إهداء
مقدمة الطبعة العربية
1 - ثورة باءت بالفشل
2 - الإخوان
3 - الصوفيون والمسيحيون
4 - البدو
5 - التعذيب
6 - الفساد
7 - الكرامة المهدرة
8 - مصر بعد مبارك
خاتمة
ملحوظة عن مراجع الكتاب
إهداء
مقدمة الطبعة العربية
1 - ثورة باءت بالفشل
2 - الإخوان
3 - الصوفيون والمسيحيون
4 - البدو
5 - التعذيب
6 - الفساد
7 - الكرامة المهدرة
8 - مصر بعد مبارك
خاتمة
ملحوظة عن مراجع الكتاب
في قلب مصر
في قلب مصر
أرض الفراعنة على شفا الثورة
تأليف
جون آر برادلي
ترجمة
شيماء عبد الحكيم طه
كوثر محمود محمد
مراجعة
محمد إبراهيم الجندي
إهداء
إلى كيلفين
مقدمة الطبعة العربية
عندما اندلعت الثورة المصرية في يناير/كانون الثاني عام 2011 - بعد عامين من ظهور هذا الكتاب لأول مرة بالإنجليزية وبالعنوان الفرعي «أرض الفراعنة على شفا الثورة» - ربما كنت الأقل اندهاشا بين المراقبين الغربيين لدولة اعتبرتها وطنا لي ما يقرب من عقد كامل. وبالطبع لم يندهش المفكرون والنشطاء الحقوقيون والسياسيون وعامة المصريين الذين تحدثت معهم في السنوات التي سبقت الثورة والذين عبرت عن مشاعر الضيم والإحباط والأمل (ربما بقدر أقل) لديهم في هذه الصفحات. أدركت جموع المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع منذ وقت طويل - مثلي - أن أكثر دول العالم العربي تعدادا للسكان، والحليف الأهم لواشنطن في المنطقة، على وشك الانفجار.
والسبب في ذلك أن الشعب المصري لم يكن لديه ما يخسره بعدما لم يكتف النظام - مثلما قيل لي مرارا وتكرارا - بسلب ثروات بلاده الطائلة فحسب، وإنما سلب كرامته أيضا. قضى نظام مبارك على نفسه تماما حتى صار عاجزا عن تنفيذ إصلاحات ولو بسيطة تتعلق بمطالب الشعب بتحقيق تغيير جذري عاجل ذي جدوى. بعبارة أخرى لم يكن وجود النظام إلا للإبقاء على حكمه الفاسد الغاشم؛ ولم يكن الإصلاح يعني شيئا سوى إتاحة الفرصة أمام القطط السمان لتكديس ثروات هائلة باسم الخصخصة والاستثمار الأجنبي واقتصاديات السوق الحرة، وهو ما اتضح أنه بمنزلة انتحار سياسي، لأن جميع المصريين العاديين شهدوا مزيدا من الفقر وعنف الدولة العشوائي نتيجة لذلك.
أثناء السنوات التي سبقت الثورة كان ثمة انفصال لافت للنظر بين ما كان يردده «خبراء» الغرب عن مصر ، وبين الحالة السوداوية التي كانت تسود الشارع المصري مثلما أوضحت في هذا الكتاب. ففي نظر «الخبراء» الغربيين كانت مصر دولة مستقرة حقيقة؛ فلديها جهاز أمني قوامه مليون فرد، مستعد دائما لأن يسحق دون رحمة أدنى تهديد من جانب المعارضة الشعبية. سمعنا مرارا وتكرارا أن حالة من اللامبالاة تسيطر على الشعب المصري. كان البديل الوحيد لحكم مبارك جماعة الإخوان المسلمين المحظورة رسميا مع أنها الكتلة المعارضة الرئيسية. ولم يكن الإخوان المسلمون بحال يتمتعون بشعبية كبيرة، ولذا لم يكن أحد يعول عليهم في إثارة الجماهير. ولما لم تكن هناك قيادة أخرى تحض المصريين على النزول إلى الشارع أو قائد كاريزمي يلهب حماسهم للقيام بعمل جماعي، خلصت هذه القراءة للسيناريو المصري إلى أن الواقع سيظل على ما هو فيه من تخبط إلى أن يقضي حسني مبارك أجله ويرث ابنه الحكم.
لكم انتشرت هذه القراءة المغلوطة لمصر المعاصرة على نطاق واسع حتى إنه في فبراير/شباط 2011 - بعد بضعة أيام من تنحية مبارك في أعقاب واحدة من أكثر الثورات شعبية في التاريخ - عبر جون ماكين المرشح السابق للرئاسة الأمريكية عن استيائه من أن واشنطن «كان ينبغي لها التنبؤ بذلك عندما أخفقت الحكومة المصرية في المضي قدما في طريق إرساء قواعد الديمقراطية.» والواقع أنه لم يكن ينبغي لأحد أن يندهش من قيام الثورة مثلما كان الحال مع الفوضى التي أعقبت غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة؛ فبالمثل لم يتنبأ «الخبراء» بالوضع المتأزم في العراق. قطعا لو كان ماكين قد قرأ هذا الكتاب، لما بدا مندهشا هكذا، على الرغم من اضطرابات الشيخوخة.
على مدار سنوات غض الإعلام الغربي الطرف عما يحدث في قلب أهم دولة في العالم العربي يعيش ستون بالمائة من سكانها في فقر مدقع حيث ثبات الأجور مع ارتفاع هائل في معدلات التضخم. كان الشعب المصري المشهود له بالود ودماثة الأخلاق غير المألوفين يغلي من شدة الغضب داخل أحيائه الفقيرة وفي الوظائف التي تدر رواتب متدنية محاولا في يأس سد حاجات العيش وفي الوقت نفسه اجتناب ويلات جهاز الشرطة الهمجي. لكنه أيضا - في ظل غياب أي حوار سياسي جاد مع المعارضة - كان حبيس دائرة من اليأس والعجز مثلما أخبرني الطبيب النفسي المصري أحمد عكاشة في الفصل الأول من الكتاب. كان واضحا لكل من ألم بهذه الحقيقة على أرض الواقع أن اندلاع ثورة ربما يكون هو التصعيد المحتمل الوحيد للجنون والطغيان اللذين انحدر إليهما نظام مبارك.
ذاك الانقسام بين ما كان يردده المراقبون الغرب المعزولون عن الشارع المصري وبين الواقع المقيت الذي يعيشه معظم المصريين انعكس بوضوح في ردود الأفعال المتناقضة إزاء نشر كتاب «في قلب مصر» داخل القاهرة وفي العالم الخارجي المتحدث بالإنجليزية. في مصر، أسرعت السلطات بحظر الكتاب على الفور في إشارة واضحة - إذا أعدنا التفكير في الأمر - إلى أن نظام مبارك استشعر الخطر. لكن في الوقت الذي كان فيه أولو الأمر في القاهرة بمعزل عن الواقع - أو كانوا على الأقل عازفين عن الإنصات - أيد الإعلام المصري المعارض النشط رسالة الكتاب. ومثلما أوضحت في الفصل الخاص بالإعلام فإن نظام مبارك منح الصحف المصرية مستوى غير مسبوق من الحرية، لأنه يعرف أن أكثر قراء هذه الصحف من أهل النخبة. فالسماح بدرجة من الحرية أمام الآراء المعارضة ما دامت لا تمثل تهديدا مباشرا على النظام سيعطي انطباعا للأجانب أن مصر دولة الحرية والآراء المتنافسة. لم يسعني إحصاء عدد اللقاءات والمقالات التي أجريت أو نشرت باللغة العربية، وعدد الصفحات التي دشنت على موقع «فيسبوك» بهدف التأكيد على موضوع الكتاب وترجمة بعض فقراته الرئيسية. وعندما رفعت الحكومة الحظر عن الكتاب - بعد نحو شهر من مداهمة مسئولين من وزارة الإعلام لمكتبة الجامعة الأمريكية في القاهرة لمصادرة بضع عشرات من النسخ المعروضة هناك - صار على الفور واحدا من أكثر الكتب مبيعا في العديد من المكتبات الإنجليزية في مصر.
وعلى النقيض من هذا، عندما نشر الكتاب في نيويورك ولندن عام 2008، شعرت بأسى بالغ من ضآلة اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية والإنجليزية على السواء بالكتاب. مكثت بائسا بضعة أسابيع في واشنطن أنتظر الدعوات للحديث إلى وسائل الإعلام، لكني لم أتلق أي دعوات في نهاية الأمر. حدث هذا على الرغم من أن كتابي السابق «خبايا السعودية» (2005) نال ما يربو عن عشرين نقدا بارزا، وأدرج ضمن قائمة أفضل الكتب مبيعا في الولايات المتحدة. وبدا واضحا تماما أن قليلين في الغرب هم من أرادوا سماع الرسالة التي يوجهها الكتاب. ولا عجب إذن في أن أمثال جون ماكين تأسفوا على انعدام رسائل التحذير من اندلاع الثورة بعد اندلاعها أخيرا.
الأسوأ من ذلك أنه عندما كان يرد ذكر الكتاب في وسائل الإعلام المتحدثة بالإنجليزية تكون اللهجة ساخرة تماما. كان رأي ماكس رودينبيك - مراسل مجلة «ذا إيكونوميست» في الشرق الأوسط - أفضل مثال على ذلك؛ إذ أخبر قراءه قبل ثورة القاهرة بستة أشهر فحسب قائلا: ««في قلب مصر: أرض الفراعنة على شفا الثورة» هو العنوان المؤثر الذي اختاره الصحفي البريطاني جون آر برادلي لكتابه. وللأسف لم يكن تنبؤ الكتاب بثورة وشيكة إساءة التقدير الوحيدة للكتاب.» بل إن هذا الانقسام - بين إشادة النقاد العرب الذين فطنوا إلى اقتراب الثورة وبين التشكيك الصفيق والمفعم بالثقة من جانب نظرائهم الغربيين الذين أخطئوا التقدير «للأسف» - امتد حتى وصل إلى المراقبين الغربيين المقيمين في مصر. ففي نقد حاد نشرته صحيفة «بيكيا مصر» الإلكترونية الناطقة باللغة الإنجليزية في القاهرة، خاطبني جوزيف مايتون رئيس تحرير الصحيفة أنا وغيري من القراء قائلا ببساطة: «مصر ليست على شفا ثورة يا سيد برادلي.»
أكثر سؤال تردد على مسامعي بعد الثورة هو كيف استطعت التنبؤ بها دون أي غربي آخر، ولم جازفت بفعل ذلك على هذا النحو الحاسم. وكانت إجابتي بسيطة وهي أني لم أصدق ما كان يقوله هؤلاء «الخبراء» المزعومون في الغرب عن مصر طوال العقد السابق. أثناء عملي مراسلا صحفيا في المنطقة، لم أقابل قط صحفيا غربيا آخر ولو لإجراء حوار قصير. ولم أقم قط بزيارة إلى إحدى سفارات الغرب للحديث مع الملحقين الصحفيين المتعالين. بل استمعت إلى عامة المصريين الذين عشت إلى جوارهم في الأحياء الفقيرة متحدثا معهم بلهجتهم العربية. انتقلت إلى القاهرة عام 1999 لتعلم اللغة العربية بعد أن تخرجت من الجامعة. ونظرا لضيق ذات اليد (ذلك أني أنا نفسي نشأت في أسرة فقيرة)، انتهى بي المطاف في حي شبرا لأعيش إلى جوار 4 ملايين مصري ينتمون إلى الطبقة العاملة. ساعدني الأصدقاء الذين تعرفت عليهم هناك - وأثناء أسفاري التالية داخل البلاد - على رؤية جانب كامل آخر من مصر لا يعرف عنه الصحفيون القابعون داخل الفنادق شيئا.
بعيون هؤلاء الأصدقاء آنذاك شاهدت الاهتراء التدريجي الذي أصاب المجتمع المصري من بطالة مزمنة، وفقر مدقع، واضطهاد سياسي مصحوب بحملات اعتقال عشوائي مفزعة للمواطنين والزج بهم في أقسام الشرطة حيث أصبح التعذيب - الذي أفردت فصلا للحديث عنه - روتينا يوميا.
في يناير/كانون الثاني من عام 2011، عندما احتشد ملايين المصريين في ميدان التحرير وغيره من شوارع وميادين المدن الكبرى الأخرى، أولى الإعلام الغربي الكتاب الكثير من الاهتمام أخيرا. ودون شك سررت أخيرا بالتردد على المحطات الإخبارية التليفزيونية في كل من بريطانيا وأمريكا، واسترددت اعتباري عندما شاهدت الصحف الغربية تدرج الكتاب ضمن قوائم الكتب المهمة. لكن خيل إلي أنه قد أسيء فهمي، إذ افترض صحفيو الغرب أني كنت أنادي بقيام ثورة، وأصبحوا يسألونني الآن هل أشعر بالرضا.
غير أن المغزى من وراء الكتاب لم يكن التحريض على ثورة (وكأن هناك من كان سيعيرني أذنا صاغية على أي حال)، ولا القول إن قيام ثورة - سواء على المدى القريب أو البعيد - سيكون في صالح المصريين. قلما تتمخض الثورات عن المجتمعات التي يرنو إليها مؤيدو هذه الثورات والتي تعتنق فكرة المساواة، مثلما يتضح من تاريخ الثورات الثلاث الأكثر شعبية - من حيث المشاركة الفعالة لأفراد الشعب - في العصر الحديث. فالثورة الفرنسية أسفرت عن «الإرهاب الأعظم»، والثورة الروسية أسفرت عن كابوس «ستالين»، بينما أتت الثورة الإيرانية بآية الله الخميني والملالي المتعصبين الملتفين حوله. الاستثناء الواضح الوحيد لهذه القاعدة في التاريخ الحديث - حسبما يتراءى لي - هو الثورة الأمريكية التي أدت إلى وضع أكثر الدساتير وضوحا وشمولا وإلى ظهور أكثر الدول ديمقراطية وانعزالا في العالم، طوال بضعة عقود على الأقل.
وهكذا لم يعد السؤال يدور عن إمكانية قيام ثورة، وإنما عن الطريق الذي ستسلكه الثورة. فمع حلول شهر فبراير/شباط وتنحي مبارك اتضح أمر واحد، وهو حدوث انقلاب عسكري. لم يكن هناك بد من ذلك لسببين؛ إذ لا يوجد حزب أو مؤسسة أخرى تحظى بتأييد الشعب، فضلا عن أن القيادة العليا في مصر كانت على استعداد في الأساس للتضحية بمبارك - في ظل الضغوط التي تمارسها واشنطن عليها - من أجل الحفاظ على الوضع الراهن ممثلا في قاعدتهم السياسية وفي المساعدات التي يتلقونها سنويا بقيمة 1,4 مليار دولار من الولايات المتحدة. ومع أن الانقلاب العسكري كان أمرا محتما - مثلما أشرت في الفصل الأخير - فإنه دل أيضا على اختطاف ثورة الشعب. شهدت مصر تكرارا لسيناريو عام 1952 عندما أدت ثورة شعبية اندلعت في يناير/كانون الثاني من العام نفسه إلى انقلاب جمال عبد الناصر وتأسيس الحكم العسكري. ولأن قادة الجيش الذين تولوا مقاليد حكم البلاد في 2011 عينوا في الأغلب من قبل مبارك، ولأن المشير طنطاوي نفسه صديق قديم له فلم يكن من العجب أنهم سعوا بدلا من تقويض تركته إلى بسطها عن طريق حملات الاعتقال الجماعي للمتظاهرين، ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية، ورميهم بتهم العمالة الأجنبية، والاستدعاء المتكرر لرؤساء التحرير والصحفيين الذين يرى أنهم أساءوا إلى المجلس العسكري.
مع هذا يصر «الخبراء» الآن على أن مصر في طريقها إلى نظام ديمقراطي على المنوال الغربي يؤمن بالتعددية وقبول الآخر وحرية التعبير. وقد سمعنا في مناسبات عدة أن هذا هو مولد «الربيع العربي» بقيادة مصر صاحبة السبق في تبني الاتجاهات الجديدة في المنطقة على مر التاريخ. تبنى كتاب «في قلب مصر» من بدايته إلى نهايته وجهة نظر مخالفة تماما ترى أنه - مثلما حدث في إيران عام 1979 - في ظل الفوضى التي تشهدها مصر بعد الثورة لن يكون النصر في النهاية من نصيب الجموع التي تدفقت إلى الشوارع من مختلف طبقات المجتمع حتى ولو سقط النظام. بل إن شجاعة هؤلاء وبطولتهم سيمهدان الطريق - من دون قصد - لوصول الإسلاميين إلى السلطة بعد حدوث انقلاب عسكري. ولهذا السبب كثيرا ما حذرت من السماح بمزيد من سوء وتدهور الأوضاع. وللأسف، تدهورت الأوضاع، واختطف الإسلاميون الثورة بموافقة ضمنية من المؤسسة العسكرية.
ذكرت في الفصل الذي تحدثت فيه عن الإخوان المسلمين - وأيضا في الفصل الأخير - أن الإخوان ليسوا ثوريين، ويمكن استبعادهم من إشعال فتيل التغيير الثوري المرتقب. يحذر الإسلاميون المتشددون بشدة من الفوضى والثورة، وعندما اندلعت الثورة، عارضها الإخوان المسلمون - مثلما تصورت - وكذلك فعلت الجماعات السلفية الأكثر تشددا. لا بد أن نذكر أنفسنا مجددا أن هذه ثورة شعبية محضة، وأنها قامت بسواعد شباب ليبرالي ويساري وعلماني انضمت إليهم أغلبية لم يكن لهم أي اهتمام قط بالسياسة كان هدفها الوحيد هو الخلاص من نظام نشئوا على كراهيته. لكن كان هذا حال الثورة الإيرانية - في مراحلها الأولى - أيضا عام 1979.
وفي الشهور التي تلت تنحي مبارك بدا واضحا - خاصة وأن الليبراليين الذين أشعلوا فتيل الثورة أعلنوا في تفاخر (وفي حماقة لو أعدنا التفكير في الأمر) أن ثورتهم «بلا قائد» - أن الإسلاميين منظمي الصفوف كانوا يتحركون لملء الفراغ تماما مثلما فعلوا في إيران. ومع هذا واصل «الخبراء» الغرب ونظراؤهم المصريون الليبراليون ترديد العبارات ذاتها: ما من شيء يدعو إلى القلق، وشعبية الإخوان المسلمين محدودة، ومصر صاحبة تاريخ ثري وطويل من التعددية والتنوع، والشعب المصري لا يريد العيش تحت مظلة دولة إسلامية.
من المؤكد أن معظم المصريين لا يريدون العيش تحت مظلة دولة إسلامية، لكن هكذا كان حال الإيرانيين عام 1979. تجاهل هذا التحليل التفاؤلي إنذارا بالغ الخطورة؛ فالإسلاميون لا يحتاجون لتأييد أغلبية الشعب من أجل تحقيق الفوز في الانتخابات. بل يحتاجون لتأييد أغلبية من يدلون بأصواتهم، وهؤلاء تقدر نسبتهم في مصر تاريخيا بعشرة في المائة فقط ممن لهم حق التصويت. ولذا عندما صوت المصريون في مارس/آذار 2011 على التعديلات الدستورية التي أعلن عنها بعد قيام الثورة، فإن 41 بالمائة فقط ممن لهم حق التصويت كلفوا أنفسهم عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ صحيح أنها نسبة تفوق ما كانت عليه في الماضي، لكنها تظل منخفضة إلى حد كبير بالنظر إلى كونها أول انتخابات حرة ونزيهة تتسنى لمعظم المصريين فرصة المشاركة فيها. وهكذا فالإسلاميون - حتى ولو كانوا يتمتعون (مثلما ذكرت كثيرا) بتأييد نحو عشرين إلى ثلاثين بالمائة فقط من إجمالي عدد السكان - لا يزالون قادرين على كسب أغلبية الأصوات لسبب بسيط، وهو أن أتباعهم هم الأكثر تفانيا وتعصبا ومن المرجح بشدة أن يشاركوا في التصويت.
قبيل استفتاء مارس/آذار كان الإخوان المسلمون الكتلة المعارضة الوحيدة التي تحث على الموافقة على التعديلات الدستورية، غير أن أكثر من ثلثي المشاركين في التصويت استجابوا لندائهم؛ أي سبعة وسبعين بالمائة. ونؤكد مجددا أنهم ليسوا سبعة وسبعين بالمائة من المصريين جميعا، وإنما سبعة وسبعين بالمائة من الواحد والأربعين بالمائة الذين صوتوا، ومن هنا كانت الأغلبية الساحقة للإسلاميين على الرغم من قلة مؤيديهم. خسرت الأحزاب الممثلة للنخبة المصرية التقدمية العلمانية، التي عارضت بشدة الدستور المعدل بدعوى أنهم يحتاجون مزيدا من الوقت لتنظيم صفوفهم. علاوة على هذا فإن الإخوان المسلمين فازوا أساسا في الاستفتاء لمجرد زعمهم أن أي تعديلات أخرى على الدستور ستمهد الطريق أمام المؤامرة الأمريكية والإسرائيلية لإلغاء «المادة الثانية» التي تنص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة. وبعبارة أخرى، تغلبت العبارات والشعارات المبسطة على البيانات السياسية الأشد تعقيدا.
إضافة إلى ذلك أظهرت استطلاعات الرأي التي أجريت منذ قيام الثورة أن التلهف لتطبيق الديمقراطية وإجراء الانتخابات على المنوال الغربي يأتي في آخر أولويات من خرجوا إلى الشوارع أثناء الثورة. وكالعادة ذكر نحو عشرين بالمائة أن الدافع الرئيسي وراء الإطاحة بمبارك هو تطبيق الديمقراطية والمشاركة في انتخابات حرة. أما الباقون فكانت أولى أولوياتهم دائما مثلما ورد في الاستطلاع استعادة كرامتهم والتعبير عن غضبهم من تردي الأوضاع الاقتصادية للدولة. ومن ثم أحيطت استجابة النخبة في الغرب (والقاهرة) بخداع الذات، تماما كما أن تأييد النخبة لنظرية «نهاية التاريخ» المنافية للعقل التي وضعها فرانسيس فوكوياما في بداية التسعينيات من القرن العشرين - عقب سقوط سور برلين - يبدو أمرا هزليا لأي شخص فطن يلقي نظرة على الماضي. بالمثل يشير الليبراليون الرواد الآن إلى أن الشعوب العربية المضطهدة - بزعامة المصريين - انتفضت ضد الطغيان لأنهم يتوقون إلى قيم الغرب الليبرالية الكلاسيكية من قبول الآخر والحكم التمثيلي. أيضا يصرون على أن الإنسانية مرهونة بالتبني الجماعي للدساتير التي تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير الفردي.
لا شك أنه ما من عاقل يود أن يلقى القبض عليه ويعذب لا لشيء سوى أنه عبر عن رأيه سواء أفي القاهرة أم في نيويورك. لكن عندما ننظر إلى الصورة من المنظور الأشمل - بأن نتساءل هل المطلب العام بالكرامة الإنسانية الأصيلة يترجم حتما على أنه ولع بالنظام البرلماني البريطاني وتأييد الفردية وفق النهج الأمريكي - يصبح التقييم ناقصا ومبسطا للغاية. ولنفكر في استمرار شعبية جمال عبد الناصر الذي حكم مصر بعد انقلاب عام 1952 الذي أطاح بالملكية المدعومة من بريطانيا. فكما يبين الفصل الأول قمع عبد الناصر بوحشية حرية التعبير وفرض حظرا على المعارضة السياسية. وبالرغم من شعبيته الأكيدة فإنه لم يترشح للانتخابات قط خلال العقدين الذي حكم فيهما البلاد. ومع هذا كانت الجماهير ترفع صورته عاليا أثناء الثورة المصرية 2011 في حين شوهدت بضع صور لأنور السادات بالرغم من حكمه المؤيد للديمقراطية إلى حد ما. ويكاد يكون من المحال أن ترى مصريا عاديا - باستثناء الإسلاميين الذين مارس عبد الناصر بحقهم جرائم التعذيب والقتل - يقبل بكلمة سوء تقال في حقه. ولا عجب في أن استطلاع رأي كبير أجري بعد الثورة المصرية أظهر أن الرغبة في تطبيق الديمقراطية على المنوال الغربي حتى بين الثوار أنفسهم تأتي كأولى الأولويات لدى تسعة عشر بالمائة فقط ممن شاركوا في الاستطلاع. لم كل هذا التقدير لعبد الناصر الديكتاتور المتسلط إذن؟ طرحت هذا السؤال مرات لا أحصيها على مر العقود، ودوما كنت أحصل على التفسير نفسه من المصريين؛ وهو أنه لم يكن شخصيا حاكما فاسدا، وأنه احترم كرامة شعبه، ولم يكن توفير الغذاء بالأمر الصعب في عهده. يبدو أن ميوله الاستبدادية لا دخل لها بالموضوع.
ومما يدعو للسخرية أن تونس كانت هي المحفز لاندلاع الثورة في مصر وفي غيرها من دول العالم العربي؛ ذلك أن الحبيب بورقيبة الزعيم التونسي الذي حكم البلاد بعد الاستقلال أدار ظهره لسياسة الوحدة العربية ومعاداة الغرب التي تبناها عبد الناصر مؤكدا بدلا من ذلك على تفرد بلاده. وعلاوة على ذلك، فطوال سنوات تكرر استقبال عامة التونسيين للهجتي المصرية المميزة بالفتور، لأنهم لا يحملون الكثير من مشاعر الحب للمصريين. فالتونسيون ينظرون إلى المصريين على أنهم مخادعون محترفون، وأنهم منافقون بسبب إظهارهم المتفاخر - والظاهري عادة - للتقوى والورع. وفي المقابل، ينظر المصريون الأكثر تحفظا إلى حظر ارتداء الحجاب في تونس وأحياء الدعارة المنتشرة تحت مظلة القانون على أنها نوع من الجنون. ولا غرو في أن مباراة كرة قدم جمعت بين فريقين من البلدين في القاهرة - بعد اندلاع الثورتين التونسية والمصرية ببضعة أشهر - قضت سريعا على كل ما كان يقال عن مشاعر الحب بين الأشقاء العرب في كلتا الدولتين في أعقاب بداية «الربيع العربي». فعقب قرار مشكوك في صحته اتخذه حكم المباراة اندلعت أعمال الشغب في الجانب المصري حيث اندفعت الجماهير إلى أرض الملعب وهاجمت اللاعبين التونسيين. وصادف أن كنت في تونس تلك الليلة، ولم يكن من السهل أن أطلب فنجانا من القهوة باللهجة المصرية.
وأثناء أسفاري المتتابعة جيئة وذهابا بين تونس ومصر بعد الثورة، هالني أيضا ما رأيت من مشاعر الازدراء التي يكنها عامة المواطنين في كلا البلدين للشعب الليبي في ظل نشوب حرب أهلية هناك. لدى معظم المصريين انطباع خاطئ بأن جميع الليبيين ينعمون بالثراء الفاحش، ولذا لم يروا سببا لقيامهم بالثورة من الأساس؛ وهذا دليل آخر نستنبطه من الأحاديث المتداولة على أن المعاناة الاقتصادية - وليس التلهف لتشكيل حكومة تمثيلية على المنوال الغربي - هي التي دفعت المصريين إلى التظاهر. التونسيون من جانبهم كثيرا ما نظروا إلى الليبيين نظرة ازدراء إلى حد يبدو معه فتورهم تجاه المصريين عاطفة مكبوتة. فهم يعتبرون الليبيين بدوا حمقى، وسرعان ما هاجموا بعنف مخيمات اللاجئين التي أقيمت من أجل الليبيين جنوب بلادهم. لذلك اتضح أن الرأي القائل إن الثورات العربية مثلت إحياء لحلم الوحدة العربية الذي دعا إليه عبد الناصر - مثل العديد من النظريات التي يروج لها «خبراء» الشرق الأوسط - هو محض تمن لا حقيقة له.
نظرا لأزمة الآراء السياسية الراديكالية المعارضة في الوقت الراهن - حيث تتحلى الشعوب العربية من دون شك بالجرأة التي كانت جزءا محوريا في جميع الثورات الكبرى على مر التاريخ، لكنهم يفتقرون إلى التلاحم وإلى وجود استراتيجية بل ولغة سياسية يستخدمونها في صياغة أهدافهم - فالحقيقة المؤسفة أن الثورة في مصر وفي غيرها من البلدان الأخرى كانت تصب دوما في صالح الإسلاميين أولا وقبل كل شيء. ذلك أن الإسلاميين يتحدثون لغة يتردد صداها بين العامة. ليس معنى هذا أن الإخوان المسلمين يتمتعون بشعبية كبيرة في مصر، ومثلهم في ذلك السلفيون. لكن عندما يصل الأمر إلى جوهر الخلاف السياسي نجد المصريين غير مبالين تماما، والأحزاب التقدمية تكاد لا تكون معروفة، والإخوان المسلمين بالتبعية الفصيل المعارض الأفضل تنظيما وصاحب الرسالة الأكثر وضوحا والأيسر استيعابا.
وكحال كل جماعات المعارضة الإسلامية، لا يسعى الإخوان المسلمون إلى الحكم، لأنهم ينجحون ويزدهرون في جانب المعارضة، حيث ينشغلون بموضوعات غير ذات جدوى تتعلق بالإسلام - بدءا من التصدي لمسابقات الجمال وحتى حظر الكتب التي ترمى بالكفر - في محاولة لأسلمة المجتمع من قاعدته. بعبارة أخرى، ينظر الإسلاميون إلى المدى البعيد، ولا يسعون إلى السلطة من أجل السلطة. ومن هنا كان استبعادهم الفوري للترشح في الانتخابات الرئاسية الهامة جدا. وبدلا من ذلك نراهم يريدون أسلمة المجتمع تدريجيا من قاعدته، معتقدين أنهم مؤيدون من قبل الله وتساندهم النزعات الاجتماعية المحافظة. وطوال عقود من الزمان كان البرلمان الهش ساحتهم المفضلة، والعمل الخيري بين الفقراء أداتهم الرئيسية لاستقطاب الآخرين. ومع تردي الوضع الاقتصادي المصري جراء الثورة، زادت الحاجة إلى أعمالهم الخيرية أكثر من ذي قبل، وصار البرلمان الجديد الأكثر تحررا أكثر إغراء لهم.
في حوار مع قناة «بي بي سي» في مارس/آذار 2011 قال عضو في جماعة الإخوان المسلمين المصرية ، «معتدل» على حد زعمه: «نريد حريتنا حتى نتمكن من تأسيس أحزاب سياسية في مجتمع مدني تعددي.» وواصل الشاب حليق اللحية حديثه قائلا: «لا يمكنكم إصدار حكم علينا ما لم تمنحوننا الفرصة. نحن الإسلاميون بحاجة إلى فرصة.» لكن الدرس المستفاد لمصر - ولهذا الإسلامي تحديدا إذا تأمل الواقع لحظة - من تجارب الدول الأخرى واضح وضوح النهار؛ لا يمكنك استيعاب الإسلاميين بالرغم من اعتدال بعض أتباعهم. أعطهم جزءا صغيرا من ساحة اللعب، وسوف يستأثرون بالساحة كلها لأنفسهم، ويغيرون قواعد اللعبة على نحو يضمن انتصارهم دائما. وفوق كل شيء لن تستطيع دحرهم في المنافسات طويلة المدى؛ فعندما يتعلق الأمر بالجلد والثبات تكون الغلبة من نصيبهم. وعلى كل حال فالتعريف الدقيق للاعتدال هو معرفة الوقت الذي يجدر بك التوقف فيه، وكل الإسلاميين يشتركون في أنهم لا يكلون لحظة. والتعرض للإسلام الراديكالي في الشرق الأوسط بالنقد صار مرادفا للدعوة إلى خفض السن القانونية لممارسة الجنس إلى ثماني سنوات في جلسة كاملة لمجلس الشيوخ الأمريكي؛ أي صار أمرا كارثيا. لا بد لكل الحجج أن تصاغ في حذر الآن باستخدام مصطلحات إسلامية، فضلا عن أن التأييد الذي حظيت به الحركات العلمانية في الماضي ذهب أدراج الرياح؛ بين العامة على الأقل.
طوال العقدين الماضيين، أرسى الإخوان المسلمون دعائم نجاحهم الوشيك. فقد أظهر استطلاع رأي أجراه «مركز بيو للأبحاث» قبل الثورة بوقت قصير أن غالبية المصريين يؤيدون رجم الزاني، وقطع يد السارق، وقتل المرتد عن الإسلام. والحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها مع الأسف هي أن المجتمع المصري - بعد عقود من حكم نظام مبارك الفاسد (الذي قوى شوكة الإسلاميين كوسيلة لتجنب غضب الشعب جراء تحالفه مع واشنطن) - صار محافظا ورجعيا للغاية، وأصبحت النخبة التقدمية بمعزل هائل عن الشعب، حتى إن شعار الإخوان المسلمين - الإسلام هو الحل - يطغى على الدعوات الأكثر تعقيدا وبراعة إلى الصبر والتسامح والاعتدال. والأسوأ من هذا دخول السلفيين المتطرفين الآن إلى الساحة السياسية، حيث استغل السلفيون الأكثر تطرفا الفوضى التي أعقبت سقوط مبارك لمهاجمة الصوفيين والمسيحيين. يرى هؤلاء المتشددون أن المزيد من الديمقراطية لا يعني مزيدا من التعددية حتى مع تأسيسهم أحزابا سياسية مؤخرا بهدف تدعيم العملية الديمقراطية. والآن يتحول السيناريو المفجع الذي تصورته لمصر في هذا الكتاب - عندما كانت على أعتاب تغيير ثوري هو اعتلاء الإسلاميين السلطة - إلى واقع أسرع كثيرا حتى مما توقعت.
في بداية أغسطس/آب 2011 - بعد اندلاع الثورة بستة أشهر - شهدت مصر ما يمكن وصفه بأنه «اللحظة الإيرانية» في البلاد. نزل ما يقرب من مليون سلفي وإسلامي متشدد إلى ميدان التحرير، وشقوا صفوف المعارضة الليبرالية والعلمانية التي كانت قد وافقت على الانضمام إلى المظاهرة من باب التدليل على وحدة الصف. وما حدث أن الإسلاميين دعوا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وإزاحة الأفكار العلمانية جانبا. ردد الإسلاميون شعارات إسلامية، وارتدوا الزي السلفي، بل ولوحوا بالأعلام السعودية في دلالة أكيدة على الرغبة في العودة بالمجتمع إلى العصور الوسطى.
بعدئذ تحرك الجيش لإخلاء ميدان التحرير من بضعة مئات من المتظاهرين الليبراليين، وأعلن عن مثول مبارك أمام المحكمة. لا شك أن قرار محاكمة مبارك - بعد شهور من التباطؤ - كان انتصارا لليبراليين الذين استبسلوا في مواصلة الضغط على المجلس العسكري من أجل محاكمة الديكتاتور. لكن الخطر يكمن في أن محاكمة مبارك (الجارية وقت كتابة هذه السطور) ستثبت أنه انتصار باهظ التكاليف. فقد سحب البساط من تحت أقدام الحركات الثورية الليبرالية مثلما استغلت حالة الزخم القائمة من قبل الإسلاميين الذين يشاع أنهم أبرموا اتفاقا مع الحكام العسكريين الجدد: دعونا نؤسلم المجتمع من قاعدته ونشارك بحرية في الانتخابات، وسوف نساعدكم في الحفاظ على الوضع الراهن. نفى الجيش نفيا قاطعا وجود مثل هذا الاتفاق، لكن الحقيقة واحدة سواء أكان الاتفاق قد أبرم رسميا أم لا. وسط الفوضى والخراب اللذين تشهدهما مصر بعد الثورة والتنفيس عن المشاعر برؤية مبارك ماثلا أمام المحاكمة تجلت حقيقة جديدة؛ من المرجح كثيرا أن تصبح مصر - عاجلا أكثر منه آجلا - دولة إسلامية أكثر من احتمال كونها دولة ديمقراطية تسير على منوال الغرب.
أوضح مقال نشر في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية ذات الثقل في فبراير/شباط 2011 كيف برع الإسلاميون في الترويج لأنفسهم في الخارج مستغلين بمهارة ولع واشنطن بألعاب الشطرنج الجغرافية السياسية. كتب شادي حامد من معهد «بروكينجز» البراجماتي: «لا جدال في أن الديمقراطية ستجعل المنطقة أكثر تقلبا وبعض الحكومات فيها أقل إذعانا لمصالح الأمن الأمريكية.» لكن لا داعي للقلق؛ فالإسلاميون «الممثلون للاتجاه السائد» مثل الإخوان المسلمين في مصر «لديهم نزعات براجماتية قوية»، وأظهروا أنهم «مستعدون للمساومة على أيديولوجيتهم» عندما يواجهون خيارات صعبة:
لتوجيه الشرق الأوسط الذي يمر بمرحلة تطور سريع مؤخرا في اتجاه مناسب، على الولايات المتحدة استغلال تلك النزعات عن طريق الدخول في حوار استراتيجي مع الأحزاب والجماعات الإسلامية في المنطقة. فالمشاركة ستمكن الولايات المتحدة من حث الإسلاميين على احترام المصالح الرئيسية للغرب بما في ذلك دفع عملية السلام العربي-الإسرائيلي قدما، ومجابهة إيران، ومحاربة الإرهاب. سيكون من الأفضل دعم تلك الروابط مع جماعات المعارضة الآن - في وقت لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بالنفوذ - أكثر مما سيكون عليه الوضع لاحقا بعد وصولهم إلى السلطة: (شادي حامد: «كيف سيغير الإسلاميون العملية السياسية والعكس» مجلة «فورين أفيرز» مايو/أيار- يونيو/حزيران 2011.
http://www.foreignaffairs.com/articles/67696/shadi-hamid/the-rise-of- the-islamist ).
بعبارة أخرى الإسلاميون في طريقهم إلى الحكم - شئنا أم أبينا - لذا فمن الأفضل تقديم الدعم للطرف الرابح. لكن ماذا عن نساء المنطقة ومسيحييها وشيعتها ومفكريها من أنصار الفكر الحر الآخذ عددهم في التضاؤل طوال الوقت و«شعوبها» الإسلامية المعتدلة - على حد تعبير أوباما - الذين لا يريدون العيش في دولة دينية وهابية رجعية؟ ليذهبوا إلى الجحيم على ما يبدو؛ فالأولوية للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، ولا بد من تحقيقها ولو بإبرام اتفاق مع الشيطان. وبالرغم من أن هذا المنطق يتنافى مع الأخلاق فإن دوافعه مفهومة - من المنظور البراجماتي المحض الذي تتبناه واشنطن - إذا كان يخدم المصالح الأمريكية حقا.
غير أن مشكلة الحجج البراجماتية أن التاريخ اعتاد تفنيدها. ساند البراجماتيون الأمريكيون الأنظمة الفاسدة في جنوب فيتنام واحدا تلو الآخر، لكنهم خسروا الحرب مع ذلك، وسلموا المنطقة إلى الصين على طبق من فضة . وساند البراجماتيون شاه إيران واكتسحت الثورة لتمكن آية الله الخميني، وقد شهد التاريخ لتوه تكرارا لهذا السيناريو في مصر. في الثمانينيات من القرن العشرين، سلح البراجماتيون أسامة بن لادن. وثمة أمر واحد واضح: وهو أن واشنطن ستواصل تفضيل مصالحها ومصالح تل أبيب على مصالح الشعب المصري. والنتيجة ستكون كارثة أخرى في السياسة الخارجية. وعندما تندلع الثورة المصرية القادمة - وهو أمر مؤكد - سيقف الإسلاميون المتشددون في الصفوف الأمامية منذ اللحظة الأولى.
الفصل الأول
ثورة باءت بالفشل
على بعد مسافة قصيرة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ بين شوارع منطقة وسط البلد المزدحمة، في العاصمة الأكبر في أفريقيا والأكثر ازدحاما في العالم العربي؛ يقع مقهى صغير متهالك يدعى الندوة الثقافية، كراسيه ومناضده الخشبية تطل على الشارع خارجه، ويرتاده المناضلون من المفكرين الليبراليين، وتتبارى فيه أصوات الزبائن الصاخبة مع أصوات أبواق السيارات، وتلتقي أثناء إدلائهم بالطلبات - التي يجلبها ندل يرتدون معاطف بيضاء - مع أصوات الباعة المتجولين المتكررة المجاورة صانعة مزيجا أوبراليا، يختلط فيه الدخان المتصاعد من نارجيلة المقهى بعوادم سيارات المرور التي توقف سيرها من فرط الزحام. إنها صورة مصغرة للقاهرة المعاصرة: زحام المرور، والتلوث الضوضائي، والحياة الاجتماعية الزاخرة بالأحداث لأناس أكثر ما يعشقونه هو الخوض في الأماكن العامة فيما عظم وصغر من الأمور، على الرغم من الاضطرابات المحيطة بهم (أو ربما بسببها). في تلك الآونة، في شتاء عام 2006، حقق فيلم بعنوان «عمارة يعقوبيان» نجاحا ساحقا في البلاد. قصدت آنذاك مقهى الندوة الثقافية؛ للقاء الكاتب علاء الأسواني، مؤلف الرواية التي ارتكز عليها الفيلم الأعلى تكلفة في تاريخ السينما المصرية، الذي شارك في بطولته الكثير من نجوم السينما في مصر، وحطم جميع الأرقام القياسية لإيرادات الأفلام المصرية في الأسابيع الأولى من عرضه. دارت أحداث الفيلم في مبنى من أبنية الماضي الشامخة في منطقة وسط البلد التاريخية بالقاهرة، أي قريبا من مقهى الندوة الثقافية، ومثلت شخصياته المتنوعة شرائح مختلفة من المجتمع المصري المعقد. والمبنى في حد ذاته شخصية رئيسية من شخصيات الفيلم؛ إنه مرآة بسيطة لمنتهى الازدهار الذي شهده المبنى في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات الساحرة، الحقبة التي تعرف في مصر ب«الزمن الجميل»، ويرمز تهالك المبنى إلى تدهور مكانة مصر تدريجيا إبان الحكم العسكري الذي دام أكثر من خمسة عقود منذ انقلاب يوليو/تموز عام 1952، الذي أطاح بالنظام الملكي المؤزر من قبل بريطانيا، ليصعد بجمال عبد الناصر والضباط الأحرار إلى السلطة. صدر الفيلم ليعرض بقوة وعلى نحو فريد الواقع المرير الذي يواجهه المصريون يوميا، في بيئة ثقافية تكاد تكون قاحلة، تخلت فيها عن السينما المصرية عظمتها السابقة، وأضحت خاضعة لرقابة مكثفة، وباتت تنتج اليوم عددا لا حصر له من الأفلام الكوميدية الرخيصة. الانحلال الجنسي والفساد السياسي تفشيا في العالم الذي تتحرك فيه الشخصيات، وتنافس فيه القوادون والعاهرات وصغار المحتالين ومحترفوهم على غنائم الأمة المتهاوية التي باتت الآن تعيش كابوسا من جانبين: اتساع أملاك الطبقات العليا بلا حدود، واجتياح الإسلاميين للطبقات الدنيا. إنها صورة يزداد فيها الثري ثراء والفقير فقرا، أما الشرائح الوسطى فقد اندثرت واندثر معها كل أمل في التطور الاجتماعي القائم على التعليم الجيد والرغبة في العمل الجاد، في الوقت الذي استغل فيه الإسلاميون المتشددون الضعفاء والمعدمين الذين تخلى عنهم النظام الحاكم، ووقع المثقفون المتعلمون تحت أقدام عصابات شبيهة بالمافيا يشار إليها باسم «أغنياء الحرب»؛ وهو مصطلح يقابله في الإنجليزية مصطلح يعني «القطط السمان». إنه بلد يحلم شبابه جميعا تقريبا بالهروب منه، وأملهم الأخير للتمتع بمستقبل أفضل هو مفارقة الأحباب، والسفر بحثا عن العمل والكرامة. •••
يلتقي علاء الأسواني كل خميس في مقهى الندوة الثقافية بأصدقائه ومحبي رواياته، وبغيره من المفكرين؛ لمناقشة آخر التطورات السياسية والثقافية في مصر. كان الأسواني يملك قاعدة عريضة من المعجبين، فحتى قبل أن يصنع نجاح فيلم «عمارة يعقوبيان» الهائل اسمه بوصفه روائيا عالميا، حققت الرواية ذاتها أعلى المبيعات في مصر والعالم العربي منذ صدورها في عام 2002، بل وذهب البعض منذ وقت مبكر إلى تلقيبه بخليفة نجيب محفوظ، الروائي العظيم الحائز جائزة نوبل، الذي تحولت رواياته إلى أفلام شهيرة، وتوفي في أحد المستشفيات بالقاهرة في عام 2006 بعد صراع طويل مع المرض إثر محاولة اغتيال تركته عاجزا عن الكتابة، نفذها متطرف إسلامي في أوائل التسعينيات. يشير اسم الأسواني - وهو رجل في أواخر الأربعينيات له رقبة ملاكم وساعداه - إلى انحدار أصوله من قلب النوبة؛ من مدينة أسوان الساحرة بجنوب مصر. وتوحي شخصيته الودودة المتواضعة بأنه - مرة أخرى كنجيب محفوظ - لم يدع الشهرة التي اكتسبها في الآونة الأخيرة تصيبه بالغرور. لقد عاش في الولايات المتحدة وفرنسا، وصار يتقن الإنجليزية والإسبانية والفرنسية إلى جانب العربية؛ لغته الأم. أسس أولى عياداته بوصفه طبيب أسنان في المبنى الذي يشير إليه اسم القصة وتدور حوله أحداثها الخيالية، وكان شأنه شأن أغلب الرجال المصريين الذين التقيتهم يدخن السجائر باستمرار، وهو أمر مستغرب من طبيب أسنان. عندما قدمت له نفسي، لاحظ أنني أدخن سجائر كليوباترا المحلية فيما هو يمسك بعلبتي سجائر من ماركة أمريكية يفضلها، فأطلق مزحة عن التمازج بين الثقافات المختلفة - الفكرة الرئيسية التي تدور حولها أحدث رواياته؛ «شيكاجو» - لإذابة الجليد واستهلال الحديث.
في تلك الأمسية الباردة من شتاء عام 2006، اجتمع ما يقرب من خمسين شخصا في مقهى الندوة الثقافية، جلست في الصف الخلفي، أتابع ما يجري من حولي دون الانخراط فيه، وتناقل المجتمعون جهاز ميكروفون متصلا بمكبر صوت سمح لصوت كل شخص بأن يبز ضجيج المرور بالخارج. دار الجزء الأكبر من النقاش الذي افتتحه الأسواني حول أصداء تصريح أدلى به وزير الثقافة فاروق حسني مؤخرا، قال فيه إن ارتداء الحجاب - الذي انتشر في مصر منذ أوائل التسعينيات، ولا تعارضه إلا الأقلية القبطية المسيحية - هو دلالة على «الرجعية». لكن الهجوم المضاد لتصريح فاروق حسني كان قاسيا، بقدر ما كان محبطا؛ فقد جاء ليثبت فقط صدق إعلانه، وهو ما أدهشني. اتحد أعضاء من البرلمان المصري من حزب الرئيس مبارك الحاكم؛ الحزب الوطني الديمقراطي (العلماني ظاهريا) - الذي يسيطر على المجالس التشريعية المؤلفة بموجب انتخابات محددة النتائج سلفا - مع أعضاء برلمانيين من جماعة الإخوان المسلمين في الدعوة لاستقالة فاروق حسني، وشن كاتبو الأعمدة في الصحف القومية والمعارضة هجمات شرسة ضد الوزير تتعرض لشخصه، بل وأشار البعض بخبث (وبلا سبب واضح) إلى أن من لا يبدو أن النساء تهمه كثيرا يجب أن يكون آخر من يدلي برأي قوي فيما يرتدينه. ظاهريا قد يبدو هذا تحالفا غريبا بين الإسلاميين والعلمانيين، لا سيما بالأخذ في الاعتبار أن النظام يتهم دائما بحبس وتعذيب النشطاء المعارضين وملاحقتهم بلا هوادة، بالأخص من جماعة الإخوان المسلمين الأصولية، لكن إن أنعمنا النظر في الأمر، فسنجد أن ردة الفعل إزاء تصريحات فاروق حسني توضح بقوة أن النظام يسرق عباءة الإسلاميين لرفع شعبيته الآخذة في التدهور بين العامة. إنها ممارسة ليس من قبيل المصادفة أنها تساهم في تهميش أصوات التقدميين أكثر مع الترويج لخطورة الإسلاميين التي يحاول النظام أن يلفت الأنظار - قدر الإمكان - إلى جسامتها لتقليص حملات الضغط والنقد التي يتعرض لها من مموليه في واشنطن.
أيد الجميع تقريبا في صالون الأسواني غير الرسمي فاروق حسني، لم يؤيدوا بالضرورة آراءه عن الحجاب، لكنهم ارتأوا بلا شك أنه لا يستحق أن يهاجم، مما أظهر ميولهم الليبرالية وجهلهم بالرأي العام السائد؛ وعلى كل حال، إن كان المعارضون والحزب الحاكم يرون في تعليقات فاروق حسني فرصة سياسية، فهذا يدل على أنهم يجدونها قضية ذات صدى في الشارع المصري، ومن هنا يمكن استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية. وكان أكثر ما عجز المجتمعون في الندوة عن تصوره هو كيف استطاع فرد - أيا كان موقعه في الحكومة المصرية - أن يثير مثل هذه الجلبة، في الوقت الذي فشلت فيه القصص عن استشراء الفقر والبطالة والفساد المستوطن وثقافة المحاباة الواسعة الانتشار - وهي الأفكار الرئيسية التي تدور حولها قصة الأسواني - في تحفيز الجماهير لاتخاذ ردة فعل تقترب من هذا الحد. ردة الفعل تلك أثبتت انعدام الحوار الثقافي في البلاد، وسيطرة الإسلاميين على العقل الجمعي المصري، لكنها أوضحت أيضا سذاجة مفهوم العدالة لدى الحاضرين بالصالون الثقافي؛ فالجلبة حول الحجاب صرفت انتباه الناس عن واقع محزن يعيشونه، لكنهم لا يستطيعون في الوقت نفسه معالجته. لا عجب في أن الكوميديا الرخيصة تسيطر سيطرة كبيرة عندما تتعذر معالجة القضية الملحة إلى درجة مقبضة للصدر. •••
قال لي الأسواني بعد أن انفض الحشد وجلسنا على طاولة خارج المقهى: «نشأت في منطقة وسط البلد بالقاهرة، أعتقد أن تلك المنطقة ليست جزءا من العاصمة بقدر ما هي حقبة تعود إلى أكثر من مائة وخمسين عاما قبل ثورة يوليو، عندما كانت مصر متسامحة إلى حد بعيد.»
تمثل الطرز المعمارية المختلفة التي انتشرت في القاهرة قبل ثورة يوليو تغير العصور والأذواق من منظور مجتمع الصفوة الليبرالي الذي انبثق منه الأسواني؛ إنها تعبر عن فترة تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، عاش وعمل فيها المسلمون، والمسيحيون، واليهود، والمصريون، والعثمانيون، والأرمن، والإيطاليون، والفرنسيون معا، وصارت المدينة بفضل مظهرها نموذجا للتعدد والاختلاف. تبرز رواية «عمارة يعقوبيان» هذا المجتمع الذي اتسع للجميع؛ إذ يتحول المبنى الذي سميت باسمه القصة، الكائن في القاهرة كما نراها في الواقع، والمصمم على طراز «الآرت ديكو»، إلى نصب تذكاري يذكر بالطراز الكلاسيكي الأوروبي الرفيع، وقد اكتمل مظهره ذاك بأعمدة وأحجار إغريقية الطابع.
احتك الأسواني بالمجتمع الغربي في سن صغيرة، وذكر أنه في جزء منه «ليبرالي بالدرجة الأولى»؛ فقد كان والده كاتبا وفنانا، لذا نشأ على حب قراءة الكتب وحرية الرأي؛ «فمن أراد أن يصلي، صلى، ومن أراد أن يشرب الخمر، شربه، ومن أراد أن يصوم، صام»، هكذا أخبر مجلة «إيجيبت توداي» المحلية التي تصدر باللغة الإنجليزية في مصر إبان حملته الدعائية لدى صدور روايته. وقد حرص على أن يبين لي أنه لا يشبه أيا من شخصيات قصته، فإحدى نقاط قوته ككاتب بالفعل هي قدرته - على طريقة الروائي الفرنسي مارسيل براوست - على تفهم آراء شخصياته المختلفة على الرغم من تعارضها. لكن مع تواصل حديثنا تبين أنه كبطل روايته الأرستقراطي المسن زكي باشا، يزدري الواقع الكئيب الذي تعيشه القاهرة المعاصرة ويشعر بالحنين إلى مصر ما قبل ثورة يوليو، مع التحفظ بشدة على الاستعمار البريطاني الذي ميز هذه الحقبة.
قال الأسواني وهو مستغرق في التأمل: «الاستعمار في الأحوال كافة شر، فإيجابياته - أيا كانت - ليست لمنفعة أهل الوطن، ولكن الحقيقة هي أنه قبل هذه الثورة، كان مفهومنا عن الدين متسما بالفعل بالتسامح، لهذا كان مجتمعنا متعدد الأعراق؛ عاش فيه أناس من كل ربوع الأرض.» هنا قاطعته مجموعة أخرى من المعجبين تطلب توقيعه على النسخة الإنجليزية والعربية من روايته.
عمل الأسواني فيما مضى بصحيفة تدعى «الشعب»، كان فيها مسئولا عن الصفحة الأدبية. والصحيفة ذاتها تملك تاريخا مشوقا؛ فبعدما كانت يسارية، أخذت تتخذ أكثر فأكثر طابعا إسلاميا، ويفسر هذا على الأرجح سبب توقف الأسواني عن العمل فيها. إحدى التفسيرات القوية لتبرير هذا الاتجاه الذي تحولت إليه الصحيفة هو أنها سعت لأن تعكس بدقة آراء من تزعم أنها تمثلهم، كما يوحي اسمها، والبديل العملي أشار إلى إمكان تحقيقها مبيعات أفضل إن تخلصت من ميولها اليسارية. ولكن سبب النقلة هو في الواقع اهتزاز ثقة كبار الشخصيات المؤثرة في الصحيفة في الحلول اليسارية، إن جاز التعبير. من هنا شنت «الشعب» من قبل حربا شعواء على وزارة الثقافة لإصدارها رواية تدعى «وليمة لأعشاب البحر»، اعتبرتها الجهات الرقابية المحلية منافية للإسلام. لعل الأسواني تعاطف على مستوى شخصي مع وزير الثقافة فاروق حسني في صدامه مع المتطرفين الإسلاميين حول مسألة الحجاب - التي أنجته فيها صداقته لسوزان مبارك قرينة الرئيس التي ترفض ارتداء الحجاب - لأنه بدوره تعرض لهجمات شرسة مماثلة تستهدف تشويه صورته في الصحف الموالية للحكومة؛ إذ اتهمه كاتبو أعمدة الرأي في تلك الصحف بتلويث سمعة مصر بالخارج (وهي رسميا جريمة)، لا سيما لأن إحدى شخصيات روايته كان لواطيا يجاهر إلى حد ما بلواطه. (اللواط منتشر بين الشباب المصريين، لكنه لا يناقش في العادة بانفتاح)؛ علاوة على أن الرواية حوت مشهدا يصف اغتصابا وحشيا لإسلامي مشتبه به على يد بلطجي مأجور من الحكومة في أحد مراكز الشرطة التي يزعم أن اغتصاب الرجال والنساء يمارس فيها ممارسة دورية كعقاب وكوسيلة لانتزاع الاعترافات.
الشعب المصري هو الأكثر حبا لوطنه في العالم العربي. قد يبدو هذا غريبا بالأخذ في الاعتبار أنني لم ألق من قبل مواطنا مصريا لا يكره رئيسه بطريقة أو بأخرى، وبالنظر إلى أن أحد استطلاعات الرأي التي أجراها معهد بيو للأبحاث في يوليو/تموز عام 2007 كشفت عن أن نسبة كاسحة من المصريين تبلغ 87٪ (أكبر نسبة بين سبعة وثلاثين دولة أجري فيها الاستطلاع نفسه) غير راضين عن أداء حكومتهم. لكن من الصعب في الوقت نفسه أن تجد بين المصريين من لا يحب وطنه، ويعتز بماضيه ويؤمن بطاقات الشعب المصري عندما تسنح له فرصة شبه لائقة لصنع مستقبله. مفتاح فهم هذا التناقض الواضح هو إدراك أن المصريين رغم وعيهم بمواطن ضعف وطنهم يكرهون أن يشير إليها الغرباء، بل ويمقتون أن يفضح مصري تلك المعايب على الملأ ليحشد آذانا من المجتمع الغربي الذي يعتقد المصريون أنه يتدفق عليه سيل من الصور السلبية عن العالم العربي.
ذكرت الأسواني بهذا قبل أن أقرأ له ما قاله عن مصر في المقابلة الصحفية نفسها التي أجرتها معه مجلة إيجيبت توداي، تعقيبا على دراسة مخيبة للآمال عن مصر، أجرتها شركة مونديال بالمملكة المتحدة، وهي شركة استشارية رائدة تقدم خدماتها للشركات الأجنبية التي تستثمر في مصر وللراغبين في برامج تأمين السفر. أثارت الدراسة حالة من التأمل للأوضاع الداخلية للبلاد في الإعلام المصري، وليس فقط القليل من ردود الفعل التلقائية والمتسرعة، وذلك عندما حصل قطاع الخدمات والسياحة المصري في تقييم مونديال على صفر صريح. قال الأسواني للمجلة: «بلغ الأمر أننا وصلنا إلى الصفر، لكن الصفر الذي أعطته لنا مونديال كان نتيجة عادلة، عادلة تماما. ليس فقط في المونديال، بل في كل شيء؛ وإن كان من يجب أن يحصل على الصفر هو الحكومة المصرية وليس المصريين. الحكومة المصرية تقييمها صفر في كل المجالات، لا على صعيد كرة القدم فحسب، بل أيضا على صعيد الصحة والتعليم والديمقراطية، وكل شيء.» ولما سألته عن مسئوليته كمصري عن صورة مصر أمام العالم الخارجي؛ القراء الأساسيين لمجلة إيجيبت توداي، أجابني: «مهمتي بوصفي روائيا ليست أن أحرص على أن يزور ملايين السياح مصر كل عام.» ثم أضاف أنه متأكد - على أي حال - أن عبيد السلطة؛ أصحاب أعمدة الرأي التي تهاجمه في أجهزة الإعلام الحكومية، قد تلقوا مكافآت سخية من الحكومة لتعبيرهم عن «آرائهم»، وهو ما يجب أن يسبب إحراجا قوميا. لقد أثبت استقبال عوام المصريين له عندما يسير في شوارع القاهرة أن الكثيرين على مستوى المواطن العادي يقدرون محاولاته. وفي النهاية عاد متنهدا إلى فكرته الرئيسية حيث قال: «مشكلة حكم جمال عبد الناصر هي أنه أنشأ نظاما غير ديمقراطي في الأساس، ما زلنا نحتفظ به إلى اليوم.»
