ومن الناس من يرى الراحة في الصعود إلى جبل من الجبال، يختلف ارتفاعه في الجو بمقدار ما يسمح له الطبيب، وهناك يقضي نهاره متنقلا من مكان إلى مكان، صاعدا هابطا، أو مستريحا في غابة أو حديقة، أو مندفعا في الكازينو بياض اليوم وسواد الليل، مستمتعا بما في البلاد الجبلية من مناظر مختلفة، وأضواء متباينة، إلا ما تعرض عليه الحسان من أصناف الزينات وضروب الخلاعة، فإن كان من الذين يحبون السيارات ويكلفون بهذا الحس الغريب الذي يجده الناس في السرعة، فنهاره في السيارة، وليله في الكازينو، بين الرقص والعزف واللعب، ورأسه دائر ليلا ونهارا، حتى إذا انتصف الليل أو مضى ثلثاه آوى إلى سريره فاستراح.
ومن الناس من يكتفي بمدينة من المدن ذات الحظ العظيم من الحضارة، فيقضي نهاره فيها وليله كما كان يقضيهما في مصر، إلا أنه هنا يستمتع بحظ من الحرية لا يستمتع به عادة في مصر؛ يصبح فيمضي إلى القهوة، وما يزال فيها حتى يدعوه الغداء، ثم يمسي فيمضي إلى القهوة، وما يزال فيها حتى يدعوه العشاء، ثم يفرغ من عشائه ويمضي إلى حانة أو ملعب، ويقضي ليله أو شطرا غير قليل من ليله في لذة قلما تخلو من إثم، وقلما تخلو من إسراف في النفقة، وقلما تخلو من إساءة إلى العقل والجسم والأعصاب عامة، والكرامة الإنسانية في كثير من الأحيان.
ومنهم من يلتمس الراحة في مدن العيون والينابيع؛ لأن الأطباء قد فرضوا عليه ذلك، أو لأنه يجد في هذه البيئة التي تشبه بيئة السواحل لذة تصرفه عن غير هذه المدن من مواضع الراحة، فهو يستحم ويخالط المستحمين والمستحمات في غدوهم ورواحهم، وفي نشاطهم وخمودهم وراحتهم، وهو يرقص ويشهد الراقصين والراقصات، ويلعب أو يشهد اللاعبين واللاعبات، وحظه من اللذة البريئة أو الآثمة يختلف باختلاف مزاجه ومقدرته وثروته.
أما أنا فلست أفهم الراحة على نحو من هذه الأنحاء، وقد وصفت لك فهمي لباريس وحياتي فيها، وإذا تركت باريس فقلما أفكر في سواحل البحر؛ لأني أكره البحر وأجد في جواره ألما ومشقة لا أحتملهما إلا أن أضطر إلى ذلك اضطرارا.
وقد أراد الله أن يلائم في ذلك بين مزاج زوجي وابني ومزاجي، فنحن جميعا نكره البحر ولا نطمئن إليه، ونحن نكره مدن الاستحمام أيضا؛ لأن الأطباء لم يفرضوها علينا إلى الآن، ولأننا لا نكاد نذوق هذه اللذة التي يذوقها الناس حين يظهرون من أشخاصهم ما لا ينبغي أن يظهروا، وحين يرون من غيرهم ما لا ينبغي أن يروا، فأحب ضروب الراحة إلينا هو الإيواء إلى جبل معتدل الارتفاع، نتخير فيه فندقا مريحا معتدلا رخيصا كفندقنا في باريس، فنأوي إليه، لا نبتغي إلا طعاما ملائما، وغابة قريبة نقضي فيها النهار أو أكثره، وفراشا وثيرا نقضي فيه الليل كله، ولسنا من عشاق السيارات، وإنما حب معتدل للحركة والمشي إلى أن نصل إلى مرتفع شاهق، فإذا نفوسنا تنازعنا إلى أن نبلغ قمته، فنتكلف في ذلك من المشقة ما نتكلف، ثم نعود متعبين مكدودين، قد اعتزمنا أن نرتاح من الحركة يوما أو يومين، على أن أحد ابني قد كلفنا في هذه السنة مشقة لم نتعود مثلها، فهو على أنه لم يتجاوز السابعة مشغوف بالصعود والهبوط، مفتون بالعيون والغدران والجداول والمياه المنحدرة، يلتمسها حيثما كانت، وحيثما وجدت. وقد أخذ يقرأ، فلا يصل إلى مدينة أو قرية حتى يلتمس الدليل وينظر فيه، ويحفظ أسماء الجداول والعيون والينابيع، وما يزال يلح علينا بعد ذلك في التماس ما حفظ حتى نضطر إلى الاستجابة له. وإذا نحن في الطريق نلتمس جدولا أو عينا أو منحدرا من الماء قد حفظه هذا الطفل، وأبى إلا أن يراه، فنتعب ويتعب، ولكنا لا نكاد نبلغ الغاية حتى نرى في فرحه وابتهاجه ونشاطه وانغماسه في هذه الطبيعة ما يرد إلينا ما فقدنا من نشاط، ويذهب عنا ما وجدنا من ألم ومشقة.
