخصومة والعتاب إلى هذا النحو من الرضا، المضطرب بين السخط والعفو، والذي تدنو فيه النفس من النفس دون أن تجرؤ النفس على أن تتصل بالنفس، والذي تسمع فيه ألفاظ تمازج حلاوتها المرارة، وتتخلل لينها الشدة.
ثم نمضي وإذا مجرى الغدير قد استقام أو كاد، وخلا من الصخور والأحجار إلا هذا الحصى الصغار الدقاق، وإذا ماء الغدير قد رق وقل وصفا، وإذا هو يمشي مشية خفيفة بطيئة شديدة البطء، وإذا أنت لا تسمع من المحبين خصومة ولا عتابا، بل لا تسمع منهم لفظا ولا كلاما، وإنما هي قبل هادئة حلوة، قد امتزجت فيها النفوس والقلوب، ودنا المحبون من الفناء، ثم استقام طريق الغدير استقامة تامة، وجرى ماؤه على أرض رخوة سهلة، فلست تسمع شيئا مهما تحاول، فقد هدأ كل شيء، واستقر كل شيء في نصابه، وأخذت نفسي تفيق وتتخلص قليلا قليلا من هذا الحلم السخيف، وإذا أنا أسمع ابني من حولي يختصمان: أي أطوار الغدير خير؟ أحين يضطرب ويهدر؟ أم حين يهدأ ويستقر؟
وأذكر لزوجي ما وجدت من لذة وأنس بهذا الغدير فتنتصر في غضب وسخرية قائلة: وكم تستطيع أن تجد من لذة وأنس لو أرحت نفسك وأرحتنا من «الضمائر» و«فلسفة ليبنتز»! ولكنك تعلمين يا صاحبتي أن ليس إلى هذا من سبيل.
19
أيتها النفس أجملي جزعا
ناپیژندل شوی مخ