وصلت الشرطة السرية يوم الخميس من ذاك الأسبوع إلى مقهى الندوة الثقافية قبل وقت قصير من بدء انعقاد الصالون الثقافي - وكأنها تبرهن على رأي الأسواني - وأبلغ صاحب المقهى بأن هذا التجمع غير قانوني، وتعرض الندل هناك للضرب، وأمروا بالتوقف عن تقديم المشروبات للضيوف. وانتهى الأمر بقطع صاحب المقهى الذي أصابه الذعر (وهو صديق للأسواني منذ أكثر من عقد) الكهرباء عن المكان، مما اضطر جماعة المفكرين الأحرار المعارضة الصغيرة إلى البحث عن منبر آخر للتعبير فيه عن آرائهم. ولم ينج الأسواني من الاعتقال - الذي كان نصيب الكثير من أصحاب المدونات والنشطاء السياسيين المعارضين والمفكرين الليبراليين الأقل شهرة - إلا لأن شهرته على المستوى الدولي بلغت حدا قرر معه النظام أن الاحتجاجات الحتمية في الصحافة العالمية التي ستنجم عن هذا القمع البشع؛ ستخلق من المشكلات أكثر مما يستحقه الأمر. وعلى أي حال فإن كل الأنظمة الديكتاتورية باستثناء الأكثر قسوة منها تدرك أنها تجني بعض المنفعة بترك بعض الليبراليين البارزين وشأنهم، ولعل هذا القرار جاء بضغط من واشنطن ومنظمات الرقابة الدولية بناء على ملف النظام المفزع في مجال حقوق الإنسان وتطبيق الديمقراطية؛ وبذا يكتسي النظام أمام العالم الخارجي بلباس الحرية والتعددية والسماح بالاختلاف. •••
في مقطع شهير من رواية «عمارة يعقوبيان»، يقول زكي باشا بطل الرواية الذي كان والده أحد الأرستقراطيين الذين أزيحوا عن السلطة في عام 1952: «عبد الناصر أسوأ حاكم في تاريخ مصر كله.» أما الفيلم، في أغلبه، فيحاكي الرواية بإخلاص، إذ تطورت نظرة النظام إلى تراث ناصر وأتباعه لتسمح بالمعارضة. لكن لعل ما يدل على أنه لا تزال هناك حدود يحظر تخطيها في الانتقادات اللاذعة المباشرة، التي توجه عبر وسائل الإعلام الشعبية كالأفلام؛ هو أن العبارة السابقة حذفت من الفيلم ومعها شرح زكي باشا الصادق لها في صفحات الرواية؛ حيث يقول بعدها: «... ضيع البلد وجاب لنا الهزيمة والفقر، التخريب اللي عمله في الشخصية المصرية محتاج سنين طويلة لإصلاحه ... عبد الناصر علم المصريين الجبن، والانتهازية، والنفاق ...» وعندما تسأله عشيقته الفقيرة بثينة (المستاءة بدورها بشدة من تراث الثورة) عن سبب حب الناس لعبد الناصر إلى الآن، يجيبها ثائرا: «اللي يحب عبد الناصر إما جاهل أو مستفيد ... الضباط الأحرار كانوا مجموعة عيال من حثالة المجتمع ... معدمين أولاد معدمين ... حكموا مصر وسرقوها ونهبوها وعملوا ملايين.» •••
كانت رواية «عمارة يعقوبيان» أبرز مثال على عملية إعادة تقييم ثقافية مستمرة في مصر لثورة 1952 من ناحية، والنظام السياسي الاجتماعي الذي حكم مصر قبل الثورة من ناحية أخرى، والذي أدانته المناهج التعليمية وأجهزة الإعلام الخاضعة لسيطرة الحكومة المصرية واصفة إياه بأنه عهد استعمار وشرور. والحق أن جمال عبد الناصر الذي تمتع بشخصية كاريزمية إلى حد هائل عشقته جماهير المصريين حتى وفاته في عام 1970، وليس من الصعب علينا فهم السبب؛ فقد كانت هناك فوائد هائلة قصيرة الأجل لحكم عبد الناصر: تحررت مصر أخيرا من السيطرة الأجنبية، واتسع نطاق التعليم، وضمن خريجو الجامعات الحصول على وظائف حكومية، وتأممت قناة السويس، وبني السد العالي، وتوزعت الأراضي على نحو أكثر عدلا. والزعم أن الضباط الأحرار كانوا من «حثالة المجتمع» قد ينطوي على قدر من المغالاة، لكنهم بلا شك عرفوا كيف يحصلون على الدعم بتحقيق المكاسب للفقراء، واستغلال كراهيتهم للأثرياء. ولعل أكثر ما يساعد في فهم سبب شعبية عبد الناصر هو روح الكرامة التي بثها في كثير من المصريين، مع أنه خانهم عندما قضت إسرائيل على القوات الجوية المصرية في غضون ساعات من بداية حرب عام 1967، في الوقت الذي أذاعت فيه إذاعة صوت العرب التي يمولها، أنباء غريبة عن نصر ساحق لمصر. لكن حتى الفوائد قصيرة الأجل التي تحققت من حكم عبد الناصر أضحت اليوم ذكرى بعيدة مشوشة لدى الجميع عدا النظام الحاكم نفسه، ومجموعة صغيرة من المفكرين المناوئين بشدة للتغيير، والأحزاب والمطبوعات الناصرية المتعددة. وبصرف النظر عن بعض التقدير الباقي في النفوس لناصر كزعيم للوحدة العربية، ومناهض للاستعمار والصهيونية، أصبحت اليوم ذكرى الثورة مناسبة للتحسر لا الاحتفال، هذا إن انتبه لها أحد من الأساس. فعلى صعيد الحياة اليومية، سيطر شعور عميق بكساد الأحوال، في الوقت الذي يتفجر فيه المجتمع المصري داخليا، ويتخلى فيه النظام عن دور مصر التاريخي القيادي في العالم العربي. وقد كتبت مجلة ذي إيكونوميست، التي تبرع في تغطية أخبار مصر أكثر من أي دورية غربية أخرى، عن الذكرى الخمسين للانقلاب العسكري أن مصر «ليست في مزاج يسمح بالاحتفال. فاقتصاد البلاد وسياستها تجمدا في الوقت الذي تعوق فيه النزاعات المحيطة بها أي أمل في الفرج القريب. ومع هذا تحركت الحكومة المصرية ببطء بالصخب والاستعراضات والخطابات ... لتغذية روح الفخر الوطني، لكن يبدو أنها بدلا من ذلك أججت الشعور بالاستياء والغضب في أمة أصبحت غير راضية عن نفسها ولا عن العالم الخارجي.» •••
ماذا كانت حقيقة نظام عبد الناصر الثوري؟ يقودنا التقييم الموضوعي إلى نتيجة واحدة فقط: إنه نظام قاد مصر إلى كارثة عسكرية بالخارج، وهزأ هو نفسه بمزاعمه الرائعة عن الديمقراطية والكرامة لجميع المواطنين في الداخل. كان عبد الناصر في الرابعة والثلاثين من العمر إبان انقلاب عام 1952 والدولة العربية الوحيدة التي زارها بخلاف مصر قبل صعوده للسلطة كانت السودان، لكن آنذاك جمعته معرفة شخصية ببعض العراقيين والسوريين والفلسطينيين. وبعبارة أخرى، قامت رؤيته للوحدة العربية على وهم، تبخر ما إن اصطدم بالواقع ممثلا في محاولات التحالف مع الدول العربية الأخرى، وفشل هذه التحالفات، وأشهر مثال على ذلك هو التحالف المصري السوري. غير أن التأثير التراكمي للانقلاب العسكري الذي قاده كانت له تبعات كارثية على المدى الطويل وعلى نطاق العالم العربي الكبير كله . تلخص لورا إم هذا في كتابها «ناصر في الحرب: التصورات العربية للعدو» (2006)، فتقول: «ألهم انقلاب عبد الناصر حركات مماثلة أدنى، قامت بها جماعات سرية من الضباط الأحرار في جميع أنحاء العالم العربي، وأسفرت عن حمامات دم في العراق، ومسرحية مظهرية خادعة في اليمن، ومهزلة في ليبيا.» أما قرار ناصر بخوض الحرب بالوكالة عن اليمن ضد المملكة العربية السعودية في الستينيات بإرسال ثلاثين ألف جندي من أفضل جند مصر إلى ذلك البلد القبلي العربي الجنوبي - ليترك بذلك مصر بدفاع هزيل في عام 1967 - فلم يكن خطأ تكتيكيا وحسب، فلقد نم أيضا عن رياء صارخ، بالنظر إلى أنه صدر عن رجل عارض التدخل الأجنبي في بلاده ووضع الوحدة العربية على قمة أجندة سياسته الخارجية، إلا أن الرياء كان سمة مميزة لعهد عبد الناصر منذ البداية. فلو لم تكن المخابرات المركزية الأمريكية وراء هذا الانقلاب العسكري «المناهض للإمبريالية»، فهي بلا شك كانت على علم مسبق به. وقد أثبت عبد الناصر فيما بعد استعداده التام للعمل مع الأمريكيين إلى أن انقلبوا ضده، بل حتى قوانين إصلاح الأراضي كانت جزءا رئيسيا من سياسة الولايات المتحدة الخارجية آنذاك التي تهدف إلى منع انتشار الشيوعية في المنطقة.
أما في مصر، وكعادة زعماء القرى، رقى عبد الناصر المقربين له في المناصب بناء على ولائهم الشخصي لا على أهليتهم، وأشهر مثال على ذلك هو عبد الحكيم عامر الذي عينه عبد الناصر رئيسا لأركان الحرب، ثم نائبا أول له، والذي لم يتخلص منه إلا بعد أن قادت مشوراته العسكرية - التي قدمها بناء على تكهنات غير واقعية وحرص أبدي على إرضاء صديقه القديم بدلا من إخباره بالحقائق القاسية - مصر إلى الهزيمة في عام 1967. لقد شكل الضباط الأحرار الذين أحاطوا بعبد الناصر وعامر وغيرهما من قادة الانقلاب دوائر سلطة، تكرس مجهودها كله للحرب التي تلت على السلطة، لكن هذه النخبة الجديدة الفاسدة لم تتمتع بأي من سمات الأرستقراطيين الذين استبدلتهم وأذلتهم، الذين انغمسوا في الملذات لكن تمتعوا مع ذلك بثقافة رفيعة. مارست هذه النخبة الجديدة الفاسدة من موقعها الجديد ما مارسه الأرستقراطيون على الدوام؛ إذ استغلت نفوذها، وانتزعت من كل صفقة استيراد أو تصدير مهما كبرت أو صغرت حصة لها، وتربحت من مصادرات العقارات (وهو ما يفهم على أنه سرقة)؛ وكل هذا تم باسم الجمهورية والشعب. •••
لكن لم تكن هذه إلا البداية، فقطاع الصحافة الذي تمتع بحرية كبيرة لأكثر من نصف قرن في ظل الملكية التي دعمتها بريطانيا تأمم عام 1960 بعد سنوات من القهر، وصار رؤساء التحرير الأوفياء الذين عينهم عبد الناصر بنفسه أكثر وفاء للثورة والجمهورية من مؤسسيها أنفسهم. على سبيل المثال: برز محمد حسنين هيكل الذي عين رئيس تحرير لجريدة الأهرام اليومية الأكثر مبيعا - التي تأسست في منتصف القرن التاسع عشر - كأشهر الصحفيين المصريين؛ إذ كانت قراءة عموده الذي يصدر كل جمعة ضرورة لكل من أراد أن يعرف ما يدور بخلد عبد الناصر، وهذا في حد ذاته اتهام صارخ للصحافة المطبوعة في ذلك الوقت. زعم الكثيرون أن هيكل هو المروج والرقيب الأول لعبد الناصر، بصرف النظر عن فصاحة عباراته، واتهم هو وغيره من المحررين بإخماد روح أعظم الصحف المصرية اليومية؛ فإلى اليوم لا تزال الصحف الرسمية الحكومية تصدر وصفحتها الأولى تتقدمها وجوبا العناوين التي تمتدح آخر خطابات مبارك السخيفة عن القضايا الداخلية والدولية، فقط لأن التمويلات الحكومية التي تحابيها وشبه الاحتكار الذي تمارسه الحكومة على الدعاية الصحفية هو ما يساعدها على البقاء ويمنعها من الغرق في الديون.
علاوة على هذا، حظر عبد الناصر أنشطة الأحزاب السياسية المعارضة التي نما دورها هي الأخرى في مصر قبل الثورة. وجاءت التبعات كارثية بقدر ما كان هذا الإجراء نفسه؛ فنشأ نظام شمولي بقيادة حزب واحد، يضمن احتكار الجيش للسلطة السياسية، برز فيه ناصر - الذي لم يخض انتخابات رئاسية قط - بوصفه صاحب اليد العليا بعد صراع داخلي مرير على السلطة مع زعيم الجمهورية الأول اللواء محمد نجيب. وكانت للهيئات التنفيذية التي تأسست للفصل بين السلطات - شأنها شأن كتاب أعمدة الرأي - عرضة للترهيب بسهولة، ففشلت بدورها في توجيه نقد حقيقي للمساوئ التي ارتكبها مخططو الانقلاب. وتأسس جهاز أمن واستخبارات واسع النطاق للتجسس على الشعب والسيطرة عليه، تفوق تفوقا كاسحا على شبكة التجسس التي أسسها الملك فاروق؛ ملك مصر الأخير التعس، وأحكم قبضة الضباط على السلطة.
أما عن جماعة الإخوان المسلمين (التي تأسست عام 1928 باعتبارها جمعية خيرية شعبية تهدف إلى إعادة عموم أفراد الشعب إلى أصول الإسلام؛ وفق تفسير الإخوان)، فقد سجن ناصر عشرات الآلاف من أعضائها وعذبهم إلى أن لقي العشرات منهم حتفهم، ولعل أشهرهم هو سيد قطب، الذي أرسى - من نواح عديدة - المبادئ الفكرية للإرهاب الذي ابتليت به فيما بعد مصر وغيرها من الدول في مختلف أنحاء العالم العربي والعالم. ومن نجا من تلك التصفية من الجماعة فر مؤقتا إلى دول الخليج العربي شديدة التشبث بالمحافظة، وتشرب بالفكر الوهابي المتطرف الذي عززته الأسرة السعودية الحاكمة. ويتنافى هذا الفكر تماما مع مبادئ التسامح والتعدد الإسلامية السائدة في مصر، لكن الإخوان المسلمين سيحملونه في نهاية الأمر معهم عندما يدعوهم أنور السادات للعودة إلى البلاد في السبعينيات لمواجهة المعارضة الماركسية التي ظهرت إبان حكم عبد الناصر. لقد شنق الكثير من قادة الإخوان المسلمين الذين ظلوا بمصر، وعلى المدى الطويل كانت التبعات الثقافية لهذا الفكر الوهابي المنقول كارثية، لا سيما فيما يخص الأقلية المسيحية التي يرميها الفكر الوهابي - وربما السياسة الرسمية للإخوان - بالكفر؛ تماما كما يرمي اليهود والصوفيين بالكفر أيضا.
لكن تبين أيضا مدى استعداد الضباط الأحرار لقمع منافسيهم العلمانيين غير الأصوليين باسم حرية الشعب، في الأشهر التي تلت الانقلاب العسكري عندما حوكم قادة مظاهرات عمالية وأعدموا على عجل، فبعثت تلك المحاكمات الصورية رسالة واضحة إلى كل من يجرؤ على مخالفة النظام.
هكذا أسس ناصر في غضون بضع سنوات قواعد دولة بوليسية تحكمها ديكتاتورية عسكرية تصطفي من بين صفوفها رئيسا ذا صلاحيات شبه مطلقة. وظلت مصر خاضعة لقانون الطوارئ (أي الأحكام العرفية) منذ عام 1952 حتى الآن باستثناء فترة لم تدم سوى ثمان سنوات فقط. ووفقا لمنظمة العفو الدولية، تضم سجون مصر اليوم ثمانية عشر ألف معتقل بلا تهمة. ولما صدر أخيرا تعهد في عام 2007 بالتخلص من قانون الطوارئ قوبل بالسخرية؛ لأن النظام أدخل معه تعديلات متزامنة على الدستور جعلت أسوأ ملامح القانون دائمة إلى الأبد. فالنظام العسكري الذي يرأسه مبارك يخلص لمدرسة عبد الناصر، وهذا يتضح أشد الوضوح من رفضه أن يخاطر بفقدان السلطة إن سمح لمؤسسات الدولة أن تكون ديمقراطية بالفعل، مما من شأنه أن يطلق حرية الرأي العام، لا سيما بعد أن صار الرأي العام يجد أفضل تعبير له (بفضل أخطاء النظام) في حملات الكراهية الشرسة التي يستبدلها الأصوليون الإسلاميون بالمناقشات الحقيقية. ولا تزال المؤسسات إلى اليوم وإلى حد بعيد تديرها شخصيات تدربت سياسيا على يد النظام الذي سبق وفاة عبد الناصر.
وصف مبارك ثورة 1952 في احتفال بالذكرى الخمسين لها في خطابه أمام خريجي الكلية الحربية التي تخرج منها بأنها «المجد الذي توج كفاح الشعب المصري»، وهو ما لا يدع مجالا للشك في اتجاه ولائه الشخصي. •••
هكذا، لا تزال آليات النظام المستبد التي أسسها عبد الناصر على حالها إلى اليوم، على الرغم من مرور أكثر من خمسين عاما اتسمت بوقوع تغيرات اجتماعية واقتصادية هائلة في مصر. ولا عجب إذن في ظهور ذلك الحنين إلى العهد الذي سبق الثورة والذي وظف ببراعة في رواية عمارة يعقوبيان. فينظر اليوم الليبراليون والمفكرون المتأثرون بالغرب والعامة المنشغلون بتوفير نفقات معيشتهم إلى تلك الحقبة على أنها عصر ذهبي بائد، وإن كانت تلك نظرة رومانسية. والشواهد على ذلك نجدها في كل مكان. على سبيل المثال: عقب الثورة، حظرت الألقاب كلقب باشا (الذي يشير إلى رتبة كبيرة في النظام السياسي للإمبراطورية العثمانية) ولقب بك (الذي يشير إلى رتبة أقل من الباشا)، دلالة على محو المراتب الطبقية وألقاب الشرف. لكن تلك الألقاب عادت من جديد، والمفارقة أن أكثر من يستخدمها هم من سعى إلى محو الألقاب الإقطاعية؛ من المسئولين الحكوميين وكبار الضباط ووكلاء الوزراء ومن يتبعونهم. وقد اتضح لي التغير الذي طرأ على أقدار تلك الألقاب في التسعينيات، حين خاطبت مارا كنت أعرفه داعيا إياه باشا، فانزوت بي جانبا امرأة مصرية مسنة - كانت قد انتقلت للعيش في أستراليا عقب انقلاب عام 1952 وعادت إلى مصر مؤخرا لتساعد في وضع المنهج الدراسي لمدرسة اللغة العربية التي كنت أدرس بها - وقالت ناصحة إياي بلهجة جادة: «هذا الرجل سيغضب بشدة إن استخدمت هذه الألقاب». وفيما بعد سألت معلمتي إن كان هذا صحيحا، فضحكت ضحكة مكتومة ثم قالت لي إن تلك العجوز لا تزال تعيش في مصر في حقبة الخمسينيات فيما يبدو.
تتناول كتب لا حصر لها الآثار السلبية لانقلاب عام 1952، أحدها كتاب عالم الاجتماع المصري القدير جلال أمين «ماذا حدث للمصريين؟ تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945-1995» الذي يأسى فيه على التغييرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على مصر بعد الثورة بمقارنتها بقصص ساحرة عن طفولته قبل الثورة. حاز الكتاب جائزة في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1998 وبيعت منه العديد من النسخ بالعربية والإنجليزية، حتى إن جلال أمين أصدر كتابا ثانيا استكمالا للموضوع نفسه حقق أعلى المبيعات بعنوان: «ماذا حدث أيضا للمصريين؟ مصر من عهد الثورة إلى العولمة». غير أن جلال أمين ليس المثال الوحيد. كتبت ليلى أحمد، وهي باحثة أكاديمية مقيمة في الولايات المتحدة، ولدت لعائلة من الطبقة العليا في القاهرة في الفترة بين الحربين العالميتين في سيرتها الذاتية التي حملت عنوان «عبور الحدود» (الصادرة عام 2000)، تقول: «نشأت في آخر أيام الإمبراطورية البريطانية، وعشت طفولتي في عهد لم تكتسب فيه كلمتا «الغرب» و«الإمبريالية» الدلالات التي اكتسبتاها اليوم.» ومثل الكثير من السير الذاتية المماثلة التي نشرت في الغرب لمصريين يحاولون تصحيح ماضيهم قبل الثورة، تصف هذه السيرة ببراعة كيف أن الكثير من أسر الطبقة العليا والوسطى لم تر تناقضا بين إيمانها المخلص القوي بقوميتها وبين حرصها على أن تعهد بتنشئة أبنائها إلى معلمين غربيين، من المفترض أنه أن لا يمكن الاعتماد عليهم في تأجيج مشاعر مناهضة الاستعمار لدى طلابهم. تتناول السيرة ببراعة جيلا نشأ في مجتمع راقي متعدد الثقافات ، تعد الاختلافات الفردية فيه مهمة بقدر أهمية الطموحات الوطنية.
آنذاك كان الظلم المؤكد الراسخ في المجتمع المصري، والتلاعب السياسي الانتهازي للقوى السياسية الخارجية بالسياسة المصرية؛ تلطف من حدته بقدر ما ثقافة تسامح وتعددية وعقلانية وفخامة في المعمار جلبها الأجانب، وعززتها الطبقة الأرستقراطية المنحدرة من الدولة العثمانية، واستقت منها الحركة القومية المصرية نفسها إلهامها عندما عارضت الحكم البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر. لذا استطاع الزعيم الوطني العظيم سعد زغلول - الذي أثار نفي الإنجليز له في عام 1919 الشعب المصري لصنع ثورة صغيرة قادت إلى استقلال جزئي عن الاستعمار البريطاني - أن يقول باعتدال عن الغربيين في بلاده: «ليست بيني وبينهم خصومة شخصية ... لكنني أود أن أرى مصر مستقلة.» هذا الرأي المثير للجدل عن حقبة ما قبل الثورة يبين أن المصريين اعتنقوا أفضل ما أنتجته ثقافة العالم؛ إذ كانوا ظاهريا أقل تشددا دينيا من اليوم، ولكن أكثر تشبثا بالأخلاق، ومن ثم أكثر احتراما لرسالة الإسلام الجوهرية التي يعبر عنها العمل الصالح، وليس فقط الحرص على الشعائر الدينية الصارمة، وإصدار عدد لا حصر له من الفتاوى الغامضة والبغيضة في أحيان كثيرة. لقد أخضع علماء الإسلام آنذاك القرآن نفسه للدراسة والتحليل العقلاني؛ لحرصهم على دمج مبادئ العصر الحديث والديمقراطية في الدين الإسلامي.
بل حتى الملك فاروق رد له اعتباره، ففي رمضان الموافق سبتمبر/أيلول عام 2007، كان البرنامج الأكثر شعبية في مصر والعالم العربي لدى من يتاح لديهم إرسال تليفزيوني عبر الأقمار الصناعية، هو مسلسل تليفزيوني قصير يصور صعود الملك فاروق إلى السلطة وسقوطه منها، مسلطا الضوء على «الجانب الإنساني» للملك. أنتجت قناة إم بي سي الفضائية السعودية المسلسل وبث على قناة أوربيت السعودية التي تتمتع بشعبية مكافئة، لكنه لم يذع في البداية على التليفزيون القومي المصري الذي يقال إن المسلسل كتب ليعرض عليه قبل خمسة عشر عاما؛ إذ رفضت الحكومة المصرية تمويله لدواع سياسية. لكن إم بي سي قررت تمويل إنتاجه - على الرغم من محاولة المسئولين الحكوميين المصريين إعاقة إنتاجه برفض إصدار التصاريح لطاقم المسلسل للتصوير في المواقع والقصور الملكية والأماكن التي شهدت أحداثه الواقعية - ومن الصعب ألا يخطر ببال المرء أن قرار قناة إم بي سي قد يكون قائما - جزئيا على الأقل - على دواع سياسية؛ إذ لم يضع كاتبو أعمدة الرأي في الصحف التي تمولها المملكة العربية السعودية وقتا قبل أن يشيدوا بفضائل الملك فاروق، وهم يمتدحون أسر الخليج الحاكمة التي نجت من محاولات ناصر لتقويضها. وأذعن التليفزيون المصري للضغوط التجارية، وأعلن أنه سيعيد عرض المسلسل في ساعة المشاهدة القصوى بعد أن تبين أنه من أكثر المسلسلات الرمضانية نجاحا على مدى سنوات.
بعد يوم 23 يوليو/تموز الحاسم عام 1952، ألقيت القاهرة - «باريس النيل»، كما أسميت حبا فيها من قبل الأجانب الذين تدفقوا عليها وساعدوا في تصميمها وبنائها وإدارة شئونها إبان القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين - في مزبلة التاريخ كما يقال في المثل الشائع. شاعت المشاحنات لتحل محل الود بين المصريين والأجانب، وصودرت ممتلكات الأجانب طبعا، فاختاروا في نهاية الأمر مغادرة البلاد مع الأرستقراطيين، أو أجبروا على الفرار منها بعد حرب قناة السويس عام 1956. ويستدل على كراهية عبد الناصر المطلقة للأجانب من خلال طرده لنصف يهود مصر الذين ربطت أجهزة الدعاية لنظام عبد الناصر اسمهم بدولة إسرائيل الناشئة. وهذا مثال على حملات ضغط عديدة (استهدفت إحداها الإخوان المسلمين) استخدمها عبد الناصر لصرف الانتباه عن عيوب نظامه، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. وفي حالة اليهود، لم تضعف هذه الحملات بالقطع مع محاولات إسرائيل المتخبطة لتجنيد وتمويل مجموعة صغيرة من يهود القاهرة لتنفيذ أعمال إرهابية في القاهرة؛ سعيا لإثارة الفتن الاجتماعية والاضطرابات السياسية. لكن إن كان معيار الحكم على الديمقراطية هو الحماية التي توفرها للأقليات الدينية وغيرها من الأقليات، فإن رحيل اليهود إلا قليلا جدا منهم عن مصر، مع تحول كلمتي «يهودي» و«إسرائيلي» إلى مترادفين في سياق المحادثات العابرة المعادية للسامية بين المصريين أنفسهم، يكشف بوضوح ملامح ميراث عبد الناصر «الديمقراطي»، كما تدل عليه حقيقة أن المعبد اليهودي الرئيسي بالقاهرة تحيط به حراسة أمنية يوفرها الجيش على مدار أربع وعشرين ساعة يوميا. •••
يقول الباحث العربي الأمريكي فؤاد عجمي إن شعورا رهيبا بخيبة الأمل والإحباط يكمن الآن في أعماق الحياة المصرية. حاز العجمي احتراما واسع النطاق كمراقب للتيارات السياسية والثقافية العربية، لكنه انتقد عقب دفاعه الحماسي عن الغزو المشئوم للعراق بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003. أوضح عجمي في مقال عن حنين المصريين إلى الماضي نشر عام 1995 في صحيفة فورين أفيرز أن فخر مصر الحديثة يتجاوز بكثير حجم إنجازاتها، والشواهد المحزنة على ذلك قائمة في كل مكان؛ «في الفقر الذي تعانيه الطبقات الدنيا، في الساحة السياسية الكئيبة التي تسمح لضابط عادي باحتكار السلطة السياسية والحط من قدر منافسيه في المجتمع المدني، في اتجاه البلاد إلى السقوط في هاوية الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، في الوضع التعليمي والثقافي البائس.» هذا الشعور بالإحباط كما يرى عجمي ولد موجة قوية من الشعور بالحنين إلى حقبة السياسة الليبرالية في مصر التي امتدت من العشرينيات إلى ثورة 1952، إلى الديمقراطية البرلمانية والملكية الدستورية؛ إلى «الحياة السياسية النابضة بالحيوية والصحافة النشطة التي اتسمت بها تلك الفترة، إلى ثقافة رجال الأدب والفن الرفيعة، والمرأة الحرة التي تعبر عن نفسها وتحفر لها مكانا في الحياة السياسية والثقافية والصحافة». يقول عجمي معترفا بأن بعضا من تلك الأماني هو «نموذج لحنين مجتمع مزدحم مثقل بالهموم لعهد براءة وعظمة مفقود.» ويضيف عجمي: «لكن بعضها الآخر هو تعبير مشروع عن الاستياء من تواضع أحوال الحياة العامة.» ويرى العجمي أن مصر أفرزت في العهد الليبرالي سينما تتمتع بحرية أكبر من اليوم، عندما كان قادة الفكر فيها عمالقة يطرقون بقوة القضايا المعاصرة الهامة، ويضفون على الأدب المصري والعربي لمسة من العبقرية الخالصة.
هذا الشعور باليأس وما تولد عنه من حنين إلى الماضي، زاد عمقا على مدار العقد الذي مر منذ ظهور مقال فؤاد عجمي. قال عوض المر كبير قضاة المحكمة الدستورية العليا السابق في الذكرى الخمسينية لانقلاب عام 1952: «لا أعتقد أن ثورة عام 1952 كان لها أي ميزة إيجابية، طالما لا تزال الديمقراطية مفقودة. فشلت الثورة فشلها الأكبر في تحقيق الديمقراطية، وهو ما أدى في رأيي إلى هزيمتنا عام 1967. ولم تشهد مصر حكومة ديمقراطية منذ عام 1952 حتى الآن ... الثورة حملت شعار «ارفع رأسك يا أخي؛ لقد ولى عهد الذل والاستبداد»، لكنها بعدئذ استبدلت به قدم عبد الناصر التي أحنت الرءوس.» ويبدو هذا الاتهام للوهلة الأولى غريبا بالنظر إلى أنه صادر عن أحد أعمدة النظام الذي خلف عبد الناصر، مع أن القضاء المصري أثبت في أحيان كثيرة أنه شوكة في حلق النظام، سارع عبد الناصر بفصل المئات من كبار القضاة الذين اعترضوا على حكمه الديكتاتوري. وفي الواقع، بحلول عام 2006، صار كبار قضاة الدولة الذين احتجوا على فساد الانتخابات التي خولوا دستوريا بالإشراف عليها لكن منعهم نظام مبارك من مراقبتها؛ بمنزلة قادة غير رسميين لحركة احتجاج واسعة النطاق جذبت قطاعات المجتمع المصري كافة: من مفكرين علمانيين، إلى طلاب، إلى نشطاء عماليين، إلى إسلاميين معتدلين. وبدا لوهلة أن النظام يتداعى بفعل القوى التي تعارضه سواء التي تدخل في نطاق سيطرته أو تخرج عنها؛ إذ شهدت مصر الاضطرابات الأوسع نطاقا على مستوى البلاد منذ عهد الثورة. لكن هذه المرة احتشد المضربون والمتظاهرون في مواجهة الكساد السياسي، ووحشية نظام حسني مبارك الصارخة؛ فمبارك شأنه شأن سلفه (وخليفة عبد الناصر)، أنور السادات، رجل عسكري، وهو آخر حماة نظام عبد الناصر العسكري الفاسد غير الديمقراطي الذي ما زال يقبض على المجتمع المدني بقبضة من حديد.
إلا أنه في الوقت الذي وضع فيه عبد الناصر قيودا شخصية صارمة على مدى استعداده للتنازل عن السيطرة على بلاده لحساب بريطانيا والولايات المتحدة من بعدها، عن طريق تأميم قناة السويس في خطوة استراتيجية بارعة، أنهت فعليا سيطرة الاستعمار الإنجليزي على مصر وعلى المنطقة ككل؛ فإن مصر في عهد مبارك أضحت بطريقة ما أكثر اتكالا على الولايات المتحدة؛ الإمبريالية الجديدة، صاحبة القرار في المنطقة. وقد شبه الزعيم العراقي الراحل صدام حسين - الذي امتلك نوعا ما باعا في صفقات الخداع والمساومات التي يعقدها طغاة الحكام العرب للتشبث بالسلطة - مبارك بأسلوب لاذع بأنه «مثل هاتف العملة؛ تضع فيه النقود فتحصل على ما تريد.» لكن عامة المصريين يشعرون بالسخط والمذلة لاعتماد النظام المصري باستمرار على عطايا الولايات المتحدة (التي تمد مصر بمساعدات عسكرية قدرها مليارا دولار سنويا منذ معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل عام 1979، وهي مساعدات ينظر البعض إليها على أنها رشوة للإبقاء على السلام البارد مع الدولة العبرية). هذا لأن عامة المصريين بادئ ذي بدء لا ينتفعون بأي حال من الأحوال بتلك الأموال، بينما يجدون الفجوة بين الفقراء والأغنياء تتسع أكثر فأكثر. وربما يكون السبب الأهم في هذا البلد الذي ترسخ فيه الشعور بالفخر بالهوية القومية هو أن المصريين يمقتون أيضا جسارة سياسات الولايات المتحدة على الصعيد العسكري في المنطقة ودور حكامهم في ذلك، لا سيما لتعاطفهم القوي مع القضية الفلسطينية، ولأن قطاعا كبيرا من المصريين ينظر إلى الاحتلال الذي قاده المحافظون الجدد الأمريكيون لغزو العراق على أنه احتلال تم بأمر عصبة من المتآمرين المعاونين لإسرائيل في واشنطن.
عادت مصر من حيث بدأت بعد خمسة عقود من الانقلاب العسكري. أصبحت المظالم نفسها التي قادت إلى تمرد استغله الضباط الأحرار هي الأساس الذي انطلقت منه مظاهرات جديدة في الشوارع، ومقالات ساخطة في وسائل الإعلام المعارضة الصاعدة، تطالب بسقوط الاستعمار ومعاونيه، وانتهاء سيطرة الرأسماليين الاستغلاليين على الحكومة وإهمال العدالة الاجتماعية، وتنادي بالحاجة إلى نظام حكم ديمقراطي لا يكتفي بتقديم وعود كاذبة. فمع وجود (ولي العهد)، ابن مبارك المتغطرس المتأنق جمال مبارك، الذي يرى الكثيرون أنه يعد لخلافة والده المعتل في الرئاسة، لن يرى أي اختلاف بين النظام الحالي والنظام الملكي الذي أطاح به عن السلطة قبل خمسة عقود باسم تحرير الشعب المصري. إن الحنين إلى عهد الملكية لا يختلف عن اشتياق أهل السلف إلى نقاء عهد محمد وأتباعه؛ إنها رغبة يائسة في العودة إلى الماضي، في حاضر شديد البؤس. •••
لكن حتى مع إقرارنا بالآثار السلبية المؤكدة للحكم الاستعماري المباشر أو غير المباشر، فإن النظام المصري الحالي يفشل على جميع المستويات عندما يقارن بالنظام الملكي الذي سبق الثورة، والذي ساهم غزو نابليون بونابرت القصير لمصر عام 1798 في تأسيسه؛ فالانقلاب الذي قاده عبد الناصر قضى على كل ما هو جميل بمصر، ورويدا رويدا أبدل كل ما هو سيئ بما هو أسوأ كثيرا. لقد جاءت الدولة المصرية الحديثة نتيجة عرضية لمحاولات نابليون بونابرت للاستيلاء على مصر وللهزيمة المذلة التي لاقاها على يد الإنجليز والتي أنهت تلك المحاولات. لقد تطورت على مدار القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على غرار تطور أوروبا، لا سيما تحت قيادة الخديوي إسماعيل وجده محمد علي الذي يشار إليه كثيرا على أنه «مؤسس مصر الحديثة»، والذي حكم أحفاده مصر مع التمتع بدرجات متفاوتة من السلطة حتى حفيد حفيده الملك فاروق الذي أزاحه عبد الناصر في نهاية الأمر عن السلطة في عام 1952.
بعد أن رحل الفرنسيون عن مصر، ظل الجيش العثماني الذي حكم مصر منذ عام 1517 في البلاد، عازما على الوقوف في وجه إحياء سلطة المماليك واستقلال مصر عن الحكم العثماني، لتخضع مصر لحكم الحكومة العثمانية المركزية. شكل المماليك طبقة أرستقراطية من الرقيق الأبيض حكمت مصر باعتبارها دولة مستقلة منذ عام 1250 إلى عام 1517 ثم ظلوا بها رعايا عثمانيين شكلوا الطبقة العليا في المجتمع المصري. إلا أنهم استعادوا السلطة في القرن السابع عشر؛ فأعادوا تجديد صفوفهم من خلال أسواق الرقيق على مدى مائتي عام حكموا فيها بالاستبداد. وفي غمرة الفوضى التي خلفها رحيل نابليون، ظهرت طبقة حاكمة جديدة ذات نفوذ شكلت من فرقة عسكرية ألبانية ألحقت عام 1801 بالقوات العثمانية لمحاربة الفرنسيين، ودانت اسما فقط بالولاء للحكومة العثمانية، وتورطت في الصراع بين المماليك والحكومة العثمانية. قاد تلك الفرقة محمد علي نفسه الذي كان جنديا مرتزقا أتى مصر قائدا صغيرا في القوات الألبانية، وبلغ بحلول عام 1803 مرتبة القائد الأعلى ثم انتخبه أولو النفوذ من شيوخ الدين بالقاهرة واليا على مصر عام 1805 بعد أن عزز شعبيته؛ ولما خلع عليه العثمانيون لقب والي البلاد خطط لتصفية منازعيه، وهذا ما فعله ببراعة في مارس/آذار عام 1811 حين اغتال أربعة وستين مملوكا من بينهم أربعة وعشرون بيك عقب دعوتهم لحفل رسمي. وهكذا أصبح محمد علي صاحب السلطة الأوحد في مصر، وسنحت له فرصة فريدة لتوحيد أمة توشك الفوضى على ابتلاعها.
كان انفصال مصر النهائي عن الدولة العثمانية أحد أكبر طموحات محمد علي، إلا أنه أدرك أن البلاد يجب أن تتمتع بالقوة الاقتصادية والعسكرية لتحقيق هذا؛ ومن ثم تملق الأوروبيين من البداية، مغدقا الثروات على باريس ولندن لدى التفاوض معهما واحدة وراء الأخرى. وتقف مسلة رمسيس الثاني في قصر الكونكورد بباريس ومسلة كليوباترا على سد نهر التايمز بلندن شاهدا على ذلك إلى اليوم. وشرع أيضا في بناء المصانع الجديدة التي تستخدم آلات مستوردة، وأحاط نفسه بالمستشارين الأوروبيين المهرة عاكفا ساعات طويلة على العمل وزيارة مشاريعه المفضلة، وغمس نفسه في تكنولوجيا العصر الجديدة المتقدمة؛ فيذكر على سبيل المثال أنه ضحك ضحكا شديدا عندما تلقى صدمة كهربية بسلك مشحون بالكهرباء عند توضيح كيفية عمل الكهرباء له. كما تعهد بالرعاية أنبغ من التقاهم بالقاهرة، الخبراء المتفانين في عملهم الذين أتوا من خلفيات متنوعة مثله؛ من مهاجرين أرمن إلى خبراء ماليين أقباط، وشكل هؤلاء بيروقراطية جديدة وجيشا تحت رئاسته الشخصية المباشرة. وسمح الحكم المركزي والسلطة التي تمتع بها هذا الألباني الذي ولد في مقدونيا باتخاذ مبادرات هامة أسست قواعد النظام التعليمي المصري، وأحيت الحياة الثقافية، وأصلحت النظام الزراعي بإلهام من باريس التي تطلع إليها محمد علي دائما. تعود المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية التي ظهرت في الأجيال التالية إلى تلك الحقبة، لكن حتى مع نهاية عهد محمد علي، كان لدى البلاد طاقم من الموظفين البيروقراطيين، وجيش من الضباط عازم على إصلاح البلاد على النمط الغربي وتحقيق استقلالها.
من أهم إنجازات محمد علي أنه شجع زراعة القطن لتصديره إلى مغازله الآخذة في الانتشار بأوروبا، لتمول عائداته الرواج الاقتصادي الذي شهدته البلاد في عهد حفيده الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر من عام 1863 إلى عام 1879. فمع تطلع بريطانيا بلهفة إلى مصر لإمداد ليدز ومانشيستر بالقطن لتوقف الولايات المتحدة عن تصديره إبان الحرب الأهلية بين عامي 1861 و1865، ارتفع سعر القطن المصري. ومع تدفق الأموال على الخديوي إسماعيل، أخذ في استكمال طموحات جده بتأسيس مشروعات عامة عظيمة كحفر القنوات واستصلاح الأراضي وإنشاء المدن وإقامة البنى التحتية، فشرع في غضون عام واحد في بناء أربعمائة وخمسين جسرا وستة وأربعين مصنع قطن، وإنشاء سكك حديدية تمتد إلى ما يقرب من ألف ميل. كما أسس اتحاد البريد العام، وامتدت خطوط التلغراف جنوبا في البلاد حتى السودان، فأصبحت مصر في غضون وقت قصير تتمتع بأحد أكفأ خطوط البريد في العالم، وتخلصت أخيرا من صورتها باعتبارها بؤرة راكدة من الإمبراطورية العثمانية تحكمها طبقة من العبيد مع تدفق المهندسين المعماريين والفنانين والساسة والموسيقيين إلى القاهرة ومدينة الإسكندرية الساحلية المطلة على البحر المتوسط.
كانت زيارة إسماعيل للمعرض العالمي بباريس في ساحة عرض تشامب دي مارس عام 1876 زيارة فارقة، وكان لها آثار شديدة الأهمية على مصر؛ فعقب زيارة المعرض بوقت قصير صرح إسماعيل تصريحا شهيرا قال فيه: «لم تعد دولتي جزءا من أفريقيا، نحن اليوم جزء من أوروبا.» واغتنم إسماعيل فرصة افتتاح قناة السويس عام 1869 لبناء أحياء جديدة على النمط الغربي ذات متنزهات فخمة وشوارع واسعة وقصور لاستضافة ضيوفه الأوروبيين، رغبة في أن يصنع للقاهرة ما صنعه البارون جورج هوسمان لباريس. وفتح إسماعيل أبواب المجتمع المصري واقتصاده للكثير من الأوروبيين، ولما تولى البريطانيون إدارة الخزانة المصرية (ومن ثم إدارة البلاد) عام 1882 عقب أزمة مالية من تدبيرهم؛ تدفق مئات الآلاف من الأوروبيين على مصر بحثا عن المال والثروة، حيث استقر بهم المقام في القاهرة والإسكندرية وأنشئوا أحياء لهم وأسسوا وأداروا شركات على النمط الغربي. أرسى إسماعيل بعبارة أخرى قواعد مدينة القاهرة، فمهد شوارعها وعبد طرقها الطويلة وأنشأ بها الحدائق والمتاحف والعمارات السكنية والنافورات على الطراز الفرنسي، وأسس بها دار أوبرا من طراز عالمي (عرضت أوبرا عايدة التي ألف موسيقاها فيردي لأول مرة في القاهرة في ديسمبر/كانون الأول عام 1871 بسيناريو كتبه ماريت باشا). قامت مدينة أوروبية بين ميدان العتبة والنيل، ونشأت طبقة وسطى مصرية جديدة انتشرت شمالا. وفي ذلك كتبت سينثيا مينتي في كتابها «باريس على النيل: فن العمارة في قاهرة الزمن الجميل» (1999) تقول إن سكان القاهرة وزائريها وجدوا فيها «متاجر الكتب الإنجليزية والفرنسية، وصالات شاي، ومقاهي مطلة على الطريق، وبوتيكات شهيرة، ومعارض للفنون، ومتاجر متعددة الأقسام ... وأقيمت فنادق شهيرة كفندق شبرد وسافوي وسميراميس وإيدن بالاس. وفيما بعد ظهرت دور السينما وحلبات التزلج الترفيهية.»
ومع أوائل القرن العشرين، في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين، بعدما منحت بريطانيا مصر السيادة الاسمية على أرضها، وأضحت البلاد خاضعة لحكم ملكية دستورية وديمقراطية برلمانية تسيطر على كافة شئون البلاد عدا الأمن القومي وقناة السويس، أصبحت القاهرة أكثر مدينة متعددة الثقافات في العالم. لكن قبل ستة أشهر من اندلاع ثورة 1952، في يوم يذكره التاريخ باسم يوم السبت الأسود، أضرمت حشود من الغوغاء المعادين لبريطانيا النيران في معالم القاهرة الغربية الشهيرة، ومن بينها نادي تيرف وفنادق هامة وبنوك ودور سينما ومقار ضيافة، فتحول جزء كبير من القاهرة إلى رماد يحترق تحت غطاء كثيف من الدخان. واستغل الضباط الأحرار تلك القلاقل واسعة الانتشار للاستيلاء على السلطة بعد ستة أشهر. ولما فعلوا لم يرثوا عن النخبة السابقة ثراءها وفسادها وحسب، بل اضطلعوا أيضا بمسئولية بناء العاصمة. •••
كتب فنان وناقد وكاتب القرن التاسع عشر جون راسكين يقول: «فن العمارة هو فن إتقان تصميم وتجميل الصروح التي يشيدها الإنسان ... إلى حد يسهم في صحته النفسية وطاقته وبهجته.» وأكثر من يؤمن بهذا الرأي في القاهرة في وقتنا الراهن هو سمير رأفت وهو مؤرخ هاو بارز ينحدر من عائلة أرستقراطية بارزة، ويتمتع بشخصية شديدة الجاذبية، حتى إن مسامرته ساعات تمر كالدقائق. لقد بذل جهدا مضنيا في توثيق تاريخ القاهرة المعماري على مدى العقود الماضية والمدينة تتداعى أمام عينيه، ونشرت الكثير من أبحاثه في كتابه «القاهرة: سنوات المجد» (2003)، الذي ينتقد فيه «الدولة الاشتراكية» في عهد عبد الناصر وخلفائه واصفا إياهم بأنهم إقطاعيو القاهرة الجدد الذين لا يرجى منهم نفع.
يذكر رأفت في مقدمة كتابه أنه قد يصعب على المرء أن يتصور أن القاهرة كانت يوما ما مدينة ساحرة معماريا بالنظر إلى حالها المتدهور اليوم وتخطيطها العشوائي، لكنها شهدت ازدهارا معماريا منقطع النظير من أواخر القرن التاسع عشر إلى خمسينيات القرن العشرين، إذ احتضنت الطرز المعمارية المختلفة جنبا إلى جنب: «كالطراز الباروكي، والنيو كلاسيكي، والفن الحديث والآرت ديكو، والروكوكو الخديوي، والباوهاوس، والأرابيسك، والطرز المتأثرة بعصر النهضة الإيطالي، والطراز الفرعوني الحديث، وكل هذا أنتج نخبة من المباني الراقية. أما المنشآت التي أنشئت بين الستينيات والتسعينيات «فجميعها تقريبا سواء شرق النيل أو غربه ليست ذات قيمة جمالية على الإطلاق؛ لأنها تفتقر تماما إلى الجاذبية المعمارية.» وأصيب المستأجرون الجدد الذين سكنوا تلك المبان العظيمة سابقا برهاب الأجانب، وتوقفوا عن أداء واجباتهم نحو المجتمع. لقد روج في عهد السادات في السبعينيات لسياسة انفتاح اقتصادي لكنها زادت الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وأنتجت بين عشية وضحاها سيلا من أصحاب الملايين الذين ساعدوا في تشكيل طبقة أغنياء جديدة «من الأطباء والمحامين والمصرفيين الذين يتقاضون أجورا كبيرة، ويعملون في المقام الأول على الإبقاء على طبقة الأغنياء الجدد بصحة جيدة، وحمايتهم من الوقوع في الديون، والسجن». وكانوا - كالضباط الأحرار - رجالا لا يتمتعون بحس فني أو رؤية أو شعور بالمسئولية إزاء الوطن، أخذوا في مغادرة القاهرة فرارا إلى مبان سكنية حديثة الطراز في أحياء منعزلة لا حياة بها نشأت في ضواحي المدينة، وتعكس بصورة ملموسة فكرا حضريا يشبه الفكر السعودي، أما أحياء منطقة وسط البلد العظيمة فتركت لتتهالك.
قال لي رأفت وهو يحتسي مشروب الكابتشينو في مقهى مصمم على طراز حديث في منطقة الزمالك، وهي عبارة عن جزيرة راقية تقع في قلب القاهرة كانت فيما مضى مركزا ماليا قديما تركزت فيه الطبقة الأوروبية الرفيعة، لكن الجزء الأكبر من سكانها اليوم يشكله أبناء القطط السمان الجدد المدللين، أصحاب السيارات الفارهة الذين يتكلفون الأساليب الغربية ويتحدثون الإنجليزية بلكنة مريعة، ويقطنون في عمارات سكنية بلا طابع يميزها قامت على أنقاض فيلات أنيقة بديعة، قال: «لا أرى في قلب القاهرة إلا تدهورا من سيئ إلى أسوأ.»
وأخبرني رأفت أيضا أن أهم المشكلات التي أعقبت الانقلاب تولدت بمزيج من التشريعات الحكومية والتغييرات الاجتماعية، لا سيما في أوائل الستينيات عندما صدر قانون ضبط أسعار الإيجار الذي جاء ليكلل القوانين الاشتراكية. قال رأفت شارحا: «كان من المفترض أن يتحسن حال الجميع وأن يجد الكل مسكنا، لكن لم يتحسن حال الكثيرين ولا يزال السكن غير مكفول للجميع. كانت النتيجة الواضحة الوحيدة هي تدهور مظهر القاهرة المعماري تماما: بدءا بالمعالم البارزة إلى المستوى المعيشي إلى أحوال المباني إلى قيمتها. هل ستود مثلا الإنفاق لصيانة فيلا راقية إن كانت تدر مبلغا أقل من 100 دولار شهريا (الحد الأقصى لقيمة الإيجار الذي أقر في الخمسينيات والستينيات ولا يزال قائما إلى اليوم)؟ تأمل على سبيل المثال مبنى صدقي هنا في الزمالك الذي يضم أربعين شقة. هذا المبنى يدر أقل من مائتي دولار شهريا، هل تتوقع جديا أن ينفق ملاكه عليه للعناية به؟»
أوضح رأفت أن المباني قبل الثورة شيدت في مناخ صحي من التنافس الاجتماعي؛ إذ أراد الملاك أن تتمتع مبانيهم بموقع متميز ومظهر فريد يجذب القادرين على تحمل تكاليف الإقامة فيه، ممن يتمتعون بحس جمالي رفيع ينم عن أنهم سيعتزون بهذا المكان الجديد، لكن العهد الاشتراكي أطاح بفكرة الاعتزاز. كل ما أراده الضباط الأحرار هو أن يئووا الناس كالجرذان؛ من ثم كان أي مسكن يفي بالغرض. انتقلنا بين عشية وضحاها من عهد ذي معمار منمق ذي طابع، إلى عهد لا يحمل فيه المعمار طابعا يميزه، وزيادة هجرة الكفاءات زادت الوضع سوءا. هاجر مهندسون معماريون وموسيقيون وملحنون وكتاب ... أغلبهم تضرر تماما. إن كنت مثلا مهندسا معماريا واكتشفت فجأة أن الجهة الوحيدة والأكبر لتوظيفك هي القطاع الحكومي الذي لا يدفع إلا فتات الأجور، فستبحث عن العمل في مكان آخر. من ثم انتقل أفضل مهندسينا المعماريين ببساطة إلى دول الخليج ودول أخرى مثل ليبيا.
يرى رأفت أنه من الجدير بالذكر أن كل هذا تزامن مع ما أصبح آخر فيضانات النيل الذي نظمت دورته المحملة بالطمي حياة المصريين منذ الأزل، والذي كان لترويضه أثر هائل في نفوس المصريين.
يقول رأفت: «وكأننا نفكر في الأمور بطريقة قبل الفيضان وبعد الفيضان. كان الفيضان ينظم سلوك الجميع، ثم بنى عبد الناصر السد العالي وحاصرنا النيل، فانتهى عند أسوان وأصبح من عندها قناة ليس إلا. وفي الوقت نفسه صدرت قوانين تنظيمية جديدة أخذت تسيطر على حياتنا اليومية. فالتعليم الذي يدعى بالتعليم المجاني، قاد في نهاية الأمر إلى الجهل، والرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي المجانيين قادا إلى انعدام الرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية، وفي غمرة كل هذا أصبح الإبداع شيئا من الماضي. شهدت الحياة تدهورا في كافة جوانبها التي كان بالإمكان أن تقود إلى تحسن أوضاع مدينة كالقاهرة أو الحفاظ عليها. وما الذي تبقى لنا اليوم؟ ما الذي طفا على السطح في النهاية؟ إنها القمامة.»
لم يحاول المفكرون كرأفت التصالح مع هذا التدهور علنا إلا في الآونة الأخيرة؛ يعود هذا في جزء منه إلى تزايد شعور الحنين إلى عهد ما قبل الثورة. «لم يعد هناك تخوف من الحديث عن عهد الملكية، وعن الإنجازات الكثيرة التي قدمها الخديوي إسماعيل لمصر مع أن الحديث عن ذلك ظل محرما وقتا طويلا. ظل التاريخ وقتا طويلا يبدأ وينتهي عام 1952، لكننا اليوم نستطيع أن نتناوله بمزيد من الموضوعية وأفكارنا عنه تخضع للكثير من المراجعة. المؤرخون اليوم أكثر احترافا من أي وقت مضى، أكثر احترافا حتى مما كانوا عليه أوائل الثمانينيات، فقبل ذلك، كنا نكتب التاريخ من أجل الحكام دون سواهم، لكن مع الأسف فات أوان معالجة الوضع؛ فقد وقع الضرر، وكل ما بإمكاننا الآن فعله هو محاولة إنقاذ القليل الذي تبقى لدينا.»
كان والد سمير رأفت - الدكتور وحيد رأفت - محاميا دستوريا درس بالفرنسية، ومن أعضاء حزب الوفد القومي البارزين؛ وهو الحزب الذي حكم مصر فترة وجيزة في العشرينيات، ثم حظره الضباط الأحرار مع الأحزاب الأخرى كافة بعد استيلائهم على السلطة. طرق باب منزله في منتصف الليل واعتقله مجلس قيادة الثورة بتهمة الخيانة العظمى، لا لشيء إلا لأنه كتب سلسلة من المقالات تنتقد سياسة عبد الناصر الخارجية، فوضع تحت الإقامة الجبرية سنوات، وفيما بعد كانت مصر الدولة العربية الوحيدة التي عارضت ترشيحه بالإجماع لمنصب في محكمة العدل الدولية، فضاعت فرصته في تولي المنصب. وإن كانت قصة وحيد رأفت بالدرجة الأولى قصة من جانب المجني عليه، فإنها مع ذلك تظل تستحق الإصغاء إليها، لأن عائلته أتاحت لنا رؤية الصورة الشاملة. إلا أنني سألت الابن: لكن إن كانت حقيقة الثورة وما حققته قد خضعا للتبسيط، ألا يكون هناك خطر من تمجيد حقبة ما قبل الثورة؟ ألم يكن هذا عهدا تمتعت فيه قلة بالثروة كلها، وترك فيه نظام شبه إقطاعي أغلب المصريين في فقر مدقع.
فرد علي قائلا: «هذا يعتمد على نظرتك إلى الأمر.»
لا شك أن الفساد والمحاباة تفشيا في عهد فاروق، إلا أن مصر كانت بصدد الانتقال من دولة محتلة - احتلها العثمانيون ومن بعدهم الإنجليز - إلى دولة مستقلة. لقد نشأت ونمت بالبلاد حركة وطنية عظيمة؛ وبعبارة أخرى، لو تركت الحركة الوطنية وشأنها، كانت ستثمر نتائج أفضل بكثير من الثورة التي اعترضت سبيل التطور (التي أطلق عليها بلا وجه حق اسم ثورة)، فمع أن نظام فاروق كانت له مفاسده، نما في عهده شعور بتحسن الأحوال؛ فأخذت حالة الاقتصاد في التحسن، وسار العمل في مؤسسات المجتمع المدني على الطريق الصحيح. ولو أخذنا في الاعتبار قانون العرض والطلب، لوجدنا أن الحركة الوطنية كانت ستعالج الوضع، ولو ببطء. لكن حركة التطور توقفت، لتحل محلها حركة هجرة كفاءات. كيف يكون حال الدولة وشعبها بدون النخبة المثقفة والمؤسسات التي تنتجها؟ صارت لدينا فجأة نخبة جديدة من الضباط الذين لم يستطيعوا أن يحيطوا بالصورة الكاملة، الذين لا يملكون إلا رؤى محدودة وبعض المسلمات، والذين حسبوا أن بإمكانهم معالجة الوضع بإجراءات متطرفة، لكن حينها لم تكن هناك مساءلة على الإطلاق، واستشرى الفساد أكثر. ولأن المحافظ وعضو البرلمان ورئيس الحي وصلوا إلى مناصبهم بالتعيين، لا تستطيع بعد أربعة أعوام أن تقول لهم: أنتم مسئولون أمامي، ولن أمنحكم صوتي ثانية. آراؤنا لم يكن لها قيمة؛ المواطن البسيط لم يكن لرأيه أدنى قيمة.
يرى رأفت أن أصل جميع المشكلات هو النظام التعليمي المتداعي. باهى ناصر باتساع نطاق التعليم وافتخر بأن كل أسبوع في مصر يشهد افتتاح مدرسة جديدة. وكان هذا صحيحا. لكن ما جدوى إنشاء مليون مدرسة إن كان كل فصل يضم ستين طالبا أو أكثر، يضربهم المعلمون إن سألوا سؤالا يشوبه الاعتراض عن أقل القضايا إثارة للجدل، فيما يتقاضى المعلمون أنفسهم راتبا أقل مما يتقاضاه النادل في المقهى، وكل ما يقومون به في الفصل هو تحفيظ الطلاب والترويج للروايات الحكومية الرسمية في التاريخ والدين والسياسة؟ إن بدا لك كل هذا صعب التصديق، فتأمل هذا المثال: تدخل مبارك شخصيا عام 2006 في قضية طالبة مصرية رسبت في امتحانات الثانوية العامة بعد أن انتقدت الولايات المتحدة والحكومة المصرية في مقال، آمرا بإعادة تصحيح أوراقها لتجتاز اختباراتها. كانت هذه القصة واسعة التداول في الإعلام العربي، حتى إنها نوقشت في البرلمان، وقيل إن السلطات استدعت الطالبة واستجوبتها عما إن كانت عضوة في منظمة سرية، بعد أن تبين أنها اتهمت واشنطن في مقال الامتحان بدعم الديكتاتوريين على حساب حاجات الشعوب. لكن الديكتاتوريين بالطبع مولعون بالسياسات الشكلية؛ فعقب الأنباء عن محنة الفتاة تسربت ردة فعل مبارك السريعة إلى الإعلام فنجا من فضيحة على الصعيد الداخلي. لكن مهما صدرت القرارات الرئاسية جزافا، فلن يحجب ذلك الضوء عن طغيان معيار الكم على معيار الجودة في النظام التعليمي المصري، ولن يخفي التبعات التي خلفها ذلك على البلاد، وهي أكبر بكثير من الضغط على نحو فظ على طالبة مسكينة. قال لي رأفت:
بلا تعليم يفقد المرء وجهته، وشعوره بجذوره والتراث الثقافي الذي يملكه، وتنقطع صلته بهذا التراث لأنه لا يتمتع بالعقلية التي تمكن من فهمه وتقديره حق قدره. الجهل يعني أن تصبح غريبا عن تاريخك؛ فتكون النتيجة في نهاية الأمر هي القاهرة التي نراها اليوم. تبرز اليوم في الإعلام دعوات من حين لآخر تنادي بالحفاظ على الذي ما نزال نملكه من تراث على الرغم من عدم كفاية هذا وفوات الأوان على ذلك. الوقت في الواقع قد أزف، ونحن بحاجة إلى معجزة، لكن المصري ينهمك كل يوم في كسب ما يكفيه للبقاء على قيد الحياة حتى إن كل شيء آخر كتراثه، وجمال بيته، ونظافته ودوره في المجتمع؛ صار يحتل أهمية ثانوية لديه. •••
بعد أن سمعت آراء رأفت المقبضة للصدر عن أحوال مصر، شعرت بالإحباط، فبدا لي أن الأنسب هو قبول عرض الدكتور أحمد عكاشة، رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي، والرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي، ومدير مركز منظمة الصحة العالمية للتدريب والبحوث في مجال الصحة النفسية. وبعد بضعة أيام، قدت سيارتي قاصدا لقاء هذا الرائد البارز في مجال علم النفس في العالم العربي. كان قد افتتح لتوه منتجع صحة نفسية يطل على طريق السويس، بدا من بعيد كالكثير من فنادق الخمس نجوم التي انتشرت على مقربة من الطريق الصحراوي، لكنه يأتي على رأس نمط جديد من أساليب معالجة الصحة النفسية التي تهدف إلى التخلص من وصمة اجتماعية لطخت الصحة النفسية في مصر. كان المنتجع يقع في حديقة شاسعة ويضم صالة رياضية وقاعة للأنشطة المختلفة ومنطقة استقبال ذات نوافذ طويلة تطل على الحديقة، أهم ما فيها هو أنها تسمح بدخول الضوء من جميع الاتجاهات لإدخال البهجة إلى النفس لدى الوصول إلى المنتجع.
