وما فيه، حتى حبّب إلينا الأزهر القديم من أحاديثهم، وتخيلناه جنة الروح، ونعيم القلب، وتوهمنا أن ما رأيناه من أحوال مشايخنا وردة من تلك الجنة، وطرف من ذلك النعيم، وبتنا نتشوق إلى الأزهر، ونتمنى أن نزور مصر لنراه، فلما قدمت مصر سنة ١٩٢٨ رأيت الأزهر قد تغير عما وصفوه لنا، وحال عن حاله التي حدثونا عنها، فتركته ودخلت دار العلوم العليا (١). ثم لما عدت سنة ١٩٤٥، لم أجد الأزهر وإنما وجدت مسجدًا خاليًا، وكليات تنتسب إليه ليست إلا مدارس كما عرفنا من المدارس، فبكيته لما فقدته، وحننت إليه، لا إلى سراج الزيت، وحصير الرواق، بل إلى ذاك التقى وتلك الأخلاق. بكيت فيه شيخي، وبكيت فيه عهد الشيخ الذي مضى عليه اليوم أكثر من ربع قرن، ولا تزال ذكراه غذاء لروحي، وفرحة لقلبي، وأنَيسة لي في وحشة الحياة، أفكر فيه كما يفكر العاشق المهجور في ليالي الوصال، والسجين في أيام الحرية، والمفلس في زمان الغنى، بل إنه لأحب إليَّ من عهود الحب، وليالي الوصال، لأن فيه حلاوة الإيمان وما فيها إلا لذة الهوى، ولأن ذكراه فخري الذي لا يفنى، ومفزعي كلما دهمتني خطوب هذه الحياة المادية التي تختنق فيها الروح، ومَعين اليقين لي في بوادي الشكوك.
...
رحمة الله على أولئك المشايخ الذين كانوا ينابيع العلم، ومنارات الهدى، وأئمة الخير. وما كل المشايخ الأولين كانت لهم هذه الخلال، وما كل علماء اليوم تجردوا عنها، ولكن الأعمال بالنيات، والأمور بالمقاصد، وأولئك كانوا يقصدون العلم والدين، فكان الأصل أن يكونوا أهل علم ودين إلا من شذ منهم، والكمال لله وحده، وهؤلاء الطلاب يقصدون الشهادة والمنصب فكان الأصل أن يكونوا أصحاب منصب وشهادة إلا من شذ منهم والخير لا ينقطع في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
وما أنا بالمحامي عن عهد بذاته، ولا عن أشخاص بأعيانهم، لكنما أدافع عن تقوى العالم وأمانة العلم، والعلم إذا لم يكن معه أمانة كان الجهل خيرًا
_________
(١) ولم أكمل الدراسة فيها وكنت أول طالب من سورية دخل مدارس مصر العالية.
1 / 25