الإنسان يجري منه مجرى الدم، فلا يستطيع الخلاص من شره، ولا النجاة من أذاه. ثم أن أصحاب كل بلدٍ هم ملّاك أرضه، وأصحاب عماراته، هم سادته، وهم الحاكمون فيه، فإن شاؤوا عطلوا هذه الأرض وتركوها مواتًا فجعلوا البلد مقفرًا، وردّوه فقيرًا، وإن شاؤوا أخلوا عماراتهم لليوم والعناكب أو هدموها، وإن شاؤوا أدخلوا الناس إليها وأسكنوهم فيها، وإن شاؤوا أخرجوهم منها وأغلقوا دونهم أبوابها، فمن هو الذي مكّن لهذه البنت وأمثالها أن يكونوا هم ملاك هذا البلد، وترك الكثير من أهله حفاة عراة جائعين، يدورون يسألون هذه (الخواجاية) صدقة وإحسانًا، فتزورّ عنهم وتنال بجنبها، وتصعِّر خدها، وترميهم بكل قبيحة من فمها (الجميل).
من الذي أجرم هذه الجريمة الكبيرة، أو غفل هذه الغفلة العجيبة، حتى أصبحنا اليوم والمتاجر الكبرى في مصر للخواجات، والفنادق للخواجات، والقهوات للخواجات، وأكبر العمارات يملكه الخواجات، وأفخم السيارات يركبه الخواجات، حتى أن شارعًا عظيمًا هو شارع قصر النيل، لا يملك فيه المصريون، كما أخبرني الثقة، إلا ثلاث عمارات فقط، بقيت مصرية لأنها موقوفة، وسائره للخواجات. فماذا ينفعك أنك مصري مستقل، وأن الوادي وادي أبيك وجدك وواديك، إذا كان الخواجة يستطيع أن يطردك من مأواك، فلا تلقى إلا بإذنه سقفًا يكنك، وأن يعريك فلا تجد إلا بإذنه ثوبًا يسترك، وأن يسيرك فلا تصل إلا بإذنه إلى ترام يحملك؟.
ما الاستقلال وأنت محتاج إليه في كل شيء؟ ما العزة؟ وأنت تأكل الخبز الأسود وهو يأكل لباب البر من أرض مصر؟ وأنت تسكن الكوخ المهدم وهو يملك الصرح الضخم على أرض مصر؟ وأنت تشرب الماء العكر وهو يشرب الرحيق المصفّى من خير مصر؟ وأنت تمشي حافيًا وهو يختال بسيارته على ثرى مصر؟ وأنت تلبس الجلباب الخَلِق وهو يتخذ الثياب الرقاق من قطن مصر؟ أيصير الغريب صاحبَ البلد، وابن مصر يصير غريبًا في مصر؟ هذا فظيع! هذا (عهد المماليك) يعود بثوب جديد!.
لما كنت في العراق كنت أرى بعض العراقيين يظهرون الكراهية للمدرسين السوريين، وينفسون عليهم رواتبهم التي يأخذونها، ويقولون لهم،
1 / 46