الرجل الذي حياني كان عنوانا مثاليا لما يهدف إليه منتجعه، كان حسن الملبس، ذا بشرة متوردة ووجه عريض متهلل تعلوه كتلة من الشعر الأبيض الكث المصفف على نحو جذاب، وتنضح مسام جسده الممتلئ بالعافية. وأثناء تجوالنا في المكان، مررنا بين الحين والآخر بواحدة من صوره الكثيرة المرسومة بالبرونز والحبر التي تناثرت في أرجاء المستشفى، فسألته إن كان يستطيع أن يسلط الضوء أيضا على حال المصريين الأقل حظا بعد خمسة عقود من الحكم العسكري الديكتاتوري القاسي. ولم يمض وقت طويل قبل أن يتضح أنه مستعد تماما لذلك. بدأ بتوضيح أن هناك فارقا هاما على حد قوله يفصل بين تمتع المرء بصحة نفسية جيدة وبين سلامته من الأمراض النفسية.
قال الدكتور أحمد عكاشة: «الصحة في تعريف منظمة الصحة العالمية هي سلامة المرء البدنية والنفسية والاجتماعية، وليس سلامته من الأمراض وحسب.» ثم استطرد: «ليتمتع المرء بصحة نفسية جيدة يجب أن يتمتع بأربع مواصفات: يجب أن يكون قادرا على التكيف مع ضغوط الحياة، وعلى الموازنة بين قدراته وبين المتوقع منه، وأن يعطي ولا يأخذ وحسب وألا تتمحور حياته حول الآخرين، وأن يكون قادرا على تقديم شيء لأسرته ومجتمعه.» وقال الدكتور أحمد عكاشة إن نفسية «المصري» - على حد تعبيره مرارا على نحو طريف أثناء محادثتنا - قد طرأت عليها تغيرات كثيرة. «المصري معروف تاريخيا بحسه الفكاهي الساخر التهكمي، فهو إن لم يجد شخصا يسخر منه، سخر من نفسه. وهو معروف باهتمامه الشديد بأسرته ومنطقته، لكنه يعارض بشدة التطرف والتعصب والعنف، ومرونته رائعة، وهو في الوقت نفسه غير أناني، تحركه أسرته ومجتمعه ودينه.»
لكن يرى عكاشة أن تلك لم تعد حاله، يقول:
لم نعد نرى الكثير من الابتسامات عندما نسير في الشارع، وثمة أسباب كثيرة لذلك، السبب الأول هو الفقر، فلا يزال أكثر من خمسين بالمائة من المصريين يعانون الفقر ويعيشون بدخل أقل من دولارين يوميا. ثم تأتي مشكلة الزحام، الذي يؤثر تأثيرا كبيرا على شخصية الفرد. القاهرة هي أكثر المدن ازدحاما في العالم؛ ففي كل كيلومتر مربع يعيش اثنان وخمسون ألف فرد، لا يوجد شيء كهذا في أي منطقة أخرى. ثم هناك معدل البطالة المرتفع، وعدم قدرة الشباب على التعبير عن رأيه بحرية. حرية التعبير تشعر المرء بكرامته وتحقق الصحة النفسية؛ فالديمقراطية تسمح بصحة نفسية أفضل، لكن يجب أن تكون ديمقراطية حقيقية، مما يعني أنه يجب أن تتحقق فيها الشفافية ومحاسبة المسئولين، ويتاح فيها للشعب القدرة على تغيير السلطات الحاكمة ... المصريون اليوم لا يجدون الشفافية في أي من نواحي حياتهم ولا يحاسب أي من لصوص الوزراء أو غيرهم من الساسة أمام الفقراء. الوضع هو نفسه منذ عام 1952: الجيش يحكم البلاد.
وذكر الدكتور أحمد عكاشة أن مبارك أسير تلك الحالة النفسية.
ثم استطرد هازئا: «إنه في الحكم منذ خمسة وعشرين عاما، والآن يأتي ليقول: «سأبدأ في الإصلاح!» هذا مستحيل بالطبع لأن الإصلاح هو تصور نفسي وهو عاجز عنه. وبدلا من ذلك يحاول أن يتخذ خطوات تخلق انطباعا بحدوثه.» والأدهى من ذلك - كما أصر عكاشة - هو اللامبالاة المخيفة التي استحوذت على الشخصية المصرية؛ «فعندما يتعرض المرء لكل هذا القدر من العذاب النفسي، وإلى كل هذه الضغوط الحياتية، يبدأ في السقوط في حالة من العجز واليأس تشعره باللامبالاة؛ فلا يكترث لشيء على الإطلاق. أنا أعيش في مصر وهم يحكمونها، لكن لا علاقة لي بهم. دعني أعطيك مثالا: بلغت نسبة من صوتوا في انتخابات عام 2005 الرئاسية 22٪ فقط من مجموع السكان. حتى في موريتانيا يصل مجموع المشاركين في الانتخابات إلى 70٪! كما أننا نعاني التزوير الانتخابي؛ فقد كشفت محكمة الاستئناف المصرية العليا أن تسعين بالمائة من المنتخبين لعضوية البرلمان في الانتخابات الأخيرة وصلوا إلى مقاعدهم بالغش، وهذا يفسر لم لم يعد المصريون يبالون من يحكمهم.»
رأى عكاشة أن مناخ الفساد قد امتد ليجتاح الدين أيضا. قال متوقفا لحظة بجانب بعض الرسومات الكاريكاتورية له التي نشرت على مدى عقود في الصحف المصرية وأحاطتها أطر: «اختزل المصريون الدين في الطقوس الدينية من ارتداء الحجاب إلى الصلاة والحج ... لكن إيمانهم الباطني لم يعد قويا؛ فهم يكذبون ويختلسون الأموال ويتصرفون بلا أخلاق.» وأضاف:
لكن الإسلام دين سلام ورحمة. ما سبب ذلك إذن؟ عرف المصري منذ القدم بأنه لا يبرح أرضه قط؛ فكرامته مرتهنة بها، لكن بعد ثورة عام 1952 وبعد كل الأزمات الاقتصادية التي مرت بها البلاد، أجبر على الرحيل، فسافر إلى المملكة العربية السعودية أو دول الخليج بحثا عن عمل، وعندما تتنازل عن جزء من كرامتك، تتأثر أخلاقياتك. قبل عام 1967 أشعر عبد الناصر المصريين بقدر من الكرامة، لكن تبين أن الحرب كانت نكسة مريعة، على الرغم من كل ما زعمه رجال النظام آنذاك، فقرر الشعب ألا يثق فيما يقوله هؤلاء وأن يلجأ إلى الله، وأن يفكر في الآخرة لأن الأمل انقطع في الدنيا، مع أن الإسلام يأمر بأن يعمل المرء لدنياه وكأنه يعيش أبدا وأن يعمل لآخرته وكأنه يموت غدا.
لم ينتقل إلى عكاشة الحنين إلى عهد ما قبل الثورة الذي استشرى على نطاق كبير؛ فهو يرى أن هذا الشعور هو وهم خطير. يقول: «من يلتفتون إلى عهد مضى كعهد الملك فاروق مثلا لم يعاصروا تلك الآونة؛ هم يرون أنه كانت توجد حرية تعبير أكبر وديمقراطية أكبر، لكن دعنا لا ننسى أن طبقة معينة تشكل نسبة 0,5 بالمائة من سكان مصر امتلكت كل شيء في مصر وتركت باقي الشعب فقيرا معدما. كانت توجد حرية تعبير، ولم يفرض بالقطع قانون الطوارئ، وقد تدهور الحس الجمالي بالفعل لدى المصريين إلى حد بعيد منذ الثورة، لكنني أعارض بشدة من يكثرون الحديث عن الماضي، وأعتقد أن مقارنة الحاضر بالماضي البعيد خطأ بكل المقاييس.»
ماذا إذن عن المستقبل؟ ما هي فرص أن تتحول الفوضى الحالية والوضع اليائس القائم إلى أمر إيجابي؟ أم علينا أن ننبذ كل أمل في التقدم؟ يقول دكتور عكاشة:
أفضل الاعتقاد أنه ستكون هناك فوضى بناءة بطريقة ما، لكن لا أعتقد أننا سنحرز تقدما إن ظل صانعو السياسات الحاليين يتبنون المنظور نفسه، وستتحول المسألة إلى فوضى عارمة. إلا أنني أرى في وسائل الإعلام والصحف والمفكرين الجدد أملا يجبر صانعي السياسات على التغيير. أعتقد أنه ستكون هناك فوضى طالما أن محركي السياسة المصرية يفتقرون إلى الشفافية ولا يخضعون للمساءلة ولا يغيرون سلطاتهم. إما أن يقع انقلاب أو يحكمنا نظام إسلامي متطرف، لكن قد تقود الأحزاب السياسية إلى تغيير سلمي. علينا أن نفهم أن أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي مصريون، إن جلست معهم فسيحدثونك كما نتحدث الآن، لكنهم لا يستطيعون التصرف لأن القوات المسلحة هي في الواقع من يحكم البلاد، وإن تفوهت بشيء ضدها، تنتهي إلى السجن. لكن القيادة على أي حال هي انتخاب الأشخاص المناسبين للمساعدة على أداء المطلوب بطريقة سليمة . ومع الأسف فإن مصر يحكمها مثلث سلطة ومال ونفوذ. إن تمتعت بأحد تلك المقومات فسيتاح لك المقومان الآخران، ولن ترغب في التخلي عن أي منها.
قال هذا وقد بدا أن نبرة حزن تسللت إلى صوته. •••
مثل محاولات النظام المستمرة لإنهاء ختان الإناث الممارس على نطاق شبه شامل، والقائمة على فتاوى رسمية أعلنت أن الختان ليس من تعاليم الإسلام، وكجهوده لمحو الأمية برعاية برنامج قومي متعال للقراءة قادته قرينة الرئيس التي تعشق وسائل الإعلام؛ حققت حملة طويلة لتنظيم الأسرة نتائج توصف على أحسن تقدير بأنها هزيلة. فقد أظهر الإحصاء الرسمي للسكان الذي أجري عام 2006 أن كل ثلاث وعشرين ثانية تشهد قدوم مولود مصري، مما يرفع إجمالي عدد السكان في مصر - باحتساب من يقيمون خارج البلاد - إلى ستة وسبعين مليون نسمة وهو معدل زيادة يفوق المعدل الذي سجله إحصاء عام 1996 بنسبة سبعة وثلاثين بالمائة، ويعني هذا أن سكان مصر يمثلون ربع سكان العالم العربي. ويقدر عدد سكان القاهرة وحدهم بنحو عشرين مليون نسمة، فيما بلغ عددهم نصف مليون نسمة فقط مع بداية القرن العشرين؛ وتظهر آخر الإحصاءات أن العاصمة في الآونة الأخيرة شهدت أكبر معدل نمو سكاني بين سائر محافظات البلاد (بلغ 11٪ تقريبا). واليوم يتوقع النظام الحاكم أن يبلغ عدد سكان القاهرة في عام 2022 نحو ثمانية وعشرين مليون نسمة، مع أن المدينة يسكنها 43٪ من إجمالي سكان المناطق الحضرية في البلاد، وتضم 55٪ من جامعات الدولة، و46٪ من إجمالي عدد الأسرة بالمستشفيات، و43٪ من إجمالي عدد الوظائف، بالإضافة إلى جيش من العاطلين، ومليون ونصف مليون لاجئ سوداني وعراقي، ومليون مصري يضطرون إلى السفر يوميا لقضاء مصالحهم في الأجهزة الحكومية البيروقراطية المقبضة للصدر. ومن الواضح أن القاهرة ستستمر في النمو بسرعة صاروخية على نحو أشبه بكابوس مزعج لأي مخطط عمراني.
تعود حركة التمركز في القاهرة إلى نظام عبد الناصر الديكتاتوري الذي سيطر عليه جنون الارتياب. جعل عبد الناصر القاهرة مركز السلطة المطلقة، عملا بفلسفة السيطرة على الرأس، ومنه السيطرة على سائر الجسد، وهو ما أضر بدرجة كبيرة بالمدن الأصغر ودلتا النيل (الواقعة شمال القاهرة) وصعيد مصر (جنوبها). على سبيل المثال: مدينة الإسكندرية الساحلية المطلة على ساحل البحر المتوسط - ثاني أكبر مدن مصر والمنافس التاريخي الوحيد للقاهرة على الشهرة - لم تعد إلا أثرا واهيا للمدينة التي صورتها عشرات الأفلام المصرية الشهيرة التي تعود إلى الأربعينيات، حيث عثر الشباب والفتيات على الحب في الإجازات، وامتدحت أغاني هذه الحقبة الشهيرة نسيم بحر الإسكندرية البارد وجمال نسائها والبساطة التي ينبت بها الحب فيها، وقد رثى لورانس دوريل في روايته «رباعية الإسكندرية» مجتمعها الرائع متعدد الثقافات، وكذلك مكانتها كساحة رخيصة وساحرة إلى أبعد حد لمؤامرات القوى العظمى وغير العظمى. أغلقت أغلب ملاهي المدينة الليلية ومطاعمها الشهيرة التي يديرها الأجانب؛ إذ عاد ملاكها منذ زمن طويل إلى أوروبا للاستقرار بها إلى الأبد، ولم يتبق بالمدينة إلا بعض المسنين الواهنين من مجتمع الأجانب الذي تمتع فيما مضى بالثراء، وشمل اليونانيين والقبرصيين والإيطاليين والفرنسيين والأرمن.
بل أصبحت الإسكندرية التي أسهب فيها أبطال لورانس دوريل البروتستانتيين والأرثوذكس في وصف أسرار مذهب الكابالا ومدح جمال عشيقاتهم هي أكثر مدينة تنتخب مشرعين من جماعة الإخوان المسلمين الأصولية، وصار على سكان المدينة الذين يبلغ عددهم خمسة ملايين شخص أن يقنعوا بالدرجة الأولى بحفظ القرآن. واليوم يطبق العائدون من دول الخليج عقيدتهم الوهابية الجديدة بتشدد؛ فيصرون على أن تستحم نساءهم في البحر مرتديات عباءات تغطي أجسادهن بالكامل، وعلى ألا يتحدث أطفالهم إلى المسيحيين لأن هذا محرم دينيا بما أنهم كفار. في ظل هذا المناخ الاجتماعي المخيف، فشلت مكتبة الإسكندرية الجديدة، التي تكلف بناؤها مبلغا قدره 230 مليون دولار وأنشئت بهدف إحياء ماضي المدينة الأسطوري (والتي هي أشبه بطبق لاقط عملاق لاستقبال إرسال الأقمار الصناعية) في تحفيز نهضة في الاطلاع على المعارف. •••
أثناء زياراتي لعائلة إيهاب البالغ من العمر عشرين عاما - الذي صادقته في قطار متجه من الصعيد إلى القاهرة في إحدى رحلاتي في شمال وجنوب البلاد - كثيرا ما كنت أتذكر وصف سمير رأفت للقاهريين بأنهم «يئوون كالجرذان»، وتحليل دكتور عكاشة لخط تدهور الصحة النفسية لدى فقراء المصريين. كان إيهاب شابا طويلا نحيفا يبدو عليه الوهن، عكف على قراءة إحدى الصحف في عربة قطار سافرت فيها. إن رأيت شابا مصريا يقرأ أي شيء فهذا في حد ذاته أمر عجيب يلفت الانتباه فورا؛ وتزايد فضولي تجاهه عندما لاحظت أنه يقرأ صفحة الرأي (وليس صفحة الرياضة أو الجرائم). تجاذبنا أطراف الحديث ونحن ندخن السجائر تحت لافتة كبيرة تحظر التدخين في عربة الحقائب التي تفصل بين عربات القطار، ولم نكن وحدنا من تجاهل هذا الحظر، بل تجاهله أيضا الحارس الذي يفترض أن وظيفته هي وضعه موضع التنفيذ. تجاهل المصريين لكل القوانين - بدءا من تلك التي تحظر إلقاء القمامة، إلى رفضهم تركيب العدادات في سيارات الأجرة، إلى امتناعهم عن احترام قواعد المرور الأساسية - يدل على فشل النظام وازدراء المصريين للسلطات التي تحكمهم سواء على الصعيد المحلي أو القومي.
تبين أن إيهاب طالب بكلية بمدينة قنا الجنوبية التي تبعد عن مدينة الأقصر السياحية نحو ساعة. كان في طريقه إلى منزل أسرته في إجازة قصيرة فدعاني إلى زيارة عائلته في القاهرة عندما يسنح لي الوقت. كانت هذه الدعوات الصادقة تأتيني كل ساعة تقريبا في التسعينيات، حتى من قبل عوام المصريين الذين لا يعملون في قطاع السياحة الضخم، لكنها بعدئذ شحت. عزوت هذا في البداية إلى أنني صرت أبدو أكثر جدية وأصبحت أتحدث العامية المصرية بطلاقة وأبدو أكبر سنا وأكثر خبرة بالحياة والناس؛ لذا صار التقرب مني أصعب. لكن في رحلة قطار أخرى أخبرني أحد أساتذة جامعة القاهرة بلطف بعد أن سمعني أحدث رفيقي في السفر عن أسفي لتضاؤل عدد الدعوات التي صرت أتلقاها أن دعوتي ستكون مكلفة؛ لأن الناس سيخجلون إن لم يقدموا لي إلا أفضل الطعام، والمشكلة هذه الأيام أنهم لا يستطيعون أن يوفروا ما يكفي من الطعام لأطفالهم. كانت أسعار السلع الغذائية آنذاك؛ في منتصف عام 2007 قد ارتفعت بنسبة 25٪ عن العام السابق، في الوقت الذي ظلت فيه الأجور ثابتة منذ عقود. هذا جزء من وتيرة معتادة على مر التاريخ؛ ففيما ارتفعت الأجور بين عامي 1978 و1988 بنسبة 60٪ ارتفعت الأسعار في غضون العقد نفسه بنسبة 300٪؛ إلى حد كانت له آثار مدمرة على أغلب السكان الذين لم تستطع أجورهم أن تواكب معدل التضخم الرسمي الذي يختلف عليه الكثيرون.
عاشت أسرة إيهاب في ضاحية على أطراف القاهرة تدعى مدينة السلام. تقع شقتهم المكونة من ثلاث غرف بالطابق الأرضي من بناء خرساني رمادي اللون بني وفقا لخطة عمرانية محددة، وأحاطت به أبنية مشابهة. بنيت مدينة السلام في أواخر السبعينيات، جزءا من سياسة الانفتاح التي تبناها السادات عندما أعلن النظام الحاكم خططا لبناء أربع عشرة مدينة حيوية جديدة بهدف إعادة الانتقال بالنمو الحضري إلى الصحراء. صاحبت تلك الخطة ضجة هائلة وثناء رفيع على مزايا السكن الكريم وتحسن وجه الحياة عامة. لكن سرعان ما تجلت الحقيقة القاسية؛ إذ نبذ النظام كما هو متوقع مسئولية تمويل المدينة لتقع على عاتق مستثمري القطاع الخاص، فكانت النتيجة محاولات متخبطة. ازدهرت بعض المدن في نهاية الأمر كمدينة نصر ومدينة السادس من أكتوبر باعتبارها مراكز صناعية وسكنية ولو أن كلتا الغابتين الخرسانيتين المزدحمتين بالأبنية لا تتمتعان بأي طابع معماري مميز. النجاح الذي تحقق في حالة مدينة نصر يعود إلى حد بعيد إلى أن المدينة أصبحت النقطة التي يختارها المسئولون الحكوميون رفيعو المستوى لتأسيس منازلهم، فالنظام المصري شأنه شأن جميع الأنظمة الديكتاتورية يضع أولوية للعناية بأتباعه. يساوي عدد من يصوتون للحزب الوطني الحاكم إلى اليوم عدد الموظفين الحكوميين الذين تقلهم الحافلات عادة إلى مراكز اقتراع (قرابة سبعة ملايين شخص، وفقا للأرقام الرسمية المعلنة وغير الموثوق بها)، فيما يصطف رجال الشرطة بالشوارع المحيطة لمنع مؤيدي جماعات المعارضة المتلهفون على الإدلاء بأصواتهم. أما مدينة السادس من أكتوبر فقد أصبحت قاعدة لنصف مليون عراقي، فروا إلى مصر في أعقاب الغزو الذي شنته الولايات المتحدة على بلادهم عام 2003 والحرب الأهلية التي تلت الغزو.
ولا تزال باقي مدن الضواحي مدنا مقفرة، وهو وصف يليق بمدينة السلام التي أغرت الحكومة المصرية سكانها ليرحلوا من فوق أسطح المباني التي زالت عنها عظمتها في منطقة وسط القاهرة، والتي احتلوها عقودا بوضع اليد. لكن لم يضطلع القطاع الخاص أو الحكومي بأي استثمارات هامة في مدينة السلام على مدى ربع القرن الماضي، وما زالت المدينة تبدو معسكر لاجئين عالي المستوى، لا ينفك سكانه عن تمني الانتقال منه. وعلاوة على ذلك فإن موقع المدينة النائي يزيد الشعور بالكآبة والنفور منها: كنت أزور عائلة إيهاب صباح كل جمعة (وهو يوم الإجازة الأسبوعية لدى المسلمين) في الوقت الذي تخلو فيه شوارع القاهرة الشهيرة بزحامها المروري بعض الوقت، لكن حتى حينها كنت أستغرق ساعة تقريبا في الوصول بسيارة الأجرة وأتكلف ستة دولارات؛ أي ما يعادل راتب ثلاثة أيام لموظف حكومي عادي.
وتلك كانت وظيفة والد إيهاب المتقاعد، وهو رب أسرة فخور، جلس يدخن بهدوء وهو يشاهد أبناءه التسعة - خمس فتيات وأربعة أولاد تتراوح أعمارهم بين أربع سنوات وثلاثين عاما - وهم يتدافعون تنافسا على الأماكن في غرفة الجلوس، حيث أصدر التلفاز جلبة وهو يعرض فيلما مصريا قديما، حاولت جدة إيهاب أثناءه أن تخبرني بأنها في حاجة إلى طاقم أسنان صناعي جديد. لم تحو الغرفة أرائك وإنما ضمت ثلاثة أسرة تتحول بها الغرفة ليلا إلى غرفة نوم. وفي إحدى المرات، انفتح باب المنزل الأمامي بعنف - وكان يطل مباشرة على سلم عمومي قذر - واندفع عبره صف إضافي من الأطفال الصغار - لعلهم بعض الأقارب من هنا أو هناك - وطلبوا بضعة قروش من جدتهم لشراء بعض الحلوى، وسألت الأب: «هل اكتفيت من الإنجاب، أم أنك تحاول أن تشكل جيشا؟» فقال أشرف الابن الأكبر مازحا إنه نفسه له ثلاثة أطفال ويعتزم أن يعزز قوات الأسرة الآخذ عددها في التناقص. على كل صار الزواج والإنجاب ومن بعده محاولة كسب ما يكفي من المال لتوفير المأكل والملبس والتعليم للأبناء؛ الموضوع الذي يسيطر على أحاديثنا في الزيارات التي قمت بها للأسرة بين الفينة والفينة؛ فبصرف النظر عن التمتمة بمرارة بين الحين والآخر بأن رئيس البلاد «وغد بكل ما تحمله الكلمة من معنى»، لم يبد أن هناك من يملك الوقت للتفكير في أي مسألة أخرى، ناهيك بالقطع عن الخوض في نقاش عنها.
هذا الواقع القاسي الذي وصفه لي الدكتور عكاشة بوجه عام مرده حسبة بسيطة: يتسلم والد إيهاب شهريا معاشه الحكومي وقدره خمسة وسبعون دولارا، وتقضي قاعدة ذهبية لدى تلك الأسرة الكبيرة أن يأكل أفرادها اللحم معا كل يوم جمعة. ويساوي ثمن كيلوين من اللحم أسبوعيا 15 دولارا، بذا يتبقى من دخل الأسرة الأساسي الشهري 15 دولارا، وهو مبلغ يقل قليلا عما تدفعه شهريا نظير إيجار المنزل الشهري. أثث أشرف شقة مؤجرة بأثاث اشتراه بالتقسيط ليتزوج (تقضي التقاليد المصرية بأن يوفر الزوج الشقة وأثاثها، وأن توفر الزوجة أجهزة المنزل الكهربية)، ولم يتحمل والد أشرف عبء دفع مقدم الشقة وحسب، بل تحمل أيضا دفع قسطها الشهري الذي يساوي أربعين دولارا. وعمل أشرف في قطاع السياحة بأجر شهري قدره أربعون دولارا، أي نظير مبلغ لا يكاد يكفي لدفع إيجار شقته والسفر يوميا ذهابا إلى عمله وإيابا منه في وسائل النقل العامة، أما بسام، ثاني أكبر أخوة إيهاب، فيعمل في مقهى محلي مع أنه تدرب على العمل محاميا، وهذا لأنه لا يملك المال لدفع رشوة للعمل في شركة محاماة محلية، إلا أنه يحصل بالكاد على راتب محام متواضع (دولارين) نظير اثني عشرة ساعة عمل يوميا، وإن حالفه الحظ يحصل على دولار إضافي تقريبا من الإكراميات. لكن صاحب العمل يدفع له راتبه على دفعات متقطعة زاعما أن المقهى لا يدر المال الكافي ليدفع لموظفيه بانتظام. علاوة على هذا - وكأن حال الرجل تحتمل المزيد - يتحمل بسام حساب الزبائن الذين يغادرون دون دفع الحساب. بسام هو فتى ورع رقيق الحاشية يحرص على أداء الصلوات الخمس، ويعيش حالة من القلق الدائم لأن الفتاة التي يرغب في الزواج منها - لكن لا يستطيع - يلاحقها غريم أكثر منه ثراء. لكنه أخبرني أنه يواجه موقفا أصعب يضطره إلى الاختيار بين الاستمرار في الصلاة بمسجد المنطقة والكف عن هذا لأن الكثير من زبائن المقهى ينتظرون موعد الصلاة للهرب أثناء توضئه. وقد مرت عليه أيام تعين عليه فيها أن يدفع نحو دولار لتغطية العجز لصرافة النقود (فثمن كوب الشاي أو النارجيلة يساوي عشرين سنتا تقريبا)، من هنا كان في أحيان كثيرة يجد بعد شراء شطيرة لغدائه، والدفع مقابل وسائل المواصلات العامة ذهابا إلى العمل وإيابا منه؛ أنه أنفق أكثر مما جنى. لم يدفع إيهاب نفسه مالا للالتحاق بالجامعة لأنه كان من أوائل صفه في الثانوية العامة، لكنه يظل مضطرا مع ذلك إلى أن يدبر سبعين دولارا سنويا نظير الكتب الدراسية واثني عشر دولارا نظير الإيجار الشهري وأجرة تنقله بالقطار من وإلى الكلية بين الفينة والفينة، والطعام والفواتير الشهرية (ملابسه هي ملابس أخيه الأكبر القديمة). أخبرني أنه أخذ هذا المال من والده.
كل هذا يطرح سؤالا واحدا: كيف بأي حال استطاع والد إيهاب أن ينفق على أبنائه مبلغا يساوي خمسة أضعاف معاشه الشهري؟ اتضح أنه كان أمامه وسيلتان لذلك: الوسيلة الأولى هي نظام تمويلي واسع الانتشار بين الجيران - لا سيما الزوجات اللائي لديهن أطفال صغار - يساهم فيه كل مشارك بقدر معين من المال شهريا في صندوق نقد مشترك، تذهب أمواله كلها شهريا إلى أحدهم وفق دورة معينة. أما الوسيلة الثانية فهي التسول من الأصدقاء والأقارب واحدا بعد الآخر، لا سيما إن استطاع أحدهم أن يحصل على عمل في إحدى دول الخليج العربي (التي قد يصل راتب العمالة غير المدربة فيها إلى ألف دولار شهريا). ومن حسن حظ إيهاب أن أسرته وأقاربه يهتمون اهتماما بالغا بالتعليم، ولما لاحظ والده منذ وقت مبكر ذكاءه أنفق ليتلقى الدروس الخصوصية، فكثيرا ما يقال إن إرسال الأطفال إلى المدارس من دون أن يكون لهم معلمهم الخاص يشبه حرمانهم من الأحذية والكراسات. ويزعم أن المصريين ينفقون سنويا على الدروس الخصوصية نحو 2,4 مليار دولار، وهو ما يساعد على الإبقاء على الحلقة المستمرة التي تجعل المعلمين أنفسهم متعبين إلى حد أنهم لا يستطيعون أن يدرسوا جيدا في الفصول؛ لأنهم يلقون الدروس الخصوصية حتى الساعات المبكرة من الصباح؛ لرفع أجرهم الضعيف الذي يضاهي دولارين في اليوم.
ونصف الأسر المصرية على أقل تقدير يعاني نفس مشكلة أسرة إيهاب. •••
احتلت النخبة الناصرية الفاسدة موقعا مثاليا يتيح لها استغلال سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبناها السادات في السبعينيات. في ذلك كتب المؤرخ جيمس جونكوفيسكي في كتابه الصادر عام 2000 «مصر: لمحة تاريخية» أن «فئات جديدة برزت مع الطبقة البرجوازية الصاعدة السابقة ومن أوساطها. وانهمك «المروجون للانفتاح» في تجارة الاستيراد، والمضاربات المالية، وفي العمل وسطاء للمستثمرين الأجانب؛ فأخذ تجار متجولون في الترويج للعلامات التجارية الشهيرة في الموضة والإلكترونيات، وظهرت طبقة جديدة من أصحاب الملايين المصريين الذين يركبون سيارات المرسيدس ويسكنون الفيلات الفاخرة بجانب الأهرامات.» أما أغلب المصريين - كأسرة إيهاب - فقد أضحت أحوالهم أكثر سوءا، وازداد إحباطهم مع علمهم أن من ازدهرت أحوالهم في السبعينيات لم يبلغوا الحال الميسورة التي يتمتعون بها بالنزاهة؛ فقد أصبحت العمولات والرشا جزءا طبيعيا من عقد الصفقات لدى الجميع؛ وحتى عندما كف كبار المسئولين عن الانشغال بالاختلاس من خزائن الدولة، تقاضوا الرشا، وجمع المسئولون الحكوميون الإكراميات لأداء واجباتهم الإدارية. ومن الصعب الاستخفاف بأثر إحلال تلك «الأموال القذرة» محل «المال النظيف» على الحالة الاجتماعية والتركيب الطبقي. فبالصورة نفسها التي حل بها بلطجية عصابة عبد الناصر الجهلة محل النخبة الأرستقراطية المثقفة الراقية القديمة، امتلأت صفوفهم بمحدثي النعمة الذين تملكوا فجأة الثروات بتقاضي الرشا أو السفر إلى دول الخليج عقب ازدهار قطاع البترول هناك في السبعينيات، أو بيع الأراضي التي امتلكتها أسرهم الفقيرة سنوات، لكن أصبحت بين عشية وضحاها تساوي ثروة صغيرة مع ازدهار سوق العقارات المسخر لخدمة النخبة الجديدة. هذا يعيد إلى الأذهان من جديد تلخيص رأفت الموجز للأحوال: القمامة تطفو على السطح.
عندما اتخذ تحرير الاقتصاد شكل الخصخصة، كانت له تبعات اجتماعية ثقيلة على من تخلى عنهم. انقطع الدعم المباشر للسلع الاستهلاكية الأساسية مع إصرار منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي على ذلك، وخضعت أربعمائة شركة تقريبا من شركات القطاع العام للخصخصة منذ التسعينيات. اتهم كبار المسئولين كثيرا بتقاضي الكثير من الرشا في صفقات الخصخصة تلك، وأفلتت شركات القطاع الخاص إلى حد بعيد من القيود الحكومية الصارمة. من أمثلة ما يحدث عندما تتحد الحكومات التي ضربها الفساد اتحادا وثيقا مع مستثمري القطاع الخاص الذين لا يعرفون الرأفة: ظاهرة بناء أبراج الكهرباء والاتصالات بالقرب من بيوت الفقراء وفوقها بل وداخلها أحيانا. ويقال للفقراء عند الشكوى إلى المسئولين إنه لا توجد قوانين تحظر تلك الممارسات، فيضطر أطفالهم الذين يعانون من الأصل سوء التغذية ونقص الرعاية الصحية إلى التعايش مع احتمال أن يكونوا معرضين على الدوام إلى نسب عالية من الإشعاعات المسببة للسرطان. وإلى جانب هذه الممارسات الأنانية والإهمال يستمر النظام في زيادة نفقاته على الجيش، في الوقت الذي يقلص فيه إنفاقه على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والرعاية الصحية. ويأتي كل هذا سيرا مع الاتجاه العالمي الجديد الذي يفترض أن الثروة التي يخلقها السوق الحر تنتقل شيئا فشيئا من أيدي الأثرياء إلى الفقراء فيعم النفع على الجميع، مما لا يجعل هناك حاجة لوضع آليات دعم اجتماعي بديلة.
من السهل العثور في عشوائيات لندن أو نيويورك العديدة المشابهة على عائلة تعيش هذه المعاناة، وتشكو الشكوى ذاتها من انخفاض مستوى المعيشة، والتعليم، والرعاية الصحية، والفساد الحكومي، والإهمال، لكن ما يميز بريطانيا والولايات المتحدة عن مصر هو الحراك الذي يشهده السلم الاجتماعي فيهما، ووعي الفرد الأساسي بأنه قد يحظى في آخر الأمر بالتقدير ويترك دوامة الفقر واليأس إذا تمتع بتعليم جيد ورغبة في العمل الجاد، أيا كانت الخلفية التي يأتي منها. وباختصار، ثمة طبقة وسطى. ومع أن من يسكنون منازل محدودي الدخل المهملة في بريطانيا والولايات المتحدة قد يظلون نوعا ما عالقين في دوامة الفقر طيلة حياتهم، فيما تتسع الفجوة بين الفقراء والأثرياء في هاتين الدولتين وغيرهما من الدول المتقدمة؛ فإن الطبقة الوسطى في هذه الدول - على العكس منها في مصر - تتمتع بالمزيد من الثقل الاقتصادي بما أنها تملك المزيد من المال، علاوة على أن هذه الدول على عكس مصر تتمتع إلى حد ما بنظام حكم ديمقراطي. من ثم تكون هناك آذان صاغية على الأقل لمشكلات المواطن العادي، هذا إن لم تتخذ على الدوام خطوات لمواجهتها. أما الطبقة التي تحمل اسم الطبقة الوسطى في مصر - التي كان من المفترض أن ينضم إليها أخو إيهاب بسام منذ وقت طويل بما أنه محام مدرب - فقد وقعت عليها تبعات سلسلة الإصلاحات التي أجريت في عهد النظامين الحاكمين التاليين لوفاة عبد الناصر في عام 1970، وساعد الركود السياسي في تهميش دورها في تشكيل السياسات والمجتمع، وقاد إلى زيادة الفجوة بين الفقراء والأثرياء. ويميل النظام الحاكم في مصر إلى المباهاة بأن الاقتصاد المصري شهد أكبر معدلات نموه بعد الثورة، إلا أن سوق العمل يدخله سبعمائة ألف مواطن مصري كل عام، ولا يزال القطاع العام يوظف نحو سبعة ملايين مواطن لا تقبل وظائفهم الخصخصة، مهما أثقلت الأجهزة الحكومية بالأعباء. من هنا يطرح كثيرا السؤال التالي: كم مصريا من السبعة والثمانين مليون مواطن سيفيد من سوق بورصة القاهرة والإسكندرية؟!
الفكرة العامة التي يجب أن نخلص إليها على الأرجح هي أن إفقار الطبقة الوسطى - ومن ثم استئصالها - يضر باستقرار أي دولة على المدى الطويل، ويصبح الوضع أدهى عندما يتخلى النظام الحاكم عن مسئولية إدارة الاقتصاد، والخدمات الاجتماعية تاركا عشرات الملايين من أفراد الطبقة الدنيا بلا حيلة في ظل العواصف التي يقود إليها هذا التنصل. إحدى المخاطر التي قد تنجم أيضا عن ذلك هي نمو بعض الكيانات كجماعة الإخوان المسلمين التي يتكون أعضاؤها من بقايا الطبقة المتوسطة المتعلمة؛ من الأطباء، والمهندسين والمحامين والطلاب والمعلمين. جعلت تلك الجماعة العمل الخيري العام، وتكلف الاهتمام بمعاناة الفقراء المطحونين؛ الوسيلة الأساسية التي ترتكز عليها في حملتها لاستمالة البسطاء إلى الإسلام المتشدد.
وإن استحوذ الإخوان المسلمون على زمام السلطة، فقد يدفع حكمهم المصريين بعد عقود من الآن إلى تمني عودة الأيام الأخيرة للنظام العسكري الفاسد الحالي، كما يتمنون اليوم عودة الديمقراطية البرلمانية التي كانت قائمة قبل انقلاب عام 1952.
الفصل الثاني
الإخوان
بنى الإخوان المسلمون مؤخرا بناء من ثمانية طوابق في إحدى ضواحي القاهرة؛ ليكون مقرا لممثليهم الجدد في البرلمان، ومع أن الكثير من الأموال تتدفق عليهم من التبرعات الخيرية ومع أنهم قد عصف بهم إلى مناخ سياسي مضطرب يملؤه الفساد والمحاباة، فإنهم نادرا ما يبذرون المال، وفي حالة هذا المبنى، أمكنهم الدفع بحجة مقنعة بأنهم أنفقوا مالهم بحكمة. لقد استحوذوا في انتخابات عام 2000 على خمسة عشر مقعدا فقط من مجموع أربعمائة وأربعة وأربعين مقعدا برلمانيا، لكن بما أنهم في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2005 فازوا بثمانية وثمانين مقعدا، فقد احتاجوا إلى المزيد من المكاتب. استطاع الإخوان بتعزيز حضورهم في البرلمان الذي تستمر فترة عمله خمس سنوات أن يدعموا سمعتهم داخل البلاد وخارجها بوصفهم كيان المعارضة الأكبر والأفضل والأكثر تنظيما في مصر، لكن مع أنهم الأبرز، ما زال الغرب والكثير من المصريين حائرين في معرفة مرادهم بالضبط. أسس حسن البنا عام 1928 الجماعة بوصفها حركة تعارض النفوذ الثقافي الغربي وسيطرة بريطانيا على السياسة المصرية إبان الحكم الملكي الفاسد الخاضع لتأثيرها، ولا يزال الهدف الأساسي الذي تكرس له الجماعة جهودها هو أن يحكم الإسلام المتشدد سيطرته على المصريين، أما ثاني أهدافها فهو إعادة النظر في التحالف المصري السياسي والعسكري مع الولايات المتحدة القائم على التبعية، لا سيما - ولكن ليس فقط - بالنظر إلى علاقته بالقضية الفلسطينية. كما يتطلعون في المستقبل البعيد إلى إعادة تأسيس نظام خلافة إسلامية قائم على نظرة حالمة إلى الحياة في عهد الخلفاء الراشدين الذي تبع وفاة النبي محمد.
كان هدف حسن البنا بالأساس على حد تعبير أحد المؤرخين هو «إصلاح القلوب والعقول»، وهداية المسلمين من جديد إلى الدين الإسلامي الخالص، وصرفهم عن التطلعات والممارسات اللاأخلاقية التي أنشأتها سيطرة الأوروبيين. أبرز جناح الجماعة شبه العسكري جسارته وتفانيه في حروبه ضد جنود الاحتلال البريطاني على قناة السويس في أوائل الخمسينيات، وضد إسرائيل بعد نشأة دولتها اليهودية عام 1948 إلى حد أن الجناح حاز إعجاب القوميين المصريين الذين لم يكونوا لولا هذا ليلتفتوا إلى أجندة الجماعة الإسلامية المتشددة. لكن عبد الناصر حظر الجماعة عام 1954 ثم قضى عليها تقريبا، زاعما أن أعضاءها حاولوا اغتياله أثناء إلقاء خطاب بالإسكندرية في أكتوبر/تشرين الأول من ذاك العام. حينذاك سمعت طلقات الرصاص مباشرة على الراديو المصري، لكن الإخوان أنكروا ضلوعهم في أحداث ذلك اليوم. ومن الجدير بالذكر أن عبد الناصر لم يكن ليترفع عن اختلاق حادثة كتلك لرفع نسبة تأييده بالبلاد، بما أنه من المحتمل - على سبيل المثال - أن يكون قد دبر تفجير مقهى جروبي الشهير في مركز منطقة وسط القاهرة سعيا لزعزعة الاستقرار في أوج صراعه على السلطة مع رئيس الجمهورية الأول الصوري.
وعلى أي حال، كان الإخوان المسلمون بحلول ذلك الوقت قد حشدوا مئات الآلاف من المؤيدين، الذين ظلوا على ولائهم لحلمهم بدولة إسلامية مهما شنق بلطجية عبد الناصر من شنقوا من زملائهم، أو أصدروا بحقهم أحكام الأشغال الشاقة أو التعذيب حتى الموت دون محاكمة. وكانت النتيجة أن دفعت أعمال التعذيب ومعسكرات السجناء وأحكام الإعدام جيلا كاملا من الإخوان إلى التطرف، لا سيما من تأثروا بسيد قطب، وهو عضو بالجماعة أعدم في أغسطس/آب 1966 (مع عدة قادة آخرين) بعد إلصاق تهمة التآمر بهم زورا. زعم قطب في كتاباته أن الدولة الناصرية تنتمي إلى عهد الجاهلية مما يجعل النظام من وجهة نظره خارجا عن الإسلام، ويبرر استخدام العنف للإطاحة به. من ثم واجه النظام العسكري من أوائل السبعينيات إلى أواخر التسعينيات موجة من الأعمال الإرهابية المتأثرة بالفكر الإسلامي، استلهمت في شق منها من كتابات قطب ونفذتها جماعات جهادية انشقت عن جماعة الإخوان المسلمين بعد اتهام قادة الجماعة بالإذعان الشديد للوضع الراهن والنظام العسكري الحاكم. ومن أمثلة أعمال العنف التي تخللت هذه العقود الثلاث: اغتيال الرئيس السادات عام 1981، وقتل بعض المفكرين العلمانيين، والهجمات المتكررة على الأقلية المسيحية، التي أفضت في نهاية الأمر إلى مذبحة قتل فيها عشرات السياح بالقرب من مدينة الأقصر في صعيد مصر عام 1997.
لكن جماعة الإخوان المسلمين نبذت العنف في أوائل السبعينيات، وتبنت بحذر المنهج الديمقراطي وتنصلت علنا من أجندة قطب الأكثر تطرفا، وبرزت - بفضل تأثير مرشدها المعتدل عمر التلمساني - بوصفها شريكا أساسيا في الجدل الذي نشأ حول هوية مصر في أعقاب هزيمة مصر المذلة عام 1967 ووفاة عبد الناصر بعدها بثلاثة أعوام. ركز الجدل على المستقبل لكنه أساسا دار حول الماضي: هل يجب تفسير التاريخ المصري في إطار قومي، أم عربي، أم إسلامي، أم عرقي، أم مؤيد للغرب؛ أم إطار يجمع كل هذا؟ •••
ظلت القاهرة منذ عهد محمد علي ممزقة بين مذهب المتعة الباريسي الغربي من ناحية وتشدد عالم مكة الشرقي من ناحية أخرى. وفيما احتضن القوميون والإسلاميون التقدميون والنخبة المثقفة التي حاربت الاحتلال الأجنبي - المسيحي أو الإسلامي - أفضل ما قدمه الغرب في سعيهم لتحقيق استقلال مصر، عدت جماعة الإخوان المسلمين محمد علي وورثته - لا سيما الخديوي إسماعيل - مبذرين منحلي الأخلاق أهدروا ثروة البلاد، وخرجوا عن سنن الإسلام وقيمه، وكانوا قدوة شجعت على إهمال تعاليم الإسلام. ورأى الإسلاميون الأكثر تطرفا أن هذا هو أساس تدهور أحوال البلاد وأن عكس هذا التيار - وليس تبني الديمقراطية الغربية - هو مفتاح خلاص الأمة الذي يعيد مصر وشعبها إلى عالمها الإسلامي الطبيعي الذي تتأثر به وتستمد منه الإلهام.
سجل تريفور موستين في كتابه «زمن مصر الجميل» الجانب المظلم من القرن التاسع عشر، الذي تحجب عنه الضوء في أحيان كثيرة القصص الشهيرة عن المعارض العالمية والحفلات المبهرة والقصور الفاخرة التي شهدها هذا العهد، وولدت على نطاق واسع استياء استغله كل من الإسلاميين والقوميين، مع اختلاف أهدافهم. لم يعتبر الإخوان المسلمون عهد نابليون وجيشه المحتل بشارة لم تكن بالحسبان تنبئ باتجاه نحو التغيير والتحديث، وإنما عدوا نابليون وجيشه همجا مخربين مصابين برهاب الإسلام، واستندوا في ذلك إلى حجج كثيرة؛ فإعلان نابليون عن احترامه للإسلام لم يعد ذا قيمة كبيرة بعد أن سوى جنوده بالأرض صفوف المصريين المعارضين للاحتلال الفرنسي، أثناء اقتحامهم على صهوة خيولهم الجامع الأزهر - أبرز صرح تعليمي إسلامي - حيث عقلوا خيولهم بمحاريب الصلاة، ووطئت أقدامهم المصاحف، وتبولوا على أرض الجامع وجردوا بعدما ثملوا العباد المسلمين من ثيابهم في غمرة هذه الفوضى وسرقوا ممتلكاتهم.
بالمثل قد يكون قرار إسماعيل تحديث مدينة القاهرة على النمط الباريسي استعدادا لاحتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869 قد أبهر ضيوفه الأوروبيين والدائرة المترفة التي أحاطت به، إلا أنه من جهة أخرى أفلس وزارة المالية المصرية، ليقود إلى خلعه عن عرش مصر واحتلال بريطانيا لمصر احتلالا فعليا. في ذلك كتب موستين أن قنصلي بريطانيا وفرنسا عندما أمرا إسماعيل بالتخلي عن العرش، لم يستطع الخديوي اللجوء إلى شعبه؛ لأن طغيانه والضرائب التي فرضها جعلاه مكروها، كما كثرت الشائعات عن علاقاته الجنسية المتعددة، ناهيك عن احتمال أن يكون قد قتل الكثير من العشيقات اللائي لم يخلصن له. وحتى الليبراليين الذين لم يعبئوا بحياته الشخصية أسخطتهم معاملته الخاصة لضيوفه البريطانيين والفرنسيين الذين رأوا أنهم يساوونهم منزلة؛ فقد شعروا بالمذلة لإقصائهم من أوساط الطبقة الأوروبية الرفيعة الجديدة التي نشأت بالقاهرة وحرم من الانضمام إليها الجميع عدا من تجمعهم صلة بأرقى المعارف والمصريين الأكثر تأثرا بالغرب.
هذا بالطبع لا يعني أن الطبقة الدنيا من جهة أخرى قد تمتعت بأي من أسباب السعادة. اقتبس موستين بعد عام من احتفالات افتتاح قناة السويس وصف لوسي داف جوردون لمعاناة هذه الطبقة في كتاب «رسائل من مصر»، تبدأ لوسي وصفها قائلة: «لا يسعني أن أصف المعاناة الكائنة هنا الآن.» ثم تضيف: «تفرض ضريبة جديدة كل يوم، على كل دابة سواء أكانت جملا أم بقرة أم شاة أم حمارا أم حصانا، ولم يعد الفلاح يجد الخبز، وأصبح يعيش على الشعير المطحون الممزوج بالماء مع الخضراوات النيئة ونبات الفول وما إلى ذلك.» عبر الشاعر المعاصر صالح مجدي عن استياء المصريين كافة من حكم الأرستقراطيين - لا سيما من الخديوي إسماعيل نفسه - بأبيات من الشعر قال فيها:
أنفق المال لا بخلا ولا كرما
على بغي وقواد وأشرار
والمرء يقنع في الدنيا بواحدة
من النساء؛ ولم يقنع بمليار
ويكتفي ببناء واحد؛ وله
تسعون بيتا بأخشاب وأحجار
فاستيقظوا لا أقال الله عثرتكم
من غفلة ألبستكم ملبس العار!
وقد اتسعت الفجوة بين الفقراء والأغنياء أكثر بحلول عهد الملك فاروق . كتب آرثر جولدشميدت في كتابه «مصر الحديثة: نشأة أمة» يقول: «لم يملك فقراء الفلاحين المال لدفع رسوم التعليم لإرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس؛ فلم يكن بمقدورهم حقا الاستغناء حتى عن الدخل الضئيل الذي يحصلون عليه من عمل أبنائهم في الحقول.» ثم أضاف جولدشميدت أن نسبة الوفيات، لا سيما بين الرضع والأطفال في المناطق الريفية، كانت من بين الأعلى على مستوى العالم. ولم يملك الفقراء الأشد فقرا منازل، فنام المشردون على مداخل الأبواب وتحت الجسور وفي محطات السكك الحديدية.
إن بدا لك هذا الوضع مشابها لوضع مصر اليوم، فهذا لأنه تشبيه في محله على نحو مدهش، يذكرنا بأن مصر قد عادت إلى النقطة التي بدأت منها، وبأن الحنين إلى عهد الملك فاروق الذي تشعر به بعض القطاعات من نخبة العصر الحالي ينم في جزء منه عن نظرة وردية إلى الماضي، تغفل الواقع الذي واجهه المصريون يوميا في تلك الآونة. إلا أن هناك اختلافا جوهريا يفصل هنا بين الماضي والحاضر؛ ففي مصر اليوم الآخذة أحوالها في التدهور، لم يثمر ترف الطبقة الحاكمة عن شيء ذي قيمة، أما الفساد في عهد فاروق فكان أرضا خصبة متطورة لمجتمع متعدد الثقافات يحتضن الفنون والثقافة المصرية ويستوعب أيضا الأفكار الغريبة عن البلاد الواردة من كل بقاع الأرض، مسبغا عليها طابعا مصريا مميزا، شكلته بدقة طبيعة مصر التي تحتضن الاختلاف. نعم كان ذاك عالما مجحفا قاسيا عنيفا يشبه بطريقة ما الحاضر، إلا أنه اتسم بالتنوع والاختلاط. كانت أرضه خصبة تتسع للكثير من الآمال، وحتى إن لم يرجح أن تتحقق تلك الآمال، لقد أتاح هذا العالم باختصار الأمل معه. أما في مصر ما بعد عبد الناصر، التي تجردت من الحس الثقافي وخضعت لتطهير عرقي، فلم يعد حتى للمال قيمة؛ فهو لا ينتج للأثرياء إلا تقليدا عقيما للحياة في بقعة أخرى، ولا يمول إلا حملات البلطجة لإزهاق أي تعبير حر عن الرأي. •••
أحب الرئيس أنور السادات الترويج لنفسه على أنه رجل تقي من الشعب، حتى عندما باع هوية مصر إلى الغرب الذي أبهره وتاق لأن يحتضنه ويحظى باحترامه، من ثم سعى جاهدا لتأسيس علاقات مع قادة جماعة الإخوان المسلمين حتى قبل انقلاب عام 1952. ولما تسلم الرئاسة سارع بإعادة سيطرة أفكار الجماعة على الشارع السياسي، ساعيا إلى إقصاء دائرة عبد الناصر لتحل دائرته محلها في أوائل السبعينيات، وسهل تشجيعه للحركات الشبابية الإسلامية بالدرجة الأولى نشأة الاتحادات الطلابية القوية بالجامعات المصرية. علل السادات لهذا قائلا: «أود تنشئة شباب مسلم أتعهده بالإنفاق، فهؤلاء سيكونون عمادنا.» وقد تحمس الإخوان المسلمون لمبدأ الخصخصة، فهو مبدأ إسلامي لا يمت بصلة للشيوعية، من ثم اعتنقوا في البداية سياسات الانفتاح التي تبناها السادات والتي بدا أنها تفسح مجالا في الاقتصاد للقطاع الخاص، وتفتح سبيلا مجزيا، وتعد بتغيير يختلف عن عهد عبد الناصر الذي لم يكافئ إلا المذعن لنظامه، ويعاقب المعارض. إلا أن نقد الإخوان الجريء المتزايد للفساد والنظام الطبقي الذي ساهمت الخصخصة في مفاقمته، علاوة على نقدهم لتوقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، أعاد الفجوة بين الجماعة والنظام العسكري الحاكم. ثم أعاد حسني مبارك تصوير أعضاء الجماعة من جديد كمجموعة طائشة خارجة على القانون، بعد بضعة محاولات للتصالح معهم في أعقاب اغتيال السادات عام 1981 على يد متطرفين إسلاميين أكثر تعصبا بسبب زيارته لإسرائيل. عنى قانون الطوارئ الذي صدر مجددا عقب اغتيال السادات أن أعضاء الجماعة قد يعتقلون في أي وقت، ولأي سبب، بناء على هوى النظام. وكانت إحدى التبعات العديدة التي تولدت عن ذلك ولا تزال قائمة إلى اليوم هي مئات الإسلاميين المكبلين في غرف التعذيب المصرية. ومن الجدير بالذكر بالطبع أن أعضاء الجماعة، لا سيما بسطائها الذين انضموا إليها عن اقتناع شديد، قد عانوا معاناة هائلة تحت وطأة النظام، تحملوها في كثير من الأحيان بدرجة كبيرة من الصمود. أما قادتهم فقد منحتهم تلك الحقيقة فرصة مستحقة بقدر ما لتصوير أنفسهم على أنهم شهداء الحرية والعدالة. •••
يضطر من يتقدمون للترشح للانتخابات من جماعة الإخوان المسلمين في ظل قانون الطوارئ أن يتقدموا رسميا إلى الانتخابات باعتبارهم «مرشحين مستقلين »، ويديرون حملاتهم الانتخابية علنا تحت أبرز شعاراتهم المبسطة إلى حد مفرط: «الإسلام هو الحل»، ليتضح للجميع انتماؤهم الحقيقي. أول ما وقعت عليه عيناي في صالة الاستقبال بالدور الأرضي لمقرهم الجديد، عندما ذهبت للقاء رئيس ممثليهم في البرلمان كان ملصقا كتب عليه: «القرآن دستورنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.»
التقيت بعد بضعة أشهر من انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2005 بممثل الجماعة البارز حمدي حسن في مقر الجماعة الجديد بالقاهرة. وحمدي حسن هو أيضا ممثل كتلة المعارضة البرلمانية للجماعة وهو رجل طويل متوسط العمر بدأ الصلع يزحف على رأسه، ارتدى زيا أنيقا من حلة ورباط عنق (كدأب جميع مسئولي الجماعة). صافحني بقوة ووجهه تعلوه ابتسامة عريضة وأنا أخلع نعلي، ثم سرنا على بسط الصلاة ليستقر بنا المقام على أريكة. تساءلت ما الذي يدعونا إلى الالتقاء في قاعة صلاة، وثمة ثمانية طوابق في هذا المقر الجديد؟ واكتشفت فيما بعد أن حسن هو تجسيد لكل ما يجده نقاد جماعة الإخوان المسلمين مثيرا للسخط؛ من ميلهم إلى الحديث عن أفكار مجردة بدلا من الخوض في التفاصيل، واختزال القضايا في شعارات، والإدلاء للأجانب بما تود حكوماتهم سماعه. أثار غيظي في البداية لإصراره على الحديث إلي بالعربية الفصحى مع أنني احتججت على ذلك بأنني أتحدث العامية المصرية، ومن ثم سأجد فهم ما يقوله أصعب. يفضل الكثير من الإسلاميين التحدث بلسان العربية الفصحى التي تستقي ألفاظها من القرآن؛ إذ يرونها لغة خالصة تقريبا من الشوائب التي أدخلتها تيارات العصر الحديث البذيئة، من ثم هي أقرب إلى اللغة التي تحدث بها النبي محمد. لكن من جهة أخرى لا يستطيع أي مصري آخر تقريبا أن يتحدث بها بطلاقة، أو أن يستمتع بسماع الحديث بها، بل إن المصريين في الواقع يفتخرون بأن لهجتهم صارت اللهجة المشتركة في العالم العربي وهذا يرجع إلى حد بعيد إلى السيطرة التاريخية لقطاع صناعة التليفزيون والأفلام والموسيقى القاهري على المنطقة العربية منذ زمن بعيد. ومن العجيب أن جماعة تزعم أنها تمثل مصالح الشعب المصري الحقيقية وتعظم برامجها الاجتماعية تبقي على فواصل بهذه الأهمية بينها وبين المواطن العادي. اعتمدنا في نهاية المطاف على مترجم يترجم من الفصحى الرفيعة التي استخدمها حسن إلى لغتي - الإنجليزية - أو إلى اللهجة العامية المصرية الدارجة، وهو ما بدا أمرا شديد الغرابة. ولعل عناد حسن يبين كيف قد تنتصر المذهبية على العملية والعقلانية عندما يصعد هو وزملاؤه إلى السلطة.
أخبرني حسن أنه اعتقل مرتين منذ انتخابات ديسمبر/كانون الأول عام 2005، وقال لي أيضا إن «أسر أعضاء الجماعة الآخرين وأصدقاءهم ومعارفهم يعتقلون أو يتعرضون للضغوط دائما؛ فالنظام يهدف إلى ترهيبنا لنقلع عن جهودنا لتحقيق أهدافنا السياسية والدينية.» لكن الأرجح أن أعضاء الجماعة لن يحيدوا عن أهدافهم بقدر ما سيضطرون إلى تبني ردة فعل غير عقلانية تتخذ شكل تحدي النظام تحديا مباشرا أو اللجوء إلى العنف. وحرص حسن على أن يوضح لي أن التغيير الثوري المفاجئ هو عكس ما يؤيده هو وزملاؤه تماما، فقال: «إذا وقع التغيير فجأة في مصر، فستنشأ الفوضى وهذا يضر بمصر والعالم أجمع.»
أردت أن أعرف ما الذي جعل برنامجه كمرشح في الانتخابات يثير سخط الحكومة المصرية إلى هذا الحد، فأجابني:
هذه هي الفترة الثانية لي كممثل في البرلمان، وفلسفتي هي أن الإنسان جزء من مجتمعه. والإخوان المسلمون جزء من كل بقعة من بقاع المجتمع؛ في المنظمات غير الحكومية، والنقابات، والمجالس المحلية، وهذا يجعل برنامجنا مختلفا عن الآخرين. نحن ننظر إلى الجوانب الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية لمشكلات البلاد، ونلبي احتياجات الناس في محافظات البلاد كافة على جميع المستويات، ونقصد المواطن العادي في الشوارع لنتعرف على احتياجاته ونحاول إشباعها. نحن لا نسعى إلى جمهورية إسلامية، وإنما إلى دولة حديثة متحضرة، لكن قائمة على أسس إسلامية، ولا نعارض الديمقراطية أو الدستور، ولا آليات الدولة الحديثة المتحضرة. نحن جبهة معارضة قوية في البرلمان، ونستطيع أن نجعل صوتنا مسموعا.
بالطبع لم يتبين لي من إجابته ما فعله هو وغيره ليتعرضوا للضغط أو الاعتقال أو الحبس؛ فلم يكن أي مما قاله مثار اعتراض أو يشكل تهديدا، لكن قد يتساءل الليبراليون إن كان الإيمان بأن الإنسان جزء من مجتمعه يعني إخضاع حقوق الفرد للمصلحة العامة، في ظل عدم وضوح المسئول عن تعريف ما يسمى بالمصلحة العامة. إلا أن النظام الحاكم ليس ليبراليا على الإطلاق؛ بل ما قد يجده النظام مقلقا أكثر هو سعي الجماعة إلى تلبية احتياجات المجتمع على نحو يدين بطريق غير مباشر ضعف قدرة النظام. لكنني بدلا من التنقيب في النواحي الفلسفية اتجهت إلى الناحية العملية؛ فسألت حسن: هل يمكن أن يضع الإسلاميون والعلمانيون أجندة مشتركة باسم الشعب المصري، عوضا عن التحالف غير الرسمي الذي شكلته جماعة الإخوان المسلمين مع الاشتراكيين وغيرهم من ممثلي جبهة المعارضة بالبرلمان، والجماعات الشعبية الداعمة للديمقراطية كجماعة (كفاية) التي قادت المظاهرات ضد نظام مبارك في الشوارع؟
أجابني: «كثير من الأشياء تدفعنا إلى الاتحاد، لا سيما القضايا السياسية، كاحتمال أن يتسلم جمال مبارك الرئاسة. جميعنا يعارض ذلك، ونحن أيضا نؤيد الإصلاح السياسي، وحرية الأحزاب السياسية، وإنهاء قانون الطوارئ، وتحرير الصحافة. المناخ السياسي هو ما يجمع بيننا.»