وأنا أشهد أني أجد لذة قوية في هذا النحو من الراحة في الجبل في أول الأمر، ولكني لا أكاد أقضي في هذه الحياة أياما حتى أحس مللا لا حد له، وسأما لا سبيل إلى احتماله، إلا أن يعينني عليه كتاب أقرأ فيه، أو فصل أمليه، ولو أنني خيرت لما قضيت في مثل هذه المواطن إلا الأيام القصار، ولعدت إلى باريس أستأنف هذه الحياة التي وصفتها، والتي لا ينقضي حبي لها وإعجابي بها.
وليس في ذلك شيء من الغرابة؛ فأنا لا أملك الشرط الأساسي الذي يحبب إلى الناس الجبل والبحر وما فيهما من لذة بريئة، وكل ما أجده من ذلك إنما هي هذه الراحة الطبيعية التي أتلقاها مضطرا من الهواء واختلاف الأجواء. فأما هذه اللذة الفنية فيجدها من يبصر الطبيعة في أشكالها المختلفة، ومناظرها المتباينة، وألوانها البديعة، التي تتباين بتباين الأضواء، وموقعها على الأرض أول النهار وآخره وإبانه، ثم هذه المناظر البديعة التي تكون في الجبال حين تتفاوت قممها ارتفاعا وانخفاضا، وقد غطي بعضها بالجليد، وتوج بعضها بالغابات، ووقعت عليها أشكال النجوم والكواكب، وارتفعت من بينها أضواء المدن والقرى. كل هذه المناظر لا حظ لي منها، لا أستطيع أن أراها ولا أن أذوقها، وإنما يقص منها علي الشيء إثر الشيء فأحقق بعضه، وأعجز عن تحقيق بعضه الآخر. وإذا كنت راضي النفس مطمئنا، فقد أسمع ذلك مغتبطا ببعضه، غير مكترث لبعضه الآخر، فأما إن كنت مضطرب النفس سيئ الخلق - وكثيرا ما يعرض لي هذا - فلعلي لا أسمع ما أسمع من الوصف دون أن أشعر بألم يريد أن يكون شديدا، لولا أني أخذت نفسي منذ سنين طوال بهذا البيت البدوي القديم:
لا بد مما ليس منه بد
فأنا لا آسى على ما فات ، ولا أكلف بطلب ما لا سبيل إليه.
فأنا إذن من عشاق المدن، ومن عشاق باريس بنوع خاص، فيها أجد هذه اللذة التي قسم لي أن آخذ منها بأكبر حظ ممكن، وهي لذة العقل والشعور، فليس غريبا ألا أترك باريس إلا كارها، وكيف أتركها راضيا وأنا أعلم أني ما دمت في باريس فأنا أستطيع أن أرضي من عقلي وقلبي وشعوري أي ناحية شئت؟!
ناپیژندل شوی مخ