فأسألك مرة أخرى يا سيدي، وربما كانت هي المرة الأخيرة، أن تتنحى عن طريقي، فإنني قد عزمت عزما لا مرد له أن أقتحم هذه الرابية لأضرم نارها رضيت أم أبيت، سقطت السماء على الأرض أم بقيت في مكانها!
فأطرق برانكومير لحظة ذهبت به فيها الهموم والأفكار كل مذهب، ثم رفع رأسه فإذا دمعة كبيرة تترقرق في عينيه، ونظر إلى ولده نظرة عتب وتأنيب وقال له: نعم يا بني، إنك قد أخطأت خطأ عظيما إذ أضعت الفرصة العظيمة التي لاحت لك، وقد كان جديرا بك أن تفترصها ولا تسرحها، وأن تلقي في عنق أبيك في تلك الساعة التي رابك فيها من أمره ما رابك غلا ثقيلا تقوده به إلى حضرة الملك متهما إياه بجريمة الخيانة الكبرى؛ ليأمر بقتله، فتمتع نظرك برؤيته مصلوبا على باب المدينة والجماهير من حوله يبصقون على وجهه، ويصفعون قذاله، ويرجمونه بالحجارة على مرأى من ضباطه وجنوده وأسرته وأصدقائه، وربما اشترك هؤلاء جميعا معهم في عملهم.
نعم، إنها فرصة ثمينة جدا قد أضعتها بترددك وتحيرك، وقد كان جديرا بك أن تقدم إقدام العازم المصمم كما كان يفعل أبوك لو كان في مكانك، فقد عودت نفسي أنني إذا عزمت على أمر لا أتردد فيه ولا أتريث، وقد عزمت الآن على ألا أشعل هذه النار، فلا أشعلها، ولا آذن لك بالتحرك من مكانك خطوة واحدة!
فوقف قسطنطين حائرا ملتاعا يترجح بين اللهف على وطنه الضائع والإشفاق على أبيه المسكين، لا يستطيع أن يخون وطنه الذي نبت في تربته، وعاش بين أرضه وسمائه، ولا أن يعق أباه الذي أبرزه إلى الوجود، ووهبه نعمة الحياة التي ينعم بها، فأسند رأسه إلى صخرة كانت بجانبه خائرا متضعضعا تتوارد في رأسه الخواطر والأفكار يصارع بعضها بعضا، ويشتد بعضها في أثر بعض، حتى بلغ منه الإعياء مبلغه، فنظر إلى أبيه نظرة منكسرة حائرة تفيض حزنا ويأسا وقال: أيرضيك يا ميشيل برانكومير، يا بطل البلقان وحاميها وأشرف من أنجبت به أصلاب رجالها وأرحام نسائها، أن يملك العدو علينا هذه البلاد العزيزة الكريمة فيقتل أبناءها، ويستحل حرماتها، وينكس صلبانها، ويهدم صوامعها ومعابدها، ويخرس فيها كل صوت غير صوت الأذان على ذرى المنائر؟
قال: نعم، يرضيني ذلك؛ لأنني أحسنت إليها فكفرت بنعمتي وجازتني شر الجزاء على صنيعي! قال: إن لم تفعل ذلك من أجلها، فافعله من أجل ربك، قال: أي رب تريد؟ إنني لا أفعل شيئا من أجله، فهو ممالئ مداج لا يحب إلا قساوسته وكهانه، ولا يرى رءوسا تصلح للتيجان غير رءوسهم الصغيرة الصلعاء، ولكنني سأنتزع بالرغم منه ذلك التاج من ذلك الرأس الذي توجه به وأضعه على رأسي، قال: ولكنك تعلم يا أبت أن التاج الذي يتناوله متناوله من يد عدوه ليس بتاج شريف، قال: ولكنه تاج على كل حال! قال: ألا تخاف أن يثقل يوما على رأسك فيهبط إلى عنقك ويستحيل إلى طوق حديدي ويقضي عليك؟ قال: إنك تهينني يا قسطنطين وتهددني، ولقد بلغت بوقاحتك الغاية التي لا غاية وراءها، فتجمل قليلا ولا تنس أنك إنما تخاطب أباك! قال: عفوا يا أبت وغفرا، فلقد بلغ بي اليأس مبلغه حتى أصبحت لا أفقه ما أقول!
ثم دنا منه وأمسك بيده وأنشأ يخاطبه بصوت ضعيف متهافت ويقول: عد إلى نفسك لحظة واحدة يا أبت، وراجع فهرس تاريخك الشريف، واذكر تلك الأيام المجيدة التي أبليت فيها في الدفاع عن وطنك وقومك بلاء سجله لك التاريخ في صفحاته البيضاء بأقلامه الذهبية، وتلك الوقائع الحربية الهائلة التي كنت تستقبل فيها الموت استقبال العروس ابتسامات عروسه الحسناء ليلة زفافها، وتضحك للهول فيها ضحك الزهر لقطرات الندى، والنبت لأشعة الشمس، ثم تعود منها منصورا مظفرا يستقبلك نساء القرى وفتياتها في كل طريق مررت به بدفوفهن وعيدانهن يغنينك ويرقصن بين يديك، ويرتشفن قطرات الدماء من كئوس جراحاتك، وينثرن الأزهار تحت قدميك، وينادينك باسم المخلص العظيم، وخليفة المسيح في الأرض.
اذكر تلك الأعلام الوطنية التي تخفق على أبواب المدينة وأسوارها، وترنحها طربا وسرورا عند رؤيتك، وتراميها على قدميك كلما مررت بها كأنها تحاول تقبيلهما ولثمهما، واخش إن مررت بها بعد اليوم أن تشيح بوجهها عنك احتقارا وازدراء، وتضم أطرافها إلى نفسها ترفعا وإباء حتى لا تلمس جسمك، ولا تخفق فوق رأسك.
لا تبع أمتك يا أبت بعرض تافه من أعراض الحياة، فالتاج الذي يتناوله صاحبه من يد عدوه ليس بتاج الملك، إنما هو قلنسوة الإعدام.
كيف يهنؤك ذلك الملك وأنت ترى أمتك المسكينة راسفة في قيود الذل والاستعباد تبكي وتستصرخ ولا منجد لها ولا معين، وتئن في يد عدوها القاهر أنين المحتضر المشرف ولا من يسمع أنينها، أو يصغي إلى شكاتها.
كيف يهنؤك ذلك العيش وأنت ترى أبناء وطنك أسارى أذلاء في قبضة أعدائهم يسوقونهم بين أيديهم سوق الجزار ماشيته إلى الذبح، فإن خفق قلبك خفقة الرحمة بهم أو العطف عليهم لا تستطيع أن تمد يدك لمعونتهم وإنقاذهم؛ لأنك قد بعتهم ونفضت يدك منهم فلا سبيل لك إليهم بعد ذلك.
ناپیژندل شوی مخ