وماذا عن حرية التعبير؟ إن أصبح القرآن هو الدستور، ألن يفرض هذا قيودا على المجتمع المصري سيرفضها العلمانيون؟
أجاب حسن بوجه خال من التعبير: «الدولة الإسلامية يتمتع فيها الجميع بحرية التعبير. يؤكد التاريخ الإسلامي هذا بوضوح شديد؛ تمتع كل المواطنين في الماضي بحق مخاطبة إمام المجتمع الإسلامي أو قائد الأمة متى شاءوا؛ رجالا ونساء، مواطنين وغرباء، مسلمين وغير مسلمين، الدولة الإسلامية لا تفرق بين كل هؤلاء، هذا أساس ديننا، وليس مسألة سياسية. سيكون هذا جزءا من دستورنا لأن القرآن دستورنا. لماذا نستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»
سألته عن شكل علاقتهم بالولايات المتحدة إن تسلموا زمام الحكم.
فأجاب: «ليس على الولايات المتحدة أن تتخوف من الإخوان المسلمين. الولايات المتحدة تدعو إلى المزيد من الحرية والديمقراطية، وتزعم أنها غزت العراق وأطاحت بصدام حسين باسم الديمقراطية، لكن العكس هو الصحيح؛ فهي تدعم طغاة العرب الذين يقمعون شعوبهم بقبضة من حديد ويحرمونهم من الديمقراطية وحقوق الإنسان. التعذيب يمارس في سجوننا كما تدل على ذلك الكثير من الصور التي صدرت والكثير من الأدلة الأخرى.»
صحيح بالفعل، لكن إجابته حتى الآن لم تثر إلا القليل من التفاؤل بنشأة علاقات إيجابية بين الإخوان المسلمين والولايات المتحدة، فهو في الواقع وصف الولايات المتحدة بالنفاق، وبأنها سبب معاناة الشعوب العربية؛ فقلت له وماذا عن إجابة سؤالي: كيف ستكون علاقة الإخوان المسلمين بالولايات المتحدة؟
تمتم قائلا: «هذه بلادنا، وهي لنا؛ فلماذا تملي علينا الولايات المتحدة الأوامر عبر الطغاة الذين تستخدمهم؟ علينا أن نتمرس على أن نكون أفضل، وعلى أن نكون دولة ديمقراطية وإسلامية تحترم أيضا التقاليد الغربية، لكن لماذا لا نتمتع بثروات بلادنا الشاسعة؟ لماذا لا يسنح لنا أن نحيا في أمن وبكرامة.»
بدا لي أن الحصول على إجابة مباشرة من حسن أصعب من استخراج الماء من قلب الصخر. لكن ربما كان الأمر يستحق سؤاله سؤالا آخر. قلت له إن الكثيرين يرون أن جماعة الإخوان المسلمين تساعد مبارك لأنها تعطيه ورقة رابحة في تعاملاته مع واشنطن، فالأمريكيون شديدو التخوف من الحركات الإسلامية إلى حد أن مبارك يمكنه أن يتجاهل النقد الموجه إليه فيما يتصل بالجماعة، ويظل مستمرا في اعتماده على المساعدات المالية الضخمة التي تعد أساسا لتأييد نظامه. سألت حسن: ألا تزعجه هذه الحقيقة؟
سارع بتأييد قولي قائلا: «النظام الحاكم يستخدمنا لترهيب الولايات المتحدة.» ثم أطبق صامتا، فألححت في سؤاله قائلا: «ما شعورك حيال هذا التناقض؟» فسألني وقد انتقلت إليه حيرتي: «أي تناقض؟» فكررت له السؤال بمزيد من الوضوح، فأجاب: «سنوات حكم مبارك ليست إلا بضع قطرات في محيط عمر هذه الأمة. الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال سقط وعمره سبعون عاما فقط. نحن موقنون من أن المستقبل لنا، وسنصادق أي دولة ترغب في مصادقتنا. نحن متحلون بالإيمان ونعلم أن لدينا مبرراتنا فيما ندعو إليه. أعتقد أن أي دولة غربية تفهمنا حقيقة ستؤيدنا، ولن تكون ضدنا مع الطرف الآخر. هذا لأن مبادئنا صالحة للتطبيق في كل مكان، ويقبلها الجميع، وهي تحقق السلام والأمن في كل أنحاء العالم وتجلب العدل والمساواة للجميع. إذا طبقت مبادئنا، فلن تكون هناك حروب أو مجاعات.»
خلص حسن في النهاية إلى أنه لا يهتم بما تدعيه الولايات المتحدة أو تفعله ضد الإخوان المسلمين، وقال بثقة: «نحن نعلم أن فلسفتنا وعقائد الشعوب الغربية ستتفقان. لا تنبع الإشكالية إلا من الحكام. يبدو أنهم في قرارة أنفسهم يضمرون الشر لنا ولشعبنا.» •••
كتب مؤرخ الشرق الأوسط إيلي كيدوري في مقال كلاسيكي بعنوان: «الشرق الأوسط والقوى» يقول: «إحدى أبسط الوسائل التي عرفتها البشرية وأفضلها للإبقاء على اتصالها بالواقع هي مقارنة أقوال المرء بأفعاله، أو مقارنة معتقداته بأدائه.» تحدث كيدوري عن الكيفية التي يسيء بها الغرب كثيرا تصوير العالم العربي لبعده عنه وقلة معرفته به، لكن هذه الوسيلة تكون مفيدة أيضا من الناحية العملية عندما ندرس أهداف جماعة الإخوان المسلمين، وأهداف حمدي حسن بوجه خاص.
في دورة 2000-2005 البرلمانية، صب أعضاء جماعة الإخوان المسلمين اهتمامهم الأكبر على تقييد حرية التعبير في ثلاثة مجالات هي الثقافة والإعلام والتعليم؛ وهذه السيطرة ضرورية لتحقيق أهداف أجندتهم الساعية إلى أسلمة المجتمع المصري من جذوره. لكن لا يسع المرء إلا الإعجاب باستراتيجيتهم رغما عنه. يستخدم الإخوان حيلة بارعة للفوز بقلوب وعقول العديد من الناخبين، تقوم على الجمع بين أجندة غامضة مفتوحة للتأويلات المختلفة تحظى بتأييد مختلف الجماعات، وتستند بوجه عام إلى المبادئ الإسلامية المتصلة بالأخلاقيات المتأصلة في المجتمع، وبين أجندة أخرى عملية تسلط الضوء على الثقافة. كان هجوم الإخوان الشرس على وزير الثقافة فاروق حسني - عندما زعم أن ارتداء الحجاب ينم عن رجعية - دليلا آخر على تواصل حملاتهم تلك على الصعيد الثقافي. فعلى أي حال، إذا أرادت المرأة أن تصون كرامتها وأن تلتزم بتقاليد الإسلام، أفلا يكون من حقها أن تفعل هذا؟ إن وصف ارتداء الحجاب بأنه دلالة على الرجعية ينتقص من قدر التقاليد ومن يتبعها بدلا من أن يحترمها. لكن حرية التعبير في منظور الإخوان المسلمين تتوقف عند هذا الحد. على سبيل المثال: ورد في صحيفة الأهرام أن كتاب «الإخوان في برلمان 2000-2005» - وهو كتاب يتناول بالتفصيل أداء ممثلي الجماعة الخمسة عشر في البرلمان في تلك الفترة - جاء فيه أن عضو البرلمان السابق من الجماعة جمال حشمت كان السبب في إجبار فاروق حسني على منع إصدار ثلاث روايات وصفتها الجماعة بأنها تروج للتجديف على الله وممارسات جنسية غير مقبولة. ووفقا لصحيفة الأهرام ويكلي، كشف الكتاب أيضا أن حمدي حسن تصدر بنفسه على الدوام حملات الإخوان المسلمين لإخماد حرية التعبير الثقافي سواء أعلى صعيد الأعمال الأدبية أم مسابقات ملكات الجمال، متخذا من حجة التجديف على الله سلاحا. وهو يتهم فاروق حسني شخصيا بتصدر «الحرب التي تقودها الولايات المتحدة حاليا ضد الثقافة والهوية الإسلامية». يظهر أيضا الكتاب أن إجمالي عدد القضايا المتصلة بالثقافة والإعلام يساوي 80٪ من مجموع القضايا التي طرحها أعضاء الجماعة في دورة 2000-2005 البرلمانية.
لكن لا يدعو أي من هذا بالطبع إلى الدهشة؛ فالثقافة محرك قوي لا سيما في مجتمع تسيطر عليه الدولة إلى حد بعيد. فبالتحكم في الثقافة، تضطلع الدولة بدور الأب، والأب جميع تصرفاته ينظر إليها على أنها دلالة على صلاحيته للاضطلاع بالسلطة. لا شك أن الإخوان المسلمين يدركون أن القيم والأخلاقيات ذات صدى في نفوس المصريين، وأنهم يستخدمون الضلالة والزيغ كأدوات للنقد. وهنا قد يكتسب منطق حمدي حسن القائل إن الإنسان جزء من مجتمعه دلالة مخيفة إن تتبعنا ما يفضي إليه؛ فبما أن المجتمع أكثر أهمية من الفرد، فعلى الفرد إما أن يساير المجتمع أو أن يقصى عنه خوفا من أن ينتشر ضلاله. فكما يوضح باري روبين في كتابه «الأصولية الإسلامية في السياسة المصرية» (2002)، استخدمت الجماعات الإسلامية المعتدلة كجماعة الإخوان المسلمين الترهيب للسيطرة على الحياة الاجتماعية والفكرية في مصر في محاولات جهيدة استغلت «الإجراءات القضائية، والتعليم، والمنظمات غير الحكومية لتلبية احتياجات المواطنين وممارسة الضغط.» وأحد الأمثلة الكثيرة والصراعات التي تندرج تحت ذلك القضية التي كانت الأكثر جذبا للانتباه عالميا، وهي قضية الأستاذ نصر حامد أبو زيد، من جامعة القاهرة، الذي اتهمه زميل متدين له بالتجديف على الله لإصداره كتاب عام 1992 يستخدم أسلوب دراسة نقدي لتحليل عبارات من القرآن. وحكمت إحدى محاكم القاهرة بعد سلسلة من القرارات المتضاربة في محاكم أدنى درجة بأن أبا زيد بالفعل مرتد عن الإسلام، وهو أسوأ صور الانحراف عن الشريعة، ويعاقب عليه بالموت. وقد دعا بعض رجال الدين بالفعل إلى إعدامه، إلا أن حكم المحكمة اقتصر على القضية التي كانت تنظرها في ذلك الوقت تحديدا وهي: هل يجب تطليق زوجة أبي زيد منه - باعتبار أنها مسلمة صالحة تحتاج إلى الحماية - أي، هل يجب أن تتدخل الدولة لحماية سمعتها وشرفها، بصرف النظر عن رغبتها. وقررت المحكمة أن هذا هو الحكم الصحيح المنصف، وأمرت بتطليق الزوجة. وفر الزوجان إلى أوروبا حيث ظلا منفيين خارج البلاد. ومن الصعب أن نصدق أن جماعة الإخوان المسلمين ستدعوهما إلى العودة إلى مصر في حال دانت لها السيطرة على البرلمان. شعر المحامي الإسلامي الذي قاضى أبا زيد آنذاك - باعتباره شخصا مستقلا لا باعتباره عضوا من جماعة الإخوان المسلمين - بسعادة بالغة. ويذكر روبين أنه قال: «هذه هي البداية وحسب. وسنفعل هذا بكل من يحسب أنه أكبر من الإسلام.» •••
لا شك أن زعم الإسلاميين الدائم أن أجندتهم لا تتبنى الديمقراطية وحسب بل ترتقي بها أيضا، هو محض هراء؛ فالديمقراطيات الغربية تكفل من الناحية النظرية مشاركة جميع المواطنين بصرف النظر عن أيديولوجياتهم وآرائهم وديانتهم، لكن جماعة الإخوان المسلمين ومثيلاتها تجعل المشاركة السياسية في المجتمع خاضعة لمبادئ الشريعة الإسلامية؛ فعلى أي حال ليس هناك من هو «أكبر من الإسلام»! على سبيل المثال: تراقب الهيئات القضائية والتشريعية الحكومية في الغرب أفعال الدولة لضمان التزامها بقواعد الديمقراطية، إذ تتحكم كل من السلطات الثلاث في الأخرى. أما في ظل نظام إسلامي، فالإخوان المسلمون أنفسهم سيضطلعون بمراقبة أفعال الدولة للتحقق من التزامها بقواعد الشريعة الإسلامية؛ بعبارة أخرى الإسلاميون سيراقبون أنفسهم! فوق ذلك لا يكفل الإخوان المسلمون حرية العقيدة إلا لأتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث؛ إذ إن القرآن - بسبب ظروف النبي محمد - لا يذكر شيئا عن الديانة البوذية مثلا ولا يعادي إلا تعدد الآلهة (الذي كانت مكة مركزا له آنذاك)، والذي ينتقده بطبيعة الحال بما أنه يسعى لأن يحل محله. أما حرية تكوين الجماعات التي تتمتع بها منظمات المجتمع المدني في النظام الديمقراطي فسترتهن في النظام الإسلامي بحدود الشريعة الإسلامية. والإخوان المسلمون يعارضون قيام الدولة على المنظومات الديمقراطية القائمة على النمط الغربي؛ فالحكومة الإسلامية تقوم على نظام الشورى (مجلس شورى)، وتبجيل القائد، ومبايعة الإمام. هذا ما تنص عليه الشريعة الإسلامية، وهذا ما ينبغي أن يكون. المنطق هنا باختصار مغلوط يفترض أن الإنسان قد حصل على كامل حريته وحقوقه في ظل الديمقراطية الإسلامية، مما يغني عن أي شك أو نقاش أو رأي أو بحث أو أي شيء آخر يسهم في تطور الثقافة، باستثناء بعض الانتقادات التافهة التي قد يعيرها الحاكم المعظم أذنه من حين لآخر. هذا هو المبدأ الحاكم والموجه في المملكة العربية السعودية، والنتائج يراها الجميع في الإنجازات الرائعة التي حققتها المملكة المجدبة على مدار العقود السبعة الماضية في الموسيقى والفن والأدب والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا.
اتضحت حقيقة جماعة الإخوان المسلمين عندما وضعت الجماعة أول برنامج سياسي مفصل لها في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007. يقرر البرنامج حرمان النساء والأقباط من تولي الرئاسة، ويزمع إنشاء هيئة من علماء الدين المسلمين لمراقبة أداء الحكومة، وهي خطوة رأى الكثير من مراقبي المشهد أنها تذكر إلى حد مخيف بالدولة الإسلامية في إيران. كما جاء في وثيقة البرنامج أن المرأة لا تستطيع أن تتولى الرئاسة لأن واجبات هذا المنصب الدينية والعسكرية «تتناقض مع طبيعتها ودورها الاجتماعي والإنساني». والمدهش أن مسودة البرنامج - كما قيل - تناولت قضايا تخص المرأة في فصل بعنوان «القضايا والمشكلات» مع مشكلات أخرى كالبطالة وعمل الأطفال. وفي الوقت الذي أكدت فيه مسودة البرنامج على «تساوي الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية»، حذرت من «إثقال المرأة بواجبات تنافي طبيعتها ودورها في الأسرة». •••
اكتملت رحلة الإخوان المسلمين الطويلة التي تخللتها معارك مستمرة ضد القمع، والتعذيب، والإعدام الاستبدادي عندما انتخب الكثير من الإسلاميين لعضوية البرلمان عام 2005. ورأى الكثيرون من مراقبي المشهد أن هذا الحدث كان أيضا نقطة بارزة في طور انصراف الجماعة عن العنف. ويراقب الغرب تحول الجماعة تدريجيا إلى تيار مسيطر في المشهد السياسي بقدر ما يراقب الأحزاب السياسية الإسلامية التي نتجت جميعها تقريبا عن تجربة الإخوان المسلمين مع الانتخابات والديمقراطية في العالم العربي والإسلامي بوجه عام. تتباين أنشطة الإخوان المسلمين من دولة إلى دولة، وفصائلهم مستقلة رسميا بعضها عن بعض، إلا أن قادة الجماعة اقتبس عنهم قولهم إن جميع فروع الإخوان المسلمين مشتركون في العقيدة، وإنهم يسترشدون بالفرع المصري الرئيسي. وقد أطلق ظهورهم القوي في الانتخابات المصرية سيلا من الأطروحات في الصحف السياسية كتبها محللون للوضع في الشرق الأوسط، أغلبهم يدعو واشنطن إلى التفاعل مع الجماعة التي بدأ ينظر إليها بدرجة متزايدة في الدوائر السياسية العملية الأجنبية على أنها الخيار الأقل ضررا مقارنة بالنظام العسكري الحاكم على الصعيد السياسي المصري الداخلي.
لكن لعل ما بدا ظاهريا كنصر انتخابي للإخوان المسلمين كان أي شيء عدا ذلك. فاز الإخوان ب 20٪ من المقاعد الانتخابية، لكن 25٪ من المصريين على أقصى تقدير أدلوا بأصواتهم آنذاك. وبما أن هذا الرقم الأخير هو ما أعلنه النظام الحاكم، فحتى هذا الرقم يجب أن يكون موضع شك إلى أقصى الحدود. فأي شخص جاب شوارع مصر يوم الانتخابات البرلمانية كان سيجد صعوبة في العثور على واحد من أبناء البلد يعلم حتى بإجراء الانتخابات، ناهيك عن أن تكون لديه أدنى فكرة عن مرشحي دائرته أو أن يكون متجها فعليا إلى مراكز الاقتراع. لكن حتى إن سلمنا بالإحصائيات الرسمية لعدد الناخبين، فإحدى التفسيرات المحتملة لنتيجة الانتخابات هي أن جماعة الإخوان المسلمين لم تنجح إلا في الحصول على تأييد نسبة صغيرة ممن تسمح أعمارهم بالتصويت، على الرغم من عدم رضا الأغلبية الكاسحة من الشعب المصري عن أداء النظام الحاكم. إلا أن هذا المنطق في مضمونه يفترض أن من أدلوا بأصواتهم هم عينة تمثل الشعب المصري بأكمله، لكن ليس هناك دليل ملموس يدعو إلى تصديق هذا أيضا . ثمة معنيان لنتيجة الانتخابات ، أحدهما أن من أدلوا بأصواتهم امتلكوا الحافز للإدلاء بأصواتهم، أو أن الإخوان المسلمين على وجه التحديد امتلكوا الحافز للإدلاء بأصواتهم، وبهذا تكون نسبة ال 20٪ نسبة مغالى فيها. وقد يكون العكس هو الصحيح؛ فثمة احتمال ألا يكون الكثيرون من مؤيدي الجماعة قد أدلوا بأصواتهم خوفا، من ثم تكون تلك النسبة معبرة عن عدد أقل من الواقع. وبعبارة أخرى، لا سبيل إلى معرفة الحقيقة، حتى إن افترضنا أن الإحصائيات التي ذكرت حقيقية ولم تتلاعب بها الحكومة بتقليص النسبة التي حصل عليها الإخوان من الأصوات أو برفعها لبث الخوف في الغرب. وباختصار، من التهور القفز إلى اعتبار نتيجة الانتخابات نصرا انتخابيا للإخوان المسلمين.
إلى جانب هذه التفاصيل المعقدة - التي يتجاهلها الغرب إلى حد بعيد - تروى أيضا الكثير من التجارب التي تدل على أن أغلب من يصوتون للإسلاميين قد يفعلون ذلك اعتراضا على فساد ووحشية النظام العسكري الحاكم الذي نجح في قمع كل البدائل العلمانية للإخوان، وليس لتقديرهم الشديد لما ترمز إليه الجماعة، على الرغم من انصرافها إلى الانغلاق على ذاتها واتجاهها إلى التدين اتجاها أقل علانية في أعقاب هزيمة عام 1967. يذكرنا هذا بقصة حركة حماس في الأراضي المحتلة، وجميعنا يعلم ما آلت إليه هذه القصة. لكن في هذا السيناريو البديل، قصة الإخوان المسلمين ليست قصة انتصار في وجه المحن بقدر ما هي قصة فشل في حشد تأييد شعبي كبير، على الرغم من الأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها مصر، والتي أثبتت في دول أخرى أنها إلى حد بعيد أرض خصبة لانتشار الإسلامية؛ سواء الإسلامية الراديكالية أو غيرها.
يرى الكثيرون أن الحكومة المصرية أزعجها نجاح الإخوان المسلمين غير المتوقع في انتخابات عام 2005، وهو أمر يدل عليه الفساد المستشري على نطاق واسع، وهجمات شرطة مكافحة الشغب العنيفة على مؤيدي الجماعة في الشوارع، واعتداءاتها البدنية على المتواجدين في قواعد دعم الإخوان المسلمين؛ سعيا لمنعهم من الإدلاء بأصواتهم، وهذه نظرية تستوجب الدراسة. تابعت قوات الأمن بالفعل اعتقالاتها العشوائية لأعضاء الجماعة بعد انتهاء الانتخابات. وهدف هذا في جزء منه إلى الإبقاء على ممثلي الجماعة الجدد في البرلمان تحت السيطرة، وبعدها قرر النظام تأجيل انتخابات المجالس المحلية وهو ما يبدو بوضوح تخوفا من فوز الإخوان المسلمين بالمزيد من المكاسب. ويوحي هذا ظاهريا بنظام يخيفه ويزعجه سطوع نجم الإخوان فجأة، إن لم يكن يوحي أيضا بالإصابة تماما بجنون الارتياب. لكن علينا دائما أن نتذكر أن من يحدد في النهاية الرابح والخاسر في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وفارق الفوز والخسارة هو النظام العسكري الحاكم ورئيسه الممثل له، وذلك على حد قول نقاد مبارك. السياق إذن هو سيد الموقف. فقد عقدت انتخابات عام 2005 في توقيت مثير جدا للفضول. تحمس الأمريكيون من جديد للديمقراطية - أو هذا على الأقل ما أعلنوه - وهذا تنافى تماما مع تأييدهم للأنظمة الديكتاتورية كنظام مبارك؛ ولا يمل الإخوان المسلمون من الإشارة إلى ذلك. من ثم تعرض مبارك في مستهل عام 2005 لضغط محدود من واشنطن فترة وجيزة للإسراع بتطبيق برنامج إصلاح داخلي تأخر كثيرا. فإذا افترضنا أن نظام مبارك ارتأى أن وجود الإخوان المسلمين في البرلمان بنسبة أكبر أمر مناسب من شأنه أن يبعث برسالة ضمنية إلى الأمريكيين مفادها أن عليهم أن يحذروا أو يتخوفوا من أن تنحرف نواياهم الطيبة عن مسارها في حال ضغطوا بشدة من أجل الديمقراطية في البلاد؛ فهل سيكون هذا شطحا بالخيال؟ تزامن هذا بالطبع مع فوز حركة حماس الراديكالية الإسلامية في انتخابات السلطة الوطنية الفلسطينية عقب ضغوط الولايات المتحدة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة. وبعبارة أخرى، بمنح الإخوان المسلمين خمس مقاعد البرلمان، كان مبارك يبعث برسالة خفية لشركائه الذين ثارت ثائرتهم فترة وجيزة في واشنطن، يقول لهم فيها: إن لم تريدوني، فرحبوا بصعود الإسلاميين، لكن أجندة هؤلاء (بعكس أجندتي) تناهض عسكريا إسرائيل والولايات المتحدة. وبعبارة أخرى، كان النظام في واقع الأمر يخبر الأمريكيين أنهم لا يستطيعون أن يحصلوا دائما على مرادهم. واستطاع نظام مبارك أن يحقق المستحيل؛ إذ خفت حدة الضغوط الأمريكية عقب انتصار الإخوان المسلمين في الانتخابات، فيما ظلت قبضة نظام مبارك تسحق قاعدة الجماعة ، بالطريقة نفسها التي تسحق بها أجهزة أمن الدولة التي لا تعرف إلا العنف والقمع جميع حركات المعارضة المنشقة. ولا عجب في أن الإخوان المسلمين في الانتخابات التي أجريت بعد أن تراجعت الولايات المتحدة عن حملتها لنشر الديمقراطية قد فشلوا في الفوز بمقعد واحد، مع أنهم خاضوا الانتخابات بتسعة عشر مرشحا. •••
من هنا يجب أن يراعى في أي نقاش عن نفوذ الإخوان المسلمين في مصر أن عدد المقاعد التي يحظون بها لا يعبر بالضرورة عن حجم التأييد الحقيقي الذي يتمتعون به. وفوق ذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن الغالبية العظمى من المصريين لم يصوتوا لهم أو للحزب الوطني الديمقراطي التابع لمبارك، بل إنهم لعنوا كلا الفريقين بالإصرار على الامتناع عن التصويت.
لكن إن كان مبارك يستخدم الإخوان المسلمين في مواجهة واشنطن لتحقيق مصالحه، فهذا لا يعني أن تلك اللعبة ليست خطيرة، كما لا يعني أن واشنطن ليست في مأزق حقيقي بسبب مساعدة ديكتاتور يفتقر إلى الشعبية والكاريزما ولا يسمح إلا لجبهة معارضة إسلامية تحت سيطرته بتحديه تحديا رمزيا. فعلى المدى الطويل قد يصبح الإخوان المسلمون الكيان الأبرز، وبما أنهم كيان المعارضة الوحيد المنظم المنسق، فسيصبحون في موقع مناسب للتحرك سريعا لملء أي فراغ في مركز السلطة إن أطاحت ثورة شعبية بالنظام الحاكم، مع أنهم لن يكونوا المحرك لتلك الثورة.
وبما أن أعضاء الإخوان يتمتعون بالخبرة الإعلامية ويتابعون عن كثب نظرة الغرب لهم، فلا شك أن ثقتهم في جماعتهم قد تزايدت عندما قفز محللو الوضع السياسي المعتمدون في واشنطن على موجة «نهضة التيار الإسلامي» في مصر، التي أتت على صهوة كتب ناجحة ككتاب جينيف عبده «لا إله إلا الله: مصر وانتصار الإسلام»، وكتاب ماري آن ويفر «صورة لمصر: جولة في عالم الإسلام الجهادي» (الذي أعيد إصداره عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، مضافا إليه فصل جديد عن أسامة بن لادن)، والذي يصور مصر على أنها ساحة معركة تتنازع عليها الديكتاتورية والتيار الإسلامي. لعل هذه الجلبة التي ثارت في واشنطن قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من استراتيجية مبارك السياسية، ولو بغير قصد. إنها استراتيجية تساعد على الإيحاء بنبوءة تحقق ذاتها، تستخدم للتلاعب بالتأييد المحدود الذي يتمتع به الإخوان المسلمون داخل البلاد لخلق تهديد زائف يعظم من شأنه السياسيون بالخارج. •••
المفارقة الفعلية هي أن الإخوان المسلمين أنفسهم يلعبون دورا في ذلك، وأعتقد أن هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل حمدي حسن، المتحدث باسم الجماعة، لا يرى وجه التناقض الذي سألته عنه وهو أن الجماعة تعد إلى حد بعيد جزءا من مشكلة مصر العويصة الحالية لا حلا لها.
استغلال مبارك لمخاوف واشنطن من الحضور الذي تتمتع به الجماعة على المستوى الشعبي في بعض القطاعات الفقيرة يسمو بمنزلة الجماعة كثيرا. وتتضح مصلحة الإخوان من بقاء مبارك في السلطة - على الأقل إلى أن يحين وقت انتزاعهم لها منه في ثورة شعبية - عندما ننظر بعين الاعتبار لحقيقة أن جماعتهم لا تتمتع بتأييد غالبية الشعب المصري وأن النظام رغم ذلك يسحق البدائل العلمانية لهم، محققا مصلحتهم في الوقت الذي يشجع فيه ثقافتهم الفاشية. وقد أظهرت الجماعة في بعض الأحيان حماسا شديدا لمساعدة النظام على تحقيق هذا. فدائما ما شدد عمر التلمساني - المرشد الإصلاحي الذي تمتع بنفوذ كبير في السبعينيات وأوائل الثمانينيات - على حاجة الجماعة إلى اعتراف وقبول رسمي، حتى إنه امتدح مبارك كقائد يجلب المزيد من الحريات قائلا إنه «رجل نزيه، شديد الذكاء، يعرف ما يريد». كما كانت جماعة الإخوان المسلمين عام 1987 جبهة المعارضة الوحيدة في البرلمان التي صوتت لتولي مبارك - المفترض أنه عدو الجماعة اللدود - الرئاسة فترة ثانية.
تعود مفارقة مهاجمة الحاكم وخدمته في الوقت نفسه إلى وقت طويل مضى، على سبيل المثال: لطالما قيل إن الملك فاروق وحتى البريطانيين شجعوا جماعة الإخوان المسلمين في أيامها الأولى باعتبارها وسيلة لمناوءة تأثير حزب الوفد القومي، والأغرب أن بعض الوثائق الرسمية التي كشف عنها مؤخرا بعض الباحثين الذين أخضعوا حقبة عبد الناصر للدراسة أظهرت أن الجماعة - التي يفترض أنها كرست نفسها لتخليص مصر من السيطرة الأجنبية - أجرت بالفعل مفاوضات مع المخابرات المركزية الأمريكية تدور حول احتمالات نجاح انقلاب تقوده الجماعة ضد عبد الناصر.
لا تزال جماعة الإخوان المسلمين إذن ركيزة أساسية في بناء النظام وليست عدوا له، تضمن بقاءه في الوقت الذي تهاجم فيه ضعف كفاءته، وأعضاؤها جميعا يؤمنون إيمانا راسخا بأنهم سينتصرون يوما ما طالما أن الله معهم، وفي الوقت نفسه يتابعون السعي لأهم أهدافهم وهو أسلمة مصر من جذورها، وآخر قطعة في هذه الأحجية هي الشعب المصري. يعلم مبارك أن الشعب المصري رغم كراهيته الشديدة له يكره أغلبه أن يحكمه نظام إسلامي ينتهك حياته الخاصة (بالإضافة إلى حياته العامة)، مما يعطيه مبررا آخر للتهويل من شأن الجماعة. •••
يعود كثير من تباين التيارات الإسلامية في مصر منذ السبعينيات بين مؤيدي الثورة العنيفة وبين رافضي العنف الذين يؤثرون الإصلاح التدريجي إلى كتابات سيد قطب. ففي الوقت الذي اتخذ فيه الراديكاليون الإسلاميون العازمون على الإطاحة بالنظام العسكري من كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» (1964) برنامجا سياسيا لهم، أدارت جماعة الإخوان المسلمين ظهرها لقطب رفضا للعنف، ورجعت إلى التقاليد العظيمة للفكر الإسلامي الليبرالي التي كانت في أفضل أحوالها في قاهرة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي كان أشهر من عبر عنها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ورشيد رضا. لكن كما يظهر بوضوح من نجاح جهود إدانة أبي زيد وتطليق زوجته منه قسرا، ونقد الإخوان الصاخب مؤخرا لمجرد احتمال ألا ترتدي المرأة الحجاب؛ فإن فكر الجماعة يتسم بالسطحية وضيق الأفق في فهمه للإسلام والتقاليد الاجتماعية التي تعد جزءا من تقاليد الفكر الإسلامي التي تؤكد على الحاجة إلى فهم القرآن فهما موضوعيا قائما على الدراسة وضرورة احترام آراء الآخرين. إلا أن مصر لا تزال تحتضن هذه التقاليد، وما زال يحييها شخص لا يتوقعه المرء: جمال البنا، أصغر أخوة حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الذي اغتيل.
أمضى جمال البنا البالغ من العمر خمسة وثمانين عاما جزءا كبيرا من حياته في دراسة النصوص الإسلامية وبرز باعتباره مفكرا ليبراليا على عكس جميع التوقعات؛ ظهر باعتباره رجلا يحب أن يرى القيم والممارسات الإسلامية تفسر في إطار العصر الحديث. ولما كانت أخته قد تركت له الكثير من المال، استطاع أن يكرس نفسه للدراسة، وبذا وقى نفسه الانجراف وراء التيارات السياسية اليومية الشائعة. لقد وصف نفسه بأنه «رجل مستقل تماما»، يعي حظه الطيب (فهو لا يملك أسرة وليس لديه من يعيله)؛ وقال: «لست موظفا، ولا أنتمي إلى أي حزب ولا أتبع أي جهة.» وهو لم يرتد بالفعل جامعة بعد أن فصل من المدرسة الثانوية لشجاره مع مدرس، وأكمل تعليمه بعدها في معهد فني. وعوضا عن ذلك، رغب جمال البنا في أن يصبح كاتبا، وكان هذا هو ما فعله. صدر كتابه الأول عام 1946 بعنوان: «ديمقراطية جديدة»، وضم فصلا بعنوان «نحو فهم جديد للإسلام»، وقد أتى هذا الفهم من رجل يقول إنه امتنع عن الصلاة بعض الوقت في مراهقته لأنه «لم يستشعر جمال» الصلاة، وهو يقر صراحة بأن بعض أحاديث النبي محمد التي تقرب في قوتها قوة التشريعات المفروضة هي أحاديث «موضوعة». لكنه وفقا لميوله الفكرية المميزة يقول إن هذا لا يعني أنها يجب أن تسقط بلا تفكير من الاعتبار، إذ إنها ترسي مبادئ هامة. يقول جمال البنا: «يعني هذا أن الوقت قد حان لدراسة السنة على نحو مختلف.» يمكن لأي من هذه التعليقات أن تفضي بجمال البنا إلى الإعدام في الدولة الدينية، لكنه لا يعبأ بهذا ويقول بلا تفاخر، وإنما يقر بالحقيقة فحسب: «أنا أمثل المدنيين.»
التقيت جمال البنا في مكتب مليء بالكتب في مؤسسة «فوزية وجمال البنا» التي يديرها في قلب القاهرة الإسلامي، وهو بالفعل رجل فريد من نوعه، شامخ الرأس، ذو جبهة عريضة بارزة وأنف معقوف وذقن ينبئ عن حزم، انحسر شعره المجعد المصفف إلى الخلف عن جبهته، وكأنه موج يتبع سفينة تشق المحيط، في نموذج فريد للشعر المصري على رأس يكاد يبدو فرعونيا. والبنا من طراز المفكرين المستقلين هادئي الطباع، الذين يضحكون ضحكة خافتة، ويتمتعون بثقة تامة بالنفس ، لا يملك خصومهم أمامها إلا البكاء حنقا وغيظا. وزاد من إحساسي بأنني في حضرة قديس تلك الحلة الداكنة المحاكة بعناية، ذات الياقة العالية التي يرتديها على الدوام، وكأنها تعبير واضح عن إخلاصه الأبدي لطائفة دينية معينة ... فهو رجل متدين ولكنه عصري في الوقت نفسه - يرتدي حلة وليس قفطانا - لكنه ليس كأي رجل عصري التقيته.
قال لي جمال البنا إن جماعة الإخوان المسلمين تأسست باعتبارها مؤسسة مدنية، ذات مفهوم اجتماعي أكثر منه ديني، للكيفية التي يجب أن يطبق بها الإسلام ويفسر وينشر. وأضاف:
الفارق بيني وبين أخي هو الفارق بين الابن الأول والأخير، بمعنى أن حسن كان أول من ولد من إخوتي وأنا كنت الأصغر. كان بيننا فارق أربعة عشر عاما. وكان مقدرا أن يصبح حسن من أول أيامه إلى آخرها شيخا إماما وأن يموت كداعية. أما معي فقد اختلفت القصة. ولد حسن البنا في قرية المحمودية وأمضى طفولة مثالية هناك حيث التحق بمدرسة القرية الدينية الابتدائية وهو في الرابعة أو الخامسة من العمر، ولوحظ أنه تلميذ يتمتع بذكاء فريد. عين عام 1927 مدرسا في مدينة الإسماعيلية التي كانت مقرا لشركة قناة السويس، فدرس المدينة، ولم يلبث أن اكتشف أنها منقسمة بين عالمين: عالم يضم العاملين بالشركة التي كانت أوروبية تماما، وعالم يضم العمالة العربية الفقيرة الجاهلة.
وطرأت لحسن البنا فكرة تغيير هذا الواقع، فقصد المقاهي - لا المساجد - وجلس فيها، واصطفى ممن التقاهم هناك ستة عاملين من شركة قناة السويس لتشكيل جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928. يرى جمال البنا أن شخصية حسن البنا كانت ستختلف تماما إن دخل الأزهر، وكان سيعجز عن تشكيل حركته.
وتابع جمال البنا كلامه قائلا:
كانت حركة الإخوان المسلمين منذ البداية حركة مجتمعية. كان هذا في عهد مصر الليبرالية، أبهى عصور تاريخ مصر. إلا أن جماعة الإخوان عندما تأسست، تمتعت بأيديولوجية بسيطة، وإحدى مواهب حسن البنا كانت قدرته على تبسيط الأفكار شديدة التعقيد تبسيطا شديدا وإفهامها للعامة. لقد امتلك قدرة مذهلة على تبسيط الموضوعات المعقدة التي تحتاج إلى معرفة متخصصة، فاتسعت قاعدة جماعة الإخوان المسلمين بعد بضع سنوات في الإسماعيلية وبورسعيد، وانتقل حسن البنا عام 1932 إلى القاهرة حيث تأسست جماعة الإخوان المسلمين عام 1948 باعتبارها مؤسسة عالمية تهدف إلى الترويج للإسلام بوصفه منهج حياة. لكن هذا كان عام حسن البنا الأخير؛ إذ اغتيل في فبراير/شباط عام 1949، إلا أن نمو جماعته السريع بين عامي 1928 و1948 كان مؤشرا على قدرتها؛ فبحلول الوقت الذي توفي فيه البنا، كان لدى الجماعة خمسمائة فرع في كافة أنحاء مصر، وضمت تحت لوائها نصف مليون عضو.
وأوضح جمال البنا أن حقيقة نمو قاعدة دعم الجماعة تكمن في الأعمال الخيرية التي قامت بها. قال:
تأسست جمعية خيرية في كل فرع من فروع الجماعة منذ البداية، وكل فرع لتلك الجمعيات قيد في وزارة الشئون الاجتماعية. كان هناك المئات من الجمعيات الإسلامية قبل الجمعيات التي أنشأها حسن البنا، لكنها كانت مستقلة بعضها عن بعض، أما حسن البنا فقد أسس النموذج الذي أنجب كافة الحركات الإسلامية الأخرى؛ وإن استقل بعض تلك الحركات فيما بعد. وقد قارنت في أحد كتبي بين حسن البنا ولينين، باعتبار أن لينين أسس الحزب البلشفي وجعل أتباع الحركة البلشفية يرتبطون بها ارتباطا قويا.
وعاد جمال البنا إلى علاقته بأخيه، فقال عنها: «كانت إلى حد بعيد تتسم بالعقلانية والمنطقية.» كان حسن عالما إسلاميا حقا. لكن لما ارتحلت أسرته إلى القاهرة كان جمال في الرابعة من العمر، ولم يلتحق بمدرسة القرية الدينية أو بأي مدرسة لتحفيظ وتلاوة القرآن. يقول جمال البنا:
عوضا عن ذلك التحقت بمدرسة تدرس منهجا علمانيا. وفيما تمتع حسن بصحة جيدة وقضى طفولة سعيدة بسيطة على ضفاف النيل تحت أشعة الشمس، كنت أنا ضعيفا واهن الصحة، لا أملك هواية إلا القراءة. كنت نتاجا لمدينة كبيرة وليس لقرية، وقد قرأت العديد والعديد من الكتب، كلها ذات موضوعات علمانية؛ فقرأت عن الاشتراكية والحركات الدستورية في أوروبا، وعن الحركة النسائية، وامتنعت عن الصلاة فترة قصيرة شأني شأن الكثير من الشباب. أذكر أن حسن آنذاك كان يخبرني بأن علي بالصلاة، فأقول له إنني لا أستشعر جمالها، فيرد علي بأن علي بها حتى لو كنت أؤديها بوصفها فرضا فحسب. كان هذا اختلافا جوهريا بيني وبينه، رغم أننا حتى عندما كنا نتشاجر، ظل كلانا يعتز بالآخر اعتزازا شديدا ويحبه حبا صادقا. وعلى أي حال، منحتني قراءاتي منظورا مختلفا.
إذن يمثل جمال البنا التيار المدني، أما أخوه فيمثل التيار الديني.
أوضح جمال قائلا: «كانت لدي تحفظات على جماعة الإخوان المسلمين منذ بدايتها؛ تحفظات على نظرة الجماعة إلى دور المرأة والفنون والسياسة.» وأردف:
كان حسن البنا يصغي إلي ويبتسم عندما أخبره بهذا، إلا أنه لم يكن يجيبني قط؛ فقد كان إماما، وكان القبول بتلك الأفكار مخاطرة، لأن العامة يريدون تصريحات بسيطة وشيخا ذا رؤية واضحة. ولا يزال لدى الإخوان المسلمين هذه الأجندة التي تضم كل ما أعارضه: من تطبيق الشريعة تطبيقا صارما، إلى تحريم الفوائد البنكية، إلى معارضة الفنون وما إلى ذلك. إلا أن طبيعة الجماعة إصلاحية وليست ثورية؛ فهم لا يرغبون في السلطة من أجل السلطة، ولكن يرغبون فيها فقط بوصفها وسيلة لتطبيق الشريعة، ولو طبق أي حاكم آخر الشريعة، لامتدحوه ودعموه. لقد سألني حسن البنا عن شعار «الإسلام هو الحل»، فأخبرته بأنه شعار جيد، لكنه لا يعدو كونه كذلك. فأنا أنظر إلى الشريعة على نحو مختلف تماما، أنظر إليها بنظرة أكثر رقة؛ فالشريعة كما أفهمها هي العدل؛ فإن دخلها ما يخالف العدل، يجب أن ينبذ، وإن كان العدل في أمر لم يدخل الشريعة، فعلينا باعتناقه. هذا هو فهمي من قراءاتي لما كتبه عظماء العلماء المسلمين في الماضي. أما الإسلاميون الآخرون كافة فيفكرون فقط في تطبيق العقوبات كقطع يد السارق ورجم الزاني.
يؤكد جمال البنا أن الإخوان المسلمين والإسلاميين يستغلون الانتخابات - وهي ابتكار علماني غربي - للفوز بمقاعد البرلمان ليبدءوا في فرض أجندتهم الدينية المتطرفة على الجميع. ويضيف:
إلا أن الإخوان المسلمين لن يستطيعوا أبدا تطبيق نموذجهم الصارم للشريعة الإسلامية في مصر إن وصلوا إلى السلطة، لأن الشعب المصري الذي ترفض أغلبيته هذا سيمنعهم من ذلك. وعندما تخوض الجماعة تحدي مواجهة الواقع المصري المعقد، ستعجز عن حل أي من المشكلات التي ترى أن الإسلام حل لها، ولا يمكن أن تزدهر الجماعة إلا باعتبارها جبهة معارضة. والمفارقة إذن هي أن نهاية الإخوان المسلمين ستحل عندما يتملكون بالفعل السلطة. فمن ذا الذي أعجبته الحكومة التي تحكمه؟ لذا سيتعين على الإخوان تقديم تنازلات هائلة للبقاء في السلطة؛ تنازلات ترتبط بأكثر ما يتشبثون به من مبادئ. والتاريخ لا يؤازرهم؛ فكل تجارب إقامة دول إسلامية في العصر الحديث فشلت، لأن الدولة الإسلامية ليست ظاهرة طبيعية، والسلطة دائما تفسد الدين، حتى الخلفاء الأوائل أفسدتهم السلطة. والفضائل الوحيدة التي تتمتع بها جماعة الإخوان المسلمين خارج السلطة هي النزاهة والكرم؛ وهي فضائل لا ينكرها أحد. •••
لا يزال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين يعدون العمل الخيري هاما بقدر أهمية الخطب الدينية، فهو يساعدهم على جذب ناخبين بخلاف جمهور ناخبيهم الأساسي عبر نظام واسع النطاق من البرامج الإصلاحية. وتشمل المجالات التي تدعمها الجماعة التعليم والصحة والتدريب المهني، إذ يدير الإخوان المسلمون اثنين وعشرين مستشفى في أنحاء مصر المختلفة، ولهم مدارس في محافظات البلاد كافة ويديرون العديد من مراكز رعاية الأرامل والأيتام، ومع أنهم لا يملكون ترخيصا رسميا بتشكيل حزب - وهو ما يمنع جماعتهم من الناحية القانونية البحتة من مزاولة الأنشطة السياسية - فإن عملهم على الصعيد الاجتماعي يعوض إلى حد بعيد هذا العائق. فالعديد من التقارير تشير إلى أن الجماعة تدير ما يقدر بنحو 20٪ من خمسة آلاف جمعية ومنظمة غير حكومية مرخصة قانونيا في مصر.
عندما زرت في منتصف عام 2006 مستشفى العمرانية التي تديرها الجماعة في منطقة فقيرة بالقاهرة تبعد عن الأهرام بضعة كيلومترات، لم أجد بالمستشفى إلا غرفة واحدة غير مشغولة.
قال لي عبد الحميد إسماعيل المدير العام للمستشفى وهو يصحبني في جولة بالمكان: «نحن على صلة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين، وأنا عضو بالجماعة.»
أوضح لي إسماعيل أن المستشفيات الاثنين والعشرين أدارتها لجنة طبية إسلامية، شكلها نائب مرشد سابق للجماعة ومولتها الصدقات.
قال لي إسماعيل: «نحن نتقاضى رسوما أقل من المستشفيات الخاصة، لكن أكبر من المستشفيات الحكومية، لكن إن عجز شخص حقا عن دفع تكاليف العلاج، لا نتقاضى منه شيئا.»
ويتلقى العلاج بتلك المستشفى المسلمون والمسيحيون على حد سواء، كما تقدم المستشفى خدماتها للنساء سواء أكن يرتدين الحجاب أم لا يرتدينه. وقال لي إسماعيل إن النسب الدقيقة لأعداد المرضى المسلمين والمسيحيين الذين يعالجون بالمستشفى غير متوفرة لأنه ما من أحد يسئل مطلقا عن ديانته قبل تلقي العلاج.
ومع أن تلك المستشفيات بلا شك تسهم في الخير، فهي مثال آخر على علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالنظام. وثمة تناقض واضح هنا بين حظر الجناح السياسي للجماعة من جهة، والسماح لها بالنمو باعتبارها مؤسسة خيرية من جهة أخرى. ومرة أخرى نكرر أن الطرفين يستفيدان: فمن ناحية، يتسع نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، ومن ناحية أخرى تنتفع الحكومة المصرية من السماح لجهات أخرى بالتخلص من الفوضى التي خلقها في المقام الأول فساد إدارتها لمنظومة الصحة. •••
إن قررت واشنطن بالفعل الإصغاء للمحللين السياسيين في منظومتها السياسية والانقلاب على مبارك أو خليفته من أجل كسب ود الإخوان المسلمين، فلن يكون هذا دليلا على «انتصار الإسلام» بقدر ما سيكون إعلانا بانتهاء تقاليد الديمقراطية والتعددية العريقة الراسخة في مصر، ستترتب عليه تبعات مدمرة على المنطقة بأسرها، لكن من حسن الحظ أن أصواتا أكثر عقلانية تنتظر من يسمعها. ففي كتابه «ماذا حدث للمصريين؟» يفترض عالم الاجتماع جلال أمين - على سبيل المثال - أن مصر تبدو وكأنها قد أصبحت أكثر تشبثا بالدين في العقود الأخيرة؛ لسببين يفسران إلى حد بعيد تيارات الأسلمة على صعيد الطبقات العليا والدنيا. كتب جلال أمين يقول: «عندما أخذ الاقتصاد يضعف في أوائل الثمانينيات، مصحوبا بانخفاض أسعار النفط الذي أدى إلى نقص فرص العمل في دول الخليج، بدا فجأة أن الكثير من الطموحات التي بنيت في السبعينيات غير واقعية وتبع ذلك شعور قوي بالإحباط.» ويضيف جلال أمين قائلا إن الميل الطبيعي نحو الالتزام المتشدد بتعاليم الدين في القطاعات المتزايدة التي تأتي من خلفيات شديدة التواضع «قد ينقلب بسهولة إلى تعصب ديني إن اقترن بخيبة الأمل في الترقي الاجتماعي.» إلا أن جلال أمين يوضح أن النجاح في الترقي قد يقود إلى النتيجة نفسها التي يقود إليها الفشل، لأن التعصب الديني يمكن أيضا أن يصنع غطاء ينتفع به من جمعوا ثروتهم أو دخولهم «بطرق غير قانونية أو غير أخلاقية»؛ فكلما زاد الفساد زاد الرياء الديني، على حد قول جلال أمين.
وإن كان جلال أمين محقا، وكان السبب الأساسي في عودة الحياة إلى التيار الإسلامي من جديد هو مزيج من سوء الإدارة الاقتصادية والفساد الصارخ، فإن السبيل إلى مكافحته هو النظر في الأسباب. وبعبارة أخرى، فإن المسألة بالدرجة الأولى مسألة تمييز بين المرض ذاته وبين أعراضه. ولعل المرء يجد بصيصا من الأمل في حقيقة أن الغالبية العظمى من جماهير الشعب المصري رفضت أجندة التيار الإسلامي أو على الأقل أحجمت عن اعتناقها حتى الآن. وإن وجد بالفعل أساس لهذا الرجاء، فهو يكمن فيما تبقى من الخليط الحيوي البارز الذي شكل مصر في عهد الملكية، والذي لم تنجح جماعة الإخوان المسلمين والنظام مجتمعين في القضاء عليه، على المستوى الشعبي، بالرغم من أقصى جهودهما.
الفصل الثالث
الصوفيون والمسيحيون
تتسم مصر بطبيعة متناقضة: تؤكد التيارات السياسية والأيديولوجية البارزة على وحدة البلاد وترابطها، ويحسب أغلب الغرباء أن مصر إلى حد بعيد مجتمع متجانس (عربي، مسلم)، لكن الواقع أنها تتسم إلى حد بعيد بتعدد قد يخلق أفكارا جديدة على الصعيد السياسي والاقتصادي إن سمح له بالنمو. لأسباب كثيرة يؤكد النظام الحاكم وكتلة المعارضة الرئيسية - الإخوان المسلمون - على تجانس المجتمع المصري. فمن ناحية الإخوان المسلمين، يعود هذا - ظاهريا - إلى مفهوم «التوحيد» الذي يتسع ليصبح مفهوما عاما عن الكيفية التي يجب أن تنظم بها شئون المجتمع. وبالتوازي مع هذا، ينظر عهد ناصر وخليفتيه، السادات ومبارك، إلى الاختلاف والتعدد على أنه مصدر ضعف لا قوة. وظل المبرر لذلك وقتا طويلا هو الصراع مع إسرائيل؛ فالخصم المنقسم على ذاته ضعيف. ومع أن مصر وإسرائيل يجمع بينهما سلام، فهو سلام بارد، ولا تزال إسرائيل العصا المستخدمة في ترهيب وإسكات وجهات النظر التي تختلف عن وجهات النظر المسموح بها رسميا.
سيتناول هذا الفصل والفصل الذي يليه بتفصيل شديد آثار هذا الانجذاب إلى العقيدة ومقاومة التعددية، لكن لننظر إلى المسألة أولا من منظور شخصي. سعد الدين إبراهيم هو رجل لطيف كبير السن يتسم بالتسامح ويتمتع بروح الدعابة، وهو أيضا عالم اجتماع ذو بصيرة ثاقبة، وربما كان الناشط الحقوقي الأشهر في مصر، وتجمعه صلات بالعديد من الصحفيين والمسئولين، وهو أيضا شوكة في حلق الحكومة المصرية. تعرض في التسعينيات للضغط بسبب تسليطه الضوء على التمييز الذي تواجهه الأقليات العرقية والدينية في مصر، وحظر مؤتمر نظمه عن هذه القضية في اللحظة الأخيرة، بدعوى أنه «سيشوه صورة مصر بالخارج». لا بد من القول إن هذا اتهام غريب إلا أنه إلى حد بعيد كاشف أيضا، يشير على ما يبدو إلى أن تعدد أطياف المصريين يضر بصورة مصر، أو على أقل تقدير بصورة الحكومة المصرية، مع أن المرء قد يحسب أن التعدد مصدر فخر ينظر له بعين الاحترام. لكن لا يبدو أنه كذلك، بالأخذ في الاعتبار أكذوبة النظام الحاكم عن وحدة البلاد. ولم يبد من جهة أخرى أن حبس سعد الدين إبراهيم وتعذيبه عام 2002 - عندما لفت الانتباه إلى بعض المخالفات وحالات التزوير في الانتخابات - يضر بصورة مصر بالخارج. من هنا يتساءل المرء إلى أي مدى يهتم النظام الحاكم فعليا بصورته، بما أن مصر انتقدت على نطاق واسع في كلتا الحالتين لسعيها إلى إخراس ناقد بارز شهير. والأمر الواضح بالتأكيد هو أن النظام الحاكم لا يهتم كثيرا بالحقيقة؛ أو لعله في الواقع يتخوف من أن تسبب له الحقيقة حرجا وتلطخ سمعته خارج البلاد. فالسبب الحقيقي وراء الضغوط التي مارسها النظام على سعد الدين إبراهيم كان عزم هذا الأخير على تقصي الفجوة التي تفصل بين ما يدعيه النظام عن نفسه والواقع، وهي فجوة هائلة بالنظر إلى مزاعم النظام بأن مصر موحدة وبأنه يسمح لمختلف الأصوات بالتنافس في الانتخابات. وفي الواقع ، زعم التوحد يناقض في جوهره أسس الديمقراطية التي لا تعتمد على وجود التعددية والاختلاف فحسب بل ترتكز أيضا - وهذا هو الأهم - على شرعيتهما وأهميتهما.
المؤسف حقا في اتفاق النظام الحاكم والإخوان المسلمين على تجانس المجتمع المصري هو أن الاختلاف هو أحد مصادر قوة مصر. ناقشنا فيما سبق مزايا فترة التعدد والمجتمع الحضري التي سبقت ثورة 1952، وأحد أسباب الحنين إلى تلك الفترة هو بلا شك ركود المشهد الثقافي المصري حاليا، إلا أن البلاد لا تزال عبارة عن خليط من الطوائف العرقية والدينية والمحلية المختلفة التي تعارض بقوة الحكم الديكتاتوري المركزي والتوافق الديني الزائف المداهن. تضم هذه الطوائف المسيحيين الأقباط الذين يشكلون ما بين 10٪ إلى 15٪ من تعداد السكان؛ وسكان صعيد مصر الذين يترابطون في عشائر ويتمتعون (في القرى) بنظام حكم ذاتي، حيث لا يوجد ضابط شرطة واحد (بل يتولى تسوية الخلافات بين الأهالي عمدة القرية)؛ والصوفيين الذين يروجون للهداية القلبية والاتصال بالله؛ والبدو الفقراء في منطقة سيناء الذين يقدر عددهم بمئات الآلاف وتمتد قبائلهم إلى ما بعد الحدود نحو داخل إسرائيل، ويشكلون على الدوام كابوسا أمنيا للنظام الحاكم؛ وأخيرا يوجد النوبيون غير العرب الذين لا يزالون - بالرغم من المزيج العجيب من التسامح والتعاطف معهم من ناحية، والتفرقة العنصرية ضدهم من ناحية أخرى من جانب المصريين العرب - يتحدثون بلغاتهم المختلفة المزدراة، ويبقون على ما تبقى من تراثهم الثقافي الفريد (الذي ضاع الجزء الأكبر منه إلى الأبد في أعماق البحيرة الضخمة التي نشأت مع افتتاح السد العالي).
يرتبط دور تلك الأطياف سواء أكان محوريا أم هامشيا في جميع الأوقات ارتباطا مباشرا بمدى دكتاتورية النظام المصري والمنظومة العسكرية الحاكمة، التي تبغض من يلفت الانتباه إلى مساوئها سواء من المصريين أم الأجانب. إلا أن هذه الأطياف تشكل معا أغلب تعداد سكان مصر، وهي مع ما تبقى من طبقة الليبراليين المثقفين وحركة الناشطين العماليين الناشئة تشكل الأمل الوحيد في أن تقوم دولة مصرية في المستقبل على أسس من الاحتفاء بالتعددية والكرامة وحقوق الإنسان الشخصية. وسيكون لمقاومة الطوائف العرقية والدينية لجماعة الإخوان المسلمين بوجه خاص، وكذلك مقاومة زحف تأثير الفكر الوهابي الأكثر تشددا القادم مع المصريين الذين هاجروا إلى المملكة العربية السعودية، تأثيرات هامة على نطاق أوسع من العالم العربي الذي تسيطر عليه إلى حد بعيد حكومات إسلامية، أو تهدده حركات شعبية إسلامية، وتبلوه شقاقات متنامية بين الفرق السنية والشيعية. المصريون يشكلون ربع تعداد سكان الوطن العربي، وهذا سبب في أن مصر كانت تاريخيا موضع تحديد الاتجاهات والنزعات في المنطقة. من هنا فإن اختيار المصريين تبني الديكتاتورية ومهاجمة العقائد المختلفة - أي الإسلامية والوحدة - أو الديمقراطية والتعددية لن يحدد مصيرهم وحدهم. ولا تتبدى تبعات هذه الاختيارات في أي قضية أكثر مما تتبدى في القضية التي يواجهها الصوفيون والمسيحيون بوجه خاص. •••
تكريما للقديسين والقديسات في الإسلام والمسيحية (واليهودية أيضا حتى وقت قريب)، تقام في أنحاء مصر كافة احتفالات ذات سمات متعددة تعرف بالموالد. وفي هذه الموالد يكون موضع التبجيل هو النبي وآل بيته، ومؤسسو الطرق الصوفية وعشرات الشيوخ الأقل شهرة الذين يحتفى بهم على الأخص في المجتمعات الريفية النائية. وتجذب كبرى هذه الموالد - كالمولد الذي يقام في القاهرة تكريما للحسين (الابن الثاني لعلي بن أبي طالب رابع خلفاء المسلمين الذي ينعي الشيعة قتله في يوم عاشوراء) - عددا يفوق المليون شخص. وهناك رسميا - وفقا لوزارة الأوقاف المصرية - ما يزيد عن أربعين احتفالا من تلك الاحتفاليات يعقد بصفة سنوية، فيما يحتفل المسيحيون أيضا بقديسيهم في احتفاليات كبيرة قد تجذب بدورها مئات الآلاف من الأشخاص من جميع أنحاء مصر والعالم العربي. ويدرج مجلس الصوفية ثمانين احتفالا آخر تكريما لمؤسسي الطرق الصوفية الأقل شهرة. والمحصلة النهائية هي أن ما لا يقل عن ستة ملايين شخص في مصر - أي نحو ثلث عدد الذكور المسلمين البالغين في البلاد - أعضاء في جماعة صوفية أو أخرى؛ ويشارك رجال يبلغ عددهم ضعف هذا العدد - بالإضافة إلى ملايين لا حصر لها من النساء والأطفال - في الاحتفالات الفعلية التي ينظمها الصوفيون. ويحتمل أن تدهش هذه الأرقام الغرباء عن مصر، وعليه هي دليل على ميل الإعلام الغربي إلى تناول التطورات التي تتصل فقط بالإخوان المسلمين بالتحليل، وهو مما يضر بالتيارات الإسلامية السائدة الأكثر اعتدالا. تدين جماعة الإخوان المسلمين إقامة الموالد على اعتبار أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، وهذا سبب من الأسباب التي تجعل عدد أعضاء الجماعة من عامة الشعب ضئيلا؛ يساوي على أقصى تقدير نصف مليون عضو. يرى هؤلاء الأصوليون السنة أن التضرع إلى هؤلاء الأولياء الصالحين وحتى الاحتفال بمولد النبي أقرب إلى الشرك بالله، ويتفق معهم في هذا شيوخ الأزهر، إلا أن الجهود المشتركة للإخوان المسلمين والأزهر - كما ذكرت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور في أكتوبر/تشرين الأول عام 2006 - لم تنجح في جذب الكثير من العوام رغم أقصى محاولاتهما معا لإضعاف مظاهر الإسلام الشعبي المصري. دارت عينا مسئول رفيع المستوى في جماعة الإخوان المسلمين استياء عندما سألته صحيفة مونيتور عن الموالد، وقال: «نحن نعارضها، إنها من آثار الجاهلية.» وأضاف: «نود حقا أن تنتهي.» غير أن كفها سيكون صعبا؛ فالطرق الصوفية تجسد الإسلام الذي يمارسه أغلب المسلمين في مصر. ومن ثم، فإنهم الحاجز الذي يحول دون التفسيرات الحرفية المتطرفة للدين التي تروج لها الجماعات المماثلة لجماعة الإخوان المسلمين. ونادرا ما تتجشم جماعة الإخوان عناء اختيار مرشحين لها في الانتخابات في المحافظات الواقعة جنوب محافظة القاهرة، حيث يعيش أغلب سكان مصر ويترسخ فيها تقليد الموالد أكثر من أي منطقة أخرى.
