احتججت على ذلك قائلا: «لكن هذا سخف، المفترض أن يبحث رجال الشرطة عن المجرمين الذين يشتبه في ارتكابهم جرائم مبلغ عنها، لا أن يلقوا القبض على الجميع جملة أملا في أن يكون واحد أو اثنان منهم قد اقترفوا جرما. لماذا لم ترفض الذهاب معهم فحسب؟ لا يحق لهم هذا.»
نظر إلي وكأنه يخاطب معتوها.
ثم قال: «بل يحق لهم فعل ما يشاءون، المفترض أنك بحلول هذا الوقت صرت تعرف أن شعب هذا البلد ليس له أي حقوق، إن اعترضت فسيأخذونك إلى أسفل الدرج ويوسعونك ضربا وتعذيبا.»
وصمت لحظة وكأنه يتذكر شيئا تعرض له في وقت سابق من اليوم.
ثم قال: «تبا لهذا البلد، وتبا لهذه الحكومة، أريد أن أرحل، لا آبه إلى أين، فأي بلد آخر سيكون أفضل.» •••
الواقع أن الحظ كان حليف عباس من عدة نواح، أبرزها أنه كان على معرفة برجل غربي تمتع هو نفسه بمعارف بإمكانها التدخل لإطلاق سراحه؛ لكن الأهم من ذلك هو أن درايته بعمل جهاز الشرطة كانت جيدة بما يكفي لتجعله يتقبل مصيره بثبات ولا يعترض لعلمه أن هذا لن يفضي إلا إلى جزاء أسوأ من المشكلة التي أقحم فيها تعسفا وجورا. لكن الكثيرين في مصر لم يكونوا محظوظين بالقدر نفسه إذ إن تعسف بلطجية النظام - وهم أنفسهم قد طفح بهم الكيل ويتقاضون أجرا ضئيلا ويخضعون للترهيب - كثيرا ما يجعل العنف غاية في حد ذاته، وهذا جزء من نظام يرى أن الترهيب بطريقة منهجية روتينية أساسي للحكم.
على سبيل المثال: ولد محمد عبد الرحمن في أسرة فقيرة بقرية شها في دلتا النيل، وأصبح عدوا للدولة في الثالثة عشرة من العمر، لذا لم يعش ليشهد عيد مولده الرابع عشر، يقال إنه اعتقل في أغسطس/آب عام 2007 مع أخيه الأكبر المراهق إبراهيم، فما هي جريمته المزعومة؟ اشتبهت شرطة مدينة المنصورة المجاورة لقريته في قيامه هو وأخيه بسرقة عبوتين من الشاي. ولما زارته والدته بعدها بثلاثة أيام في قسم شرطة مدينة المنصورة بعد أن علمت أخيرا بمكانه، ذكرت أن مشهده صعقها، لكنها لم تتفوه بكلمة في قسم الشرطة لتقي أخاه الأكبر التعرض للمزيد من التعذيب. هرعت من مخفر الشرطة إلى محام نجح في استصدار أمر بنقل الفتى محمد إلى مستشفى المنصورة الحكومي.
ومع الأسف فإن الانتقال من قسم شرطة إلى إحدى المستشفيات الحكومية التي تعاني على الدوام من نقص التمويل يعني لفقراء مصر الاستجارة من الرمضاء بالنار. لا بد أن هذا هو ما بدا لمحمد الذي قيل إنه أمضى أربعة أيام في المستشفى، هذا بفرض أنه كان قادرا على التفكير في أي شيء آخر بخلاف ألمه المبرح. في اليوم الخامس عثر سكان مجاورون للمشفى على محمد فاقد الوعي في باحة انتظار سيارات قريبة من المشفى وأعادوه إلى الشرطة. اتهمت والدته المشفى بالتخلص منه - حرفيا - وعدم العناية به، مع أنه يستحيل معرفة الكيفية التي نقل بها إلى باحة الانتظار. وحسب ما قيل، قرر رجال الشرطة في آخر الأمر أنهم قد نالوا كفايتهم من الطفل محمد عندما عجزوا عن القسوة عليه أكثر بما أنه قد شارف بالفعل على الموت، فأعادوه إلى والدته؛ وهو بالطبع الإجراء الذي يفترض أن يتخذ مع طفل في الثالثة عشرة من العمر في نفس يوم اعتقاله.
كان من الممكن أن تنتهي القصة هنا - بالنسبة للجميع على الأقل عدا أسرة الصبي - شأنها في ذلك شأن الكثير من الأمثلة على وحشية الشرطة المصرية، لكن القضية حظت باهتمام الإخوان المسلمين الذين زاروا بكاميراتهم بيت أسرة الفتى محمد المتهالك. تظهر والدة محمد في التسجيل الذي نتج عن تلك الزيارة وهي ترتدي منديل رأس قروي بسيط وتحكي قصتها، فيما يرقد محمد وهو شبه فاقد الوعي على مرتبة محشوة خلفها فاغر الفم، يلتقط أنفاسه بصعوبة. تزيل الوالدة عن طفلها الغطاء الذي يغطيه بناء على طلب مجري اللقاء لتكشف عن جسده شديد النحول وعن محول سوائل متصل برئته، ثم تشير إلى عدة حروق على جسد الصبي من الأمام، ثم تقلب الطفل المتأوه لتكشف عن علامة سوداء كبيرة على ظهره وتقول إن هذا الجرح تلوث بعد علاجه، ثم تقترب الكاميرا من العلامة السوداء ثم تنتقل إلى فتحة الصبي الصغير الشرجية التي تبدو منتفخة ومتهدلة، وكأن الفتى تعرض مؤخرا للاغتصاب، ثم تقلب الأم الصبي مجددا وتشير إلى المزيد من الحروق على عضوه الذكري وخصيتيه.
لم يستعد محمد عبد الرحمن وعيه كاملا قط منذ ذلك الحين، وبعد بضعة أيام من تسجيل هذا المقطع توفي. •••
ناپیژندل شوی مخ