بأموال الدولة؟ وماذا يرى المراقب البعيد، من تبدل الحكومات في هذا الشرق العربي، وتعاقب الأحزاب عليها، إلا تبدل الوجوه، وتغيّر الأشخاص، أما الأسلوب فهو واحد، والسياسة واحدة، يتبدل الوزَّان ويبقى الميزان؟ والميزان مختل، والقبّ مائل، والصنجات ضائعات
...
أولسنا جميعًا مثل هذا القتيل نلبس لباسًا لم يفصّل لنا، ولم يقس علينا، ولكنه خيط لغيرنا، فأخذناه كما هو بلا إصلاح، ومشينا فيه كما يمشي الطفل بحلة أبيه يتعز بها فيسقط، فيُضحك أهلَه عليه، ويسليّهم بفعله.
لقد أخذنا هذه المدنية كما هي، لم نحكم فيها عقولنا وشرائعنا وطبائع بلادنا ولوازم معيشتنا كما تفعل كل أمة في الدنيا، إذ تستوي الأمم في أصول الحضارات، وأسس المدنيات، ولكنها تختلف في التفاصيل، فلا تبني البيوت وتخاط الثياب في البلاد الباردة كما تبني وتخاط في البلاد الحارة، ولا تخطط المدن في شعاب الجبال كما تخطط في السهول أو على سواحل البحار، ولا تكون الأطعمة في حدود القطب كما تكون في خط الاستواء، وما يسوغ ويقبل في بلد قد ينكر ويردّ في بلد، وما يحسن في لسان من أساليب البيان يقبح في لسان، وما يجمل في أذن من ألحان الغناء يبشع في أذن، ليس في الدنيا بَلَدان متحضران تستوي فيهما هذه الدقائق كلها، وإلا لما كان معنى لاختلاف الحضارات، وتعدد الثقافات، وتكلف مشاق الرحلات، ولكان السائح الذي يرى فرنسا كأنه رأى ألمانيا، والذي يبصر أميركا كأنه أبصر روسيا، وليس في الدنيا حضارة أصلية إلا ولها طابع خاص بها، فما هو طابعنا نحن في حضارتنا الجديدة؟ ما هو الثوب الذي نلبسه؟
ادخل أي دار من الدور، وسر في أي شارع من الشوارع، في مصر أو الشام أو العراق، نجد الجواب، تجد في الدار الواحدة غرفة مفروشة بالبساط والوسادة وفيها فراش على الأرض، وغرفة فيها أحدث ما صنع من الأرائك والكراسي والمناضد، ودقق في هذه الغرفة تجد فيها خليطًا من الذوق الفرنسي والإنكليزي، وفي صدرها مرآة من أسلوب عهد لويس الرابع عشر، وأمامها نضد على الطريقة الأميركية، وتجد بين الأم وبنتها في اللباس والعادات والأفكار
1 / 42