يقام أكبر الموالد المصرية في مدينة طنطا، كبرى مدن دلتا النيل، وخامس أكبر المناطق الحضرية بالبلاد، حيث يجتمع عدد يصل إلى ثلاثة ملايين شخص من المصريين وغيرهم من العرب كل أكتوبر/تشرين الأول احتفاء بذكرى السيد أحمد البدوي، وهو ولي صوفي من القرن الثالث عشر، وهذا عدد مذهل يجعل مولد طنطا حدثا أكبر في التقويم الإسلامي من الحج نفسه - وهو أحد أركان الإسلام - الذي يجذب هذه الأيام نحو مليوني حاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي. ويبدو أن المشاركين في مولد طنطا، وغيره من الموالد، يهدفون لنيل بركات الولي الصالح الذي يحتفل باليوم المخصص له. المركز المادي في أي مولد هو مقام الولي الذي يزين بالأضواء ويعبق بالبخور ويفتح طوال الليل للزوار. يتلو المشاركون في المولد آيات من القرآن ويعطي بعضهم بعضا الحلوى ومقدارا ضئيلا من العطور، وتتحول المنطقة المحيطة بالمقام إلى نقطة احتفال قد تستوعب ساكني قرية بأسرها (أو حتى مدينة صغيرة). وتجتمع الجماعات المشاركة في المولد في خيام لعقد حلقات «ذكر» (وهي كلمة تعني التذكر أو إحياء الذكرى)، يتوسل فيها إلى الله ويمتدح فيها الأولياء والصالحون بالترانيم والغناء والتمايل مع الإيقاع.
يقود مولد طنطا الذي يستمر ثمانية أيام - الذي كان أول الموالد التي انطلقت في مصر - زعيم صوفي يرتدي عمامة منسوجة من الكتان كانت يوما ما ملكا للسيد أحمد البدوي نفسه. ولد مؤسس الطريقة البدوية - أكبر الطرق الصوفية في مصر - في المغرب، وهاجر إلى شبه الجزيرة العربية قبل أن ينتقل إلى طنطا عام 1234 ليؤسس طريقة صوفية جديدة. كان تأسيس الطريقة مبهرا منذ البداية، وظل منذ تلك اللحظة ملمحا هاما من ملامح الحياة في المنطقة وفي البلاد. ولما دمرت مقبرة البدوي في منتصف القرن التاسع عشر، تجمع أهل المنطقة سريعا لبناء بديل لها. ويدل انعقاد مولد طنطا في نهاية موسم حصاد القطن على ارتباطه وارتباط الكثير من الموالد الأخرى بالطقوس الزراعية القديمة. ومع أن الموالد قد تحتفل بذكرى ميلاد أحد الأولياء، فمن الممكن جدا أيضا أن تقام في يوم مخصص لمناسبة أخرى غير دينية. وفي صعيد مصر قد تحاكي الموالد الطقوس والتقاويم الفرعونية؛ ومن ثم تطورت الموالد إلى احتفاليات تتسع للجميع، والكثير من المصريين لا يبالون بأن مشاركتهم بها لا تكون لعقائدهم الدينية بقدر ما تكون للتسلية، من هنا يتسكع الكثير من المسيحيين مع أصدقائهم المسلمين في الموالد الصوفية، ويتسكع الكثير من المسلمين مع أصدقائهم المسيحيين في احتفالات المسيحيين. ظل هذا وقتا طويلا هو الإسلام الذي يتبعه الكثير من المصريين، إسلام يتسم بالتسامح مع الآخر والروحانية العميقة، ويشدد على أهمية التجارة (فالمولد فرصة كبيرة لكسب المال)، وربما قبل كل شيء، على أهمية التسلية أيضا.
المولد المفضل لدي هو مولد ينعقد قبل أسبوعين من شهر رمضان احتفالا بميلاد أبي الحجاج، كبير شيوخ الأقصر؛ وهو احتفال مذهل يشمل مسابقات خيول وجمال، ورقصات تقليدية ومبارزات صورية بالعصي، جميعها تصحبها موسيقى وأضواء نيون ساطعة وقرع طبول مستمر. وأهم جزء من الحفل هو موكب من القوارب الكبيرة وغيرها من المراكب يسير في الشوارع، وهو يشبه مواكب الشمس في عصور الفراعنة وكانت الأقصر مركزا لها. ولد الولي الصالح يوسف أبو الحجاج في دمشق في القرن الثاني عشر وعاش في مكة قبل أن يستقر به المقام في الأقصر، حيث أسس معتكفا روحيا، ولا يزال أحفاده يعيشون في المنطقة، حيث عادة تبجيل الشيوخ المحليين (كما هي الحال في باقي مناطق صعيد مصر) راسخة بشدة في أسلوب الحياة الريفية الدوري القائم على تغير الفصول ومن ثم تغير أوقات الحصاد. يحتل أحفاد أبي الحجاج موقعا شرفيا في الموكب الذي يسير في الشوارع، ويسهل تمييزهم من الأردية البيضاء الطويلة المسترسلة وأغطية الرأس التي لا يرتديها سواهم، ويعقد صوفيو المنطقة في شهر رمضان نفسه حلقات ذكر في المساء خارج مسجد أبي الحجاج إلى جانب معبد الأقصر - أحد أهم المزارات الفرعونية التي تجذب السياح في المدينة - وتكثر الأساطير عن شخصية هذا الولي الصوفي وأثر روحه الخالدة. أخبرني صاحب متجر متوسط العمر في بازار البلدة السياحي في أحد الأعوام، عندما كنا نشاهد موكب أبي الحجاج ونلقي بعضا من الحلوى على مراكبه المارة التي ازدحمت بفتية نصف عراة تملؤهم البهجة وتكتسي جذوعهم بلطخ طلاء زاهي اللون: «العام الماضي، قبل أن يبدأ المولد بوقت قصير، أتى لواء من الجيش إلى المسجد وقال إن المولد لن يقام ما لم ينظف المكان تماما.» ثم استطرد حسين قائلا: «لكن بينما كان يشير إلى إحدى المناطق القريبة من المسجد، خارت قوة ذراعه وسقطت إلى جانبه عاجزة عن الحركة. وعندها أقر بهزيمته، وهلل الحشد بقوة، وكما ترى المولد مستمر كالعادة.»
كيف أصبحت الموالد جزءا هاما من حياة دولة تفتخر رسميا بأنها عربية سنية؟ رغم أن الأغلبية العظمى الكاسحة من سكان مصر هم في الواقع من السنة، فقد تخللت تاريخ البلاد فترة سيطر فيها المذهب الشيعي، بدأت في القرن العاشر عندما غزا القاهرة وحكمها الشيعة الإسماعيلية، مؤسسو الدولة الفاطمية. وقد بنى الفاطميون الجامع الأزهر - أهم مراكز تدريس المذهب السني في العالم الإسلامي - أصلا للمساعدة في نشر المذهب الشيعي. ولا شك أن هذا كان في عهد بعيد جدا، لكنه خلف أثرا عميقا على معمار القاهرة وعلى الممارسات الإسلامية وعلى مفهوم الإسلام في مصر. إن إجلال المصريين لآل بيت النبي بوجه خاص - وللأولياء الصالحين بوجه عام - أكبر منه في أي بلد عربي سني آخر. فليس من الغريب مثلا أن تلتقي ثلاثة أبناء في أسرة واحدة أسماؤهم علي وحسن وحسين؛ وهي أسماء لا يحملها إلا أطفال الشيعة في الدول السنية الأصولية كالمملكة العربية السعودية. بالمثل بعض التقاليد المصرية الأخرى كتناول الحلوى في العيدين احتفالا بانتهاء شهر رمضان وبقدوم موسم الحج، وحمل الأعلام الاحتفالية التي ترمز إلى الصوفية في مواكب أثناء الموالد، هي جزء لا يتجزأ من التقاليد الشيعية. هذا التاريخ بالمناسبة يفسر إلى حد بعيد التأييد العام الذي تمتع به القائد الشيعي الشيخ حسن نصر الله في مصر إبان قصف إسرائيل للبنان عام 2006، رغم إدانة النظام المصري الأولية ل«تهور» حزب الله، في محاولة لاستغلال ورقة الطائفية (ومن ثم تنفيذ تعليمات الولايات المتحدة بالسعي إلى قلب المصريين على حزب الله). ورغم الحملات المناهضة للشيعة التي نظمها بلهاء الإعلام المصري الذي تديره الحكومة المصرية، رفض أغلب المصريين تأييدها، بل إن صحيفة الدستور المعارضة وزعت في الواقع ملصقات مجانية إبان الحرب حملت صورة حسن نصر الله، ما لبثت أن أصبحت تتبدى للعيان في كل مكان تحت العنوان الرئيسي في الصفحة الأولى من الصحيفة «رمز المقاومة العربية»، وأظهرت استطلاعات الرأي التالية أن نصر الله هو القائد الذي يتمتع بأكبر شعبية بين المصريين في الشرق الأوسط. لذا، بعدما أدرك النظام أنه ارتكب خطأ سياسيا كبيرا - حتى بمعاييره هو نفسه - عدل عن سياسته سريعا وأخذ بدلا من ذلك في مهاجمة «العدوان» الإسرائيلي. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أيضا أن ثاني زعماء المنطقة الذين يتمتعون بالشعبية هو محمود أحمدي نجاد رئيس دولة إيران ذات الأغلبية الشيعية. ويوحي هذا بأن أي محاولة يتبناها النظام الحاكم المصري لإخفاء دعمه للحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد إيران في المستقبل تعتمد على اللجوء إلى ورقة الطائفية الشيعية السنية سترتد عليه، مما سيؤدي إلى زيادة الفجوة المتسعة حاليا بالفعل بين نظام مبارك والشعب المصري.
إن كانت الموالد وأصولها الصوفية الشيعية تشكل تحديا للإسلام السني المحافظ، فمن الطبيعي أن تصبح الموالد نفسها يوما ما مهددة بسبب نمو الإسلام السياسي في مصر منذ سبعينيات القرن العشرين، لا سيما في ضوء زحف جماعة الإخوان المسلمين إلى التيار الرئيسي والتهدئة من جانب الأزهر - أحد أذرع النظام - الذي يتجه أكثر فأكثر إلى التشدد. سيتحقق هذا بالدرجة الأولى إن وقع ما لا يخطر ببال واعتلت جماعة الإخوان المسلمين السلطة بالفعل. ومع سيطرة الفكر الأصولي على وسائل الإعلام الجماهيرية، فقد تسرب شيء من هذا الفكر حتما إلى بعض من عامة الشعب المصري. من هنا تزايد عدد من يتساءلون إن كانت الموالد حرام وبدعة بالفعل؛ فهذان انتهاكان خطيران وفقا للشريعة الإسلامية الصارمة. وبوجه عام، تتعرض الموالد أيضا للتهميش اجتماعيا ومكانيا، حتى إن محبيها بدءوا يشعرون بالحنين إلى ماضيها. يلوم الكثير من مرتادي هذه الموالد الدولة وانتشار الأصولية المتأثرة بالوهابية لأنهما كانا السبب في اختلاف وجه ليالي هذه الاحتفالات التقليدية. وتوضح آنا مادوف في مقالها عن الموالد في كتابها الرائع «القاهرة العالمية» (2006)، الذي راجعته ديان سينجر مان، إن السياسات الحكومية لعبت بلا شك دورا في هذا، فأشارت إلى أن «المحاولات القمعية المتزايدة التي تبذلها شرطة القاهرة والحكومة لإغلاق الأماكن العامة في وجه الاحتفالات الصوفية الشعبية هي وسيلة للحد من التجمعات العامة الكبيرة لا سيما بعد أن اندلعت في القاهرة احتجاجات كبيرة إثر غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003.» غير أن تزايد العداء تجاه الموالد يعود لأسباب أكثر تعقيدا وأكثر غموضا، تتعدى كراهية الحكومة للباعة المتجولين أو للارتباك الذي يخلقه تجمع الحشود الكبيرة. فهذا مثلا لا يكاد يبرر الأعمال التخريبية التي ارتكبها بعض السنيين المتطرفين في بعض الموالد.
دارت شائعة قبل بضعة أعوام بين حشد أحد الموالد في صعيد مصر، أثناء إنشاد الأغاني الدينية على المنصة في ليلة ما بأن صبيا من أهل المنطقة اختطف. قال أحد حاضري المولد من قرية مجاورة لمجلة كايرو تايمز التي لم تعد تصدر الآن - والتي كشفت عن القصة كجزء من تغطيتها للتهديدات التي تواجهها الموالد في مصر اليوم - إن «المولد فسد تقريبا»، ثم أردف قائلا: «سادت الفوضى إلى حد ما، وعاد الكثيرون إلى منازلهم لمعرفة ما يجري، وأسرع المنشد بالغناء وانتهى منه مبكرا. كان المولد من الأساس صغيرا، فكان نبأ كهذا كافيا لأن يفسد كل شيء.» لكن تبين فيما بعد أن الفتى المختطف كان ناشطا في جماعة إسلامية وهو أحد سكان المنطقة المحافظين الذين يعارضون إقامة الموالد. وعاد الفتى للظهور بعد يومين وهو يتعافى من «المحنة» في الفراش، مع أن صحته بدت جيدة على نحو واضح. زعم الكثيرون من أهل القرية لاحقا - وفقا للمقال الذي أوردته مجلة كايرو تايمز - أن الاختطاف كان تمثيلية لإفساد احتفالية المولد. وقال ساكن آخر من أهل القرية: «كان الأمر كله مسرحية، مهزلة لم يدبر لها على نحو جيد. اختطف الفتى مساء المولد، ولم يذكر على الإطلاق ما الذي أراده المختطفون، أو سبب اختطافهم له، أو غرضهم من هذا.» قيل إن هؤلاء الناشطين أزعجهم إحياء تقليد القرية بعد أن تسبب سوء التنظيم في انقطاع إقامة المولد بضع سنوات، وقد حاولوا إقناع أهل القرية بأن الاحتفال بالموالد إثم، فلما أحبطهم فشلهم في إثناء أهل القرية عن المشاركة في المولد، لجئوا على ما يبدو إلى الاختطاف الزائف لإفساد الاحتفال. لا يزال أبناء قرية جزاية في دلتا النيل يذكرون تخريب الموالد بنفس الفكر؛ ففي منتصف التسعينيات، عثر في صباحين متتاليين على اللافتات والمصابيح والأعمدة ومكبرات الصوت التي زين بها ميدان القرية في يوم مولد النبي - الذي يحتفل فيه بميلاد النبي محمد - وقد انتزعت من مكانها، وضاعت راية كتبت عليها بعض العبارات الدينية. ولما لم يثن هذا منظمي المولد الصوفيين، أعادوا تركيب معدات الاحتفال وواصلوا احتفالاتهم، لكن في صباح اليوم الثالث، وجدوا أن عمودا ولافتة قد نزعا من موقع الحفل وألقي بهما في بالوعة مفتوحة.
ويبدو أن أكثر ما يزعج الأصوليين هو اختلاط الرجال بالنساء أحيانا أثناء الموالد، وهذا يدل على تنامي تأثير الفكر الوهابي السعودي على الحياة الثقافية في مصر منذ السبعينيات، التي شهدت بدء هجرة الملايين من المصريين إلى السعودية نتيجة لرواج تجارة النفط، وقد اصطحب هؤلاء كثيرا زوجاتهم وأطفالهم معهم، حيث التحق الأطفال بمدارس محلية قلما اضطلعت بشيء غير الترويج للفكر الوهابي. ولما كانت هذه العمالة نفسها في أغلب الأحوال إما أمية أو تفتقر إلى التعليم الجيد، وشديدة العرضة للتأثر بأي أفكار، فقد تشربت الفكر الوهابي المتطرف المسيطر على مجتمع المملكة العربية السعودية ومساجدها، الذي يستنكر اختلاط الذكور بالإناث، وعادة الاحتفاء بالأولياء في الموالد (وكلا الأمرين محرم في المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى كل شيء آخر تقريبا). كانت مصر - على مر تاريخها - ليبرالية في سياساتها، وعالمية في منظورها الثقافي، ومعتدلة في تفسيرها للدين، أما المملكة العربية السعودية فقد ظلت دوما متحفظة سياسيا، لا تتقبل على الإطلاق الثقافات الخارجية، وتتبنى مفهوما متطرفا للإسلام، وتكبت بقوة اختلاف الرأي.
لا يسع المرء إلا أن يتفكر في مدى النفع الذي كان سيعود على العالم العربي إن نقل المصريون إسلامهم الصوفي عندما توافدوا بالملايين على المملكة العربية السعودية بدلا من أن يعود الكثيرون منهم بالفكر الوهابي إلى بلادهم، لا سيما إن أخذنا بالاعتبار الصراع الديني والثقافي المستمر بين مصر وأسرة آل سعود الملكية - الذي تعد الموالد إحدى ساحاته - والذي يعود إلى عهد محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر؛ عندما تلقى الأخير أوامر من السلطان العثماني بطرد أسرة آل سعود وحلفائهم الوهابيين من مكة التي كانت آنذاك منطقة شبه مستقلة تحت الحكم العثماني لكن تمكنت أسرة آل سعود من احتلالها. ونجح محمد علي في مهمته نجاحا تاما، حتى إنه طارد الوهابيين المتعصبين وأعادهم إلى معاقلهم في منطقة نجد المحورية، حيث قضى على أكثر من فروا في معركة الحجاز الأولى، ومن هنا أسدى إلى الإسلام خدمة كبيرة بتحرير مكة من الوهابيين المتطرفين. لكن للأسف، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، استعادت أسرة آل سعود سيطرتها على مدينتي مكة والمدينة المقدستين، وغيرهما من إمارات المملكة السعودية التي توحدت وسميت بالمملكة العربية السعودية في عام 1932. ظل المصريون حتى عشرينيات القرن العشرين في بداية موسم الحج السنوي يحملون الكسوة السوداء للكعبة في المسجد الحرام في ظل الأغاني الدينية والرقصات الصوفية والاحتفاليات، لكن بعد أن عززت أسرة آل سعود سيطرتها على منطقة الحجاز في منتصف العشرينيات، رجم المصريون بالحجارة واتهموا بالوثنية وانقطعت فجأة عادة حمل كسوة الكعبة. وانتشر الفكر الوهابي كالنار في الهشيم، في أرجاء العالم الإسلامي، وفي بعض قطاعات المجتمع المصري بعد أن مولته أسرة آل سعود التي تدفقت عليها الأموال فجأة بعد اكتشاف بحيرة النفط التي تقع فوقها المملكة العربية السعودية. ووجد هذا الفكر أرضا شديدة الخصوبة له مع بروز التيار الإسلامي في عهد السادات، في ظل تشجيع الأخير لعودة الإخوان المسلمين من منفاهم بالمملكة العربية السعودية. كما أن أهمية الحوالات النقدية التي تأتي من المصريين العاملين بالسعودية للاقتصاد المصري شجعت النظام الحاكم أكثر على تبني موقف سلبي إزاء صعود المملكة العربية السعودية.
لكن هناك قصة أهم في هذا السياق هي قصة تخلي مصر تدريجيا عن دورها التاريخي بوصفها رائدة للعالم العربي منذ عام 1967، لتحتل بدلا من ذلك منزلة أقل من المملكة العربية السعودية فيما يتصل بالدور الديني والسياسي. وإن بدا لنا عند تأمل الماضي أن الوحدة العربية التي تبناها ناصر لم تصنع للعرب الكثير من الأمجاد، فمن المؤكد أن العالم العربي لن يحقق شيئا ما دام وهابيو المملكة العربية السعودية المتطرفون يملكون زمام الأمور. وتتبدى نتائج انتشار الوهابية في مصر للعيان بالفعل، ومنها رفض القلة المتعصبة المتأثرة بالوهابية للموالد على اعتبار أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، ومنها أيضا التمييز والعنف ضد الأقلية المسيحية في مصر، التي يحكم عليها الفكر الوهابي بالكفر. •••
من العجيب أنني أبصرت بنفسي أول لمحة عما يعانيه المسيحيون الأقباط في مصر، عندما قمت برحلة إلى قلب صعيد مصر لزيارة قرية صديق لي تقع على بعد ساعة من مدينة سوهاج الصناعية، بينما كان هناك احتفال بأحد الموالد، وأثناء التجوال بالقرية حرص والد صديقي - وهو ناظر مدرسة محلية - على أن يؤكد على الصداقة التي تجمع بين أصدقائه المسلمين وأقباط القرية، وأشار كثيرا إلى الأقباط بعد أن تبادل التحية معهم في الشارع، لكن عندما قمنا بسلسلة من الزيارات لبيوت أصدقائه لما حل الظلام وبدأ الاستعداد للمولد، تبين أن أصدقاءه ليس بينهم أي أقباط. وفيما بعد عندما سألت صديقي إن كانت هناك أي اضطرابات قد وقعت بين مسلمي ومسيحيي القرية، باح لي عن غير قصد بأن العلاقة بين الطرفين شابها بالفعل الكثير من التوتر قبل بضع سنوات؛ لأن المسيحيين أصروا بعض الوقت على حقهم في بناء كنيسة (اليوم هم مضطرون إلى تدبر أمرهم بمنزل حول إلى كنيسة).
فسألته: «هل كان لهذا أن يتسبب حقا في هذه المشاكل؟»
فأجاب: «نعم، فهذا بلد مسلم.»
فأردت أن أعرف ماذا كان سيحدث إن أصروا على بناء الكنيسة.
وكان جوابه قاسيا إلى حد مخيف؛ قال: «كنا سنضربهم.»
من هنا اتضحت لي حدود علاقة «الصداقة» التي تجمع بين المسلمين والمسيحيين: الأقباط يعاملون باحترام ما داموا يقبلون بمكانتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وقد نم هذا عن أنهم يحتلون أدنى مراتب السلم الاجتماعي؛ بما أن القيود على الأقباط وضعها المسلمون «المعتدلون»، وهؤلاء بدورهم يهدد الإسلام السني المتشدد تقاليدهم الاحتفالية ذات الشعبية (جذب المولد تقريبا مسلمي القرية كافة من بيوتهم مساء ذاك اليوم). كما لاحظت أصول هذا التمييز العنصري الذي يمارس ضد الأقباط في الطريق لدى خروجي من القرية في اليوم التالي. كانت جميع المنازل التي مرت بها سيارة الأجرة التي استقللناها - شأنها شأن جميع منازل أهل القرية - حديثة ومبنية بالطوب الأحمر؛ ولا تكاد تمت بصلة لصورة الصعيد المصري شديد الفقر التي يثيرها كل من يشير إلى إهمال الحكومة المصرية لتلك المنطقة. أردت أن أعرف من أين أتى ساكني هذه المنطقة بهذا المال؟ فأجابني صديقي بأن الجميع عملوا تقريبا في دول الخليج، وتمنى أن يسافر بدوره إلى المملكة العربية السعودية ما إن يفرغ من دراساته.
قالت لي جورجيت قليني - وهي عضوة قبطية في الحزب الوطني الحاكم، عينها مبارك لعضوية مجلس الشعب مرتين - عندما التقيتها فيما بعد في القاهرة وقصصت لها تجربتي في تلك القرية: «لم نشهد أي نزاعات طائفية في مصر حتى ثلاثين عاما مضت.» إلا أن تجربتي بدت لها مألوفة إلى حد يبعث على الإحباط. أوضحت جورجيت بالإنجليزية التي تحدثتها بلكنة فرنسية ثقيلة أن «المسألة بدأت عندما سافر المسلمون المصريون إلى دول الخليج العربي للبحث عن عمل إبان فترة رواج تجارة النفط التي شهدتها السبعينيات.» ثم استطردت قائلة إن الكثيرين عادوا بفكر وهابي متطرف، تستغربه بيئة مصر الدينية والثقافية التي اتسمت على مر التاريخ بالتسامح، فكر يحدث المسلمين بأنهم أسمى ممن سواهم. زعمت قليني أن هذا الفكر كان قابلا للانتشار على الأخص في مجتمع صعيد مصر الذي اتسم بالفعل بالقبلية إلى حد بعيد، كما كان لنمو حركة الإسلام السياسي، التي نشأت في مصر في العقد نفسه وبشر بها الإخوان المسلمون الذين تودد إليهم السادات ليساعدوه في تهميش اليساريين، دور في ذلك أيضا. قالت قليني وهي تكبت قشعريرة سرت في جسدها: «من ثم عندما سمع مسيحيو مصر فجأة شعار الإخوان المسلمين الذي يتكرر دائما وأبدا - الإسلام هو الحل - تملكهم الخوف، وشعروا بإقصائهم أكثر عن التيار السائد.» وأردفت: «ينص دستورنا على أن جميع مواطني مصر متساوون، لكن الواقع يختلف عن ذلك، أستطيع أن أعطيك مثالا، صاحب المؤسسة المسلم الذي لدية أربعة وظائف شاغرة، سيوظف أربعة مسلمين. إن كنا جميعا متساوين، ألا يجب أن تذهب الوظيفة للأكفأ بصرف النظر عن ديانته؟»
العنف بين المسلمين والمسيحيين المصريين هذه الأيام يهدد باستمرار بأن يخرج عن السيطرة. وقد نقل عن رجائي عطية - عضو مجمع البحوث الإسلامية - في تقرير لوكالة أنباء إنتر بريس صدر عام 2007 قوله إن أكبر خطر تواجهه مصر الآن هو إذكاء العنف الطائفي. وفي الواقعة الأكثر تأثيرا التي حدثت عام 2006، هاجم مسلمون مسلحون بالسكاكين في الإسكندرية مصلين في كنائس قبطية، وتوفي مسيحي في الثامنة والسبعين من العمر وأصيب الكثيرون. وفي الموكب الجنائزي للمتوفي، اندلعت مصادمات بين المسلمين والمسيحيين توفي على أثرها مسلم وأصيب ما يزيد عن أربعين شخصا من كلتا الديانتين واعتقل عشرات آخرون. ووفقا لتقرير موقع ميدل إيست ريبورت أونلاين، اندلعت في اليوم التالي مشاحنات في الشوارع بعد أن سار المسيحيون في شوارع الإسكندرية الرئيسية حاملين صلبانا، وصارخين بشعارات مسيحية. فلطالما كان الحي المسلم الذي وقعت فيه هجمات الكنيسة في الإسكندرية مرتعا للإسلام على المنهج السعودي.
إلا أن الكثير من مراقبي منظمة حقوق الإنسان المسيحيين المصريين يلقون باللوم على حكومتهم، وإن كان يوجد ما قد دعم نظريتهم فهو ليس إلا المدونة التي أنشأتها هالة حلمي بطرس، وهي قبطية من صعيد مصر أنشأت المدونة للفت الانتباه إلى ما وصفته بالتحرش والعنف اللذين يستهدفان الأقباط، فلم تلبث أن وجدت نفسها نموذجا له، بعد أن أغلقت مدونتها، وتعقب البوليس السري تحركاتها وتجسسوا على مكالماتها ورسائل بريدها الإلكتروني وبعد أن قالت مجموعة من البلطجية - يعتقد أن الحكومة قد أجرتهم - لوالدها أثناء ضربه إن هذا الضرب: «هدية من ابنتك.» لكن ثمة آخرون يردون بأن صور عنف الدولة تلك لا علاقة لها بالدين في الأساس. يقول جورج إسحاق مؤسس حركة كفاية المعارضة والمنادية بالديمقراطية وبالإطاحة سلميا بنظام مبارك: «أنا قبطي وأحيا حياة سعيدة في حي يملؤه المسيحيون والمسلمون. الشرطة تتعامل بعنف مع أي اضطراب عام، وهذا ما يجعل الأمور تخرج عن نطاق السيطرة.»
لكن ثمة شكاوى أخرى رددها الأقباط منذ وقت طويل، من بينها قلة عدد ممثليهم في جهاز الشرطة والجهاز القضائي والقوات المسلحة والهيئات المدنية والحكومة والنظام التعليمي، كما أنه يوجد شبه حظر على التحاق المسيحيين بأجهزة الإذاعة والتليفزيون التي تديرها الدولة. ومن الأمثلة التي كثيرا ما يستشهد بها على التمييز الذي تمارسه السلطات ضد الأقباط؛ قانون ظل قائما حتى وقت قريب يقضي باستصدار موافقة الرئيس شخصيا على القيام بأبسط الإصلاحات في الكنائس، كإصلاح دورات المياه، وهو قانون يتهم بأنه السبب في تأخر إصدار تصاريح بناء الكنائس لما يزيد عن عقد. جعل مبارك القانون أقل صرامة عام 2005، وفوض مسئولية إصدار تلك التصاريح للمحافظين، مما استثار ردود أفعال متباينة بين الناشطين، فدعت صحيفة الوطني الأسبوعية القبطية إلى وصف الأمر بالخدعة التي تهدف فقط إلى تهدئة النقاد الأجانب. لكن يرى الكثير من المفكرين المسلمين والمسيحيين أن على الأقباط أيضا أن يقروا بتنامي تيار انفصالي وسط صفوفهم، وأكثر ما يزعج هؤلاء المفكرين برنامج يذاع على قناة الحياة الفضائية يقدمه قس يدعى الأب زكريا بطرس، وهو قس مصري اعتقله النظام مرارا عندما عاش في مصر، لكنه يعيش اليوم في منفى في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي برنامجه الشهير الذي يذاع مدة ساعة كل يوم أحد، يسب الإسلام والقرآن والنبي محمد أقذع السباب، مما حث البابا شنودة نفسه - رأس الكنيسة القبطية في مصر - على استنكار هذا بقوة. ولا شك أن شخصيات بارزة مثل القس زكريا تذكي في الأذهان فكرة المؤامرة الخارجية التي تستهدف «الوحدة الوطنية»، والتي ذاعت في وسائل الإعلام المصرية منذ عقد منتدى حول شئون الأقباط في الولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2005. هذا المؤتمر - وفقا لمقال صدر عن موقع ميدل إيست ريبورت أونلاين - نظمته اتحادات مهاجرين أقباط، وكانت فكرته الرئيسية هي أن «الديمقراطية في مصر يجب أن تعود بالنفع على المسيحيين بقدر ما تعود على الإسلاميين.» وقد تناول تناولا مباشرا بروز الإسلاميين في السياسة المصرية بعد انتخابات مصر البرلمانية، إلا أنه كان كذلك شاهدا على تسلط الضوء على نحو متزايد على الجماعات القبطية المقيمة في الولايات المتحدة. هذه الجماعات، وفقا للمقال، وجدت دعما طوعيا من الدوائر المسيحية الإنجليكية المحافظة الجديدة، بل تولت شركة بيندور أسوسيتس - وهي شركة علاقات عامة - الترويج لهذا الحدث من أجل عملائها المحافظين الجدد.
أكثر من تدور حوله نظريات المؤامرة الخارجية المختلفة هو الأسقف ماكس ميشيل، الذي درس في أمريكا، ويعد اليوم الشخصية الأكثر إثارة للجدل في المجتمع القبطي. انتقل الأسقف ماكس ميشيل قبل بضعة أعوام إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال الدراسات العليا في مدرسة سانت إلياس الأرثوذكسية، وهو يذكر أنه حصل على الدكتوراه في علم اللاهوت عام 2004، ثم نصبه المجمع المقدس في يوليو/تموز عام 2005 أسقفا لمجمع المسيحيين الأرثوذكس في المهجر الأمريكي، وهو مجمع معتمد في ولاية نبراسكا من تابعي التقويم القديم. وبعد ذلك رقاه المجمع نفسه إلى مرتبة رئيس الأساقفة في العام التالي وتسمى الأسقف باسم يليق بالملوك هو ماكسيموس الأول، وأعلن نفسه رئيس أساقفة المسيحيين الأرثوذكس في مصر والشرق الأوسط، متحديا بذلك تحديا سافرا سلطة البابا شنودة، ولقبه الكامل هو بابا الإسكندرية ال 117 وبطريرك أبرشية سان مارك. ثم أعلن بعد ذلك أنه سيؤسس مجمعا أرثوذكسيا مقدسا جديدا. أعقبت هذا - وفقا لصحيفة إيجيبت توداي - دعوة رسمية له من السفارة الأمريكية في القاهرة لحضور احتفالات الرابع من يوليو/تموز (يوم الاستقلال)، على نحو أثار التساؤلات حول وضع الولايات المتحدة في القضية. لكن السفير الأمريكي في مصر فرانسيس ريكياردون أصدر فيما بعد تصريحا ينفي فيه دعم الولايات المتحدة لميشيل.
يوجه ميشيل انتقادات حادة للبابا شنودة والنظام الإداري الذي تنتهجه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي يشبهها بكنائس معاقبة الهرطقة في العصور الوسطى في تعاملها مع من يخالفونها في الرأي. قال لي القس ماكس ميشيل في كنيسة سان أثناسيوس في القاهرة وهو يرتدي زيا بابويا: «الاتجاه والسلوك المتبع داخل الكنيسة القبطية هو نفسه المتبع في العصور الوسطى.» ثم أردف قائلا: «البابا هو صاحب السلطة الوحيدة، ويجب أن يكون مطاعا. علينا أن نعود إلى ما يقوله الآباء الأصليون المؤسسون للكنيسة الأرثوذكسية لا لما يقوله هذا البابا، فحتى رواد الكنائس يؤمرون بعدم شراء صحف معينة تنتقد البابا شنودة ويقال لهم إن الكنيسة ستنبذهم إن اشتروا هذه الصحف.» وقالت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية القبطية في بيان لها: «ماكس ميشيل عينه قوم تخلوا عن الكنيسة الأرثوذكسية ... لذا لا تعترف الكنيسة الأرثوذكسية بسلطته.» وأخبر المتحدث باسم الكاتدرائية الأرثوذكسية القبطية في القاهرة سالب متى ساويرس الصحف أنه من المحتمل أن الولايات المتحدة تدعم بالفعل هذا الانقسام في الكنيسة الأرثوذكسية بهدف الإضرار بشعبية البابا شنودة. لكن ماكس ميشيل أنكر أي صلة بينه وبين الحكومة الأمريكية وأخبرني بأنه لا تجمعه صلات إلا بمن كون معهم صداقات أثناء دراسته، والمصريين الذين التقاهم أثناء إقامته في الولايات المتحدة.
ووفقا لصحيفة إيجيبت توداي فإن ميشيل يحيد عن تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية في ثلاث نقاط هامة: أولا، فيما تصر الكنيسة الأرثوذكسية على عدم إجازة الطلاق إلا في حال اعتناق الزوج أو الزوجة دينا آخر أو في حالة الزنا الفاحش، يرى القس ميشيل أن هناك على الأقل ثمانية أسباب تجيز للمسيحي طلب الطلاق. كما أنه يحج إلى المواقع المقدسة في بيت المقدس والضفة الغربية وهذا طقس حظره البابا شنودة الذي صرح بأن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لن تطبع العلاقات مع إسرائيل إلا بعد التوصل إلى تسوية دائمة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وفوق ذلك، لا يرى ميشيل أن هناك سببا يمنع زواج الأساقفة وهو نفسه متزوج ولديه طفلان مع أن القانون الكنسي القبطي لا يؤهل إلا القساوسة غير المتزوجين للترقي إلى مرتبة الأساقفة.
ويثق ميشيل من أن الحكومة المصرية ستصادق رسميا على إنشاء كنيسته الجديدة. فوفقا لقوله، بعد عام واحد من تأسيسها، صار لدى الكنيسة بالفعل عشرة أفرع في أنحاء البلاد وآلاف الأتباع، لكنه موقن أيضا من أنه سيجابه معارضة لا من الكنيسة القبطية ومحاكم القانون المدني وحسب، ولكن من أغلب الأصوات القبطية أيضا. وقد شن منير فخري عبد النور - رجل الأعمال القبطي البارز - حملة ضده لدى عودته إلى مصر وصفه فيها بأنه «دجال».
الفصل الرابع
البدو
اندفع حشد ثائر من آلاف البدو عبر شوارع العريش بشبه جزيرة سيناء في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007، ممزقين صور مبارك ومحطمين أثاث الفرع المحلي للحزب الوطني الديمقراطي، ومحرقين أطر السيارات في الشوارع، وملقين الحجارة ومطلقين الرصاص في الهواء ومحطمين نوافذ المحال. وأخيرا، استخدمت قوات الشرطة القنابل المسيلة للدموع لفض هذه الاحتجاجات. وأكدت وسائل الإعلام الرسمية أن تلك الاضطرابات وقعت نتيجة لاندلاع نزاع بين قبيلتي الترابين والفواخرية البدويتين، بعد حادثة إطلاق نار أصيب فيها ثلاثة أشخاص أثناء مغادرتهم لأحد المساجد بعد الصلاة. وصف محافظ العريش تلك الواقعة بقوله إنها «حادثة محلية منفردة» ونقلت الصحافة الرسمية في حينه أن قبيلة الترابين كانت فقط غاضبة من فشل الحكومة في حمايتها من قبيلة الفواخرية. لكن منظمة شهيرة مستقلة غير هادفة للربح بالولايات المتحدة تدعى إنترناشيونال كرايسيس جروب ذكرت في تقرير مذهل صدر في يناير/كانون الثاني عام 2007 عن الوضع في سيناء؛ أنه بعد أسبوعين فحسب قام مئات من البدو بقطع الطريق الرئيسي المؤدي إلى مدينة شرم الشيخ بإطارات سيارات محترقة ومتاريس من الأحجار؛ احتجاجا هذه المرة على إزالة عشرين منزلا زعمت السلطات أنها بنيت بلا تصاريح. وبعد بضعة أيام اندلعت المزيد من احتجاجات البدو في العريش مطالبة بإطلاق سراح بعض سجناء البدو الذين زعموا أن بعضهم اعتقل بلا محاكمة منذ عام 2004، عندما وقعت في مدينة طابا هجمات إرهابية كانت بمنزلة شرارة الانطلاق لسلسلة من التفجيرات في منتجعات البحر الأحمر المبهجة التي تمثل جزءا هاما من قطاع السياحة في مصر، وإشارة إلى عودة الإرهاب إلى مصر من جديد بعد سبع سنوات من الهدوء. •••
تتمتع مدينة طابا بالكثير من الملامح الجذابة الساحرة، إذ يجري إعداد الكثير من الفنادق الرائعة الجديدة بها جزءا من خطة مصرية لإنشاء شاطئ شبيه بشاطئ الريفييرا على طول خليج العقبة لاستقبال موجة جديدة من السياح الأوروبيين والإسرائيليين الأثرياء الذين تحرص الدولة على تلبية متطلباتهم: انتقلت شركات المقاولات إلى المدينة لبناء مجمعات سكنية متكاملة بها ألعاب مائية وتصميمات أندلسية، مما أطاح بالشركات المحلية القائمة. كان الأمر كله - بطريقة ما - عبارة عن تكرار لنفس القصة الحزينة التي حدثت في القاهرة بعد انقلاب عام 1952. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2004، اختار الإرهابيون هدفهم بعناية: فجروا أحد أبرز المواقع التي يقصدها السائحون؛ وهو ليس رمزا معماريا لقطاع السياحة العالمي فحسب بل إنه أيضا موقع الإقامة الذي يفضله السياح الإسرائيليون: فندق هيلتون طابا. أودى الهجوم بحياة أربعة وثلاثين شخصا كان جزء كبير منهم إسرائيلي الجنسية. ثم وقعت تفجيرات أخرى في يوليو/تموز عام 2005 في أكبر منتجعات البحر الأحمر وأقدمها؛ منتجع شرم الشيخ، مما أسفر عن مقتل ثمانين شخصا في ذروة الموسم السياحي. لكن أغلب القتلى كانوا من المصريين. ثم كان دور مدينة دهب التي وقعت فيها ثلاثة تفجيرات قتلت تسعة عشر مصريا. لكن ردة فعل القاهرة ظلت هي نفسها في كل مرة: اعتقالات جماعية - إذ يزعم أن الآلاف من البدو اعتقلوا وعذب الكثير منهم - وتوجيه اتهامات غامضة إلى تنظيم القاعدة، من شأنها بالطبع أن تطرب آذان ممولي نظام مبارك في واشنطن.
وبعد تحقيقات مرتبكة، وجهت الحكومة المصرية الاتهام في نهاية الأمر إلى جماعة لم تكن معروفة من قبل تدعى جماعة التوحيد والجهاد. أوضحت إفادة حصل عليها المصريون من أحد زعماء الجماعة أنها بالدرجة الأولى جماعة فلسطينية إسلامية، وأن بعض من نفذوا الهجمات تدربوا في فلسطين (وكل قادة الجماعة قتلوا أو سلموا أنفسهم مما أضعفها إلى درجة قاتلة). ويذكر تقرير منظمة إنترناشيونال كرايسيس جروب أن هناك سببا قويا يدعو إلى افتراض أن الهجمة الأولى كانت مرتبطة بفلسطين؛ بالنظر إلى كثرة ضحاياها الإسرائيليين، أما الهجمتين الثانية والثالثة فيدلان في الواقع على أن الإرهابيين يبعثون برسالة إلى نظام مبارك؛ فلعلها ليست مصادفة أن المواقع التي استهدفتها الهجمات بالدرجة الأولى في دهب تخص أحد سكان المنطقة الذين ساهموا بمبالغ كبيرة في حملة مبارك الانتخابية.
الوضع على أفضل تقدير فوضوي، ولا يزال يثير سؤالا: لماذا تستهدف حملات القمع التي تقوم بها القاهرة بدو سيناء بالأخص؟ •••
تغطي شبه جزيرة سيناء مساحة 61000 كيلومتر مربع، وتمتد من شاطئ البحر المتوسط إلى خليج السويس وخليج العقبة، مشكلة إقليما حدوديا عند نقطة التقاء قارتي أفريقيا وآسيا. وقد ظلت دائما حاجزا استراتيجيا يفصل بين وادي النيل وجيران مصر الشرقيين. وظلت السيطرة على سيناء حيوية منذ عهد محمد علي في بداية القرن التاسع عشر؛ ومن اللحظة التي بدأ فيها إعلان استقلاله عن سادته العثمانيين ببناء دولة ذات حكم مركزي وتعيين حدودها. ثم أصبحت المنطقة بافتتاح قناة السويس عام 1869 مركزا لمحاولات الدول الأوروبية للسيطرة على التجارة بين البحر الأحمر والبحر المتوسط. في معاهدة طابا الأولى التي عقدت عام 1906، نجح البريطانيون - الذين فرضوا الانتداب البريطاني على مصر منذ عام 1882 - في ضم شبه جزيرة سيناء رسميا تحت الحماية البريطانية على مصر، ووضعوا الحد الفاصل بين مصر وفلسطين. ومنذ تلك اللحظة، أدار الجيش البريطاني شئون شبه جزيرة سيناء التي خضعت لصور شتى من السيطرة العسكرية.
لا تزال قناة السويس من عدة نواح هي الحد الشرقي الحقيقي لمصر، أما سيناء فيصفها تقرير منظمة إنترناشيونال كرايسيس جروب بأنها منطقة «شبه منفصلة». وخضعت سيناء وقطاع غزة لسيطرة الجيش المصري بين عامي 1949 و1967، إلا أن مصر لم تعلن سيادتها إلا على سيناء فقط. ثم كانت حرب النكسة عام 1967 التي وقعت فيها كلتا المنطقتين تحت السيادة الإسرائيلية، وباتت رمزا للكرامة العربي الجريح. وكان من الطبيعي أن تصبح سيناء هي جوهر المفاوضات بين مصر وإسرائيل في اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر/أيلول عام 1978، واتفاقية السلام في مارس/آذار 1979. كانت تلك القضية من منظور مصر قضية استعادة أرض وموقف وطني حازم، ولا صلة لها حتى بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وباختصار، تحولت سيناء إلى فكرة تجريدية. وتبين الجهود الدبلوماسية المعقدة والمطولة التي بذلت لاستعادة مقاطعة طابا وحدها مدى حرص مصر على المنطقة؛ ولكن ليس على أهلها بالضرورة. وفي نهاية الأمر، أخليت سيناء من الأسلحة والقوات، واحتلتها قوة دولية متعددة الجنسيات تقودها الولايات المتحدة بدأت عملها عام 1982، في اليوم نفسه الذي انسحبت فيه إسرائيل من سيناء. وحتى يومنا هذا، لا تزال سيناء خاضعة للنظام الأمني الخاص الذي أقرته معاهدة السلام، التي تقيد إلى حد بعيد حرية مصر في القيام بأي إجراءات عسكرية هناك .
إلا أن سيناء ليست فكرة تجريدية فقط أو «مشكلة إرهابية»؛ فقد كانت على مر التاريخ أرض البدو أهل الصحراء الذين قدمت قبائلهم من الأصل من شبه الجزيرة العربية ودول شرق البحر المتوسط، ويعيش بها قرابة خمسين قبيلة رئيسية في مناطق تحكمها وتضع حدودها معاهدات بين جماعات يحكمها قانون عادات قبلية لا قانون الدولة. من بين هذه القبائل قبيلة العزازمة التي يتوزع أفرادها بين الأردن وسوريا وفلسطين ومصر. يزعم العزازمة أنهم يملكون جميع الأراضي الواقعة بين بئر صنعاء ووادي عربة في غرب مصر، بالإضافة إلى بعض أراضي صحراء سيناء، وهم يسيطرون على وسط سيناء مع قبيلة التياها وقبيلة الأحيوات. وفي الشمال الشرقي على طول البحر المتوسط، هناك قبيلتا السواركة والرميلات، التي استقر أغلب أفرادها في الوقت الحالي في العريش ومنطقة الشيخ زويد ورفح. وفي الغرب، تشكل قبائل المساعيد والبياضية والدواغرة الأغلبية. أما في الجنوب، فالجماعات التي تشكل الأغلبية هي مجموعة من القبائل المتحدة من بينها قبيلة أولاد سيد ومزينة التي تسكن في منطقة شرم الشيخ، وفي الجبال الداخلية، لا سيما في منطقة دهب. ومن القبائل المهمة أيضا على مر التاريخ قبيلة الترابين - وهي القبيلة المعنية بالاضطرابات التي نتحدث عنها - في منطقة نويبع وفي الشمال - وهو الأهم - وصولا إلى إسرائيل والضفة الغربية.
لكن من يوصفون بالبدو بوجه عام هم في الحقيقة - كما يوضح تقرير منظمة إنترناشونال كرايسيس جروب - مجموعة مختلطة من السكان يعكسون تاريخ استيطان شبه جزيرة سيناء، تتبدى بينهم اختلافات واضحة من حيث الأصل، والتقاليد، والأنشطة الاقتصادية، وحتى اللغة. لقد قدموا من كل صوب، بل إن أفراد قبيلة الجبالية ليسوا حتى عربا، وإنما يعتقد أنهم قدموا من مقدونيا إذ أرسلهم العثمانيون إلى سيناء لتأمينها، وهناك تحولوا إلى الإسلام، واليوم يصنفون على أنهم من البدو، مع أنهم يحتفظون بهويتهم المستقلة من خلال ارتباط عجيب بدير سانت كاترين (وهو مزار سياحي هام يقع عند سفح جبل الطور الذي يقال إن النبي موسى تلقى عنده الوصايا العشر)، ومن خلال سيطرتهم على تلك المنطقة وطرقها السياحية. ويمكن تمييز قبائل أخرى من لهجاتها قريبة الشبه بلهجات أبناء دول شرق البحر المتوسط وشبه الجزيرة العربية، التي تميز أيضا بين قبيلة وأخرى. بعض القبائل أتت من أقصي جنوب البلاد، حيث النوبة، التي امتدت تاريخيا من أسوان إلى داخل أرض السودان. ولا يعلم أحد عدد أفراد تلك القبائل. وصلت تقديرات عدد أفرادها إلى ما يقرب من مائتي ألف شخص من بين تعداد سكان يصل إلى ثلاثمائة ألف وستمائة شخص في شبه جزيرة سيناء بأسرها. والباقون فلسطينيون يتسم شعورهم بهويتهم القومية بالقوة نفسها. لكن تظهر البيانات التي جاءت في إحصاء عام 1995 أن بضعة آلاف فقط من السكان يصنفون على أنهم بدو يعيشون في الجنوب، أغلبهم من الفلاحين والصيادين وبعض التجار الذين حالفهم الحظ؛ والموظفين الحكوميين، فثمة ما يقدر بنحو خمسة وسبعين ألف شخص من البدو لا يتمتعون بأي حقوق مواطنة. منحت الحكومة المصرية بعضهم على أفضل تقدير أوراق تعريف هوية خاصة بسيناء، ومن بين القبائل التي تتجاهلها الحكومة المصرية قبيلة الرشايدة في منطقتي حلايب وشلاتين التي قدمت من الأصل من دولة قطر وانتقلت فيما بعد إلى السودان ومصر - حيث استقرت حول النيل وفي جنوب البلاد وعلى البحر الأحمر - وقبيلة الطفيلات في جنوب سيناء وقبيلة المحلة في رفح على حدود مصر مع غزة. في هذا السياق أخبر أحد شيوخ القبائل صحيفة الخميس الرسمية أن التعقيدات المتصلة بحقوق المواطنة تعود إلى أيام معاهدة طابا الأولى التي عقدت عام 1906؛ فعلى حد قوله: «ورد في المعاهدة أن جميع من يسكنون مصر يجب أن يتمتعوا بحقوق المواطنة المصرية، وعندما أجرى الجيش الإنجليزي الإحصاء الأول لتعداد السكان عام 1924، منحت جميع القبائل أوراق تعريف هوية»؛ لكن هذا ليس صحيحا! •••
ومع أن أغلب أرض البدو لا تمثل لحكامهم إلا رقعة شطرنج، ومع أن أهلها عكروا على عبد الناصر صفو أحلامه بدولة مركزية ذات عرق واحد، فقد لعبوا العديد من الأدوار من أجل حكوماتهم المتعاقبة المختلفة. تاريخيا، درايتهم بالسفر عبر الصحراء جعلت قوافلهم طوق النجاة لاقتصاد الكثير من البلدان ، وهذا الدور لا يزال ملحوظا إلى اليوم؛ فعلى سبيل المثال: عندما فتحت ليبيا حدودها للأمم المتحدة، تعاقد منظمو برنامج الغذاء العالمي مع قبيلة بدوية لنقل المعونات للاجئين السودانيين من ميناء بنغازي على البحر المتوسط عبر الصحراء المقفرة إلى مخيمات اللاجئين شرق جمهورية تشاد. ومما لا شك فيه أن البدو أيضا يشتهرون بأنهم مقاتلون أشداء، وقد سمحوا بتجنيدهم مرتزقة عدة أجيال. ولا تزال الدول الحديثة تعتمد عليهم لتأمين أراضيها؛ على سبيل المثال: تزوج أول ملوك المملكة العربية السعودية - الملك عبد العزيز - من امرأة من قبيلة شمر القوية لتأمين حدود بلاده الشمالية.
لكن في هذه الخدمات التي يقدمها أهل البادية يكمن أساس مشكلاتهم؛ فقد رأت الأمم الناشئة أنه إذا كان باستطاعة طرف ما شراء ولاء البدو، فباستطاعة أي طرف آخر هذا. وتعي تلك الدول أن الولاء القبلي ظل دائما يسمو فوق المفاهيم المجردة كالهوية القومية؛ فالحدود التي تتقاتل وتتفاوض حولها الدول الحديثة لا تعني شيئا بالمقارنة بحقوق ملكية الأراضي التي تمتعت بها قبائل البدو قرونا، والتي يزعمون أنها تسلب منهم على نحو منهجي.
كل دول الشرق الأوسط التي تضم سكانا من البدو حاولت حثهم على الاستقرار، كما حاولت الحكومات الأوروبية حث قبائل الغجر على ذلك؛ أما الحكومة المصرية فبطبيعتها حاولت أن تكره أهل البادية عنوة على تغيير نمط حياتهم. صورت جريدة «الوفد» على أفضل وجه تحمس الحكومة المصرية الطائش لهذا، عندما أوردت أن استراتيجية التنمية الزراعية بالمنطقة لن تفتح وحسب بابا للربح الوفير الذي يمكن لمستثمري القطاع الخاص احتكاره، بل ستفتح «الباب أيضا لبناء نطاق أمني على طول حدود مصر المفتوحة» يشكل عائقا يمنع الإرهابيين والمتآمرين من دخول مصر، لأن هذه الاستراتيجية سوف تحيل مناطق شاسعة إلى ما يشبه المستعمرات في الصحراء. (لاحظ هنا أن البدو ينظر إليهم فقط على أنهم لبنات بناء سياج أمني).
قاد التوسع في بناء المدن على أراضي الرعي التقليدية، والجفاف الذي سببته التقلبات الجوية في العقود الأخيرة؛ إلى موت الكثير من المواشي التي ظل البدو يرعونها، وأديا في بعض الحالات إلى موت جميع مواشي القبائل الأكثر فقرا والأقل شأنا؛ غير أن البدو محرومون أيضا من آثار الازدهار السياحي، فقد خصصت جميع مواقع البناء في منتجعات البحر الأحمر إبان الأعوام الخمسة عشر الأخيرة للشركات المصرية والأجنبية المستثمرة في السياحة، في الوقت الذي أقصت فيه البرامج الحكومية البدو إلى الصحراء. كما أن معدل البطالة بين البدو شديد الارتفاع، وأغلبهم محرومون من التمتع بالتعليم والمهارات اللازمة لتأسيس المشروعات الصغيرة التي تلبي احتياجات السياح. ففي عام 2002 وحده، خلق إنشاء مائة وعشرة فندق ما بين عشرة آلاف إلى ثلاثين ألف فرصة عمل، ذهبت جميعها تقريبا إلى مصريين من مناطق أخرى. فمن أجل تقليص نسبة البطالة بالقاهرة وغيرها من مدن دلتا النيل المزدحمة، شجعت الدولة العمالة على الانتقال من تلك المدن إلى سيناء، حيث يحصلون على راتب أكبر ويتمتعون بمستوى معيشة أفضل؛ وهكذا يضطر البدو الذين أبعدوا إلى البحث عن سبل بديلة لكسب العيش، وهي سبل شبه معدومة في تلك المنطقة؛ على الأقل السبل القانونية. على سبيل المثال: ذكرت منظمة إنترناشونال كرايسيس جروب أن جميع عاملي أحد فنادق الخمس نجوم يأتون من مدن وادي النيل، عدا بحارين من بين مائتين وخمسين عاملا يضمهما طاقم زورق الفندق يأتيان من العاصمة الإدارية لمحافظة جنوب سيناء، وهي مدينة الطور. ويحرم البدو أيضا من العمل مرشدين سياحيين على الطرق الصحراوية.
تأمل على سبيل المثال قرية جارغانا الساحلية، يعيش البدو هناك بالقرب من غابات أشجار المانجروف الاستوائية، وهي بذاتها تستحق الحماية من حيث المبدأ حفاظا على النظام البيئي المحلي، ويعتمد البدو هناك في الصيف على الصيد كمصدر رئيسي للعيش، ويحفظون الأسماك من أجل الشتاء الذي ينتقلون فيه إلى الأودية للهروب من الصقيع ورياح الساحل القوية. لكنهم اليوم يدعون أنهم يتعرضون للإقصاء والتهميش على نحو منهجي بسبب قطاع السياحة الجديد الذي نما في كل أنحاء جنوب سيناء؛ فيزعمون أولا أن أصحاب الفنادق والمنتجعات يمنعونهم من الصيد، لذا وافقوا على الصيد في مواقع محددة فقط فرضتها هيئة الحفاظ على محميات جنوب سيناء؛ وثانيا يتهمون محافظ سيناء بحرمانهم من الصيد في أي مكان حرمانا باتا. وبعبارة أخرى، يقصى البدو باستمرار إلى المناطق النائية. وهكذا غيرت السياحة البيئية والأموال التي تجلبها منظور بعض شباب البدو، فحاولوا التأقلم معها ليلعبوا دورا فيها، لكن هذا - حسبما يرى كبار البدو - أضر بقيم البدو التقليدية: البساطة والترابط واحترام المنظومة القبلية التقليدية، ووتيرة حياتهم التقليدية. باختصار، اتجه هؤلاء الشباب إلى الجريمة والكسب غير المشروع. لا شك أن أي مشروع تطوير ذي رؤية سديدة كان سيحاول إشراك صيادي البدو في المشاريع السياحية، لجني الأموال من التجارب المشوقة وحدها التي يقضيها السياح بين البدو الأصليين، ولو أن الحق هو أن جزءا كبيرا من العالم بدأ مؤخرا يتطلع إلى وسائل أخرى بخلاف عرض سكان المنطقة الأصليين باعتبارهم وسائل لإدهاش السياح.
لكن هذه هي الوسيلة التي يجني بها البدو الكثير من المال في جنوب سيناء عندما يمنحون دورا هامشيا بالقطاع السياحي؛ بتحويل أنفسهم إلى وسيلة جذب. ورغم تهميش البدو، يزخر دليل السائح بصور ملونة لهم. ولكن في شمال سيناء، يكاد النشاط السياحي يكون منعدما، فالقرى السياحية التي أنشأتها الحكومة المصرية على طول الساحل الشمالي هي في واقعها بلدان مهجورة، ولا تكفي منطقة العريش الصناعية الصغيرة ومطارها لإعالة عائلات البدو. والوعود بتقديم المساعدات المالية وتأسيس المشروعات الجديدة من أجل الإسكان والتوظيف تحولت - على حد قول صحيفة هاآرتس الإسرائيلية عام 2007 - إلى «مزحة». فكما جرت العادة دائما في مصر، وضعت الخطط الكبرى ودراسات الجدوى، لكن لم تبن في الواقع أي مصانع كبرى منذ عام 2001، ويزعم أن إجمالي عدد العاملين في المصانع المنشأة بالفعل يقل عن الخمسة آلاف. لكن هذا لا يعني أن جهود إسكان البدو قد فشلت؛ لقد نجحت، ولكن ليس على الوجه الذي خططت له الحكومة المصرية؛ فقد ذكرت منظمة إنترناشونال كرايسيس جروب أن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها شبه جزيرة سيناء في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة قد دفعت البدو الباحثين عن عمل وتعليم من أجل أبنائهم إلى إنشاء مستوطنات فعلية على أطراف المدن. وبعبارة أخرى، شكلوا طبقة دنيا تعيش في الضواحي ويخلق وجودها جميع أنواع المشكلات: الجريمة وتطرف الشباب.
لكن التعليم الذي يبحثون عنه هناك لا يستحق بالضرورة السعي إليه. ولا يسع بدو الأرياف غير المسجلين مواطنين مصريين التمتع بتعليم حكومي على الإطلاق. وقد ذكرت إحدى هيئات التنمية أن نسبة الأمية بين بعض البدو تصل إلى 90٪، وإن سنح لهؤلاء التعلم فالتعليم شأنه شأن التعليم في سائر مصر يدور بالدرجة الأولى حول التراث الفرعوني والدولة المركزية؛ لكنه لا صلة له على الإطلاق بالبدو. من ثم كان المشروع الوحيد الذي سعت إليه الحكومة المصرية بحماس هو تأسيس متحف فرعوني بالعريش بما أن المنطقة تخلو من التراث الفرعوني، وهو ما لا يبدو إلا محاولة لفرض طابع الدولة على تلك المدينة التي ظلت إلى ذلك الوقت تحتضن متحفا مربحا للتراث البدوي. وعندما يعلم الآباء أبناءهم تراثهم العربي، يقال إن المعلمين بالمدرسة يستدعونهم لتوبيخهم على ذلك.
