في الصيف
في الصيف
في الصيف
في الصيف
تأليف
طه حسين
في الصيف
1 «امكثوا؛ وأنا زعيم بتنبيهكم إذا استيقظ الفجر!» قال ذلك، ومس المائدة أمامه بعصاه مسا رفيقا، فلما أقبل خادم الفندق، قال له: «إذا تمت الساعة الخامسة من صباح غد، فتحدث في التليفون رقم كذا ... فسل عن صحة فاطمة، ثم أنبئني بها حين تقدم إلي قهوة الصباح.» وكانت فاطمة خادما لنا، وكان مدير الجامعة قد استنبط هذه الحيلة ليكلف خادم الفندق تنبيهنا مع الفجر، وكنا قد أزمعنا السفر من غد وجئنا نودعه، وهممنا أن ننصرف، فأراد أن يستبقينا ساعة أخرى من الليل.
وكنا قد خلعنا يوما قائظا محرقا، ودخلنا في ليل رطب ثقيل، وكان الجو من حولنا ساكنا جامدا كأنه مخنوق مكدود، قد احتبست أنفاسه احتباسا، وكانت نفوسنا قد وقفت، وملكاتنا قد ثبتت في مكانها؛ لا تدور بخاطر ولا تفكير، وكانت ألسنتنا تتحرك بكلام لا يكاد يدل على شيء ذي غناء، ولا يكاد يعدو ما نحس من حر، وما نجد من ضيق، وكان الليل قد انتصف أو كاد، وكنا نتعجل الأوبة لنستريح قبل استئناف السفر الشاق الطويل، ولكن اليد التي كانت تخنق الجو أرسلته شيئا فتنفس خائفا مشفقا، ومست وجوهنا منه أنفاس رقيقة خفيفة، لم تكد تبلغنا حتى بعثت الحياة في النفوس، فلما نهضنا أنكر مدير الجامعة هذا النهوض، وهو يقول: «الآن وقد خف الليل، وتحرك النسيم، وطاب المجلس، وحسن السمر!» فجلسنا ما شاء الله أن نجلس، وتحدثنا ما وسعنا الحديث، وعدنا وقد تقدم الليل نقضي بين النوم واليقظة هذه الساعات المضطربة التي يقضيها من يحرص على ألا يفوته القطار الأول.
أين أنا؟ فيم أفكر؟ وماذا أسمع؟ إن من حولي لأصواتا لا أتميزها، أو لا أتميز منها إلا قليلا، وإني لأجد هذا الشعور الغريب الذي يخيل إلي أني في النوم، ويدعوني إلى الراحة، ويخيل إلي في الوقت نفسه أني مع الناس، وأن من الحق علي أن أتخذ هيئة الرجل الاجتماعي، لا أكاد أتميز أصوات قوم يتحدثون من حولي؛ فيهم زوجي وابناي وجماعة من الأصدقاء، وما أشك في أنهم يذكرون القاهرة وأحداثها في الأسابيع الأخيرة، أما أنا فقد امتلأت نفسي بجملة واحدة ترددت علي كثيرا أمس، وترددت علي كثيرا صباح اليوم، وهي «إلى اللقاء»، سمعتها أمس ممن زرته أو زارني مودعا، وسمعتها اليوم من هؤلاء الأصدقاء الكثيرين الذين أبوا إلا أن يتكلفوا الغدو مع الطير؛ ليصافحوني قبل أن أركب القطار. «إلى اللقاء» كلمة كلها أمل ورجاء قد تصدقه الأيام وقد تكذبه. فمن يدري؟ لعلي أعود فأصافح هؤلاء الأصدقاء، وأسمع لهم، وأتحدث إليهم، وأشاركهم في جد الحياة وهزلها، ومن يدري؟ لعلي لا أعود، فلا لقاء ولا حديث، ولا استماع ولا مشاركة في الجد أو الهزل. «إلى اللقاء» كلمة ينطلق بها اللسان، فإذا هي خفيفة لا وزن لها حينا؛ لأنها كلمة مجاملة ليس غير، ولعل من الناس من يقول لسانه «إلى اللقاء»، ويقول ضميره: «اذهب لا رجعت!» وإذا هي ثقيلة على بعض الألسنة؛ لأنها مملوءة مثقلة بالمعنى قد أودعها صاحبها كل ما في نفسه الراضية الحنون من حب وبر، ومن خوف وإشفاق، ومن أمل ورجاء، يتحرك بها لسانه؛ وإن قلبه ليتحرق حزنا للفراق، وإن ضميره ليود لو لم يحتج الناس إلى أن يودع بعضهم بعضا، وإن نفسي لتتمنى أن يتم هذا الرجاء؛ وأن يكون هذا اللقاء قريبا، والألسنة تنطلق بهذه الكلمة مسرعة حينا، مبطئة حينا آخر.
ناپیژندل شوی مخ