أما على الصعيد السياسي، فقد أخطأ النظام المصري في افتراضه أن هيكله العسكري ينعكس في النظام القبلي، إذ ظل المنطق الذي يحركه هو السيطرة على القادة للسيطرة على الجميع. ومن هنا بدأت أجهزة أمن الدولة في لعب دور في عملية انتقاء شيوخ القبائل، التي جرت التقاليد على أن تتم بإجماع القبيلة، تماما كما تصر الحكومة المركزية في القاهرة الآن على أن يكون جميع الأئمة من موظفي الحكومة. لذا لا يتمتع الأئمة الجدد بمصداقية بين أبناء الشعب، ولا رؤساء القبائل بالمصداقية في قبائلهم. وأدى ضعف نفوذ كلا الفريقين إلى فراغ قد يتسنى للمتطرفين استغلاله، وضعفت شرعية شيوخ القبائل إلى حد أنهم بدءوا يلعبون دورا مشابها لدور شيوخ المملكة العربية السعودية الذين يحجب ولاؤهم المعلن للنظام الحاكم واقعا مختلفا تماما يسود بين العامة. •••
الإهمال يدور في حلقة مفرغة خبيثة.
قال شخص مجهول الاسم من إحدى قبائل البدو لصحيفة الأهرام الأسبوعية في حديث إلى الصحيفة في مايو/أيار عام 2007: «أضحت حياتنا لا تطاق منذ سنوات، ويبدو أن أي بدوي يعد بلا تفكير مشتبها به .» هذا الشعور بعدم الثقة في البدو ترسخ في سنوات الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى البدو على أنهم حلفاء لإسرائيل، ومن ثم خائنون للقضية القومية المصرية. ولعل هذه الوصمة قد لازمتهم لسبب يمكن تفهمه بعد عودة سيناء إلى مصر. فعلى أي حال، الجيش الإسرائيلي لديه كتيبة كاملة من البدو، بعض قبائلها تنحدر من نسب مقارب للقبائل المصرية، وما يقرب من 20٪ من شباب البدو هناك الذين بلغوا السن المناسبة للالتحاق بالجيش يتطوعون للالتحاق بالجيش الإسرائيلي. من هنا صوتت مدن البدو في إسرائيل على مر تاريخها بكثافة للأحزاب الصهيونية، وظل المرشحون المتطرفون يفوزون بما يصل إلى 95٪ من أصوات البدو في بعض المدن إلى وقت قريب، حتى الثمانينيات. ومع أن هذه الأصوات تضاءلت على مدى عدة انتخابات، لا يزال يهود الجناح اليميني يفوزون بأغلب أصوات البدو الذين تضطلع كتائبهم الاستطلاعية الشهيرة إلى حد بعيد بمراقبة الحدود، والذين ظلوا يتمتعون بحضور على حدود منطقة رفح إلى أن انسحبت إسرائيل من غزة، ويزعم الفلسطينيون أن جنود إسرائيل من البدو أكثر عدائية ووحشية من قوات جيش الدفاع الإسرائيلي، فهم من يقود شاحنات إزالة المنازل. على سبيل المثال: قتل جندي إسرائيلي من البدو - أدانته المحكمة فيما بعد - ناشط السلام الشاب البريطاني توم هاندرال عام 2004 في رفح وهو يدافع عن منزل فلسطيني ضد أعمال الإزالة.
وكما هو متوقع، ظهرت عقب الاضطرابات الأخيرة تقارير في صحف مصر الوطنية تذكر أن البدو يطالبون بضمهم مجددا إلى إسرائيل، أو بأن يشكلوا «كيانا مستقلا» عن البلاد، وأكد زعماء القبائل في بيان صدر بالعريش أنهم يعتبرون أنفسهم «مواطنين مصريين مخلصين»، ولا يجب التشكيك في انتمائهم القومي. وقال شيخ قبيلة العزازمة للصحفيين: «نحن مصريون بالرغم من موقف الحكومة المصرية السلبي منا، ونحب وطننا بالرغم من المعاملة التي نلقاها من أجهزة الأمن، لذا نناشد الرئيس مبارك مساعدتنا.» لكن حتى إن صح هذا، فلن ترغب إلا قلة في الحكومة المصرية في الإصغاء إلى البدو، فاتهام القبائل التي تشتهر بغدرها وعدوانيتها بأعمال العنف أفضل بكثير من الإقرار بوجود مشكلة ساعدت الحكومة في خلقها. بل ظلت الصحف تسهب في الحديث عن مقابلة صحفية لممثل آخر للبدو مع قناة بي بي سي العربية أوضح فيها أن البدو قصدوا إسرائيل للتعبير للسفير المصري في تل أبيب عن همومهم، لأن تل أبيب «أقرب لنا من القاهرة». والأرجح أن الرجل قصد القرب المادي - فالبدو على كل حال لم يقصدوا الكنيست - لكن لا يزال بالإمكان إقناع الآخرين بأن هذا مطلب غادر يدعو إلى تدخل إسرائيل.
لكن لا يسع المرء لوم البدو. قد تدعهم إسرائيل يضطلعون بالمهام القذرة لها، لكنها على الأقل تدفع لهم لقاء عملهم، في الوقت الذي يتعذر فيه بالطبع على أكثر شيوخ القبائل وفاء أن يشرح لقبيلته سببا واحدا محددا يدعوه إلى حب الدولة المصرية، ربما باستثناء أن يوضح لهم أن ما يربطهم بغيرهم من المصريين هو المعاناة التي تطلق الدولة يدها في صبها عليهم بدورهم. لكن الواقع هو أن البدو لا يميلون إلى الجانب المصري أو الإسرائيلي، فقد حثت الظروف المعيشية البائسة بعض البدو على البحث عن سبل بديلة لكسب الرزق تأخذ شكل المتاجرة في الأسلحة مع الفلسطينيين، وفي المخدرات، وفي تهريب النساء إلى إسرائيل التي تعد معبرا لعاهرات شرق أوروبا ووسط آسيا.
يعبر البدو جيئة وذهابا الحدود التي تمتلأ بالمنافذ بين مصر وإسرائيل، وتتهمهم الحكومتان المصرية والإسرائيلية بالتهريب بناء على أسس قوية. على سبيل المثال: في سبتمبر 2007، كشفت السلطات المصرية عن خبيئة من الذخائر حوت ثلاثة أطنان من المتفجرات في حقائب بلاستيكية، وكشفت في شهر يوليو/تموز من العام نفسه عن نصف طن من المتفجرات على بعد خمسة وعشرين كيلومترا من الحدود المصرية مع غزة. وفي الوقت نفسه، وجد التيار الإسلامي - ومن ثم العداء لإسرائيل - أرضا خصبة بين شباب البدو الذين حفزتهم سياسة الهوية والتي من شأنها أن تنتشر آخر الأمر بين من لا يجدون أمامهم خيارا سوى موالاة هذا التيار. لقد اقتبست منظمة إنترناشونال كرايسيس جروب عن رجل يمثل الكثير من البدو في نويبع قوله: «أنا مسلم، عربي، بدوي من قبيلة ترابين من سيناء من مصر.» وبعبارة أخرى، فإن الولاء الديني يأتي أولا. يعود هذا في جزء منه إلى أن الكثير من قبائل البدو يرجع أصلها إلى بلاد النبي محمد لا بلاد الفراعنة، لكن يستحيل تحديد إلى أي مدى تأتي هذه العبارة من قبيل التملق والولاء الكاذب للدين - أو بعبارة أخرى، هل لم يعد الولاء للقبيلة يحل في المرتبة الأولى - ويصعب تحديد مدى تنافي العروبة لدى البدو مع الانتماء للغرب أو اليهودية؛ وفي الأحوال كافة، يظل تأثير الإسلام واضحا جليا، وإذا أضفت إلى هذا الخليط الفقر والشعور بالاستياء، فستحصل على النتيجة المتوقعة.
يكشف برنامج أعضاء جماعة التوحيد والجهاد - أيا كانت صلات هذه الجماعة بالمنظمات الإرهابية الأجنبية - بوضوح شديد عن تلك الظاهرة؛ أي ظاهرة تطرف الشباب الذين قد يكون انجذابهم إلى النشاط الإسلامي المسلح نابعا من خليط من اليأس الناجم عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية وأزمة الهوية، وعن رغبة في التضامن مع المنطقة. كم هي منطقة عازلة آمنة فعلا!
فوق ذلك، يدور الحديث اليوم عن إحياء خطة الحكومة المصرية القديمة لإخلاء منطقة حظر عسكرية تضم منازل وأشجارا بجوار معبر رفح، حيث يمكن فيها للبدو ممارسة أنشطة التهريب، ولكنهم سيسكنون ويزرعون الأرض في الوقت نفسه. وقد تروق هذه الخطة لمبارك الذي يواجه مشاكله الخاصة مع قيادات حركة حماس بالناحية الأخرى من المعبر (لاحظ أن حماس نشأت أصلا من الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين)، كما قد تروق للإسرائيليين الذين يشكون دوما من تهريب الأسلحة عبر أنفاق تحت الجدار الحدودي. ذكر أهل تلك المنطقة في يوليو/تموز عام 2007 أن الخطة تستهدف إخلاء قطاع عرضه مائة وخمسون مترا، سيتسع فيما بعد ليصل عرضه إلى ثلاثة كيلومترات عند حد رفح الذي يمتد اثني عشر كيلومترا. ويشير أهل المنطقة إلى زيارة غامضة قام بها وفد من الكونجرس الأمريكي في يوليو/تموز عام 2007 لتفتيش المنطقة. لكن المؤكد هو أن قوات الأمن تتدفق إلى هناك، وقد تحبط على المدى القصير بعض محاولات التهريب، لكن كما يقول الصحفي الإسرائيلي تسفي بارئيل في صحيفة هاآرتس: «لم تعد العقوبات تؤثر في البدو في الوقت الحالي.» •••
لا ترد المساعدات تقريبا للبدو إلا من خارج البلاد، وهو ما من شأنه أن يصم مصر بالعار - فهي على كل حال بلد يعتبر تشويه سمعته بالخارج جرما - والأدهى أن بعض المساعدات ترد من برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، الذي يقترن كثيرا في الأذهان بضحايا المجاعات في كوريا الشمالية، والنازحين من أفريقيا جنوب الصحراء أكثر مما يرتبط بالمناطق السياحية المزدهرة. في ذلك قال بيشو بارجولي مدير برنامج الأغذية العالمي: «لا تشير الإحصائيات إلى أن المنطقة تعاني من فقر شديد؛ فسيخفي الازدهار السياحي ومنطقة شرم الشيخ هذا، لكن علينا التعرف على مجتمعات المنطقة التقليدية.» يسلط برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في سيناء الضوء على الغذاء و«بناء القدرات»، لكن هذا يعني في المقام الأول أن يمنح البدو الطعام إن وافقوا على الاستقرار، وهذا يجعل البرنامج في جوهره ذراعا للسياسات الحكومة المصرية على أقل الأحوال. ويمكن قياس نجاحه - وفقا لمنظمة إنترناشونال كرايسيس جروب - من خلال حقيقة أن مشروع إسكان واحد فقط هو الذي شارف على الانتهاء في وسط سيناء دون توفير ظروف معيشة مستقرة لعشرات الأسر التي يشملها البرنامج، وذلك بعد مرور خمس سنوات من تمويله. أما المفوضية الأوروبية، فقد رصدت لمشروع تنمية ذي شقين في محافظة جنوب سيناء 55,5 مليون يورو. الجزء الأول من المشروع هو النهضة بالبنية التحتية، كإمداد ماء الشرب إلى المجتمعات الزراعية، وإدارة المخلفات الصلبة والسائلة، وتوفير وسائل الحماية البيئية لمحميات المنطقة الطبيعية. أما الجزء الثاني فيقوم على رصد 20,5 مليون يورو لتخفيف الفقر ومشروعات التنمية الاجتماعية عبر المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية. وتذكر التقارير في هذا الشأن أن أهل المنطقة لا يدينون هنا أيضا بالفضل للدولة التي تطالبهم بالولاء.
لكن لا يكفي أي من هذا لإنهاء الموقف الخطير في سيناء، فكما قال حسين القيم عضو حركة كفاية الداعمة للديمقراطية بجريدة الأهرام عقب أحداث الشغب في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007: «على الحكومة أن تعيد النظر في استراتيجيتها تجاه البدو، وإلا أحالها أهل تلك المنطقة المسلحون إلى حرب يبدو أن القاهرة تدفع إليها.»
الفصل الخامس
التعذيب
كان عباس - وهو رجل في الثلاثينيات التقيته في رحلة إلى أسوان، حيث دعاني لتناول العشاء في منزل أسرته - مقيما في شقتي بالقاهرة منذ أسبوعين، وقد أخذ ملابسي إلى المغسلة القريبة من المنزل قبل ساعتين. نشأت بيننا على الفور صداقة كالتي تنشأ كثيرا بسهولة بين المصريين والأجانب أثناء تناول الشاي، والتي تنسى بنفس السهولة التي نشأت بها ما إن يمضي كلا الطرفين إلى حال سبيله، لا سيما في مراكز مصر السياحية. أخبرني عباس عقب العشاء أنه يود القدوم إلى القاهرة للبحث عن عمل، ففهمت ما يرمي إليه، ووافقت على السماح له بالإقامة في غرفة إضافية بمنزلي إلى أن يقف على قدميه، بشرط أن يؤدي المهام المنزلية التي تتضمن أخذ الملابس إلى المغسلة. إلا أنني ما لبثت أن شعرت بأنه لا يجب الوثوق به تماما بما أنه يعمل في أسوان بائع تذاكر في السوق السوداء، يحصل على العمولات من السياح وعلى الوجبات المجانية هنا وهناك. غير أنه كان متعلما، وذكيا، ورفقته بوجه عام ممتعة، وأيضا كل منا عاش في مدينة جدة الساحلية بالمملكة العربية السعودية (التي أحبها مثلما أحببتها أنا). وكانت رحلة العودة بالقطار من أسوان إلى القاهرة، التي تستغرق خمس عشرة ساعة، ستبدو أقل مللا إن قمت بها مع رفيق أحدثه وأمضي معه الوقت. لكن بينما كنت أتطلع من نافذة منزلي إلى الشارع بالأسفل باحثا مجددا عن عباس، خطر لي احتمال مخيف: هذا الرجل استغل كرم ضيافتي، وسرق ملابسي وتركني.
أخذت أطمئن نفسي بأن هذا احتمال عجيب وغير وارد، فالمصريون - بالرغم من ظروفهم الاجتماعية الصعبة - يقيمون وزنا كبيرا للخصال الشخصية كالأمانة والجدارة بالثقة، وحتى غير الأسوياء سيحاولون إبعاد الشبهة عنهم عندما يخططون لاقتراف أمر ما للحفاظ على سمعتهم في المجتمع. لكن عباس أخبرني بأنه سيعود على الفور، وبما أن هاتفه الخلوي كان مغلقا ما كان من مخاوفي إلا أن زادت. تفقدت شقتي، فوجدت أن ملابسه لا تزال مكومة تحت فراشه، لكن لم سيحتاج إلى ملابسه إن كان قد سرق ملابسي؟ لذا قررت أن أقصد مغسلة الملابس.
لدى محمد - وهو صبي يعمل بالمغسلة - أجوبة لكل شيء، أخبرني الصبي أن عباس أودع بالفعل الملابس لدى المغسلة، وستصبح الملابس جاهزة صباح اليوم التالي. بعدها استطرد الصبي قائلا إن عباس بعد أن غادر ناداه ضابط شرطة وطلب منه أن يريه بطاقة هويته. وبعد أن ألقى الضابط نظرة سريعة عليها، طلب من عباس أن يصعد إلى ظهر شاحنة الشرطة، ولم يمض وقت طويل قبل أن تمضي به الشاحنة مع عدد من تعساء الحظ الآخرين إلى قسم الشرطة المحلي على الأرجح. حكى الصبي كل ذلك وهو يدخن سيجارة بلا مبالاة وكأن ما حدث أمر طبيعي إلى أقصى حد.
سألته: «لكن ما الذي اقترفه؟»
فسأل الصبي بدوره مستنكرا: «ما الذي فعله؟» قال هذا وعيناه تدوران في دهشة وكأنه يقول: أنت لا تحتاج إلى (فعل) شيء في هذا البلد ليأخذك رجال الشرطة.
اتصلت بأحد معارفي يدعى موسى، كان أخوه ضابط شرطة متوسط المستوى، فشرحت له ما حدث. كان باستطاعتي أن أطلب منه أن يسديني معروفا لقاء معروف كنت قد صنعته له؛ إذ منحته في حفل زفافه قبل بضعة أشهر مبلغا كبيرا من المال مهنئا إياه، ظنا مني أن هذا استثمار جيد في بلد بإمكانك أن تتخلص فيه من المآزق كافة بالمحسوبية. طلب مني موسى أن أرتدي قميصا وربطة عنق أنيقة وأن ألقاه بعد نصف ساعة عند أقرب قسم شرطة للمكان الذي اعتقل فيه عباس، وأضاف موسى أن بشرتي البيضاء وهيئتي الرسمية تفيان لربح نصف معركة إطلاق سراح عباس، أما النصف الآخر فيربح بحمل بعض من النقود تحسبا لتوزيع الكثير منها كبقشيش، ثم سألني قبل أن ينهي معي المكالمة الهاتفية عن اسم عباس بالكامل ورقم بطاقة تحقيق الشخصية الخاصة به، فاعترفت بأن كل ما أعرفه عنه هو أن اسمه عباس وبأنه من مدينة أسوان من الأصل . فتمتم قائلا إن هذه المعلومات تفي بالغرض؛ فمن المستبعد أن تلقي الشرطة القبض على أكثر من شخص بهذا الاسم من مدينة أسوان الجنوبية في نفس الحي القاهري.
كان موسى بانتظاري خارج قسم الشرطة، وكان قد حصل بالفعل على معلومات تفيد بأن شاحنة قد وصلت إلى القسم قبل نصف ساعة محملة ب«مجرمين» يجري استجوابهم داخل القسم. قال لي بهدوء: «أعطني عشرين جنيها» - وهو ما يعادل مبلغا يربو قليلا عن الثلاث دولارات - ثم سار إلى حارس يرتدي زي الشرطة عند مدخل القسم، وصافح يده ليعطيه رشوة أخفاها في كفه خلسة ثم همس للشرطي بشيء في أذنه، ثم أشار إلي أن أتبعه إلى داخل القسم. قادتنا سلسلة من الدرجات يسارا إلى طابق أعلى، وقفنا حيث ثلاثة رجال شرطة آخرين، فأخذ موسى مني حفنة أخرى من النقود ثم عرف نفسه لرجال الشرطة بأنه أخ لضابط، فسمح له من جديد بالمرور. وأعلى الدرج سمح لنا إعطاء المزيد من البقشيش بدخول مكتب قذر لضابط أعلى رتبة، خاض معه موسى محادثة أثناء انتظاري بالخارج. ولما عاد طلب مني أن أعطيه كل ما أحمله من مال (أربعون دولارا)، ورأى أنه من الأفضل أن أعود إلى الشارع. وبعد عشر دقائق خرج عباس من قسم الشرطة، وكان موسى معه يحيط كتفه بذراعه. حياني عباس بالقبلات والأحضان، وطلبنا أول سيارة أجرة هرعت بنا إلى شقتي بعد أن أكدت لموسى أنني سوف ألقاه «فيما بعد» لأقدم له - كما يفترض أن يفهم - شكري على معروفه. كنت سأدفع له في التو واللحظة، لكن لم يتبق معي من المال الذي أحضرته سوى عشرة جنيهات ممزقة احتجتها من أجل دفع أجرة سيارة الأجرة.
سألت عباسا عندما عدنا إلى شقتي: «لماذا ألقوا القبض عليك؟»
فأجابني: «هذا هو ما يفعلونه دائما، إنهم يعملون وفق نظام حصة، فيلقون القبض على عشرين أو ثلاثين رجلا من الشارع كل يوم ثم يفتشونهم داخل القسم بحثا عن مخدرات أو أي شيء غير قانوني، فإن لم يكن بحوزتك شيء من هذا القبيل ، فستنتظرهم إلى أن يتحروا من ملفك على أجهزة الكمبيوتر، ليروا هل صدرت بحقك أي مذكرات اعتقال معلقة، وإن لم يجدوا، أطلقوا سراحك.»
فهل كانوا سيطلقون سراحه على أي حال إن تركته هناك وحسب؟
فشرح لي عباس الأمر قائلا: «قد يستغرق الأمر يوما أو اثنين، لا يسمح لك فيهما بالاتصال بأي شخص لإعلامه بمكانك أو ما يحدث لك، ويزج بك في غرفة صغيرة مع الكثيرين. ويسعد ضابط الشرطة إن حالفه الحظ باعتقال شخصين أو ثلاثة من العشرات الذين يحضرهم، وعندها يستطيع أن يخبر رئيسه في العمل أنه أوفى بحصة المجرمين المطلوب منه اعتقالهم.»
احتججت على ذلك قائلا: «لكن هذا سخف، المفترض أن يبحث رجال الشرطة عن المجرمين الذين يشتبه في ارتكابهم جرائم مبلغ عنها، لا أن يلقوا القبض على الجميع جملة أملا في أن يكون واحد أو اثنان منهم قد اقترفوا جرما. لماذا لم ترفض الذهاب معهم فحسب؟ لا يحق لهم هذا.»
نظر إلي وكأنه يخاطب معتوها.
ثم قال: «بل يحق لهم فعل ما يشاءون، المفترض أنك بحلول هذا الوقت صرت تعرف أن شعب هذا البلد ليس له أي حقوق، إن اعترضت فسيأخذونك إلى أسفل الدرج ويوسعونك ضربا وتعذيبا.»
وصمت لحظة وكأنه يتذكر شيئا تعرض له في وقت سابق من اليوم.
ثم قال: «تبا لهذا البلد، وتبا لهذه الحكومة، أريد أن أرحل، لا آبه إلى أين، فأي بلد آخر سيكون أفضل.» •••
الواقع أن الحظ كان حليف عباس من عدة نواح، أبرزها أنه كان على معرفة برجل غربي تمتع هو نفسه بمعارف بإمكانها التدخل لإطلاق سراحه؛ لكن الأهم من ذلك هو أن درايته بعمل جهاز الشرطة كانت جيدة بما يكفي لتجعله يتقبل مصيره بثبات ولا يعترض لعلمه أن هذا لن يفضي إلا إلى جزاء أسوأ من المشكلة التي أقحم فيها تعسفا وجورا. لكن الكثيرين في مصر لم يكونوا محظوظين بالقدر نفسه إذ إن تعسف بلطجية النظام - وهم أنفسهم قد طفح بهم الكيل ويتقاضون أجرا ضئيلا ويخضعون للترهيب - كثيرا ما يجعل العنف غاية في حد ذاته، وهذا جزء من نظام يرى أن الترهيب بطريقة منهجية روتينية أساسي للحكم.
على سبيل المثال: ولد محمد عبد الرحمن في أسرة فقيرة بقرية شها في دلتا النيل، وأصبح عدوا للدولة في الثالثة عشرة من العمر، لذا لم يعش ليشهد عيد مولده الرابع عشر، يقال إنه اعتقل في أغسطس/آب عام 2007 مع أخيه الأكبر المراهق إبراهيم، فما هي جريمته المزعومة؟ اشتبهت شرطة مدينة المنصورة المجاورة لقريته في قيامه هو وأخيه بسرقة عبوتين من الشاي. ولما زارته والدته بعدها بثلاثة أيام في قسم شرطة مدينة المنصورة بعد أن علمت أخيرا بمكانه، ذكرت أن مشهده صعقها، لكنها لم تتفوه بكلمة في قسم الشرطة لتقي أخاه الأكبر التعرض للمزيد من التعذيب. هرعت من مخفر الشرطة إلى محام نجح في استصدار أمر بنقل الفتى محمد إلى مستشفى المنصورة الحكومي.
ومع الأسف فإن الانتقال من قسم شرطة إلى إحدى المستشفيات الحكومية التي تعاني على الدوام من نقص التمويل يعني لفقراء مصر الاستجارة من الرمضاء بالنار. لا بد أن هذا هو ما بدا لمحمد الذي قيل إنه أمضى أربعة أيام في المستشفى، هذا بفرض أنه كان قادرا على التفكير في أي شيء آخر بخلاف ألمه المبرح. في اليوم الخامس عثر سكان مجاورون للمشفى على محمد فاقد الوعي في باحة انتظار سيارات قريبة من المشفى وأعادوه إلى الشرطة. اتهمت والدته المشفى بالتخلص منه - حرفيا - وعدم العناية به، مع أنه يستحيل معرفة الكيفية التي نقل بها إلى باحة الانتظار. وحسب ما قيل، قرر رجال الشرطة في آخر الأمر أنهم قد نالوا كفايتهم من الطفل محمد عندما عجزوا عن القسوة عليه أكثر بما أنه قد شارف بالفعل على الموت، فأعادوه إلى والدته؛ وهو بالطبع الإجراء الذي يفترض أن يتخذ مع طفل في الثالثة عشرة من العمر في نفس يوم اعتقاله.
كان من الممكن أن تنتهي القصة هنا - بالنسبة للجميع على الأقل عدا أسرة الصبي - شأنها في ذلك شأن الكثير من الأمثلة على وحشية الشرطة المصرية، لكن القضية حظت باهتمام الإخوان المسلمين الذين زاروا بكاميراتهم بيت أسرة الفتى محمد المتهالك. تظهر والدة محمد في التسجيل الذي نتج عن تلك الزيارة وهي ترتدي منديل رأس قروي بسيط وتحكي قصتها، فيما يرقد محمد وهو شبه فاقد الوعي على مرتبة محشوة خلفها فاغر الفم، يلتقط أنفاسه بصعوبة. تزيل الوالدة عن طفلها الغطاء الذي يغطيه بناء على طلب مجري اللقاء لتكشف عن جسده شديد النحول وعن محول سوائل متصل برئته، ثم تشير إلى عدة حروق على جسد الصبي من الأمام، ثم تقلب الطفل المتأوه لتكشف عن علامة سوداء كبيرة على ظهره وتقول إن هذا الجرح تلوث بعد علاجه، ثم تقترب الكاميرا من العلامة السوداء ثم تنتقل إلى فتحة الصبي الصغير الشرجية التي تبدو منتفخة ومتهدلة، وكأن الفتى تعرض مؤخرا للاغتصاب، ثم تقلب الأم الصبي مجددا وتشير إلى المزيد من الحروق على عضوه الذكري وخصيتيه.
لم يستعد محمد عبد الرحمن وعيه كاملا قط منذ ذلك الحين، وبعد بضعة أيام من تسجيل هذا المقطع توفي. •••
ذكرت ماجدة عدلي مديرة مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف فيما بعد أن عائلة محمد أخبرتها بأن جسده كانت به آثار حروق من الصعق الكهربي وحروق بدت أنها من أداة ساخنة. وذكر شقيق محمد أن محمدا عذب باستخدام ملف تسخين. وخلصت ماجدة عدلي إلى أن الصبي «تعرض للضرب والصعق الكهربي، وعندما صرخ وانتابته نوبات تشنج، ركله الضابط في صدره، وهو ما دمر رئته على ما يبدو.» وأضافت أن الغيبوبة التي سقط فيها قد يكون سببها تسمم في الدم أو إصابة بالرأس من أثر الضرب الشنيع الذي تعرض له.
أخبرت والدة محمد الصحفيين أن الأطباء الذين فحصوا جثمان ابنها في بادئ الأمر لاستصدار شهادة الوفاة له تشككوا أن وفاته لأسباب غير طبيعية، ونصحوها بأن تتقدم ببلاغ للنيابة، وحكت أن أحد وكلاء النيابة بكى عندما رأى جثمان الطفل، وأمر بنقله إلى مشرحة مستشفى المنصورة الجامعي. أظهر التشريح المبدئي للجثمان أن سبب الوفاة المباشر هو الإصابة بالتهاب رئوي. وقد يكون هذا صحيحا، لكن والدة محمد أرادت أن يجيبها الأطباء عن سبب إصابته بالالتهاب الرئوي، ورفضت أن تقبل نتائج التشريح وأن يغادر الجثمان المشرحة لدفنه. وزعمت في مقال كتبته مروة الأعسر عام 2009 على موقع
monstersandcritics.com
أن مسئولين رفيعي المستوى بالمنطقة وبعض رجال الشرطة عندئذ حاولوا «رشوتي وتهديدي في أحيان أخرى كي لا أتقدم بشكوى.» عارضين عليها مائتي دولار، وهو مبلغ كبير لربة أسرة فقيرة غير متعلمة ترعى أسرة كبيرة، لكنه لم يكفي لإقناع هذه المرأة الأبية المكلومة بالسكوت عن الأمر.
يزعم أن الشرطة لما سئمت المفاوضات، نقلت ببساطة جثمان محمد سريعا من المشرحة بدون إطلاع والدته ودفنته على ما يبدو في الوقت الذي ظل فيه الابن الآخر إبراهيم محتجزا، يجلس في مؤخرة شاحنة شرطة وهو يشاهد أخاه يدفن، فهل كان هذا إنذارا له بأن يخبر والدته بأن تصمت وإلا قتل هو أيضا؟
في تلك الأثناء، زعم إبراهيم أنه بدوره تعرض للتعذيب على أيدي رجال الشرطة الذين هددوه بتلفيق تهمة حيازة مخدرات له ما لم يشهد بأن الحروق التي حملها جسد أخيه كانت آثارا نجمت عن سلك مكهرب سقط عليه - من قبيل الصدفة البحتة - قبل ستة أشهر من احتجازه. وافق إبراهيم على أن يشهد بهذا ظنا منه أن أخاه لا يزال على قيد الحياة، لكن بحلول موعد دفن محمد، كانت جماعة الإخوان المسلمين قد أذاعت تسجيلها على موقعها، وحظيت القضية باهتمام إعلامي كبير، ليس فقط في وسائل إعلام جبهة المعارضة التي كثيرا ما تفضح بالتفصيل قضايا التعذيب، بل أيضا في وسائل الإعلام الدولية - غير المهتمة عادة - فترة وجيزة. ومن ثم، سحب إبراهيم شهادته، وأعلن مكتب النائب العام على غير العادة أنه سيولي القضية المزيد من التحقيق، واستخرج جثمان محمد من أجل المزيد من الفحوصات، وأخبر حمدي الباز محامي الأسرة صحيفة الأهرام الأسبوعية أن «ظروفا واضحة استدعت إعادة فحص الجثمان»، واستشهد بتقرير أصدره مفتش الصحة ما إن أودع محمد المستشفى جاء فيه أن التعذيب استخدم مع محمد، وأضاف الباز أن ليس على المرء سوى أن يتأمل السرعة التي نقل بها جثمان محمد لدفنه كي يدرك أن وزارة الداخلية أرادت إنهاء تلك القضية سريعا. وقال الباز في مقال الأهرام نفسه: «هناك سلسلة من المؤامرات ... جميعها يسعى إلى إخفاء الظروف التي أدت إلى وفاة محمد.» وأعد ملفا للقضية يشمل التسجيل الذي كان بحلول هذا الوقت قد شوهد عشرات الآلاف من المرات في جميع أنحاء العالم.
إن لم تكن العدالة المصرية سريعة، فلا قيمة لها.
في أوائل سبتمبر/أيلول برأت مجموعة من خبراء الطب الشرعي الذين عينتهم الحكومة المصرية ضباط قسم المنصورة من الاتهامات كافة، وتوصلت إلى أن محمد توفي بسبب «انخفاض حاد في ضغط الدم، وفي أداء الجهاز التنفسي.» وهي نتيجة تتفق تماما مع قصة الأسرة أيضا! •••
سمعة أقسام الشرطة بين عامة المصريين اليوم تجعلهم ينفرون من الإبلاغ عن الجرائم، حتى الخطيرة منها، خوفا من إثارة غضب ضابط شرطة فظ حاد الطباع، أو من أن يتبين أنهم يشكون شخصا ذا «صلات» هامة يمكنه أن يحيل حياة صاحب الدعوى إلى جحيم ببضعة اتصالات هاتفية ببعض ذوي النفوذ في السلطة. وقد ذكرت منظمات لحقوق المرأة أن ضحايا العنف الجنسي من النساء على الأخص لا يبلغن أبدا تقريبا عن الجرائم التي ترتكب في حقهن. وليس عليك أن تبحث كثيرا لتعرف السبب؛ فبما أن ضباط الشرطة أنفسهم يستخدمون كثيرا الاغتصاب وسيلة للاستجواب أو ربما وسيلة للتسلية (حتى مع صبي هزيل في الثالثة عشرة من العمر كمحمد، تهمته الوحيدة هي سرقة عبوة شاي)، فمن الطبيعي أن يتبين أنهم لا يبدون أي تعاطف لدى الاستماع إلى الضحايا؛ أضف إلى هذا الاعتقاد الراسخ في هذا المجتمع الذكوري بأن النساء اللائي يغتصبن قد استحققن هذا أو طلبنه بطريقة ما، ومن ثم تصبح صعوبة الإبلاغ عن الجرائم والتعامل مع رجال الشرطة صعوبة مطلقة. أما النساء اللائي يواجهن بشجاعة ترهيب أقسام الشرطة التي يسودها الرجال على نحو مطلق، فيذكرن أن تجاربهن لم تزد جراحهن إلا سوءا، وأن ردة الفعل الأولى لأي بلطجي يجابهنه يدعو نفسه شرطيا هي أن يسأل بخسة إن كان من الممكن أن يتقابلا فيما بعد هذا المساء في مطعم للوجبات السريعة للتباحث أكثر في المسألة؛ فمن وجهة نظره، بما أن «عرض» المرأة قد مس، يصبح اللوم عليها، وتصبح لقمة سائغة.
يحتار المرء فيما عليه أن يقوله في سياق الاعتقالات التي قام بها مئات من رجال الأمن عام 2001 لبضع عشرات من الرجال افترض أنهم «شواذ» يرقصون على ظهر قارب نزهة كان راسيا بالنيل في القاهرة. تعرض الاثنان والخمسون معتقلا (الذين اعتقل خمسة وثلاثين منهم على ظهر القارب وسبعة عشر في مناطق أخرى بالقاهرة) للتعذيب، وبعضهم ضرب بقسوة، وحتى أصغرهم - وهو في الخامسة عشرة فقط من العمر ولم يكن بقاعة الرقص ساعة إلقاء القبض عليه - أخبر الصحفيين أنه ضرب بعصا غليظة على ساقه وقدميه، وتلك أداة تعذيب تترك كثيرا الضحية غير قادرة على المشي أياما. ولم تكن محاكمة هؤلاء السجناء إلا مظهرا صاخبا؛ إذ منعت أسرهم وأقاربهم من دخول قاعة المحكمة، وشعروا بالإحباط إزاء محاكمتهم بمحكمة أمن الدولة (التي نشأت من الأساس للبت في قضايا الإرهاب والتجسس)، مع حرمانهم من حق الاستئناف. غير أن اعتقال مجموعة من الرجال لا لشيء إلا لأنهم يرقصون معا على يد البلطجية الممولين من قبل الدولة - الذين يزعم أنهم يعمدون كثيرا إلى الاعتداء الجنسي كوسيلة لتعذيب ذكور المعتقلين - هو أمر يتجاوز بكثير المفارقة. إنه يشير في الواقع إلى النفاق المقيت والوحشية القاسية التي يقوم عليها نظام مبارك، ويدلل على دولة تعمل فيها خدمات الأمن لا على حماية الشعب من الجرائم بل على حماية قادة المجتمع ممن يمقتونهم. •••
التسجيل الذي ظهر فيه محمد لعشرات الآلاف من متصفحي الإنترنت ومن قرءوا التقارير التي تصدر من حين لآخر عن هذا الموضوع في الإعلام الغربي أظهر ما يدركه جميع المصريين منذ سنوات: التعذيب يمارس على نطاق واسع في أجهزة الأمن المصرية. ولم تكن تلك في الواقع المرة الأولى التي تسجل فيها تلك الوقائع في مقطع مرئي ليشاهدها العالم أجمع، فقد أظهر مقطع مرئي سجلته كاميرا هاتف محمول نشر في نوفمبر/تشرين الثاني على مدونة مصرية مجموعة من الضباط يتحرشون بعصا مكنسة بمؤخرة سجين اعتقل بعد أن تصدى لاعتقال أخيه، الأمر الذي يعد وفقا لتقرير منظمة العفو الدولية عن التعذيب في مصر من الممارسات المعتادة. على سبيل المثال: أصدرت منظمة حقوق الإنسان المصرية تقريرا في عام 2007 يتناول بالتفصيل حالات المئات من ضحايا وحشية الشرطة على مدار العقد الماضي. قال مدير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان طارق زغلول لوكالة أنباء بلومبيرج في عام 2007: «التعذيب في مصر يمارس على نحو منهجي ونظامي، بعكس ما تريد وزارة الداخلية أن نظنه.» وأضاف أن حالات التعذيب «ليست حالات منفردة». ويذكر تقرير المنظمة أن التعذيب في مصر ظاهرة تدعم وجودها القوانين المتساهلة التي تسمح بتزايدها، وقد وثقت المنظمة في الفترة من عام 1993 إلى يوليو/تموز عام 2007 ما يزيد عن خمسمائة حالة تعذيب، إذ توفي من بين 576 ضحية تعذيب 167 ضحية نتيجة مباشرة للتعذيب في أقسام الشرطة، ولا تمثل تلك الحالات على الأرجح إلا قمة جبل الجليد، إذ إن أغلب الحالات يجري التعتيم عليه قبل أن يظهر.
أساليب التعذيب الأكثر ذيوعا كما هو معروف هي الضرب والصعق الكهربي، وتعليق الضحايا من معصمهم وكواحلهم في أوضاع ملتوية فترات طويلة، وتهديدهم بقتلهم أو اغتصابهم أو التعدي عليهم جنسيا أو فعل ذلك لأقاربهم. وقد أخبر بعض المعتقلين منظمة العفو الدولية أن زملاءهم في السجن كانوا يتعرضون للتعذيب عندما كانوا هم يستجوبون، وذلك إشارة إلى أن التعذيب كان يجري على مدار أربع وعشرين ساعة، وحكى البعض الآخر عن سماعه صراخ أشخاص يتعرضون للتعذيب، وعن رؤية مساجين مصابين بعد استجوابهم. وذكر الكثيرون ممن اعتقلوا على خلفية هجمات طابا في عام 2004 وهجمات شرم الشيخ في عام 2005 أن أيديهم كبلت وجردوا تماما من ثيابهم وعصبت أعينهم خلال جلسات الاستجواب، وذكر أحمد عبد الله - وهو مشتبه به في قضية إرهاب - أنه استجوب وعذب ثلاث أو أربع مرات يوميا، وضرب وعلق من كاحليه ومعصميه في وضع ملتو، وصعق كهربيا في أجزاء حساسة من جسده من بينها شفتاه وعضوه الذكري ورأسه ، وعصبت عيناه وأجبر على خلع ثيابه. وعلى عكس الحال مع محمد، كان طبيب يأتي كل يوم تقريبا للتحقق من أحوال ضحايا التعذيب، وليحرص على استمرار معاناتهم. ويبدو أن محمد تعرض لهذا التعذيب لما يقرب من ثلاثة أشهر من احتجازه، إما لأنه كان أخا لمشتبه به في عملية إرهابية، وإما - وهذه ليست مزحة - لتشابه أسماء!
المعتقلون الذين تلقي قوات الأمن المصرية القبض عليهم يحتجزون سرا أو في مناطق معزولة. بعبارة أخرى، «يخفون» على الطريقة التي عمدت إليها الأنظمة العسكرية الدكتاتورية منذ القدم، ولا يطلع المعتقلون بوجه عام على سبب اعتقالهم إلا من يعتقل منهم لقرابته فقط لأحد المشبوهين. وفي بعض الحالات، يطلق سراح أقارب المشتبه بهم فيما بعد، لكن مع إخبارهم بأن عليهم العثور على المطلوبين وإقناعهم بتسليم أنفسهم للسلطات؛ للحيلولة دون تعرض أقارب آخرين معتقلين للتعذيب أو غير ذلك من صور الإساءة. ومن هنا كان خوف والدة محمد أن تبدي أي اعتراض في الوقت الذي ظل فيه ابن آخر لها محتجزا. هذا الإجراء يشبه إلى حد مخيف إجراء عرف في ألمانيا النازية بالعقاب الجماعي، وصفه هيملر نفسه عام 1944 قائلا إنه: «من العادات شديدة القدم التي مارسها أجدادنا.»
كان أحد ضحايا التعذيب طالب جامعي في الثانية والعشرين من العمر، يرمز للكثيرين؛ لم توجه إليه أي تهم، ولم يحقق فيما زعمه عن تعرضه للتعذيب، ولم يتقاض تعويضا على معاناته. أخبر منظمة العفو الدولية أنه اعتقل قرابة الساعة الثالثة صباحا من بيته، وعصبت عيناه واصطحب إلى أحد مكاتب مباحث أمن الدولة بالعريش في شبه جزيرة سيناء، وطلب منه أن يعرف هوية بعض الأشخاص، لكن عندما قال إنه لا يملك أدنى فكرة عن هوية هؤلاء، سب ولكم في وجهه مرارا، ثم جرده مستجوبوه من ثيابه، وعقدوا يديه خلف ظهره، وقيدوا قدميه معا، ثم علقوه من معصمه في عتبة باب مفتوح، واتصل سلك بأحد أصابع قدمه وآخر بعضوه الذكري وتعرض لصدمات كهربية، ثم غمر وجهه بالماء وترك ليرقد على الأرض. كل هذا حدث له وهو مجرد من ثيابه، معصوب العينين، وتواصل هذا التعذيب أسبوعا. كان يجبر أحيانا على الحضور أثناء استجواب وتعذيب معتقلين آخرين، وفي أحيان أخرى تنامت إلى أسماعه صرخات زملائه المعتقلين، وقد أمضى أربعة عشر يوما في مكتب مباحث أمن الدولة بالعريش قبل أن ينقل إلى مركز سجون تابع لقوات الأمن المركزي.
تشير جميع الشواهد المتاحة إلى أن محاولات النظام لمحاربة التعذيب الذي يمارس على نحو روتيني ليست إلا صورية. فعلى سبيل المثال: بعد بضعة أيام من الحكم على ضابطي شرطة بالسجن ثلاث سنوات في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2007 لتحرشهم برجل بعصا مكنسة في القضية السابق ذكرها، توفي رجل آخر متأثرا بجراحه بعد أن عذبته الشرطة المصرية ثلاثة أيام، فصرح مسئول مصري لوكالات الأنباء الأجنبية بأن الرجل - أحمد صابر سعد - احتجز اشتباها في حيازته مخدرات، لكن على الرغم من استصدار وكلاء النيابة أمرا بإطلاق سراحه لعدم كفاية الأدلة ضده، عذبته الشرطة ثلاثة أيام قبل أن تتركه في أحد الشوارع ليموت بعدها بيوم. أمر المدعي العام المصري عبد المجيد محمود بالتحقيق في تلك الأنباء، لكن قبل أن يبدأ التحقيق وضع ضابطا شرطة «تحت التحقيق» بعد أن ادعى مراهقان أن الضابطين أمرا سجناء آخرين باغتصابهما في قسم شرطة آخر. يزعم أن الضابطين - وهما يحتلان رتبة ملازم وملازم أول في قسم شرطة كفر الشيخ - قد أمرا سجناء أكبر سنا باغتصاب المراهقين اللذين يبلغان من العمر ستة عشر وسبعة عشر عاما بعد أن اعتقلا بتهمة حيازة مخدرات قبل أسبوع، وأمر بحبسهما أربعة أيام، فقدمت أسرتاهما شكوى بعد إطلاق سراحيهما إلى وكيل النيابة المحلي، وأجري فحص جنائي بعد أن غادر الصبيان قسم الشرطة زعم أنه تبين منه أن الصبيين تعرضا للتحرش الشرجي، وأصدرت وزارة الداخلية بيانا يصرح بأن مأمور قسم كفر الشيخ واثنين من كبار مساعديه قد أقيلوا من مناصبهم ونقلوا إلى «وظائف إدارية». •••
إن بدا كل هذا - العري، وتعصيب العينين، وتعليق الأجساد - مألوفا، فهذا لأنه افتضح في دولة أخرى وارتكب في نقطة أخرى رائدة في التعذيب؛ في سجن أبو غريب ببغداد، في الأيام الأولى من الاحتلال الأمريكي للعراق. كان كولين باول وزير خارجية الولايات المتحدة في 26 من سبتمبر/أيلول عام 2001 صريحا - من قبل حتى أن تلوح في الأفق أي «حرب على الإرهاب» - في تقديره «لالتزام مصر بالعمل معنا ونحن نمضي قدما لمواجهة بلاء الإرهاب، فمصر - كما نعلم جميعا - تسبقنا بالفعل في هذا المضمار، وعلينا أن نتعلم الكثير منها، وبوسعنا التعاون كثيرا معا»، على حد قوله، وكان استجواب السجناء من المجالات التي استطاع الحليفان التعاون فيها معا بموجب نظام «التسليم الاستثنائي»، وهو مصطلح ابتكر إشارة إلى نقل المعتقلين سرا من الولايات المتحدة إلى دول أخرى يبدو فيها أن القوانين وأجهزة فرض القانون لا تتورع بنفس القدر عن استخدام التعذيب لاستخراج المعلومات. وقد ثبت أيضا أن المملكة العربية السعودية مرشح مثالي للدخول في مجالات تعاون كتلك. •••
إن عدت السلطات المصرية قضية ما تمس الأمن القومي بأي طريقة، فبإمكانها استخدام مئات الوسائل القانونية لتتملص مما يضمن حصول المعتقلين على محاكمة عادلة، ومن حقهم في الحصول على الاستشارة القانونية، ومن حظر استخدام الأدلة المستخرجة تحت التعذيب، ومن التحري عن صحة الدعاوى عن استخدام التعذيب أو غيره من صور الإساءة؛ فعلى حد وصف المدافعين عن حقوق الإنسان، يجري التعامل مع قضايا الأمن القومي وفقا لنظام قضائي مواز، قد يحرم المتهم من أن يعامل على قدم المساواة مع غيره من المتهمين، بداية من حقه في رفع الدعاوى إلى حقه في الحصول على محاكمة. فالقضايا التي تتصل بالأمن القومي يضطلع بالتحقيق فيها فرع محدد من النيابة العامة - هو نيابة أمن الدولة - أو يحيلها الرئيس إلى النيابة العسكرية العليا، بعدئذ يحاكم المتهمون لا في محاكم عادية بل أمام محاكم طوارئ، أو محاكم عسكرية تحكمها بعض الشروط المقيدة (منها حرمان المتهم من حق الاستئناف في محكمة أعلى)، وتوجه النيابة العامة الدعوى الجنائية في المقام الأول بالتحري عن الاتهامات الموجهة عبر ضباط الشرطة أو بتفويض تلك المهمة إلى قاضي تحقيقات، لكن هذا يتوقف تماما على ما يراه النائب العام. وبإمكان وكلاء النيابة في قضايا الأمن القومي أن يجروا ببساطة التحقيق بأنفسهم عبر نيابة أمن الدولة العليا التي تتخصص في تلك الاتهامات، والتي يديرها مباشرة النائب العام. لقد أخذت سلطات نيابة أمن الدولة العليا تتسع بالمزيد من القرارات بعد عام من انقلاب عام 1952، حتى أصبح بمقدور أعضائها إجراء التحقيقات في أي جريمة أمنية في أي نقطة من مصر أو في أي جريمة يرى الرئيس أنها تستحق أن تحال إليها، وثمة الكثير من مثل هذه الجرائم بالطبع.
يمنح قانون الطوارئ الذي صدر عام 1952 أيضا النيابة العامة سلطات قاض التحقيق وسلطات محاكم الاستئناف السرية، ويمنح النائب العام سلطات هائلة تمكنه من احتجاز المشتبه في قيامهم بجرائم إرهابية. هذا في مجمله يعني أن النائب العام يستطيع أولا أن يأمر بحجز المتهم قبل محاكمته خمسة عشر يوما بموجب صلاحياته بوصفه نائبا عاما، ثم تمديد فترة اعتقاله إلى خمسة وأربعين يوما بناء على صلاحياته بوصفه قاضي تحقيقات، ثم الاستمرار في تجديد اعتقاله بصفته قاضي غرفة استئناف لفترات مداها خمسة عشر يوما. وبعبارة أخرى، النائب العام يملك سلطة احتجاز المتهم مدة تصل إلى خمسة أشهر دون إشراف قضائي مستقل. وقد يحرم أي شخص خلال الخمسة عشر يوما الأولى من اعتقاله من حقه في المثول فورا أمام قاض أو أي مأمور ضبط قضائي أو حتى الاعتراض على أمر اعتقاله، مهما كانت فرصة نجاحه ضئيلة إن حظي بتلك الفرصة في نهاية الأمر. ولا داعي لأن نضيف أن مسئولية التحقيق في دعاوى تعذيب المعتقلين ... من اختصاص النائب العام.
شبكة الولايات المتحدة لنظام «التسليم الاستثنائي» استغلت الثغرات التي يتيحها النظام المصري بانتقاء ضحايا أغلبهم مهاجرين مصريين أو مصريين مزدوجي الجنسية يمكن عندئذ التصديق بأنهم خاضعون لسلطة مصر القضائية، وبأنهم يمثلون خطرا على أمنها (إن كانوا يمثلون خطرا على أحد). وقد أصبحت رحلات ضباط جهاز المخابرات المركزية الأمريكي لتسليم المعتقلين إلى مصر عبر المطارات الأوروبية والباكستانية واقعا تشهد عليه الوثائق. ولا يعلم أحد عدد من «سلموا» إلى مصر على هذا النحو وكأنهم كم مهمل، لكن أغلب من أفصحوا فيما بعد عن تجاربهم، ذكروا أنهم قيدوا وعصبت أعينهم لدى وصولهم إلى مطار القاهرة، ثم نقلوا إلى معتقل سري تديره على ما يبدو المخابرات العامة المصرية.
من هؤلاء ممدوح حبيب، وهو مصري يحمل جواز سفر أسترالي. حظيت قضيته باهتمام إعلامي واسع وقامت الكثير من وقائعها على أدلة قوية. اعتقل ممدوح حبيب - وفقا لتقرير منظمة العفو الدولية الصادر في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول عام 2001 الذي حمل عنوان: «مصر: انتهاكات منهجية باسم الأمن» - في باكستان التي يزعم أنه تعرض فيها للضرب وتلقى التهديدات قرابة شهر لدفعه إلى التوقيع على اعتراف، فلما لم يفلح هذا، سلم على حد قوله مجردا من ثيابه إلى خمسة عشر مسئولا أمريكيا، وقد صور وأعطي مهدئا ونقل جوا إلى مصر. وخلال الرحلة، منعه ضباط الأمن المصريون من النوم، ثم قيد لدى وصوله إلى مطار القاهرة وعصبت عيناه، ثم اقتيد إلى مبنى تحيطه جدران عالية حيث يذكر أن السيارة التي أقلته سارت مدة تتراوح بين عشر وخمس عشرة دقيقة قبل أن تصل إلى ما بدا موقعا تحت الأرض من المبنى. جرد فيه من ثيابه، وصور ثم أودع غرفة فحص فيها طبيب قلبه، ثم زاره ضابطا أمن مصريان وسألاه التعاون معهما والاعتراف بأنه كان يخطط لاختطاف طائرة للقيام بأعمال إرهابية. ولما رفض خدر وأودع زنزانة صغيرة ذات ضوء أصفر خافت، وفتحة بالسقف الذي علق فيه بخطاف وتعرض للضرب والصدمات الكهربية، وتلقى تهديدات بالاغتصاب والموت وقتل أقاربه، وأجبر على دخول غرف تعذيب إحداها امتلأت بالماء إلى مستوى مرتفع حتى إنه اضطر إلى الوقوف على أطراف أصابعه ساعات لكي لا يغرق، وأخرى كان سقفها شديد الانخفاض وامتلأت إلى ارتفاع قدمين بالماء، مما اضطره إلى الانحناء في وضع مؤلم، وأخرى ملأت إلى ارتفاع بضعة بوصات بالماء وحوت مولدا كهربائيا قيل له إنه سيستخدم في صعقه كهربيا. اضطر ممدوح حبيب في ظل هذه الظروف التي زعمها إلى الاعتراف بأنه ساعد في تدريب منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الفنون العسكرية، لكنه سحب فيما بعد اعترافه. وأخبر كل من استمع إلى قصته أن استخدام العقاقير والصدمات الكهربية بانتظام أدى إلى إصابة جانبه الأيسر بالشلل مؤقتا. كان آنذاك ينزف من عينيه وأذنيه ويتبول أحيانا دما، فلما تدهورت حالته الصحية، اقتيد إلى غرفة بطابق أعلى من المبنى تفقد فيها طبيب حالته بانتظام - على ما يبدو - لعلاجه قبل إطلاق سراحه، وأخبره ضباط الأمن أنه لم تعد هناك حاجة له في مصر. من ثم قيد وعصبت عيناه باكورة صباح يوم ما وأغلق فمه بشريط لاصق وأودع شاحنة أقلته إلى المطار، ثم صور ضابط أمن شريطا تسجيليا له - على غرار ما يحدث في سجن أبو غريب - أثناء تجريده من ثيابه، ونزع الشريط اللاصق من على فمه ووجهه، والتقطت له الصور قبل أن تعصب عيناه ويكمم من جديد ويوضع على متن طائرة متجهة إلى أفغانستان. ومن هناك نقل إلى معتقل خليج جوانتانامو الذي يقع على أرض ليست تابعة لدولة معينة، وتبعد عن نطاق سلطة القانون أكثر من مصر، لكن يلاحقها الاهتمام الإعلامي من حين لآخر، واحتجز هناك قرابة ثلاثة أعوام ثم أطلق سراحه في آخر الأمر دون توجيه اتهام.
يدرك النظام المصري شأنه شأن جميع الأنظمة القمعية في العالم العربي أن المساهمة في «الحرب على الإرهاب» التي تشنها الولايات المتحدة من شأنها أن تحد من انتقادات واشنطن لانتهاكات النظام لحقوق الإنسان، في الوقت الذي تبرر فيه تبني الإجراءات القمعية ضد عامة الشعب. لذا، لما اتهمت منظمة حقوق إنسان معتمدة بالولايات المتحدة الحكومة المصرية في ديسمبر/كانون الأول عام 2007 باستخدام التعذيب والاعترافات المزيفة في قضية مكافحة إرهاب شهيرة اتهم فيها اثنان وعشرون عضوا من جماعة إسلامية مغمورة - هي جماعة «الطائفة المنصورة» - بالتخطيط لهجمات على مواقع سياحية وخطوط غاز؛ لم يستدع هذا الكثير من الدهشة. ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش أن أبحاثها تفيد أن أجهزة الأمن لفقت اسم الجماعة، وأن ما زعمته كان بالدرجة الأولى يهدف إلى تبرير تمديد قانون الطوارئ ، ومع أن النائب العام نفسه أسقط التهمة الموجهة إلى المشتبه بهم، يعتقد أن عشرة منهم لا يزالون معتقلين. •••
وسط ذلك تبرز نقطة مثيرة للاهتمام هي الاحترام العجيب ذو الطبيعة المنحرفة الذي يكنه ممارسو التعذيب للإجراءات القانونية. فالقانون المصري يعرف التعذيب تعريفا محدودا فقط في سياق إجبار المتهم على الاعتراف، من هنا لا يحظر إلا بعض الممارسات فقط من الممارسات المحظورة دوليا، بل إنه في الواقع لا يجرم التهديد بالقتل أو التعذيب البدني إلا بعد اعتقال غير قانوني يقوم به شخص يزعم أنه ضابط حكومي، علاوة على أن القانون لا يتناول بأي حال التعذيب لأسباب أخرى؛ لاستخراج المعلومات، والترهيب والعقاب والإذلال أو للحالات التي لا تحمل فيها الضحية أي تهمة. ويبدو بالفعل أن ممارسي التعذيب لدرايتهم بالقانون نادرا ما يستخدمون العنف لاستخراج الاعترافات إلا مع مشتبهي نظام التسليم الاستثنائي، عندما يصبح تشجيع الولايات المتحدة بمنزلة رخصة إلهية، إلا أنهم يستخدمونه على نحو مفرط لحمل الضحايا على تجريم غيرهم أو الإدلاء بالمعلومات، كما فعلوا مع شقيق محمد الصغير، أو يلجئون إليه بلا أي سبب على الإطلاق.
وسائل التعذيب التي يستخدمها ضباط الأمن تتسم بالطبع بأنها مبتكرة كعهدها منذ الأزل. والاقتصاد العالمي بيئة مناسبة لها، يمكنها فيها أن تتزايد لتتيح لضباط الأمن الوسائل كافة التي يحتاجونها وأكثر. كتب كاتب الرأي الإسرائيلي المولع بالمعارضة سام فاكنين يقول: «تصنع وسائل التعذيب في الأغلب في الغرب، وتباع كثيرا علنا في الدول النامية إلى أنظمة الحكم البغيضة وعبر الإنترنت. ووسائل التعذيب التكنولوجية المتقدمة كثيرة منها: المسدسات الصاعقة بالكهرباء المسببة للتشنجات، والأغلال المؤلمة، ومصل الحقيقة، والمواد الكيميائية كرذاذ الفلفل. وتصاريح تصدير تلك المعدات بسيطة ومباحة على مستوى العالم، وهي تتجاهل تماما الخصائص التقنية لتلك المعدات (مثلا: هل من الممكن أن تقتل أم أنها تستخدم للإيلام وحسب).» وقد كشفت مؤسسة أوميجا بإنجلترا ومنظمة العفو الدولية عن وجود ما يزيد عن مائة وخمسين شركة مصنعة للمسدسات الكهربية الصاعقة في الولايات المتحدة، وهؤلاء المصنعون يواجهون منافسة شرسة من ألمانيا (التي يوجد بها ثلاثون شركة)، وتايوان (تسع عشرة شركة) وفرنسا (أربع عشرة شركة) وكوريا الجنوبية (ثلاث عشرة شركة) والصين (اثنتا عشرة شركة) وجنوب أفريقيا (تسع شركات) وإسرائيل (ثماني شركات) والمكسيك (ست شركات) وبولندا (أربع شركات) وروسيا (أربع شركات) والبرازيل (ثلاث شركات) وإسبانيا (ثلاث شركات) وجمهورية التشيك (شركتان). وقد ظهرت الدروع الأمريكية الصاعقة بالصدمات الكهربية عالية الفولطية في تركيا، ووصلت المسدسات الكهربية الصاعقة إندونيسيا، وظهرت العصي والدروع الصاعقة بالكهرباء ومسدسات الصعق بالنبال في المملكة العربية السعودية. وتسيطر أيضا الشركات الأمريكية على صناعة الأحزمة الصاعقة، وتقتبس منظمة العفو الدولية عن دينيس كوفمان مدير شركة ستان تيك إنك الأمريكية قوله: «الكهرباء تتحدث جميع اللغات المعروفة لدى الإنسان، ولا تحتاج إلى ترجمة. الكل يخاف من الكهرباء، وهذا لسبب وجيه.» ويصر كوفمان على أن منتجات شركته ليست مصممة للتعذيب وإنما لاستخدامها في الإصابة بشلل مؤقت دون إلحاق أذى، وقد منح الاتحاد الأوروبي وفقا لمنظمة العفو الدولية جائزة الجودة لشركة تايوانية تصنع العصي الكهربية الصاعقة في وقت ما، لكن عندما ووجه الاتحاد لم يستطع الاستناد إلى دليل على إجراء اختبارات أمان مستقلة لهذه العصي أو إلى دليل يثبت أن دول الاتحاد قد استشيرت حتى في هذا الصدد.
إلا أن أهم ما أدخله عصرنا الجديد إلى التعذيب - كما يتضح من سجن أبو غريب - هو التأكيد على أهمية استخدام الإذلال المتعمد، لا سيما الإذلال الجنسي مع الرجال (فلطالما استخدم الإذلال الجنسي مع النساء). نقلت منظمة العفو الدولية عن طالب في الثانية والعشرين من العمر قوله: «أسوأ ما حدث لي هو تجريدي من ثيابي، فهذا أثر بالسلب علي نفسيا.» فيما قال أبو عمر الذي تعرض للتعذيب: «تعرضت للاعتداء الجنسي والشرجي مرتين، وكان هذا أسوأ ما مررت به، فآثار التعذيب البدني تختفي في آخر الأمر ويذهب الألم، فيما تبقى التداعيات النفسية والمرارة وفضيحة التعرض للاعتداء الجنسي. تعرضت للاعتداء الجنسي مرتين، قيدت فيهما قدماي وعقدت يداي خلف ظهري وجلس شخص فوقي وبدأ يحاول اغتصابي، فصرخت عاليا بقوة حتى إنه أغشي علي، ولا أعلم إن كان قد اغتصبني أم كان يحاول ترهيبي وتهديدي فقط.» فإن بدت لك الجملة الأخيرة توحي بالتراجع - لاحظ أن قائلها انتقل من قوله: «تعرضت للاعتداء الجنسي» إلى قول: «لا أعلم إن كان قد اغتصبني» - فإن هذا لا يؤكد إلا أن الإذلال الجنسي هو أقوى وسيلة لتحطيم الضحية عبر إلحاق العار بها، سواء أكانت من العرب أم من غيرهم. من هنا سلط احتجاج العالم العربي العنيف على صور التعذيب في سجن أبو غريب الضوء على الاعتداءات الجنسية إلى حد بلغ درجة الهوس، أو ركز بالأحرى على إجبار السجناء قهرا على ممارسة الجنس. وتلك وسيلة شديدة الإيلام، ومن ثم شديدة الفعالية كأداة للتعذيب، لأن الشذوذ محرم في العالم العربي والعالم الإسلامي بوجه عام. إلا أنه ليس فقط متنفسا طبيعيا في الثقافات التي تشدد بدرجات مختلفة على منع الاختلاط بين الذكور والإناث، بل إنه أيضا عادة منتشرة في الشرق الأوسط، لكنه لا يعترف به علانية في المعتاد بسبب هوس مضاد ومساوي في القوة بالذكورة والشرف الرجولي. •••
سألت نفسي فيما كنت أقف في ميدان لاظوغلي المزدحم بالمرور بجنوب القاهرة، وأنا أتطلع إلى القوس الرخامي الأسود الذي يبدو رمزا رائعا لسطوة النظام الوحشية فوق مدخل المقر الرئيسي لوزارة الداخلية، أو المقر الرئيسي لقوات الأمن المصرية: ما الهدف من كل هذا التعذيب؟ أقصد: ما جدواه؟ فأبو عمر أطلق سراحه مع كل هذا دون أن توجه إليه أي تهمة في آخر الأمر، شأنه شأن الكثيرين؛ ترك وحسب في الشارع بعد أربعة أعوام تقريبا من اليوم الذي يقال إن عملاء المخابرات المركزية الأمريكية زجوا به لأول مرة في شاحنتهم.
كان حاضرا في ذهني مشهد آخر نشر على موقع يوتيوب وقتما زرت ميدان لاظوغلي في منتصف عام 2007، يظهر في صورة المشهد المزغبة المشوشة، التي التقطتها كاميرا هاتف محمول؛ شرطي قوي البنية في قسم شرطة، يرتدي زيه الأبيض الشبيه بزي مضيفي السفن، يضرب مجموعة من المدنيين الذين يبدو أنهم قد ألقي القبض عليهم حديثا . أول ضحيتين له لا يصل طولهما على أقصى تقدير إلى رأسه، ويرتديان غطاء رأس يميز أهل القرى، ويقفان بمواجهة حائط يرتعدان، ويحاولان حماية رأسيهما بيديهما ويتوسلان طلبا للرحمة. لكن الشرطي ظل يأمرهما بأن يواجها الحائط ويعدل من وقفتهما مرارا جاذبا إياهما من مؤخرة عنقهما وضاربا جبهتيهما بالحائط، دافعا كليهما إلى النقطة التي يجب أن يقفا فيها وهو يصرخ فيهما. كان يتحرك بسرعة وخفة لكن بحركات حادة مفاجئة وغريبة، وكأنه طائر غابات عجيب في موسم تزاوج. ظلت يده اليمنى مرفوعة في زاوية قائمة وهو يدور حول ضحيتيه هابطا بكف غليظة مرة بعد الأخرى على مؤخرتي عنقهما، وكأنه يوجه ضربة كاراتيه خاطفة غير بارعة. وهو يبدو غير مبال، شاعرا بالضجر أو مصابا بوسواس قهري، وكأنه لا يدري ما الذي عساه أن يفعله بكل تلك السلطة التي عليه أن يمارسها. تتراجع الكاميرا في لحظة ما لتظهر عدة سجناء آخرين ينتظرون بالصف، يدفعهم شخص ما خارج إطار الصورة لينالوا النصيب نفسه من المعاملة، فيصدمهم الضابط بالحائط، ويضربهم ضربة خاطفة على مؤخرة أعناقهم بضع مرات، ولا يلبث أن يجلب عصا مطاطية لا تظهر ضرباتها العنيفة المتقطعة بالصورة، ويتبع صوتها صوت أنات ضحايا آخرين ندرك حينها أننا كنا نسمع أناتهم طيلة المشهد. يعيد هذا إلى الضابط شعوره بالإثارة لوقت قصير وهو يهبط بقوة بالعصا على فخذي السجينين الأولين، لكنه بعدئذ يشعر بالسأم ولا يهديه تفكيره إلى شيء آخر يمكنه فعله، من ثم يلتفت إلى الكاميرا بابتسامة عريضة على وجهه الوسيم ثم يبسط يديه وكأنه يقول: «وهكذا نتعامل مع أعداء الدولة»، وينتهي المشهد.
تقود دقيقتان وثلاث وثلاثون ثانية فقط هي مدة هذا المشهد إلى شعور المشاهد بالملل، حتى إنني راودتني رغبة في إنهاء عرضه. لم يكن هذا لأنني لم أستطع احتمال العنف الذي ينطوي عليه بقدر ما كان - مع الأسف - لتوقعي سلوكا أكثر فضحا من هذا العبث المتكرر الذي لا يجدي. ومن هنا أدركت أن مشاعري تلك قد تكون مفتاحا لفهم كنه مشكلة التعذيب في مصر التي تتبدى على سبيل المثال في قضية الفتى الصغير محمد، الذي سببت لي مشاهدة التسجيل الخاص به كوابيس بعد أن قرأت أنه توفي. ظللت أتساءل لم لم يودعه الإخوان المسلمون أفضل مستشفياتهم حيث كانت ستسنح له على الأقل فرصة للنجاة؟ ولكي يصعق رجال الشرطة - مهما بلغت وحشيتهم - طفلا في الثالثة عشرة من العمر ويصيبونه بحروق ويغتصبونه لسرقة عبوة شاي، فلا بد أنهم قد أصابهم الملل الشديد من الاعتداء الروتيني والعنف الذي يكيلونه لضحاياهم الناضجين الذين ارتكبوا مخالفات قانونية أكبر. وهذا يدل بلا شك على أن التعذيب مستوطن في مصر منذ زمن طويل، وسط ثقافة لا تعاقب عليه يدعمها قانون الطوارئ، وهو راسخ بقوة إلى حد أنه أصبح منفصلا تماما عن غاية تنفيذ القانون، التي ربما كانت غايته الأصلية في وقت من الأوقات، ليصبح هو في حد ذاته غاية. وفي هذا المناخ الخطير، إلقاء اللوم على النظام ليس شائعا، فالسبب الرئيسي للتعذيب في مصر بالطبع هو ترهيب عامة الشعب المقهورين أكثر. غير أن الدراسات التي تتناول القتل الجماعي على سبيل المثال تظهر مرة بعد أخرى أن الشرفاء تماما قد يتحولون إلى قتلة إن أتاح لهم النظام بيئة بلا عقاب وأنهم يصبحون أجرأ فأجرأ في القتل كلما طال تمكينهم من ذلك. وهذا بالضبط ما فعله النظام المصري في مسألة التعذيب.
بلغت ميزانية مصر للحفاظ على الأمن الداخلي في عام 2006 مليارا ونصف المليار دولار، وهو مبلغ يفوق حجمه حجم ميزانيتها القومية للرعاية الصحية، ويقدر أن هناك نحو 1,4 مليون فرد أمن تقريبا يشكلون طاقما يبلغ حجمه تقريبا أربعة أضعاف حجم الجيش المصري. وقد أنفقت مصر - وفقا لصفحة رأي كتبها سعد الدين إبراهيم في صحيفة واشنطن بوست بعنوان «القمع غير المحدود في مصر» - 1,5 مليار دولار على الأمن الداخلي في عام 2006 وهو مبلغ يفوق ما أنفقته على الرعاية الصحية. كتب سعد الدين إبراهيم أيضا أن الجيش المصري لا يمثل حجمه إلا ربع حجم قوات الأمن الداخلي التي تضم 1,4 مليون فرد، وأن منظمة حقوق الإنسان المصرية كشفت أنه «في الوقت الذي تضاعف فيه تعداد سكان مصر في الأعوام الخمسة والعشرين الأولى من عهد نظام مبارك، تزايد عدد السجون ليصل إلى أكثر من أربعة أضعافه، ووصل عدد المحتجزين أكثر من عام بلا تهمة إلى أكثر من عشرين ألف سجين.» لقد أصبحت مصر، كما قال الثوري إبراهيم عيسى مدير تحرير جريدة الدستور المعارضة: «دولة بوليسية بامتياز.» وفي الفترة التي انخرطت فيها الصحافة المصرية في تحليل الأوضاع المصرية في أعقاب وفاة الصغير محمد، أشار آخرون إلى أن النظام المصري في جوهره معتل. قال أحمد حجازي من منظمة حقوق الإنسان العربية بالقاهرة لصحيفة الأهرام الأسبوعية إن المشكلة تبدأ من تدريب صغار الطلاب الملتحقين بجهاز الشرطة؛ وأردف: «يتسم جزء كبير من التدريب بأنه ذو طابع عسكري، ويكون التركيز على بناء القوة البدنية.» وأضاف أيضا أن عمل الشرطة الحقيقي لا يدرس تقريبا، والأساليب التي تدرس تكون في العادة عتيقة، من ثم لا يلبث ضباط الشرطة أن يتعلموا أن الضغط البدني على السجين قد يحقق نتائج أسرع من الاستجواب السليم، ويفطنون من مجموعة من القضايا واسعة الشهرة أنه من المستبعد أن تؤدي وفاة السجين في فترة اعتقاله إلى أي تداعيات. وبما أن قبضة مبارك على السلطة تضعف، فقد يبرر هذا إضافة أي أسباب ربما لم تكن موجودة من قبل لتبني إجراءات أكثر صرامة تجاه التهديدات التي يواجهها النظام، أو - وهو الأرجح - محاولة ترهيب الشعب المصري بنماذج لا تنفك تزداد وحشية. لكن كما هي الحال مع التقارير الصحفية التي تزعم أن عدد الوفيات من التدخين «يتزايد»، يصعب تبين ما إن كان تزايد وحشية الشرطة مرده ببساطة إلى نمو الوعي بوحشيتها أم اتساع تغطية نماذجها. يقع اللوم بالأساس على الرئيس عبد الناصر بقدر ما يقع عليه في كثير من السوء الذي أصاب مصر، بما أنه أسس مراكز تعذيب تعرف رسميا بالسجون تتسم بطابع شديد الوحشية إلى حد أن سجناءها الذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف كانوا يشيرون إليها باسم «معسكرات الاعتقال». •••
إن وقفنا على تحقيقات مذبحة بني مزار الشهيرة التي وقعت في ديسمبر/كانون الأول عام 2005، فسنجد أن العمل الشرطي السليم قد اندثر تماما منذ زمن بعيد، فلا تزال مهزلة جمع وضرب العدد المعتاد من المشتبه بهم خيارا متاحا سهلا. وفي قضية بني مزار التي احتلت الصفحات الأولى للجرائد شهورا، ذبح ذبحا شعائريا أربعة رجال وامرأتان وأربعة أطفال في 29 من ديسمبر/كانون الأول عام 2005 في بلدة بني مزار التي تقع على بعد 225 كيلومترا جنوب القاهرة. ووفقا لوصف صحيفة ديلي نيوز إيجيبت، عندما اكتشفت جثث الضحايا كانت قد أصبحت متيبسة. تشير بقع الدم الذي سال منها إلى أنها نزفت حتى الموت، وبها إصابات على الرءوس والرقاب، وكانت بطونها مبقورة. الذكور من الرجال والأطفال بترت أعضاؤهم التناسلية، أما النساء فشقت بطونهن وصولا إلى أعلى المستقيم. بعض الضحايا كانت بأيديهم جروح من أثر الدفاع عن أنفسهم، لكن الشرطة ارتأت أن من تغلب على الضحايا العشر كان جارا مختلا عقليا وحيدا عملاق الجسم ذكاؤه أقل من المتوسط، يدعى محمد علي، يبدو أنه سبب إزعاجا على سقف بيت تلك الأسرة ذات مرة، لكن لم يبد عليه أي علامة على الإطلاق تشير إلى أنه مريض نفسي. وكانت المرة الوحيدة التي اهتاج فيها تحت ملاحظة نفسية مستقلة هي عندما أخبر بأن الشرطة ستسأله المزيد من الأسئلة. غير أن الأمور لم تسر حسب ما خططت النيابة هذه المرة؛ بل سلطت محاكمة محمد علي في يوليو/تموز عام 2006 الضوء على افتقار الشرطة تماما للكفاءة في تلفيقها التهمة لمحمد علي، على نحو بدا أقرب إلى نسخة للكبار فقط من سلسلة أفلام كيستون كوبز الكوميدية الساخرة منه إلى مؤامرة تستحق أن يطلق عليها هذا الاسم.
على سبيل المثال: بالرغم من أهمية القضية لم تستدع الشرطة خبير رفع بصمات إلى مسرح الجريمة، زاعمة في المحكمة أن الطوب اللبن بالمبنى الذي قتلت فيه الضحايا لم تكن لتظهر عليه أي بصمات بأي حال، ثم زعمت الشرطة أن محمد علي قادها إلى الموقع الذي خبأ فيه الأجزاء المبتورة من جثث ضحاياه الذي قصده قبل أن يذهب إلى بيته؛ ناسيا أن يغسل الجلباب الذي ارتداه أثناء قتل الضحايا، والذي لم تظهر عليه الكثير من الدماء على حد قول الخبراء الذين استدعاهم الدفاع، وهو ما يتناقض مع ذبح دستة تقريبا من الأشخاص. وكانت أعضاء الضحايا التناسلية في الموضع الذي ذكر محمد علي أنها ستكون فيه، وهو ما يشير إلى أنه دسها هناك متبعا تعليمات الشرطة. وأضاف محاميو الدفاع أن الجريمة وفقا لتقرير وكيل النيابة لم يعد محمد تمثيلها - وهو الإجراء المعتاد - بل مثلها شخص آخر لأن محمد كان «متعبا». كما طلب أيضا من محمد علي في المحكمة تجريب مقاس حذاء أودع بين الأدلة وزعم أنه عثر عليه في منزله وربط بينه وبين الجريمة فيما بعد، فلما فعل ذلك لم يناسبه الحذاء. وبعد ثلاث محاولات لارتداء الحذاء، فحص الحذاء الذي ارتداه بالمحكمة؛ فكان مقاس الحذاء الذي ارتداه خمسة وأربعين، غير أن مقاس الحذاء الذي عرض دليلا كان اثنين وأربعين. لكن في اليوم التالي، وعندما استدعي خبير، أصبح الحذاء بأعجوبة يناسب مقاس قدم محمد علي. غير أن القضية اشتملت على ثغرات أخرى من بينها التقارير الجنائية وشهادات الشهود المتناقضة، التي أبرزها فريق الدفاع عن محمد علي بقيادة عضو البرلمان عن إحدى دوائر محافظة المنوفية طلعت السادات، الذي لعب دورا محوريا في إعادة النظر في القضية بواسطة أكاديميين مستقلين. ذكر السادات أن الشرطة» اهتمت فقط بسد الخانات بدلا من إجراء تحقيق حقيقي». وكانت كل هذه الأدلة أكثر من أن يحتملها القضاء، وإن كان كالقضاء المصري، فبرأت المحكمة محمد علي من الاتهامات كافة.
بالطبع تعرض محمد علي (كما قيل) للتعذيب للإدلاء باعتراف مبكر، وكذلك عائلته. ذكر والد محمد علي أنه كان يسمع محمد يصرخ من ألم الصعقات الكهربية التي تلقاها أثناء الاستجواب. وذكرت سوزان فياض، وهي عالمة نفس بمركز نيشن - الذي لعب دورا حاسما في نقض الأدلة المستخدمة في قضية محمد علي - في مقال صدر عام 2006 بعنوان «شكوك منطقية كثيرة» أن الشرطة بعد صدور الحكم «جمعت غيظا ثلاثين فردا من أسرة محمد علي، وجعلتهم يجلسون على الأرض ساعات في أحد أقسام الشرطة.» وكان هذا في ظاهره لحماية الأسرة من هجوم بعض الغوغاء بعد أن حرضت وزارة الداخلية أسر بني مزار ضد محمد علي. وأضافت سوزان فياض أن ذلك الإجراء كان عبارة عن «حماية بسيطة ممتزجة بعقاب طفيف». وفيما بعد احتجزت الأسرة تحت الإقامة الجبرية «لحمايتها» وصودرت الهواتف المحمولة المملوكة لأفرادها. وفي ذلك قالت سوزان، التي احتكت في عملها بالكثير من ضحايا العنف، إن هذه القضية توضح مدى روتينية ومنهجية التعذيب.
قد نميل إلى الاعتقاد أن براءة محمد علي تظهر أن النظام لم يفسد تماما؛ لكن العجيب أن هذا الاعتقاد لن يستهوينا كثيرا، إذ إن طلعت السادات نفسه محامي الدفاع عن محمد علي قد حكم عليه بالسجن عاما في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2006 في قضية مختلفة، بتهمة ارتكاب أخطر الجرائم، ألا وهي «سب الجيش». ومن الصعب ألا نتصور أن حبسه كان بطريقة ما عقابا على كشفه مدى إجرام ووحشية الشرطة، ناهيك عن افتقارها التام إلى أدنى قدر من المصداقية، من خلال مساعدة محمد علي لنيل البراءة. •••
يأتي من الكويت النائية تفسير أعمق وأكثر إيلاما لظاهرة تقبل التعذيب، تفسير سوغه نبأ انتشر في أغسطس/آب عام 2007 عن تعذيب شرطة الهجرة الكويتية لاثنين من المصريين بعد وقت قصير من وفاة الفتى الصغير محمد. كتبت رانيا الجمل - وهي مصرية وكاتبة دائمة في صحيفة الكويت تايمز - ردا بقوة على تلك الأنباء قائلة: «التعذيب اليوم في الشرق الأوسط هو منهج حياة، إنه يستخدم في كل مكان، ففي بيوتنا يضرب الآباء أبناءهم، ويقتلونهم أحيانا إن أساءوا السلوك أو أساءوا إلى اسم العائلة. وفي أماكن العمل تكثر القصص عن أرباب العمل الذين يسيئون إلى الخادمات والسائقين ويعذبونهم. ويدخل في بعض المدارس بالعالم العربي ضمن واجبات المعلم ضرب الطفل بمباركة والديه. ولا ننسى أقسام الشرطة والسجون حيث أصبحت الكرامة الإنسانية منذ زمن أمرا منسيا، وحيث تعد حقوق الإنسان دعابة.» تقول رانيا الجمل إن رد فعل أغلب العالم العربي على تلك الأنباء لن يتجاوز - على أفضل تقدير - هز الكتفين بلا مبالاة أو التهكم بعبارة: «أهلا بك في الشرق الأوسط.» ثم تستطرد رانيا قائلة: «نحن نتعلم من لحظة ميلادنا أن علينا أن نومئ بالإيجاب وأن نطيع ولا نناقش أو نخالف. نتعلم أن نتفق مع آبائنا وكبارنا ومعلمينا وحكومتنا ورؤسائنا في العمل؛ قل نعم فحسب لتحيا حياة سهلة، واتبع نهج الآخرين وما يقولونه وما يفعلونه؛ اتبع الآخرين فحسب إن كان هذا سينأى بك عن المشاكل. نحن نتعلم أن المخالفة تأتي بعواقب مؤسفة وأحيانا عواقب كارثية، ولا نتعلم أبدا أن نكون أبطالا، نتعلم فقط أن نكون قطيعا نتبع الراعي وكلابه.» إلا أن رانيا الجمل تضيق ذرعا بمن يزعمون أن فضح هذا التعذيب والتحقيق فيه بالكويت يعني أنها تتمتع بديمقراطية أفضل من مصر، فتقول: «هل هذه هي أفضل استجابة؟ لا يهم إن كانت لدينا ديمقراطية حقيقية أم لا: علينا أن ندين الجريمة لا أن نجد ذريعة لها. علينا أن نتحلى بالشجاعة الكافية للوقوف ضد الخطأ، لا أن ننجرف وراء الآخرين طالما أنه لا يوجد من يراقب وطالما أن الجميع يفعل المثل. علينا أن نتوقف عن لعب دور القطيع لأننا إن لم نفعل فسنذبح يوما ما.»
توضح رانيا الجمل في هذا التحليل القاسي نقطتين متصلتين شديدتي الأهمية: الاعتداء أصبح جزءا لا يتجزأ من نسيج ثقافة الشرق الأوسط ولم يعد مقصورا على أنظمته الهرمة المشوهة؛ وهذا جعل من يعيشون في ظل تلك الأنظمة مشاركين في الاعتداءات التي تمارسها؛ بل جعلهم في الواقع السبب في استمرارها فيها دون عقاب. على سبيل المثال: قارن من ناحية بين لا مبالاة مصر والشرق الأوسط بوجه عام بضحايا صدام حسين - أسوأ جزاري العالم العربي - الذين يقدرون بمئات الآلاف، وبين التعاطف الجارف العجيب الذي سرى فيهم يوم إعدامه من ناحية أخرى.
مع الأسف خلا التلاسن الهزلي الذي اندلع بين مصر والكويت حول تعذيب المصريين من مثل هذه الأفكار. فوفقا لما نشرته صحيفة الكويت تايمز في سبتمبر/أيلول عام 2007 نقلا عن إيمان جمعة: «هاجم الكتاب المصريون بشراسة الكويت وكأنهم اكتشفوا فجأة أن «المواطن المصري له كرامة».» وذلك على حد قول الصحفي الكويتي فؤاد الهاشم في صحيفة الوطن، إشارة إلى ملف مصر البائس في هذا المجال. لكن الكاتب المصري نصرت صادق رد هجوم فؤاد الهاشم على الفور في صحيفة المصري اليوم المستقلة جاعلا عنوان مقاله: «علمهم المصريون ليكون جزاؤهم التعذيب»، وهو لم يقصد أن المصريين قد علموا الكويتيين التعذيب، بل عنى فقط أن 400000 عامل مصري مغترب يعيشون بدولة الكويت الصغيرة قد «ساهموا في تحقيق نهضتها». بل تقدم أيضا رئيس تحرير صحيفة الأسبوع وعضو البرلمان المصري مصطفى بكري باستجواب لوزير الخارجية أحمد أبو الغيط في البرلمان عن العمود الذي كتبه فؤاد الهاشم قائلا إنه: «انتهك حرية الصحافة» ب«إهانة مصر ومواطنيها». لكن في الشهر نفسه أغلق محافظ القاهرة جمعية المساعدة القانونية لحقوق الإنسان - وهي منظمة تعتني بضحايا التعذيب - بعد ظهور ادعاءات كاذبة تتهمها بارتكاب مخالفات مالية. والخلاصة باختصار هي أن رسل الإصلاح يهاجمون من اليمين ومن اليسار ومن كل اتجاه في الوقت الذي يضاعف فيه النظام مفاسده بعزم جنوني.
الفصل السادس
الفساد
لا بد أن نكن تقديرا - من نوع معاكس - للحكومة المصرية وهي ترقب بانتباه شديد ما يجري حولها لكشف أي تهديد محتمل قد ينال من سمعة مصر والمصريين. كان هذا هو الحال عام 2007 عندما أعلنت مؤسسة تدعى «العجائب السبع الجديدة» عن الجولة الأخيرة من التصويت الإلكتروني على قائمة ظلت تعلن عنها طوال خمسة أعوام كاملة على أنها «عجائب الدنيا السبع الجديدة». ما الذي أثار حفيظة الحكومة المصرية؟ وما الذي جعلها تستشيط غضبا؟ الجواب هو أن أهرامات الجيزة لن تدرج تلقائيا كإحدى العجائب السبع الجديدة، وإنما مجرد واحدة من الترشيحات العديدة المطروحة للتصويت.
في أعقاب موجة الاحتجاجات التي تزعمتها وزارة الثقافة المصرية مدعومة بحملة تشنيع منسقة (إن لم تكن مدبرة كما هو الحال دائما) من جانب الصحف القومية، تراجع بيرنارد فيبر صاحب فكرة التصويت عن موقفه. أوضح فيبر في خطاب ذكرت صحيفة «الأهرام» أنه بعث به إلى وزير الثقافة فاروق حسني قائلا: «بعد دراسة متأنية اختارت «مؤسسة العجائب السبع الجديدة» أهرامات الجيزة - العجيبة الأصلية الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا - عجيبة شرفية ضمن عجائب الدنيا الجديدة. وفي بادرة تقدير فإن القرار - حسبما أضاف فيبر - قد وضع نصب عينيه وجهات نظر المجلس الأعلى للآثار ووزارة الثقافة المصرية اللذين أصرا على أن الأهرامات تستحق «مكانة خاصة» باعتبارها «موقعا تراثيا وثقافيا عالميا مشتركا».
تاه حسني عجبا إزاء ما حدث من تغيير، ولم يتمالك نفسه من توجيه طعنة أخيرة إلى «مؤسسة العجائب السبع الجديدة»؛ فادعى أنها ما شنت حملتها إلا من أجل التربح من وراء المشاركين في التصويت الذين يرتادون موقعها الإلكتروني، وصرح قائلا: «علينا أن نحمي تراثنا من الهواة والعابثين الذين لا ينفكون عن محاولة استغلاله.»
على الرغم مما انطوى عليه رد فعل وزارة الثقافة من حدة ومبالغة، فإن فهم الدافع وراءه ليس بالأمر العسير إذا تأملناه من منظور محدد؛ فالأهرامات تحتل مكانة فريدة بالفعل لكونها العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا، ولا شك أن السلطات المصرية قد رأت في احتمال الانتقاص من مكانتها تلك - وإن كان احتمالا مستبعدا - على أيدي مجموعة من الجهلاء المشاركين في تصويت إلكتروني إساءة لها. لكن على صعيد آخر أكثر أهمية فقد فاحت من رد الفعل هذا رائحة الرياء. فلما كان قطاع السياحة واحدا من أهم مصادر الدخل للاقتصاد المصري، فإن الحكومة المصرية نفسها تولي الأهرامات - إلى جانب المتحف المصري ونهر النيل - أهمية محورية ضمن سياسة التسويق السياحي على مستوى العالم؛ تلك السياسة الموجهة قطعا لدعم خزانة الدولة. أضف إلى ذلك أنه في زمن يمكن للترويج فيه أن يكون ذا أثر فعال في تشكيل مفاهيم الأجانب عن دولة ما، فإن الحملات السياحية المتواصلة - المقرونة بوثائقيات تليفزيونية ممولة من الحكومة المصرية عن التاريخ الفرعوني - تلعب دورا مستترا في خداع العالم لينظر إلى مصر على أنها أرض الابتسامات، وحسن الضيافة، والبهجة، والآثار القديمة؛ لا على أنها دولة فوضوية غارقة عن آخرها في الاستبداد والقمع والفقر على شفا ثورة شعبية، وأنها ترزح تحت وطأة نظام قمعي كما هو الواقع. وبالمثل فإن محاولة الحفاظ على المظاهر الكاذبة لدعم الصورة الرمزية على حساب الواقع المعقد هي السبب وراء سلسلة المحاكمات الجنائية لمن يجرؤ من الصحفيين والإصلاحيين والنشطاء الحقوقيين المصريين على توجيه النقد لمبارك أو أسرته أو المؤسسة العسكرية، وكثيرا ما يحدث ذلك بموجب القانون الذي يحظر ممارسة أي نشاط أو حتى الإدلاء بحديث يرى النظام أنه «أساء لصورة مصر في الخارج»، وهو ما ينطوي على غموض غاشم بغيض.
غير أن الرياء الواضح الذي شاب رد فعل وزير الثقافة يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. فأي شخص قام بزيارة إلى الأهرامات سيقر بأن الفساد وانعدام الكفاءة بوجه عام قد أوقعا آخر عجائب الدنيا السبع في قبضة مجموعة من الهواة والعابثين يحاولون في استماتة استغلال تراث مصر. بادئ ذي بدء، لطالما اشتكى علماء المصريات من أن ما لحق بالأهرامات من أضرار أثناء الفترة القصيرة التي هي عمر السياحة الجماعية يفوق ما لحق بها من أضرار طوال الأربعة آلاف عام الماضية. ومع هذا يبدأ الهواة رحلة استغلالهم للسياح الراغبين في رؤية ما تبقى من الأهرامات قبل نحو كيلومتر من وصولهم إليها؛ إذ ينقض محترفو مطاردة السياح على سيارات الأجرة في محاولة لإقناعهم بأخذ جولة معهم بعد إيهامهم أن مكتب بيع التذاكر الرسمي مغلق أو خداعهم بأي حيلة مشابهة. وتتزايد المضايقات مع اجتياز السياح للبوابة الرئيسية حيث تتزايد أعداد المطاردين الذين يتعقبونهم مثل أسراب الذباب حول النفايات. أما أفراد الأمن المنوط بهم حراسة المكان - والذين يتمثل عملهم رسميا في حماية السياح من مثل هذه المضايقات - فإنهم عادة ما يغضون الطرف عما يحدث، ما لم تثر ثائرة أحد السياح أخيرا، ويحدث ضجة في المكان. حينها يصيح الشرطي فيمن يضايق السائح موبخا إياه في فتور؛ ذلك أنهم اتفقوا معهم على أخذ نسبة من الأموال التي يجنونها من وراء السياح الذين يرضخون لمطالبهم، ويوافقون في النهاية - بحنق شديد غالبا - على أخذ جولة بالخيل أو التقاط صورة. •••
قد يبدو ما سبق أمرا تافها، غير أنه في عام 1997 لعب هذا الفساد المستشري في قاعدة قطاع السياحة دورا في السماح لجماعة من المقاتلين المدججين بالسلاح باجتياز عدة نقاط تفتيش تابعة للجيش والشرطة ومؤدية إلى معبد حتشبسوت بالقرب من الأقصر من دون جهد يذكر. وهناك شرعوا في ذبح العشرات من السياح والمصريين قبل فرارهم إلى الصحراء دون عائق يعترض طريقهم. قبل هذا الهجوم، كان الشغل الشاغل للعديد من الجنود وأفراد الشرطة المكلفين بحراسة المكان هو جمع الرشا من المواطنين الذين يعملون مع الأفواج السياحية، وتدخين السجائر، والاستغراق في النوم طوال ساعات الظهيرة الصيفية الحارة في مؤخرة شاحناتهم. وبعد الهجوم بدت الأولوية مجددا لصورة الدولة، وليس سلامة ضحايا الهجوم العنيف. ولما كانت الصورة أبلغ من ألف كلمة، فقد خصصت قوات الأمن - حسبما ذكر شهود عيان كثيرين آنذاك - جل جهودها للبحث عن كاميرات الفيديو وكاميرات التصوير مع أي شخص في المنطقة ومصادرتها خشية أن تتسرب صورة لأحداث المذبحة التي نفذها إرهابيون - أطلقوا النار على السياح ثم قطعوهم إربا - إلى وسائل الإعلام الغربية، ومن ثم تشوه صورة مصر البراقة في الخارج إلى الأبد. كان هناك مئات من السياح في الموقع وقت الهجوم، ومن المفترض أنهم جميعا يحملون كاميرات تصوير، لكن لم تظهر صورة واحدة للمذبحة منذ وقوعها؛ ولو على شبكة الإنترنت.
غير أنه عندما يزور السياح الأجانب - في أولى رحلات الكثيرين منهم إلى العالم العربي - المتحف المصري فإنهم يطئون عن غير قصد البؤرة المعتمة لنظام يجني فيه الهواة والعابثون أرباحا طائلة من وراء الاستغلال الفج لتراث مصر الفريد. والمتحف الكائن بوسط القاهرة خير مثال على الخلل وسوء التنظيم المصري واسع النطاق، لأنه يفسح المجال أمام نهب تراث الدولة على نحو يكاد لا يتصوره عقل. •••
يضم الطابق السفلي من المتحف المصري عددا هائلا من القاعات الفسيحة ذات الجدران العالية والممرات بحجم مقبرة كبيرة، ويحتوي على خمسة وستين ألف قطعة أثرية من بينها ألف تابوت بعضها داخل صناديق لم يفتح منذ سبعين عاما . ويعتقد أن معظم القطع الأثرية يرجع تاريخها إلى أكثر الأسر الحاكمة نفوذا في مصر القديمة؛ وقد عرض بعضها من قبل، لكن اضطرت الحاجة إلى نقلها لإخلاء مكان في الطابق العلوي للتحف الأخرى؛ بينما لم يعرض البعض الآخر أمام العامة قط. تقبع هذه القطع الأثرية أسفل أكوام من الغبار وقد تكدس بعضها فوق بعض، وتعرضت لتلف بالغ في معظم الأحيان بفعل العقود التي مرت عليها من الإهمال وسوء التهوية، فضلا عن أنها أغفلت فعليا، وربما سقطت من الذاكرة تماما.
استمر الوضع هكذا إلى أن أنشأ المجلس الأعلى للآثار مخازن جديدة للآثار المكتشفة حديثا في جميع محافظات مصر، وهو المكان الذي توضع فيه كل الآثار التي يعثر عليها أسفل الرمال. يتولى الإشراف على هذه الآثار الآن الدكتور زاهي حواس الحائز على جائزة «إيمي» وصاحب الحضور الدائم على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد بأنفه الضخم وقبعة إنديانا جونز التي تميزه. واعتمادا على شهرته الكبيرة شن حواس معركة شخصية جديرة بالثناء ضد الفساد داخل قطاع الآثار، فضلا عن مطالبه التي شكلت مادة خصبة لوسائل الإعلام باستعادة الآثار المصرية الموجودة في متاحف بالخارج، وجرد الآثار الموجودة في الداخل. ومع هذا عندما أعلن عن فقدان نحو ثمان وثلاثين قطعة أثرية من قبو المتحف نفسه عام 2004، أنكر المسئولون إمكانية حدوث شيء من هذا القبيل. وذكر حواس نفسه أن عملية الجرد ستستغرق خمسة أشهر على الأقل، في حين سيستغرق ترميم الطابق الأرضي عاما كاملا، وتمنى ظهور القطع الثمانية والثلاثين بانقضاء تلك الفترة. غير أن المسئولين عن ترميم الطابق السفلي سرعان ما اكتشفوا أن 70 بالمائة من القطع الأثرية المعرضة للتلف هناك لم يسجل من قبل قط.
ليس أسهل إذن من اختفاء القطع الأثرية في ظل ظروف كهذه. وقد ذكر أن عاملا ألقي القبض عليه متلبسا بمحاولة بيع ثلاث قطع لا تقدر بثمن كان قد أخفاها في أكياس القمامة التي يحملها إلى خارج المبنى في إحدى عمليات التنظيف الثانوية. ألقى بعض المسئولين باللوم على قلة أعداد الحراس؛ إذ يكون الواحد فيهم مسئولا عن حراسة ما يتراوح بين عشرة آلاف وأربعين ألف قطعة أثرية. ووفقا لما ذكره حواس فإن المتحف المصري لم يخضع لعملية جرد منذ خمسين عاما أو أكثر، بسبب خوف الجميع من المساءلة إذا ثبت وجود نقص في المخازن أو وجود قطع أثرية غير مسجلة. والواقع أنه حتى عام 1983 كانت الآثار المصرية تباع رسميا في المزادات، وتنقل علانية عبر المطارات؛ ومن المستبعد أن يكون هذا الأمر قد انتهى تماما بعد حظر الدولة تصدير الآثار بموجب قانون رسمي. وفي عام 1994 تبنى واحد من أسلاف حواس في منصبه - وهو عبد الحليم نور الدين - مشروعا طموحا يهدف إلى جرد كافة المواقع والمخازن والمتاحف بموجب قرار وزاري، لكن المشروع توقف فور رحيله من منصبه. ذكر نور الدين أن جردا أجري على العديد من القطع الأثرية، وأنه وضع خطة لجرد المواقع والمتاحف الصغيرة مرة كل عام، وجرد المتاحف الكبرى مرة كل أربعة أعوام. ويعتقد حواس أن نسبة 10 إلى 15 بالمائة فقط من الآثار المصرية خضعت لعمليات جرد؛ بمعنى أن الجرد لم يشمل نحو 85 بالمائة من هذه الآثار، وعليه يمكن اختفاء أي منها في أي وقت دون إمكانية تقفي أثرها. •••
نأتي الآن على ذكر طارق محمد (المعروف باسم طارق السويسي). ثمة غموض هائل يكتنف صعود نجم السويسي من مجرد عامل بسيط في أحد البازارات في شارع الجمهورية بالقاهرة إلى شخص يمتلك ثروة تقدر بأكثر من 50 مليون دولار أمريكي، وقصرا على مساحة ثلاثين فدانا بمنطقة أبو رواش بالهرم، ويشغل منصب أمين الحزب الوطني عن دائرة الهرم. لم تعثر السلطات داخل قصره على الآثار الفرعونية التي زين القصر بها فحسب، وإنما على لوحات لا تقدر بثمن يرجع تاريخها إلى العصور الإسلامية (إضافة إلى مخبأ لأسلحة غير مرخصة). من المؤكد أن السويسي لم يكن يعمل بمفرده؛ إذ كان معه ما لا يقل عن واحد وثلاثين متهما في القضية التي رفعت ضده في النهاية من بينهم مفتشو آثار وضباط شرطة. وقطعا لم تكن السلطات المصرية صاحبة الفضل في كشف النقاب عن عمليات التهريب، وإنما الشرطة السويسرية التي اشتبهت في شحنة وصلت أحد المطارات السويسرية دون أي بيانات أو تحديد لهوية المرسل إليه على الطرد. كشفت التحقيقات السويسرية عن أن السويسي هرب ما جملته مائتان وثمانون قطعة أثرية نادرة عبر مصلحة الجمارك وقرية البضائع بالقاهرة بمساعدة إحدى شركات التصدير.
أين الحديث إذن عن تشويه سمعة مصر؛ فها هم الأجانب يلقون القبض على رجل أعمال شهير وعضو بارز في الحزب السياسي الحاكم أيضا بتهمة تهريب الآثار والتراث القومي. لا يخفى على أحد أن حدثا كهذا سبة في جبين النظام، لكن توجيه التهم إلى رجل بارز كهذا لم يكن بالأمر الهين. تحركت الجهات القانونية المصرية على قدم وساق؛ فتوجه وفد من نيابة أمن الدولة العليا والرقابة الإدارية والشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) ضم عددا كبيرا من خبراء الآثار إلى سويسرا للتحقيق في الواقعة. كشف الوفد عن أن المسروقات تضم قطعا أثرية على درجة عالية من الأهمية التاريخية بما في ذلك محتويات مقبرة كاملة منها النصف العلوي لتمثال يجسد الإله «بتاح»، وبقايا رأس الإلهة «سخمت»، وتمثال نادر لإلهة الحب «أفروديت»، وتمثالان من الخشب الملون يمثلان الإله «حورس» على شكل صقر، ومومياوان سليمتان، وجميعها يرجع تاريخه إلى عصور قديمة مختلفة - مثل العصر الفرعوني والإغريقي والروماني - وأنها تخضع جميعا لحماية القانون المصري التي لا جدوى لها. جرى التنقيب عن كل هذه الآثار خلسة في مواقع أثرية مهمة، وكانت جميعها بلا أرقام تسجيل لدى المجلس الأعلى للآثار، وتم التعامل مع العديد منها دون حذر. وعلى الرغم من أن بعض هذه الآثار- خصوصا المومياوات - كان عرضة لخطر التحلل، فإن معظمها كان لا يزال بحالة جيدة؛ إذ جرى التنقيب عنها في مناطق صحراوية جافة، وكان من الممكن إنقاذها.
ووفقا لتقرير مهم نشرته حركة «كفاية» عام 2005 حول الفساد في مصر فإن تقرير نيابة أمن الدولة العليا ضم نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة صفحة ورد فيها اعترافات المشتبه بهم في القضية، وتضمن - إلى جانب تهم التهريب - دعاوى غسيل أموال وحيازة مخدرات وأسلحة.
أصدرت المحكمة الجنائية بالقاهرة حكمها بحبس السويسي خمسة وثلاثين عاما وغرامة ثلاثة أرباع مليون دولار بتهم السرقة، والتهريب، وإخفاء الآثار، والرشوة، واستخدام مستندات مزورة، وغسيل الأموال. وحكم على مدير علاقات عامة في الأقصر بالسجن خمسة عشر عاما وغرامة 9000 دولار، وعلى محمد سيد حسن كبير مفتشي آثار الأقصر بالسجن عشرين عاما وغرامة 9000 دولار. جدير بالذكر أن هذه الأحكام خففت في جلسات الاستئناف. •••
لا يخلو مثل هذا الفساد من الطرافة في بعض الجوانب. فالقدرة المطلقة لبعض المتهمين على التفنن، والصفاقة، والادعاء أن ما يفعلونه لا يودي بحياة أحد، وإن كان ادعاء قد يجانبه الصواب؛ كل ذلك يجعل الأمر يبدو وكأنه تجربة مثيرة يمكن لأي شخص أن يستمتع بها خلسة إذا ما أسعده الحظ وأتيحت له الفرصة لذلك. والواقع أن أي شخص قد ينتهز الفرصة في ظل الظروف المناسبة، إذا وضعنا في الاعتبار المشقة التي يتعرض لها عندما يأبى الجميع إلا اتباع القوانين الروتينية طوال الوقت. فالفساد يوفر طريقا ملائما لتفادي الإجراءات الروتينية عندما يتعلق الأمر بتجاوزات بسيطة، وكثيرا ما يكون طريقا مختصرا للهروب من اللوائح التي تخلو من المنطق والتي عفا عليها الزمن بكل تأكيد؛ ومن ثم قد يصبح من الصعب - حتى على من يحاولون التمسك بالأخلاق - الوقوف عند النقطة التي يتخذ فيها الفساد منحنى خطيرا. إنه لمن المؤكد أنه يكاد يستحيل إنجاز عمل ما في العالم العربي دون تدخل الواسطة؛ فمفتاح السر هو معارف المرء وليس معرفته. وبدلا من قضاء أسابيع في إنهاء مصلحة والتنقل من مكتب لآخر في ظل نظام بيروقراطي، لم لا تتصل بصهر أحد أقاربك في الوزارة لتسريع الإجراءات؟
بدأت أستسيغ طعم الواسطة وما تحققه من راحة تسبب الإدمان عليها عام 2006 عندما تعرفت مدة ستة أشهر قضيتها في القاهرة على شقيق لواء يتولى منصبا مرموقا في الجيش المصري أحاطني برعايته. وبدلا من قضاء يوم أو أكثر داخل مجمع المصالح الحكومية بميدان التحرير لتجديد تأشيرتي، وإرسالي من نافذة إلى أخرى ومن طابق لآخر على يد مجموعة من الموظفين يفخرون بتعنتهم وفظاظتهم ، كان شقيق صديقي اللواء يجري اتصالا مسبقا يقابلني على إثره عند باب الدخول عامل يصطحبني مباشرة إلى مكتب الموظف المسئول في ذلك اليوم. وهناك أجلس لأحتسي الشاي وأتناول البسكويت في الوقت الذي يعامل فيه جواز سفري كما لو كان تابعا لإحدى الشخصيات المهمة، ثم يعاد إلي بعد خمس عشرة دقيقة؛ ليس بتمديد ستة أشهر كما طلبت، وإنما بتأشيرة إقامة لمدة عام كامل وعلى الصفحة الأولى ختم دخول متعدد المرات. وفي طريقي إلى أحد الموالد في صعيد مصر، أصر مجند في الجيش أمام إحدى نقاط التفتيش على أن أنتظر بضع ساعات حتى تستعد قوة عسكرية لاستقلال السيارة معي أنا والسائق مسافة الخمسة كيلومترات الباقية استنادا إلى إجراء عجز عن تفسيره لي؛ غير أن اتصالا هاتفيا سريعا بشقيق اللواء جعله يهرع إلى رئيسه الذي جاء بشخصه على الفور، وألقى علي التحية، وطلب مني إبلاغ صديقي اللواء بأطيب أمنياته، وودعني لأعاود التحرك على الفور برفقة واحد من حراسه المسلحين. والأكثر غرابة من هذا أنه عندما فقدت حافظة نقودي داخل ميكروباص في الأقصر، واضطررت لتحرير محضر رسمي في قسم الشرطة من أجل أغراض التأمين، ولم أجد أي تعاون في شرطة السياحة، اتصلت بشقيق اللواء الذي لم يؤد توبيخه للضابط المسئول إلى معاملته لي معاملة أفضل في الحال فحسب، وإنما أدى - بعد يوم واحد، ولفرط دهشتي - إلى استعادة حافظة نقودي التي تسلمتها شخصيا من رئيس شرطة السياحة الذي كان واضحا أنه قطع الطريق إلى المكتب من أجل تلك المهمة فحسب. إن استجابة المسئولين على هذا النحو لا تكون نابعة من الخوف فحسب؛ فهم يعرفون أن تنفيذهم لهذه المطالب سيمكنهم من انتزاع خدمة في وقت لاحق من اللواء الذي قدموا له المساعدة من قبل. ففي مصر، معارف المرء أهم بكثير من معرفته، وما تقدمه اليوم، حتما ستجده غدا. •••
لكن الأمر لا يحتاج إلا إلى خطوة أولى ليلقى الأفراد حتفهم - أو على الأقل يشتد عليهم المرض - بسبب الفساد، وهذا ما حدث عام 2006. كان الطفل فايز حماد طالبا في مدرسة «مكارم الأخلاق» الابتدائية عندما دخل مستشفى مرسى مطروح العام بعد تلقيه جرعة تطعيم إجبارية على يد مجموعة من الأشخاص كانوا يجوبون الشوارع في سيارة مجهولة الهوية، ويزعمون البحث عن الأطفال ممن تنطبق عليهم شروط التطعيم الذي كان جزءا من حملة تحصينات (حسبما ورد في البلاغ الذي تقدم به والد الطفل.) وعلى الفور أعلن وكيل وزارة الصحة الدكتور عباس الشنواني أن الطفل وضع تحت الملاحظة مدة أربع وعشرين ساعة، وأجري له غسيل معدة فوري، وأخذت عينات من دمه وقيئه لإرسالها للتحليل في المعامل المركزية في الوزارة كإجراء احترازي. وأصرت الوزارة على عدم وجود برنامج للتطعيم الإجباري في أي مكان في تلك الفترة، وأن أي شائعات تروج لذلك عارية تماما عن الصحة، وتهدف إلى نشر الذعر بين المواطنين. واعترضت صحيفة «الوفد» مستشهدة بروايات كثيرين ممن أكدوا وجود حملة تطعيمات إجبارية في تلك الفترة، وليس في مرسى مطروح فحسب، وإنما في القاهرة أيضا. وأكد المواطنون أن أشخاصا يمرون على المنازل ويعطون الأطفال جرعات الطعم التي يصابون على إثرها بارتفاع في درجة الحرارة وقيء وإسهال، وبعض الحالات تستدعي الانتقال إلى المستشفى. أيضا أشارت صحيفة «العربي الناصري» إلى أن الأمصال الفاسدة هي السبب فيما حدث.
ووفقا لتقرير «كفاية» فإن الجهاز المركزي للمحاسبات قد كشف عن استيراد إحدى شركات اللقاح أمصالا منتهية الصلاحية بقيمة نحو 4 ملايين دولار، في حين عثر على 370000 زجاجة لقاح تقدر قيمتها بنحو 500000 دولار داخل مخازن الشركة بلا تاريخ إنتاج أو انتهاء صلاحية. كشف التقرير أيضا عن تخزين مشتقات الدم والبلازما مدة ثلاث سنوات على الرغم من أن فترة حفظها لا تتعدى عاما واحدا، وعن استيرادها من المملكة المتحدة على الرغم من أن مصر تحظر هذا النوع من الواردات منها. إذا كانت تلك الروايات صحيحة فإنها بالقطع اتهامات خطيرة ذات تداعيات أشد خطورة.
لم تسفر هذه الفضيحة عن نتيجة ملموسة سوى أن حاتم الجبلي وزير الصحة والسكان وعد بمشروع للتخزين الجيد للأدوية تشارك في إعداده نقابة الصيادلة للقضاء على عشوائية التوزيع على الصيدليات وحماية المواطنين من الأدوية المغشوشة ومنتهية الصلاحية والمهربة. •••
كرس صحفيو الصحف المعارضة والمستقلة المصرية بعض جهودهم الجهيدة في السنوات الأخيرة لكشف النقاب عن قضايا الفساد، ومن بينها ذلك الفساد المتغلغل في الصحف القومية الرئيسية، حيث جرت العادة على أن سياسات التعيين لا تهتم بالكفاءة قدر اهتمامها بالواسطة؛ فيقال إن الواسطة رفيعة المستوى توفر لك وظيفة في «الأهرام» وهي الصحيفة اليومية الرئيسية، وأن الواسطة المقبولة توفر لك وظيفة في «الأخبار»، بينما الواسطة المتواضعة ستجبرك على القبول بصحيفة «الجمهورية» الأدنى مرتبة. تسهم ثقافة المحاباة هذه في تفسير حالة التردي التي آلت إليها الصحف القومية، فضلا عن أن تغاضيها عن كشف الفساد يفسر قدرا كبيرا من تنامي وسائل الإعلام المعارضة. لكن عام 2005 أرغمت وسائل الإعلام الحكومية على كشف فضائحها المستورة. بدأ مكتب النائب العام ونيابة الأموال العامة التحقيق في وقائع الفساد المتعلقة بمدينة الإنتاج الإعلامي، وبدأت لجنة مكافحة الفساد التابعة للبرلمان تحقيقها في دعاوى فساد داخل المؤسسات الصحفية الثلاثة الكبرى المملوكة للدولة. افتضح أمر تلك الدعاوى في صحف المعارضة في أعقاب حركة تنقلات أقرتها الحكومة وأحالت بها رؤساء التحرير الذين قضوا سنوات طويلة في عملهم إلى التقاعد. حامت بعض الشبهات حول توقيت تلك الدعاوى، وربما لم تكن كل هذه الدعاوى سوى ذريعة سياسية. هل كان النظام نفسه وراء تسريب وقائع الفساد في محاولة للقضاء على مصداقية رؤساء التحرير الذين كانوا خاضعين للرقابة وهم في مواقعهم، لكن باتوا الآن يشكلون تهديدا محتملا بعد تركهم تلك المواقع؟
مما يثير الدهشة أن سلامة أحمد سلامة - الصحفي المحنك في «الأهرام» - ربما يكون الصحفي المصري الوحيد الذي يحظى بتقدير زملائه من مختلف الأطياف السياسية حتى إنه كثيرا ما يدعى لإجراء حوارات حول تطور الأوضاع السياسية الداخلية في وسائل الإعلام المعارضة. عندما التقيت به في مكتبه بمبنى «الأهرام» أواخر عام 2006 للحديث معه بشأن الفساد والمحسوبية في وسائل الإعلام المملوكة للدولة، سألته أول الأمر كيف أنه تمكن من مواصلة عمله كل تلك السنوات على الرغم من حديثه عن قضايا الفساد وانتقاده للنظام في مناح أخرى شتى. قال سلامة: «أظن أنهم على درجة من الذكاء تجعلهم يتركون هامشا معينا أمام بعض الأفراد لتوجيه النقد لسياسات النظام الحاكم.»
إنها صورة من صور التلاعب بالموقف حتى يتركوا انطباعا دائما بتوفير حرية الرأي والتعبير. وهكذا فإنهم متى اتخذوا أي إجراء ضد رؤساء تحرير الصحف المعارضة تذرعوا بأنهم ما يفعلون ذلك إلا لأنهم تجاوزوا الحد المسموح به بموجب القانون. ولا شك أنه بمقدور الحكومة التلاعب بمنظومة العدالة بصورة ما، وتمديد المحاكمة سنوات وسنوات. لكن ما دمت لا أتخذ موقف عداء صريح ضد الحكومة، وما دمت لا أنتمي إلى الإخوان المسلمين أو الحزب الشيوعي أو أي فصيل آخر يتبنى أجندة راديكالية فإنهم يسمحون لي بتوجيه نقد معقول، كأن أطالب بمزيد من التقدم على الطريق نحو الديمقراطية مثلا. هذا أمر يزعمون أنهم يؤيدونه على أي حال؛ لذلك فإني أستخدم التعبير نفسه الذي يستخدمونه لأوضح أن أفعالهم تناقض ادعاءاتهم. وأظن أن هذه السياسة تتيح لي قدرا كبيرا من المناورة.
كيف يكون حال الكتابة في جريدة رئيس تحريرها معين من قبل الرئيس، وغالبا ما ينتهي به الحال إلى الاستماتة في الدفاع عن النظام بأكثر مما قد يفعل النظام نفسه؟
ضحك وقال:
رؤساء التحرير شديدو الحذر، إلى حد الجبن، حتى إنهم لا يستفيدون من هامش الحرية المتاح لهم. وأيا كان ما يكتبونه فإنه لا يلقى تصديقا من أحد. وغالبا ما تتسم كتاباتهم بالضعف الشديد على أي حال؛ فهم يعيشون في خوف دائم من فقدان المنصب، وما سيترتب عليه من ضياع كافة المزايا المصاحبة له؛ ومنها على سبيل المثال المزايا المالية، والوجاهة الاجتماعية، وتلقي دعوات من الرئيس للسفر معه على طائرته الخاصة، وحضور اجتماعات مع قادة الدول الأجنبية (على الرغم من أنهم لا يطرحون سؤالا لائقا على الإطلاق في المؤتمرات الصحفية التي تعقد على هامش تلك الاجتماعات لأنهم أصحاب قدرات متواضعة).
ذكرته بالفضيحة الكبرى التي تورط فيها رئيسه السابق إبراهيم نافع رئيس تحرير «الأهرام»، وراتبه الشهري المشين الذي بلغ نصف مليون دولار، وسألته هل الفساد داخل الجريدة ضار كما يشير هذا المثال، فأكد لي أنه كذلك بالفعل؛ ثم تنهد وأضاف: «المشكلة الرئيسية هي أن كل هذه الصحف المملوكة للدولة تعتمد اعتمادا هائلا في جني أرباحها على الإعلانات.»
على سبيل المثال، ثمة العديد من الإعلانات عن وحدات سكنية فاخرة في صحيفة «الأهرام». وقد كتبت عمودا عن أن قطاع البناء بأكمله حكر على الأثرياء. فهم يبنون فيلات وعمارات سكنية فاخرة في كل مكان في البلد من أجل أصحاب الملايين فقط. ذكرت أن هذا يدمر نسيج مجتمعنا؛ فمن أين لشاب في مقتبل العمر بشقة يتزوج فيها؟ من أين له بنصف مليون جنيه؟ في اليوم التالي عرفني أحدهم على شخصية مؤثرة في الحزب الوطني الديمقراطي ومليونير أو ملياردير أو أيا كانت صفته، حاول أن يقنعني بأن ما كتبت يفتقر إلى الصحة متعللا بأنه في الوقت الذي يبنون فيه مساكن للأثرياء فإنهم يبنون مساكن أيضا لشرائح أخرى في المجتمع. أخبرته أني لن أغير كلامي لأنه كان مؤيدا بالحقائق والأرقام التي توضح أن أصغر شقة تبنى هذه الأيام تصل تكلفتها إلى نحو ربع مليون جنيه، وهذا ينطبق على المباني التي تبنى خارج المدن وسط الصحراء. وهكذا تحديدا يتضخم الفساد. ألمح الرجل إلى أن بوسعه تسهيل حصولي على إحدى الشقق إذا وافقت على كتابة مقال أتراجع فيه عما ذكرت آنفا، لكن حينها كنت سأضطر إلى أن أصمت بعدها إلى الأبد.
وهل كان سيعطيك شقة بالفعل؟
بالتأكيد! هذا ما يحدث هنا في «الأهرام» طوال الوقت. من الصعوبة بمكان أن تحافظ على نظافة يدك. هناك من الصحفيين في هذا المبنى من قام بذلك، وتلك معلومات مؤكدة. هؤلاء الصحفيون حصلوا على شقق، لكنها لم تمنح لهم في صورة هدايا بالطبع. فالصحفي «يشتري» الشقة التي تساوي نصف مليون مقابل مائة ألف فقط، ثم يبيعها بسعر السوق، ويحقق من ورائها ربحا طائلا. إذا كانت شركات المقاولات تنتهج هذا الأسلوب مع الوزراء، فلم لا تنتهجه مع الصحفيين؟ بيع أحد المجمعات السكنية المصممة على الطراز الغربي لوزراء فقط وبأسعار بخسة. تذكر أن الصحفيين يحصلون على رواتب متدنية، ومن ثم يضطرون إلى البحث عن وسيلة لزيادة دخلهم.
قلت له إذا كان بعض الصحفيين في الصحف القومية فاسدين، فمن المنطقي ألا يكون لديهم دافع لكشف الفساد المماثل في الحكومة.
هذا صحيح بالقطع، لكن هناك أثر إيجابي لذلك؛ فهذا الوضع أتاح فرصة كبيرة أمام صحف المعارضة التي تتميز في هذا الجانب عن طريق سد الفجوة في تغطية قضايا الفساد. لكن لهذا السبب لا تحصل صحف المعارضة على إيرادات إعلانية، ولا يستطيعون أخذ تصريحات من مسئولي الحكومة. وهذا بدوره يخلق حلقة مفرغة أخرى؛ فنظرا لأن مسئولي الحكومة يتملصون من صحفيي المعارضة الذين يسلطون الضوء على قضايا الفساد، ويتعاملون معهم بوصفهم أشخاصا مشاكسين، نجدهم غير قادرين على الحصول على تصريحات من هؤلاء المسئولين، ولذا لا يجدون بدا من استخدام المعلومات التي تتاح لهم أيا كان مصدرها. وعندما ترى مقالاتهم النور، يغير مسئولو الحكومة مواقفهم قائلين إن هذه المعلومات مغلوطة ويقاضون كاتبيها. •••
احتلت مصر المرتبة السادسة والثلاثين من بين مائة وسبعة وسبعين دولة في قائمة الدول الفاشلة وفقا لما نشره «صندوق السلام» - وهو مؤسسة حقوقية مستقلة تهتم بالتعليم والبحث وتتخذ من واشنطن مقرا لها - في يوليو/تموز 2007. وفشل الدولة إما يعني أن الحكومة فقدت السيطرة المادية على أراضي الدولة - كما هو الحال في الصومال وأفغانستان - أو أنها فقدت السلطة في تنفيذ القرارات، وتوفير الخدمات للمواطنين، والعمل ككيان متماسك يكون الممثل الوحيد للشعب على الساحة الدولية. يعتمد «صندوق السلام» على اثني عشر مؤشرا لقياس فشل الدولة، وقد حصلت مصر على تسع درجات كاملة من إجمالي عشرة في معيار تجريم الدولة وافتقادها للشرعية، وهو ما يمكن فهمه على أنه «استشراء هائل ومتوطن للفساد، أو تربح النخب الحاكمة ومناهضتها للشفافية والمساءلة والتمثيل السياسي، والفقدان الهائل لثقة الشارع في مؤسسات الدولة وآلياتها، وانتشار العصابات الإجرامية ذات الصلة بالنخب الحاكمة.» وحصلت أيضا على 8,5 من عشرة في «تعليق العمل بالقوانين أو التطبيق التعسفي لها، وانتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع.» في حين حصلت على 8,3 في «ظهور النخب المنقسمة على نفسها» أو «تشرذم النخب ومؤسسات الدولة» واستخدام «الشعارات السياسية القومية من قبل النخب الحاكمة.»
ورد في التقرير الصادر عن «صندوق السلام» عن مصر أن «الفساد في مصر مستشر بدءا من سائقي سيارات الأجرة الذين يحاولون زيادة الأجرة دون وجه حق، ووصولا إلى توجيه أصابع الاتهام للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم بتزوير الانتخابات عام 2005؛ تلك التي فاز فيها حسني مبارك - الحاكم للبلاد منذ عام 1981 - بفترة رئاسية رابعة عندما أعاد ترشيح نفسه عن طريق مجلس الشعب، ثم فاز في استفتاء شعبي دون أي معارضة تذكر.» ذكر مجدي الجلاد - رئيس تحرير الصحيفة اليومية المستقلة «المصري اليوم» - في ندوة بعنوان «نحو مزيد من الشفافية في الأسواق المحلية» عقدت بالتزامن مع نشر التقرير أن: «هناك حالة فساد يتم تسجيلها كل دقيقتين في مصر، وعشرة بالمائة فقط من هذه التجاوزات يتم ضبطها.» وذكر صلاح دياب - مالك الصحيفة - أمام الندوة نفسها أن: «هناك فارق بين نوع من الفساد يلحق ضررا طفيفا بالمجتمع مثل دفع خمسة جنيهات لرجل شرطة لتلافي تحرير مخالفة مرورية، والفساد الضار الذي يؤدي إلى ضياع الفرص.» لكن في مصر، ليس هناك تمييز بين النوعين. وأضاف أمين هويدي، الصحفي المصري المعارض في صحيفة «الأهرام ويكلي»: «الفساد هو نتاج آلية فاسدة، وغض الطرف عنه أشبه بمحاولة علاج مرض من دون علاج أسبابه الرئيسية. الدولة القوية تحمي أمن مواطنيها، وليس أمن حكامها فقط. وتصد التهديدات الداخلية والخارجية بنفس الدرجة من الكفاءة في الوقت الذي تستحث فيه الحاكم والمحكوم على احترام قوانينها وثرواتها وممتلكاتها.» تلك الدولة - حسبما ذكر هويدي - تكافح الفساد والمفسدين. وهي بذلك «تزيح عن طريقها عقبات التقدم خصوصا وأن الفساد يقف عائقا أمام تقدم الاقتصاد وانتعاش الاستثمار.» ويستشهد هويدي بالقانون رقم 175 لسنة 2005. «ينص هذا القانون على أنه لا يجوز تعيين عضو مجلس الشعب في وظائف الحكومة أو القطاع العام أو الشركات الأجنبية أثناء مدة عضويته. وتشدد المادة 158 من الدستور على أنه «لا يجوز للوزير أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة.» تلك هي الضمانات التي تحول دون استغلال السلطة، ولكن هل تطبق تلك الضمانات؟»
كان انعدام تطبيق هذه الضمانات الركيزة الأساسية التي استند عليها تقرير شامل أصدرته حركة الإصلاح «كفاية» عام 2006 وحث العديد من المنظمات الأخرى على تسليط الضوء على الفساد. وإذا كان التقرير الوارد في مائتي صفحة - الذي استقيت منه الأمثلة سالفة الذكر حول القطع الأثرية المسروقة وفضائح الأدوية - عبارة عن مزيج غير مترابط من الأفكار والتوثيقات غير المنظمة وفي بعض الأحيان استدلالات متناقضة ورثاء منظوم بأبيات شعرية - كما أوضح خبير شئون الشرق الأوسط باري روبين - فجزء من السبب في ذلك أن «كفاية» منظمة صغيرة متنوعة من مفكري القاهرة تعمل بميزانية ضئيلة وتتعرض للكثير من المضايقات المستمرة، والجزء الأكبر أن الفساد في مصر مهول ومتشعب، وأخيرا، يتعذر إدراكه.
يغطي التقرير وقائع الفساد في قطاعات المال والتجارة والثقافة والإعلام. ويشير إلى عملية توزيع المبيدات المسرطنة على يد وزارة الزراعة في الفترة ما بين 1981 و2003؛ ويكشف عن قائمة بأسماء رجال الأعمال ونواب مجلس الشعب الهاربين الذين يقال إنهم متورطون في الاستيلاء على قروض بمليارات الدولارات دون ضمانات؛ ويحلل صفقة بيع البنك المصري الأمريكي التي حامت حولها شبهات الفساد؛ ويشير إلى ما وصفه بالتلاعب السافر في معدلات التضخم ونسب البطالة على مدار خمسة وعشرين عاما من سوء الإدارة في قطاع الاقتصاد؛ ويلقي الضوء على تفشي الإهمال وانعدام كفاءة الأطباء الذين يحصلون على رواتب متدنية في القطاع الصحي العام؛ ويتحول إلى الحديث عن التعذيب وظاهرة أطفال الشوارع الذين يقدر عددهم بمليون طفل في القاهرة وحدها. لقد أصبح الفساد مرضا عضالا تفشي في الجسد المصري بأكمله شأنه في ذلك شأن التعذيب واستغلال السلطة اللذين يرتبطان بالفساد ارتباطا وثيقا. ولا تلوح في الأفق نهاية لهذا الفساد، فهو يبدأ من الشرطي الذي يتقاضى خمسة جنيهات للتغاضي عن مخالفة مرورية، ويصل إلى أعلى المستويات لتزداد فداحته كل مرة، إلى أن ينتهي على نحو قابل للجدل عند مبارك نفسه، وهو رأس الفساد في الدولة، نظرا لكونه فوق المساءلة؛ وأقول «على نحو قابل للجدل» هنا كيلا يقول المتشككون إن أرباب نعمته في الولايات المتحدة هم أكثر فسادا لأنهم يمولون نظامه في الوقت الذي يتشدقون فيه بالحديث عن دعم الديمقراطية في المناطق التي لا تبدي قياداتها الحالية تعاونا كبيرا في تحقيق أجندة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. ما يظهر من تقرير «كفاية» ويتضح وضوح الشمس لكل من يقضي فترة من الوقت في مصر هو أن داء الفساد قد تفشى بين قطاعات عدة من الشعب، وبين أصحاب المناصب الرسمية بلا شك؛ أولئك الذين يكون فسادهم على قدر ما يتيحه لهم المنصب والذين لن يتورعوا عن ممارسة المزيد من الفساد حال تمتعهم بمزيد من النفوذ. •••
يقول بروتس: «ثمة مد في شئون البشر كالمد في البحر؛ فإن اغتنمت الفرصة في عنفوانها جاءت لصاحبها بالحظ السعيد.»
1
ربما يكون البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية قد وضعا هذه المقولة الشكسبيرية نصب أعينهما أواخر عام 2007 عندما منحا مصر المرتبة الأولى في الإصلاح الاقتصادي، وذلك في تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال» لعام 2008. أشاد التقييم - الذي بدا أنه أعد خلال الفترة الوجيزة التي قضاها بول وولفويتس زعيم الديمقراطية وأحد العقول المدبرة للحرب على العراق بوصفه رئيسا للبنك الدولي - بالحكومة المصرية لأنها «بذلت قصارى جهدها.» احتلت مصر موقع الصدارة عن طريق تحقيق المزيد من الإصلاحات الاقتصادية عامي 2006-2007 تفوق ما حققته أي دولة أخرى من الدول التي شملها التقييم. ركز التقرير على عشر نواح مختلفة لتنظيم الأعمال في مائة وثمانية وسبعين دولة، من خلال تحديد الوقت والتكاليف اللازمة لتلبية متطلبات الحكومة فيما يتعلق ببدء النشاط التجاري والتشغيل والتبادل التجاري وتسديد الضرائب وتصفية الأعمال. اعتبر التقرير أن مصر قطعت شوطا مهما في خمس نواح؛ وهي تسهيل بدء النشاط التجاري، واستخراج التراخيص، وتسجيل الملكية، والحصول على ائتمان، والتجارة عبر الحدود، وتصفية النشاط. وأسفرت العديد من الإصلاحات عن تسهيل بدء نشاط تجاري في مصر، ومن بينها خفض هائل في الحد الأدنى من رأس المال اللازم لبدء المشروع من 8930 دولارا إلى 180 دولارا. وانخفض متوسط وقت وتكاليف البدء إلى النصف بواقع تسعة أيام و385 دولارا. ووفقا لمعدي التقرير ثمة تغيرات تشريعية جديرة بالثناء تضمنت تخفيف الإجراءات البيروقراطية في استخراج تراخيص البناء، وتدشين مجموعة جديدة من مجمعات خدمات الاستثمار الموحدة لخدمة المصدرين والمستوردين ورجال الأعمال والمستثمرين في الموانئ المصرية. وانخفضت أيضا تكاليف تسجيل الملكية، ما أدى إلى زيادة 39 بالمائة في إيرادات رسوم التسجيل، استفادت منها السلطات في الأشهر الستة الأولى بعد تفعيل هذا القرار. فضلا عن ذلك أنشئ مركز خاص للمعلومات الائتمانية بغرض تسهيل الحصول على الائتمان خصوصا للمشروعات صغيرة ومتوسطة الحجم والشركات متناهية الصغر.
وفي الوقت الذي احتج فيه البعض بأن مصر ما حققت إصلاحات سريعة على مدار العام الماضي إلا لأنها بدأت من أقصى درجات التشدد في وضع اللوائح المنظمة - لأنه، بعبارة أخرى، الانتقال من صفر إلى 1 هو في الواقع قفزة هائلة يستحيل مقارنتها بمجرد تحسن من مستوى متوسط إلى جيد - فإن مايكل كلين نائب رئيس مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي لشئون شبكة تنمية القطاع المالي والخاص أكد أن: «المستثمرين يبحثون عن فرص استثمار مربحة ويجدونها في البلدان القائمة بتنفيذ الإصلاحات بصرف النظر عن نقطة بدايتها.» وليس بعد هذا ما يقال للرد على الرأي القاصر الذي أورده هويدي عندما قال إن «الفساد سيقف عائقا أمام تقدم الاقتصاد وانتعاش الاستثمار.» وبالطبع يصعب انتقاد البنك الدولي لتنبيهه أغلبية حملة الأسهم في الغرب لوجود فرصة مواتية. وأضاف كلين أن «العوائد على أسهم الملكية أعلى في البلدان التي تجري الإصلاحات بأقصى سرعة»؛ خصوصا في ظل الأرباح الزائفة الهائلة التي حققها المضاربون على الأسهم في الأيام التي أعقبت نشر التقرير.
ومع كل هذا، يظل صعبا على البعض فهم السبب وراء منح مصر تلك المرتبة العالية واللافتة للانتباه (متقدمة بها على كل من الصين وبلغاريا) لأن أي شخص - عدا راغبي الاستيلاء على الشركات الذين يعتمدون على مبدأ إصابة الهدف ثم الفرار بسرعة - سيقع في مأزق كبير إذا سار وفق هذا التصنيف. أوضحت دراسة أكثر واقعية نشرتها مجلة «نيوزويك» - التي نادرا ما تتهم بالتحامل الشديد على الاقتصاد الموجه - قبل عامين: «حتى بمعايير الشرق الأوسط، لم تكن مصر قط مكانا سهلا لإدارة مشروع تجاري. وأصيب الاقتصاد المصري المتمركز داخليا بحالة من الركود طوال الأعوام السبعة الماضية. فمعدلات التضخم مرتفعة، والتعريفات الجمركية والبطالة هي الأعلى بين دول العالم، والإجراءات البيروقراطية لا حد لها.» وعلى الرغم من أن المجلة علقت آمالها على نحو سخيف على جمال مبارك، فقد طرحت رؤية أكثر واقعية للوضع الاستثماري قائلة إن نتيجة الإصلاحات الجارية حينئذ كانت على أحسن تقدير «غرس أمل جديد حول مستقبل مصر وتأثيرها على المنطقة.» وأضافت تحذيرا مهما للغاية: «لا شك أن الإفراط في التفاؤل أمر وارد عند الحديث عن الإصلاح في مصر. لكن ماضي الدولة حافل بالوعود الزائفة وخلف الوعود منذ سبعينيات القرن العشرين.» وأشارت «نيوزويك» إلى أن وزير الاستثمار محمود محيي الدين أعلن عن برنامج خصخصة طموح من أجل العام المقبل يشمل على الأقل بنكا حكوميا وربما الشركة المصرية للاتصالات. لكنها أضافت: «حتى إن استطاع الالتزام بالجدول الزمني الذي وضعه، فثمة شك يراود الخبراء بشأن إجراء تغيير اقتصادي دون التطرق إلى مزيد من الإصلاح السياسي.»
غير أنه بعد مرور عامين، وفي الفقرة الإجبارية التي ترد في التقرير تحت عنوان «بحاجة إلى الإصلاح»، لم يجد البنك الدولي بدا من أن يأسف على أنه في الوقت الذي يسهل فيه نسبيا توظيف العمال، يظل فصلهم صعبا إلى حد ما في ضوء المعايير الإقليمية والدولية؛ «على نحو يقضي على أي حافز لخلق فرص العمل.» «أي حافز»: لا توجد كلية إدارة أعمال في العالم - مهما كانت متشددة - تعتبر نشوة انتزاع فرص العمل مرة أخرى الحافز الوحيد لتوفير تلك الفرص في المقام الأول. أبدى تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال» لعام 2008 أسفه أيضا على أن الشركات متوسطة الحجم تستغرق 711 ساعة في إجراءات تسديد الضرائب سنويا مقارنة بمتوسط 236,8 ساعة و183,3 ساعة في المنطقة وفي الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية على التوالي. وحتى في مسألة نزع الأصول، تتخلف مصر إلى حد كبير فيما يتعلق بسهولة وتكلفة تصفية أي نشاط تجاري بواقع 4,2 أعوام في المتوسط في مقابل 3,7 أعوام في المنطقة و1,3 عاما في الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. أما متوسط التكلفة فهو مرتفع في مصر بواقع 20,0 بالمائة من إجمالي الدخل القومي لكل فرد في مقابل 13,9 بالمائة في المنطقة و7,5 بالمائة في الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية؛ لكن مع الأخذ في الاعتبار أن نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي ضئيل جدا مقارنة بهذه البلدان. لكن ما يزيد الأمر سوءا أن معدلات الاسترداد على المشروعات المغلقة كانت منخفضة للغاية بواقع 16,6 سنتا على الدولار في مقابل 25,8 سنتا و74,1 سنتا في الجهات موضع المقارنة.
ثمة عدد من التفسيرات المحتملة لمضمون ولهجة التقرير الذي أعده البنك الدولي؛ أولها - وهو بلا شك تفسير سيكون التفكير فيه جديا نوعا من جنون الشك - أن رئيس البنك الدولي السابق أو أولئك الذين يدين لهم بالولاء رأوا في نشر هذا التقرير فرصة لمكافأة مصر على مساعدتها في «الحرب على الإرهاب» في وقت كان لا يزال يشغل فيه منصب نائب وزير الدفاع الأمريكي. والتفسير الثاني أن البنك الدولي - الذي هو أبعد ما يكون عن كونه منبرا للنزاهة المالية الدولية - هو في حقيقة الأمر طائفة إضافية من متطرفي السوق الحرة الذين يؤمنون بأن الشفافية والمساءلة ذواتي أهمية ثانوية في العمل التجاري الناجح؛ شيء أشبه بطائفة دينية متطرفة في عالم التمويل الدولي بكل ما تنطوي عليه من تناقضات وحماقة ظاهرة في التقرير. وأيا كانت حقيقة الأمر فإن تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال» لعام 2008 يطرح مثالا نموذجيا لقدرة نظام مبارك على أن يستمر باستخفاف في إساءة استعمال أي مبدأ اتفق عليه المجتمع الدولي. قطعا تبدو الإصلاحات جيدة من الناحية النظرية حتى إنها قد تخدع أصحاب النظرة السطحية. إن مشكلة الفساد أنه حالما توطن لا يلتفت أحد ولو بمثقال ذرة لما تقوله القوانين، والتكالب على تفادي البيروقراطية يزيد الفرص المتاحة أمام اللصوص الذين يحكمون البلاد لسرقة القليل الذي تبقى منها. •••
الكلمة الأخيرة عن الفساد في مصر لن تكون على لسان المصرفيين الدوليين، وإنما على لسان روائي مصري هو صنع الله إبراهيم الذي لخص المشكلة ودور المسئولية الفردية فيها، وذلك أمام وزير الثقافة ورواد المفكرين العرب عندما نال جائزة «مؤتمر الرواية العربية» عام 2003: «لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم. لدينا فقط مهرجانات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل؛ تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب. انتزعت القلة المستغلة الروح منا. الواقع مرعب. وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت. لا يستطيع أن يتخلى عن مسئوليته. لن أطالبكم بإصدار بيان يستنكر ويشجب، فلم يعد هذا يجدي؛ لن أطالبكم بشيء فأنتم أدرى مني بما يجب عمله. كل ما أستطيعه هو أن أشكر مرة أخرى أساتذتي الأجلاء الذين شرفوني باختياري للجائزة، وأعلن اعتذاري عن عدم قبولها لأنها صادرة عن حكومة لا تملك - في نظري - مصداقية منحها.»
هوامش
الفصل السابع
الكرامة المهدرة
ولد المخرج السينمائي المصري الشهير يوسف شاهين عام 1926، ونشأ في أسرة مسيحية من الطبقة المتوسطة في مدينة الإسكندرية التي تجمع أجناسا مختلفة من البشر، وتلقى تعليمه في مدارس فيكتوريا كوليدج العريقة. وعندما عاد من دراسة السينما في لوس أنجلوس، انخرط في صناعة السينما المحلية التي كانت تشهد آنذاك رواجا خلال السنوات الأخيرة من حكم الملك فاروق. يمكن أن نرجع أصل المنهج الإنساني المتحرر لذلك المخرج صاحب الفكر المتشعب إلى التعددية والحرية النسبية اللتين سادتا فترة ما قبل الثورة التي أسعده الحظ بأن يولد فيها. لكن في أعقاب الثورة أصبح شاهين عبقريا آخر يعمل تحت وطأة نظام أوتوقراطي وحشي يعتبر الموهبة الإبداعية مدعاة للشك في أحسن الأحوال، وتهديدا لا بد من قمعه في أسوأ الأحوال. أسهمت أفلامه التي يربو عددها عن الأربعين فيلما - والتي تعود إلى ما قبل ثورة 1952 - في التعريف بهوية مصر وتاريخها وذاكرتها. لكن تمرده على تملق النظام أو الإذعان لعقيدة دينية - فضلا عن لجوئه المتكرر لتجسيد شخصية الرجل الشاذ والأنثى المتحررة - جعلته منبوذا إلى حد كبير في الوسط السينمائي المصري وفي وسائل الإعلام المملوكة للدولة. وقد أعلنت الرقابة المصرية أنه من المرجح منع عرض أحدث أفلام شاهين «هي فوضى» (2007) حتى قبل مشاهدته. الفيلم قصة ميلودرامية مشحونة بالغضب حول ثقافة التعذيب داخل أقسام الشرطة في مصر والفساد الملازم لهذه الثقافة. (جدير بالذكر أن الرقابة سمحت بعرض الفيلم في النهاية.) يعود شاهين من خلال فيلم «هي فوضى» إلى موضوع كلاسيكيته «العصفور» (1973) الذي حمل الفساد مسئولية هزيمة مصر في حرب الأيام الستة. منع الفيلم من العرض لدى طرحه، على الرغم من أنه نال لاحقا أرفع جوائز الدولة الثقافية. وفضلا عن مواجهة شاهين لعداء النظام له، فهو صاحب المفارقة التعسة التي تسببت في حظر أحد أفلامه في مصر نتيجة حملة اعتراضات شارك فيها مسلمون ومتطرفون مسيحيون. هاجم المسلمون ملحمته الإنجيلية «المهاجر» (1994) - المأخوذة عن قصة حياة النبي يوسف - بدعوى فتوى صادرة عن الأزهر عام 1993 تحرم تجسيد جميع الأنبياء في أي عمل فني، وهاجمه الأقباط أيضا بدعوى أن تجسيد شخصية النبي يوسف نفسه كانت «غير دقيقة».
لا يكن المخرج الذي يبلغ من العمر اثنين وثمانين عاما سوى الاحتقار للنظام العسكري المصري، وهو ما بدا واضحا في حوار قصير نادر أجراه مع مجلة «قنطرة» الإلكترونية الألمانية عام 2006 حين قال: «نحن نعيش في ظل نظام ديكتاتوري تماما.» استطرد شاهين في التعبير عن يأسه بأنه فقد الأمل في أن تصبح مصر أكثر حرية أو تحررا في المستقبل، وقال عن شباب مصر إنهم حشد من الأرواح التائهة، أقصى ما يحلمون به هو مغادرة هذا البلد: «أراهم يقفون أمام السفارات الألمانية والفرنسية. كلهم يرغبون في الهجرة. اعتدت أن أقول للشباب: «لا تهاجروا! إن كنتم قد أنهيتم دراستكم فنحن بحاجة إليكم هنا.» لكني كنت من الجيل القديم الذي لا يفكر إلا في جمال الوطن. أما الآن فأقول لهم: «ارحلوا!» لن يجدوا فرصة في بلد يعج عن آخره بالفساد. أن تبقى هنا يعني أن تصبح فاسدا.» وربما كان وصف شاهين للوطنية بأنها تفكير عفا عليه الزمن هو أكثر أجزاء الحوار مكاشفة وإثارة للحزن أيضا.
لفت الكثيرون في الغرب الانتباه إلى حالة الهوس الجماعي بالهجرة بين شرائح مختلفة عديدة في المجتمع المصري الذي بات على شفا الانهيار، وإلى الملايين الذين لا يرغبون في الهجرة إلى فرنسا وألمانيا وأي دولة أوروبية أخرى فحسب، وإنما على وجه التحديد إلى الدولة التي درس فيها شاهين؛ الولايات المتحدة. وقد ذكر البعض أن هذا دليل على أن المصريين ليسوا مناهضين للغرب مثلما يظن الأجانب، بمعنى أنهم ليسوا غاضبين تماما من السياسات الأمريكية في المنطقة مثلما يظن الكثيرون. لكن هذا النوع من الحسابات السياسية يخطئ كثيرا في فهم ما يحدث. فالسؤال الحقيقي الذي ينبغي طرحه هو: ما سر رغبة تلك الأعداد الهائلة من الشباب المصري في أخذ فرصتهم في الغرب على الرغم من بغضهم لآثار الهيمنة الأمريكية على المنطقة وغضبهم الشخصي من مساندة واشنطن للديكتاتور الذي يحكم بلادهم (وهو ما يتضح لأي شخص يقضي فترة من الوقت في مصر)؟ الجواب الواضح هو أن بغضهم لوطنهم أكبر بكثير من بغضهم لحفنة من السياسات الخارجية تتبناها الدولة التي سيهاجرون إليها؛ فالثقافة والسياسة، والطموح الشخصي والآراء السياسية غير مرتبطة بعضها ببعض في عقولهم. لكن هناك أمر واحد اتفق عليه الجميع وهو - مثلما أشار شاهين - الرغبة الشديدة في الهجرة خصوصا بين الشباب في مقتبل العمر، وإن كانت غير قاصرة عليهم. في التسعينيات من القرن العشرين، كان اثنان أو ثلاثة من بين كل عشرة مصريين ألتقي بهم يفصحون عن رغبتهم في الهجرة إلى أي بلد آخر. وفي 2007 كلما التقيت بشخص، يفصح لي عن رغبته الجارفة في الهجرة، وعادة ما يكون ذلك في الدقائق الخمس الأولى من حواري معه.
أتذكر واقعة محددة في هذا الشأن؛ فقد استأجرت سيارة أجرة سائقها في العشرينات من عمره عندما كنت في أسوان ليرافقني في جولة إلى السد العالي، وتجاذبنا أطراف الحديث من البداية كأن بيننا صداقة قديمة. وفي طريق العودة إلى المدينة انحرف بالسيارة على جانب الطريق فجأة، وتلا سورة الفاتحة بصوت عال وهو يغمض عينيه، ثم التفت إلي وسألني في جدية موجعة: «أيمكنك مساعدتي في استخراج تأشيرة إلى إنجلترا من فضلك؟» وبعد أن أوضحت في هدوء أن هذا الأمر محال خصوصا وأني لم أعد إلى وطني منذ أن تركته قبل عقد من الزمان، ولا أنوي العودة إليه في المستقبل القريب، بدا أن الإحباط قد بلغ منه مبلغه. وعندما أفكر في هذا الآن يراودني شعور أن الأمر برمته ليس سوى تمثيلية تؤدى أمام أي أجنبي يتحدث معه على الرغم من حداثة المعرفة التي تجمعهما، لكن هذا لا يؤثر على الإحباط الهائل الكامن وراء طلبه. لا يدري أحد كيف استقبل هذا الشاب عزوفي عن العودة إلى بلد هو على استعداد لدفع المال من أجل الهجرة إليه. لكن حتى عندما أوضحت بما لا يدع مجالا للشك لشخص آخر تعرفت عليه أني لن أمنحه الفرصة للفرار إلى الغرب، لم يضع ذلك حدا للإلحاح المتواصل. ولدى عودتي إلى مصر بعد رحلة إلى إيران استغرقت شهرا، سألني فجأة شاب في العشرينات كان قد جاء إلى شقتي لإصلاح جهاز الكمبيوتر عن إمكانية سفر شخص مثله إلى إيران. قال إنه حاصل على شهادة في تكنولوجيا الكمبيوتر، وإنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وتلقى تدريبا في شركة كمبيوتر رائدة في البرمجيات؛ لكنه لا يجد فرصة للعمل في شركة كبرى لأنه لا يجد من يتوسط له. أجبته: «الوضع في إيران أكثر سوءا من مصر. فالاقتصاد في طريقه للانهيار، والحرية هناك أقل منها هنا.» أطرق برأسه مفكرا بضع لحظات، ثم أجاب: «لا يهمني إن عشت على الخبز والماء. كل ما أريده هو الحياة في بلد يحترمني فيه الناس عندما أسير في الشارع.» فاق إلحاح الجميع من أجل الحصول على تأشيرة الحد في الإزعاج، وفي بعض الأحيان يسهل إغفال الحزن واليأس اللذين يدفعان إليه.
كشف تحقيق أعدته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» في يوليو/تموز 2007 أن آلاف الشباب المصريين يحاولون الدخول إلى أوروبا سنويا بطرق غير شرعية. في بعض الأحيان، يبحر هؤلاء من الموانئ المصرية على متن قوارب صيد يديرها عصبة من المهربين. لكنهم يلجئون في الأغلب إلى خوض رحلة محفوفة بالمخاطر إلى إيطاليا عن طريق دولة ليبيا المجاورة التي لا يحتاجون تأشيرة لزيارتها. وغني عن القول إن الفقر المدقع والبطالة والإحساس العام باليأس والعجز من الأسباب التي أوردها التقرير وراء عدم اكتراث المصريين بتعريض حياتهم للخطر. وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2007، تأكدت دقة تقرير «هيئة الإذاعة البريطانية»، عندما عاشت مصر حدادا وطنيا لدى الإعلان عن غرق واحد وعشرين شخصا على الأقل كانوا يحاولون التسلل إلى إيطاليا بحثا عن فرصة عمل، بعد انقلاب القارب الذي كانوا يستقلونه.
لا غرو إذن في سعي المصريين إلى اغتنام فرصة الهجرة غير الشرعية عندما تتاح لهم، بل إن بعضهم يلجأ إلى وسائل غير مشروعة لتمديد إقامته. (لم يحدث قط أن التقيت بشاب لم يعترف لي صراحة أنه إذا حدث وأتيحت له فرصة الهجرة فمحال أن يعود طواعية.) وما يترتب على ذلك يشكل مادة خصبة لوسائل الإعلام الدولية. ففي أغسطس/آب 2006 على سبيل المثال، أصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي وإدارة الهجرة والجمارك الأمريكية تحذيرا لوكالات الأمن وسلطات تطبيق القانون المحلية بأن أحد عشر طالبا مصريا تخلفوا عن إثبات حضورهم في جامعة ولاية مونتانا بعد دخولهم إلى الولايات المتحدة عبر مطار جون إف كنيدي الدولي. كان من المقرر أنهم سيدرسون اللغة الإنجليزية والتاريخ الأمريكي جزءا من برنامج تبادل طلابي مع جامعة المنصورة في دلتا مصر. وكان عليهم تقييد أسمائهم لدى الجامعة بموجب «برنامج تبادل الطلاب والزوار» المعمول به في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول المروعة بغية ضمان منح حق دخول الولايات المتحدة للطلاب الأجانب المصرح لهم فقط. فالعديد من مختطفي الطائرات التي استخدمت في هجمات 11 سبتمبر/أيلول ذكروا في طلبات استخراج التأشيرات أنهم طلاب. واستطاعت السلطات الأمريكية تحديد مكان الطلاب المصريين في النهاية، وألقت القبض عليهم بتهمة خرق بنود التأشيرات وأيضا ضوابط الهجرة، ورحلتهم إلى مصر على الفور. لكن اتضح فيما بعد أن الإرهاب بعيد كل البعد عن تفكيرهم؛ فقد فروا سعيا وراء «الحلم الأمريكي» على حد تعبير «الأهرام ويكلي»، وتخلفوا عن حضور برنامج الاندماج بحثا عن فرصة عمل، وعلى ما يبدو أنهم كانوا ينوون تدبير معاشهم حتى ذلك الحين اعتمادا على المبلغ الذي تلقاه كل واحد منهم كجزء من برنامج التبادل لسد احتياجاته المعيشية والذي يساوي ثلاثة آلاف وخمسمائة دولار. من الواضح أن التداول الواسع والمثير في بعض الأحيان لهذه القضية - سواء في الولايات المتحدة أو في مصر - لم يكن رادعا أمام اثنين من ملاكمي الوزن الثقيل المصريين عن ترك زملائهم في الفريق على نحو مشابه في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007 بعد وصولهما إلى الولايات المتحدة للمشاركة في بطولة العالم للملاكمة. اختفى عماد عبد الحليم وأحمد سمير بعد فترة قصيرة من وصول الفريق إلى أحد المطارات الأمريكية، لكن هذه المرة لم يصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي تحذيرا. تغيب عدد كبير جدا من اللاعبين الرياضيين المصريين - خاصة الملاكمين والمصارعين - في السابق دون إذن وفي ظروف مشابهة للبحث عن بيئة أفضل يستطيعون فيها تنمية مهاراتهم، حتى إن هروب اثنين من الملاكمين هذه المرة لم يسفر عن شيء سوى إعلان السلطات الأمريكية عما حدث. وأكثر ما يثير الدهشة فيما يتعلق بهؤلاء الأشخاص هو أنهم - على عكس من يسافرون بحرا عن طريق ليبيا - ليسوا مثل الفقراء الذين يهاجرون هجرة غير شرعية ويغادرون الصحراء الأفريقية الكبرى مكدسين داخل قوارب متداعية في طريقهم إلى جزر الكناري، أو مثل المكسيكيين الذين يقضون أياما في الصحراء في محاولة لعبور الحدود المكسيكية الأمريكية التي يسهل التسلل منها. فهؤلاء الطلاب كانوا يدرسون في واحدة من أرقى الجامعات الحكومية في مصر، وحازوا على درجة عالية من تقدير أساتذتهم في الجامعة جعلتهم يفوزون بتلك المنح الدراسية التي يطمح فيها أي شخص. وبالمثل فإن الملاكمين قطعوا شوطا كبيرا في عملهما حتى أنهما باتا مؤهلين للمنافسة في البطولات الدولية.
إذا كان أشخاص كهؤلاء لديهم الرغبة في المخاطرة بفقدان كل ما حققوه في سبيل الفرار من مصر، فما الذي يتوقع من الجموع الفقيرة التي ليس لديها ما تخسره سوى أن تلقي بنفسها داخل مراكب صيد في عرض البحر المتوسط وهم لا يملكون سوى الأمل والدعاء؟ الإجابة عن هذا السؤال موجودة في الأقصر؛ المدينة السياحية الأكثر شهرة في مصر على مر التاريخ، والتي تحولت في السنوات الأخيرة إلى عاصمة لبغاء الرجال في الشرق الأوسط. •••
ذاع صيت الأقصر منذ زمن بعيد على أنها «مدينة الخطيئة» في مصر. كشف علماء آثار من جامعة جونز هوبكينز - يعملون حاليا في معبد «موت» بالمدينة - كيف أن الجنس والخمر كانا عنصرين رئيسيين في الطقوس التي يؤديها الأفراد لإرضاء الآلهة في العصر الفرعوني. ووفقا لعلماء الآثار اشتملت الطقوس على شرب نبيذ الشعير وممارسة العلاقة الحميمة قبل أن يفقدوا الوعي ويستيقظوا مبكرا في الصباح التالي من أجل الطقوس الدينية. ولا يزال الجمع المقلق والمتزايد بين الخمور والجنس والدين مميزا لطبيعة الحياة هنا إلى حد كبير؛ على الأقل لدى الزوار الأجانب و90 بالمائة من ذكور المدينة العاملين بقطاع السياحة، التي تهيمن على الاقتصاد المحلي تماما.
تجذب الأقصر في الغالب البريطانيين والألمان الباحثين عن دفء الشمس، الذين يغادرون مقاعدهم المشمسة بجوار حمامات السباحة داخل فنادقهم الراقية بين الحين والآخر، للذهاب إلى الأسواق المحلية حيث يختلطون بغيرهم من الأجانب الذين جاءوا لقضاء يوم واحد، والذين ترسوا سفنهم على طول نهر النيل الفسيح الخلاب. وكثيرا ما يكون سياح الرحلات الجماعية المنظمة موضع سخرية الرحالة الأكثر إقداما على المغامرة بسبب بقائهم داخل الفنادق، والحقيقة أن بوسع الكثيرين منهم البقاء في أي مكان ما دامت تشرق شمسه في الشتاء، وما دام هناك ملهى يرتادونه في المساء. بل إن الكثيرين منهم لا يزورون الأماكن الأثرية. ومع هذا فحتى هؤلاء الذين يحركهم حب الاستطلاع الثقافي - خاصة من يصطحب معه أطفالا صغارا - يفضلون عدم المجازفة بالخروج بمفردهم مرة ثانية بعد تعرضهم أول مرة للمضايقات التي تفوق الحدود في شوارع المدينة. لا يوجد مكان آخر في العالم العربي (أو ربما في العالم كله ) بهذه الشراسة والقسوة.
يتسكع سائقو التاكسي ومحترفو مطاردة السائحين وسائقو الحنطور والشباب العاطل والأطفال المزعجين في زاوية كل شارع، في انتظار فرصة مرور السائحين بهم لجني بضعة دولارات يشترون بها قوت يومهم. نقل عن زهير جرانة وزير السياحة قوله إن مضايقة السياح تشكل تهديدا لقطاع السياحة في مصر أكبر من تهديد هجمات المتطرفين، وأقر بأن العديد من السياح يغادرون مصر «ولديهم إحساس بالمرارة، وقد أخذوا على أنفسهم عهدا ألا يعودوا إليها أبدا» بسبب إحباطهم من ترصد محترفي مطاردة السياح لهم في الطرقات. فإبعادهم عن الطريق مهمة شاقة حتى على من يتحدثون اللغة العربية، ويكون الملاذ الأخير هو التهديد باللجوء إلى العنف.
غير أن هؤلاء الذين يستطيعون الانفراد بأنفسهم بضع دقائق يجدون كورنيش النيل - الممتد مسافة كيلومترات في حلته القديمة - مكانا رائعا للتنزه تزينه معالم مثل فندق «قصر الشتاء» ومعبد الأقصر المهيب. أما من يتجولون في رحلة بحرية في النيل فإنهم يحظون بمشاهدة المناظر الخلابة لمدينة يقسمها نهر النيل إلى شطرين. في البر الشرقي - أو الشطر العصري من مدينة الأقصر - توجد الفنادق الرئيسية والمطار والأسواق ومحطة القطار وجميعها خضع مؤخرا لعمليات ترميم بتمويل من منظمة اليونسكو. وفي البر الغربي الفقير - المتواري خلف تلال طيبة - يوجد وادي الملوك ووادي الملكات ومعبد حتشبسوت الأسطورية وخلفها الصحراء القاحلة والجبال.
لا تزال المناطق المأهولة بالسكان في البر الغربي - بين نهر النيل والمقابر - عبارة عن سهول خصبة ومساحات خضراء: مشاهد البطاقات البريدية المصورة للفلاحين الذين يعملون في حقول قصب السكر، والغلمان الذين يرتدون الجلاليب ويركبون الحمير على طول الطرقات غير الممهدة في القرية المبنية بالطوب اللبن. وعبور نهر النيل من البر الشرقي إلى البر الغربي على متن معدية يضاهي الرجوع بالزمن إلى الوراء: من الحضر إلى الريف ومن الحداثة إلى التقليدية الموغلة في القدم. •••
يسكن صديقي علاء - وهو رجل قصير القامة بدين في أواخر الثلاثينيات من العمر شعره أسود كثيف مجعد - في إحدى القريتين المجاورتين لنهر النيل في البر الغربي من المدينة. تربط بينه وبين جميع الأشخاص الآخرين في محيط قريته صلة قرابة من قريب أو بعيد؛ فتلك منطقة قبلية، وكما هو الحال في جميع مدن صعيد مصر يتسم المسلمون والمسيحيون الذين يعيشون هنا بالتحفظ والانغلاق الأسري. في الصباح يعمل علاء مدرسا في إحدى المدارس الحكومية، لكني اعتدت على قضاء الوقت معه كل مساء في الجانب الآخر من المدينة في بهو استقبال فندق بسيط يعمل فيه، وفيه أيضا نزلت في إحدى زياراتي الأولى للمدينة. غير أن علاء أدرك فجأة بعد بضعة أشهر أنه سيوفر المال إذا ما جلس في بيته في المساء؛ فراتبه الشهري في الفندق لا يتعدى 26 دولارا شهريا، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية نفقات انتقاله من وإلى البر الشرقي، وشراء علبتي سجائر يدخنهما بشراهة أثناء وردية عمله التي تستمر اثنتي عشرة ساعة في جو من الرتابة، فضلا عن شراء طعام في بعض الأحيان.
حسبما تشير ظروف علاء والمشاحنات التي تحدث في الطرقات فإن قطاع السياحة في مصر عالم مصغر من عالم الاقتصاد الأوسع. فعشرات قليلة من الشركات تهيمن على القطاع، بدءا من الحافلات التي تنقل الأفواج السياحية من وإلى المطار، وانتهاء بالفنادق الفاخرة التي ينزلون فيها ومراكب الرحلات التي يستقلونها للتنزه في نهر النيل. وهكذا لا يبقى للمهمشين من أمثال علاء سوى انتظار فتات المائدة. أخبرني علاء أنه شعر بسعادة بالغة عندما توقف عن إزعاج السياح ليأخذوا معه جولة على ظهر الحمار، وهو عمل ثانوي بائس كان يؤديه أثناء عمله بالفندق. وعندما قال ذلك علت وجهه ابتسامة خجل، ربما لأنه تذكر كيف قضى نصف الساعة الأولى معي في وصف مزايا (وتكلفة) هذه الجولة حول البر الغربي مع شروق الشمس. أضاف أنه أيضا لم يكن يشعر بالرضا للعمل في مكان يبيع الخمور. أما الآن فأصبح بوسعه الحصول على قسط كاف من النوم ليلا، وقضاء وقت مميز مع زوجته وطفلته الصغيرة.
جلسنا فوق سطح منزله الذي لم يكتمل بناؤه، وتجاذبنا أطراف الحديث حتى حلول المساء، والشمس تغيب رويدا في الأفق. بعد فترة أشرت إلى أن جميع المباني - هنا وفي القرية الأخرى المجاورة لنهر النيل - تكاد تكون مشيدة حديثا، وأن عددا لا بأس به من هذه المباني عبارة عن فيلات فاخرة، وهو ما يختلف اختلافا لافتا للنظر عن بيوت الطوب اللبن التي ما زال يسكنها معظم الفلاحين في البر الغربي. كان يتملكني الفضول لمعرفة مصدر ثروة ملاك هذه المباني.
قال لي علاء: «تسعون بالمائة من هذه المنازل والأراضي المبنية عليها يملكها أجانب، فجميع الشباب هنا يقدمون الآن على الزواج من أجنبيات عجائز.»
في البر الشرقي - حيث كنت أقضي وقتي بالكامل تقريبا - اعتدت أن أرى أجنبيات عجائز (غالبا في الستينات أو السبعينات من عمرهن) يسرن متشابكات الأيدي مع شباب في مقتبل العمر من أهل المدينة. ظننت أنهن يعشن قصة غرام تنتهي بانتهاء إجازتهن، لكن اتضح من حديث علاء أن عددا كبيرا منهن يعشن هنا في البر الغربي. بعدها تحققت من الأرقام الرسمية؛ ووفقا لوزارة العدل فإن خمسة وثلاثين ألف مصري تزوجوا من أجانب، ونحو ثلاثة أرباع هذه الزيجات جمعت بين ثقافتين مختلفتين، وأطرافها رجال مصريون ونساء أجنبيات. وعلى الأرجح لا يشتمل هذا الرقم على الزيجات العرفية التي يتجنبها المصريون باعتبارها إحدى صور البغاء، ولكنها كانت توفر غطاء قانونيا للأغلبية الساحقة من العلاقات بين المصريين والأجنبيات. فهذا النوع من الزواج يمكن الطرفين من العيش معا في شقة واحدة دون الخوف من مهاجمة الشرطة لهما، ومن ثم التشنيع بسمعة الأسرة نتيجة اتهامها بممارسة الرذيلة. أيضا يوفر هذا النوع من الزواج طمأنة ضمنية للمصريات اللاتي يتزوجهن المصريون غالبا - إلى جانب الأجنبيات - بأن زيجاتهن هي «الأصلية» على عكس زواج الأجنبيات الذي يكون من أجل المصلحة المادية فحسب.
قلت لعلاء ذلك المساء: «لا مشكلة حقا ما داموا متزوجين، فهؤلاء الشباب لا بد لهم من الزواج؛ وإذا كانت المرأة تمتلك المال، فلا بأس إذن.»
رد علاء بسرعة: «كلا، هناك مشكلة كبيرة؛ فأنا أشاهد قريتي تتغير إلى الأسوأ كل يوم. معظم هؤلاء النساء أقمن علاقات مع نصف رجال الأقصر قبل أن يستقررن على الزواج بأحدهم . وعلى أي حال، هؤلاء الأجنبيات في عمر جدات من يتزوجوهن! لم يكن هذا يحدث من قبل قط. عندما كنت صغيرا، كان السياح الذين يأتون إلى هنا جديرين بالاحترام، وكان الواحد منا يفخر بدعوتهم إلى منزله. أما الآن، إذا اصطحبت أي امرأة أجنبية إلى قريتك - حتى وإن كانت جديرة بالاحترام - يظن الجميع أنك ستضاجعها.»
لكنه كان حريصا على أن يوضح أن كل هذا أقل ما يثير قلقه. «أريد أن أعرف ما سيئول إليه الحال عندما يكبر أبناؤهم؟ نحن بلدة محافظة تحكم بناتنا قواعد صارمة للغاية. فهن لا يخرجن بمفردهن بعد أن يحل الظلام، ولا يقمن علاقات جنسية قبل الزواج. أما الغرب فتحكمهم قواعد مختلفة. وربما تشب الفتيات ليصبحن مثل أمهاتهن ويضاجعن أي رجل يغمز لهن. نحن نفقد ثقافتنا وديننا، ولا أحد يكترث ما دامت المصلحة المادية قائمة.»
فكرت في أن أقول شيئا عن الاندماج الثقافي والعولمة وعن الصراع المحموم بين القديم والحديث، وفكرت أن أسأله هل يظن الفقر خيارا أفضل لهؤلاء الشباب في ظل انعدام خيار ثالث. لكن قبل أن أنطق بكلمة بدأ علاء حديثه مرة أخرى.
سألني: «أتدري ما الذي يشغل تفكيري حقا؟» ثم أردف قائلا:
إنها الأرض؛ فهذا الأمر يقلقني أكثر من قلقي على الثقافة. كادت جميع الأراضي أن تباع للأجنبيات. والأسعار آخذة في الارتفاع حتى إن سعر الأرض تضاعف في السنوات الخمس الأخيرة. كيف سيتحمل أبنائي عندما يكبرون تكاليف شراء أرض لبناء منزل عليها؟ سوف نطرد من أرضنا في النهاية. سوف تصبح منطقة محظورة؛ إذا لم تكن متزوجا من أجنبية فلن يسمحوا لك حتى بالدخول لدواعي أمنية. سيحرم المصريون من أرضهم! أتدري بم يذكرني ذلك؟ يذكرني باليهود في فلسطين. لنعد إلى التاريخ؛ فقبل عام 1948، كانت جميع الأراضي التي في حوزة اليهود تئول إليهم بطريقة مشروعة. هؤلاء الفلسطينيون كانوا مثل المصريين هنا في الأقصر. وانظر ماذا حدث. في النهاية نهبت أرض الفلسطينيين بالكامل، والآن تستعمر أرضنا في الخفاء.
يذكرني هذا بتعليق للدكتور أحمد عكاشة الطبيب النفسي القاهري حين قال لي: «منذ العصور القديمة والمصري معروف بأنه لا يترك مكانه أبدا، فشرف المصري أرضه.» إذا كان المصري يفقد شرفه عندما يغادر أرضه، فما الذي سيفقده عندما يبيعها للأجانب فضلا عن بيع جسده لعجوز أجنبية؟ ثمة هدف تسعى له وزارة السياحة هو بيع عشرة آلاف وحدة سكنية سنويا إلى الأجانب، وهي إحصائية لا شك أنها ستصيب علاء بالرعب الشديد، لكن ظاهرة الزواج بين الثقافات المختلفة أسوأ مما يدرك. في عام 2001، ذكر أن العاطلين المصريين يتجهون على نحو متزايد للزواج من إسرائيليات. وقد تقدم عضو مجلس الشعب المعارض عبد العزيز الحريري بشكوى إلى إحدى اللجان البرلمانية أن إسرائيل تشجع على هذا الاتجاه، وأن ارتفاع نسب البطالة يدفع المصريين إلى مثل هذه «الأفعال البائسة». ونقلت تقارير إخبارية في تلك الفترة قوله إن أعدادا متزايدة من المصريين يتزوجون من إسرائيليات هربا من شرك الفقر؛ وقدر الحريري أن أربعة عشر ألف مصري حتى ذلك الحين تزوجوا من إسرائيليات (وإن كان معظمهن من عرب إسرائيل من أصول فلسطينية). وفي العام نفسه، أصدر مفتي الديار المصرية فتوى بتحريم زواج المصري من إسرائيلية، وأوضح أن هذا الزواج من شأنه أن يساهم فيما أسماه بخطط إسرائيل لتدمير «الكيان العربي» وتنشئة أجيال من «الجواسيس المحتملين» لحساب إسرائيل. ومؤخرا، أشارت مجلة بيزنس مانثلي المصرية إلى تقديم مادة في قانون جديد تقصر مدد عقود التأجير إلى تسعة وتسعين عاما لمن يشتري عقارات في شرم الشيخ، وهو ما جاء نتيجة مباشرة للاعتقاد الذي ساد على نطاق واسع بأن الإسرائيليين يشترون كل ما يتاح أمامهم من أراضي سيناء التي وقعت في قبضة الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب الأيام الستة غير أنها عادت إلى مصر جزءا من اتفاقية السلام عام 1979. قال سمسار عقارات مصري تبدو عليه نزعة الشك للمجلة: «تبدو أسماء الكثير من المشترين أسماء يهودية.»
الواقع أنه في شرم الشيخ، كما هو في الأقصر وغيرها من المدن السياحية الأخرى (باستثناء طابا والمنتجعات الأخرى في سيناء حيث أغلبية السياح من الإسرائيليين)، تزداد أعداد السياح المقيمين من البريطانيين بمعدلات تفوق أي جنسية أخرى، إما سعيا وراء الاستثمار أو إيراد الإيجار أو للهرب فقط من الأحوال الجوية الكئيبة في بريطانيا. وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات مؤكدة لإجمالي عمليات البيع للأجانب في مدينة شرم الشيخ فإن مجلة بيزنس مانثلي قدمت تقديرا تقريبيا مأخوذا عن أرقام حصلت عليها من أربعة وكالات كبرى. وأشارت إلى أن الأجانب اشتروا على الأقل ثلاثة آلاف وحدة بين عامي 2004 و2007. وهناك - كما هو الحال في الأقصر والمنتجع الرئيسي الآخر في الغردقة - يجلس عشرات الرجال المصريين على ضفاف المياه يوزعون قبلات في الهواء على العجائز اللاتي يسرن أمامهم على أمل أن تتوقف إحداهن وتبدأ رحلة التعارف. وعلى أسوأ تقدير، سوف يجني الواحد منهم ما يعادل راتب شهر في حالة مصاحبة إحداهن إلى البيت لقضاء الليل معها. وفي أحسن الظروف سيجد أن المرأة تبحث عن الحب، فيعلنه لها من أعماق قلبه؛ ما دام حصوله على تأشيرة بريطانيا جزءا من الصفقة. •••
اتضح أن ثورة علاء على ذلك النحو بسبب موضوع الأجنبيات ذلك المساء كانت بسبب مقال نشرته صحيفة الشرق الأوسط قبل بضعة أيام، وطلب علاء من زوجته أن تحضره لنا من الطابق السفلي. وبينما كنت أتصفح المقال أخبرني أن جميع من في القرية قرأوا محتوى المقال باهتمام، وحسبما ذكر أصدقاؤه، لم تكن الأجنبيات تتحدثن عن شيء آخر سواه على المواقع الإلكترونية الخاصة بمدينة الأقصر التي نشرت ترجمة المقال باللغة الإنجليزية.
نقل على لسان مسئولي المدينة في المقال أن «البنية الاجتماعية في الأقصر ستشهد تغيرات بالغة إلى الأسوأ» إذا لم يتوقف الاتجاه الجديد لزواج أهل المدينة من أجنبيات، وسوف تشن حملة جديدة للتشديد على الشباب بأهمية الزواج من مصريات. صرح محافظ المدينة للصحيفة أن الدافع الرئيسي وراء هذه الزيجات هو دافع مادي «وليس تعبيرا عن الحب»، مضيفا أن تغيير هذا الوضع يكمن في خلق فرص عمل جديدة وملائمة للشباب. وقال إن هؤلاء الرجال يمثلون 40 بالمائة من إجمالي عدد الذكور في المدينة، وهي نسبة صاعقة. وذكر أيضا أن عائلات هؤلاء الشباب يفضلون زواجهم من فتيات المدينة؛ لكن في ظل «الظروف الاقتصادية الصعبة» يوافقون على أن زواجهم من الأجنبيات - «حتى وإن كانت أعمارهن ضعف أعمار الشباب» - هو فرصة لا ينبغي تفويتها من أجل تحسين مستوى المعيشة.
ووفقا لصحيفة الشرق الأوسط هناك «أعراف صارمة فيما يتعلق بالزواج من مصريات ومن أجنبيات أيضا في صعيد مصر على وجه التحديد»، على عكس المراكز الحضرية مثل القاهرة التي بها قدر أعلى بكثير من الانفتاح على الثقافات غير المصرية. نادرا ما يتواعد الشباب في صعيد مصر أو يقضي أحدهم وقتا مع الآخر قبل الزواج. وقديما كانت الخاطبات توفق بي الطرفين، وبعض الفتيات كن يخطبن في سن التاسعة أو العاشرة (وإن كان الزواج ممنوعا قبل سن الخامسة عشرة). وكثيرا ما يقع اختيار هؤلاء الخاطبات - بمشاركة أهل الشاب - على فتاة من عائلته، يكونون على دراية بسمعتها ووضعها الاجتماعي والمالي. وغالبا ما يتزوج أبناء العمومة ضمانا لاستمرار اسم العائلة. «إذن تشكل ظاهرة زواج الشباب بأجنبيات عجائز لا يعرف أحد عنهن شيئا تهديدا بالغا للنسيج التقليدي للمجتمع.» لأن «الزواج بين أبناء البلد الواحد هو السبيل للحفاظ على النسب والتقاليد سواء للرجال أو النساء.» كما أوضحت صحيفة الشرق الأوسط في هذا السياق. علاوة على ذلك فإن تزايد أعداد الشباب الذين يتزوجون من أجنبيات سنويا يقلل فرص الزواج وتأسيس بيت أمام الفتيات في الأقصر، خاصة وأن عددا كبيرا من الرجال يقضون بعض الوقت كل عام في الخارج مع زوجاتهم الأجنبيات. واختتم المقال بعبارة: «مع مرور الوقت سيتضح ما إذا كان الاتجاه الجديد ظاهرة مؤقتة أم خطوة جامحة بعيدا عن التقاليد ربما تغير المجتمع الأقصري إلى الأبد.»
ومع الأسف، أخفقت صحيفة الشرق الأوسط - الصحيفة السعودية التي تتحاشى توجيه النقد المباشر للنظام المصري «الشقيق» - في توضيح الأسباب وراء تضاؤل فرصة نجاح الحملات التي تشنها الحكومة بهدف تغيير عقلية الشباب المصري؛ فالفساد في المجلس المحلي لمدينة الأقصر متأصل وبلا رقابة شأنه في ذلك شأن العديد من المؤسسات الحكومية الأخرى في مصر، وتجاهله السافر لتلبية احتياجات السكان يعني تضاؤل فرصة نجاة الشباب من شرك الفقر عبر سبل أكثر مشروعية في المستقبل القريب. وهذا الوضع مدعاة للخزي الشديد في مدينة ينفق فيها أكثر من ستة ملايين زائر أجنبي سنويا مئات الملايين من الدولارات التي يمكن لنسبة صغيرة منها إذا أنفقت في أوجهها الصحيحة أن تحد من العديد من المشكلات الاجتماعية. بدلا من ذلك نجد الوضع مفجعا للغاية حتى إن سكان المدينة يشيرون في بعض الأحيان إلى المستشفى الحكومي (الذي يعاني عجزا حادا مزمنا في التمويل) باسم «مستشفى الموت». الأجنبيات إذن نعمة ونقمة في الوقت نفسه، لأنهن يخلقن نوعا من الرفاهة البديلة لجموع الفقراء الذين لا تلقي الحكومة بالا للاعتراف بالكثيرين منهم، ناهيك عن تحسين مستوى معيشتهم. أما عن الأسباب السياسية فهناك مجموعة فرعية أخفق مقال صحيفة الشرق الأوسط في ذكرها، وهم الشباب المصري الذين يحاول الهروب من التجنيد العسكري الإجباري الذي يمتد ما بين عام وثلاثة أعوام (اعتمادا على مستوى التعليم)، وفيه يتقاضى الشاب مبلغا زهيدا مقداره عشرة دولارات فقط شهريا. يعفى المصريون المتزوجون من أجنبيات من أداء الخدمة العسكرية أيضا بسبب فكرة الخوف الأبدية من «الجواسيس». والواقع أن اللوائح تحظر على أي شخص في الجيش أن يتخذ من أي أجنبي - ذكرا كان أو أنثى - صديقا على الرغم من عدم تفعيل تلك القاعدة في المنتجعات السياحية التي يغلب عليها وجود الأجانب لأنها قد تستنفد موارد جيش بأكمله لتطبيقها.
غير أن أكثر ما أزعج علاء هو تراجع مكانته الاجتماعية الشخصية نتيجة تلك التطورات. أخبرني أن الكثير من الرجال الذين يتزوجون من أجنبيات هم من صفوف الأميين أو المتكاسلين أو أصحاب الجنح (وربما تجتمع في الواحد منهم صفتان أو أكثر من هذه الصفات). وإذا كان هذا صحيحا، فهو سبة في جبين أقرانه من سكان البر الغربي، لأنه يقول إنهم جميعا تقريبا تزوجوا من أجنبيات. وأضاف أنه في غضون أيام من لقاء الشاب بالمرأة الأجنبية فإنه عادة ما يحصل على ما يساوي عشر سنوات على الأقل من راتبه الشهري الذي يساوي خمسة وستين دولارا، ليشتري قطعة أرض ويبني عليها فيلا، إضافة إلى شراء دراجة بخارية أو سيارة على أحدث طراز، وفي كثير من الأحيان أيضا يفتتح مشروعا تجاريا صغيرا. ولم يتمالك علاء نفسه من الضحك وهو يتعجب بشأن الأموال التي يجنيها الرجال عن طريق إقامة علاقات جنسية مع الأجنبيات. سألني هل أتذكر ذلك الشاب الذي يدعى محمد، والذي عمل في الفندق عندما كان هو يجلب السياح من المطار ومحطة القطار مقابل عمولة. والحقيقة أني كنت أعرفه تمام المعرفة؛ فقد تباهى أمامي مرة كيف أنه يتحين «فرصته الكبرى»، بل وتفاخر أيضا بأنه لم يكن يرتدي سروالا داخليا أسفل بنطلونه الأبيض الضيق حتى تلاحظ على الفور كل امرأة أجنبية يلتقي بها آثار فحولته الظاهرة. أخبرني علاء أنه قبل نحو شهر حالف الحظ محمدا، إذ ابتعلت امرأة إنجليزية الطعم، وتزوج منها، ولديه الآن سيارة أجرة وقطعة أرض في قرية أخرى في البر الغربي يخططان لبناء منزل عليها.
قال علاء بصوت ملؤه المرارة: «إذا عملت طوال حياتي، وادخرت كل قرش أجنيه، فلن أمتلك أبدا ما يمتلكه هو. وهذا حال البلد بأكملها: كل المحترمين في الحضيض، وكل الرعاع على القمة. عندما كنت في المدرسة كان المدرس أكثر أهل القرية احتراما. عندما كان يسير في الشارع، كان الطلبة يتنحون جانبا ليفسحوا الطريق أمامه. والآن ينظرون إليك نظرة شفقة إن كنت مدرسا، ويسخرون من أنك غير مؤهل للزواج من أجنبية، إما لأنك دميم الخلقة أو صاحب أفكار رجعية.»
عندما سمعت هذا التعليق الأخير خطر ببالي أن كثيرا من إحباط علاء يعود في واقع الأمر إلى الغيرة وليس الغضب؛ فشخص مثله ليس على قدر كبير من وسامة الخلقة كان دوما موضع تجاهل الأجنبيات اللاتي ربما تساوى انجذابه إليهن مع نفوره منهن. تأكد شكي هذا عندما التقيت به في المرة التالية بعد بضعة أشهر من زيارتي الأولى لمنزله. كنت قد أخبرته في مكالمة هاتفية أني سآتي من القاهرة إلى الأقصر، وأني سأبقى بها بضعة أيام فحسب قبل الذهاب إلى أسوان. كانت زوجة علاء قد أعدت لنا وجبة شهية، لكن بدا التوتر عليه منذ البداية. اكتشفت أنه كان يعد نفسه ليطلب مني أن «أعيره» خمسة آلاف دولار ليفتتح مشروعا صغيرا على الطريق الرئيسي خارج القرية. ثم أخبرني أني لو أعطيته عشرين ألفا أخرى فسيكمل بناء الطابق الثاني من منزله، ويسمح لي بالنزول فيه بلا مقابل كلما مررت بهم. كان يتحدث عن هذه المبالغ كأنها لا تساوي شيئا في نظر أجنبي مثلي. أخبرته أني «سأفكر في الأمر»، وأعود إليه بعد بضعة أسابيع. وفي اليوم التالي، غيرت رقم هاتفي المحمول، ولم أتحدث إليه ثانية.
إذا كان على استعداد لاستغلال صديق له هكذا، فكيف سيعامل أجنبية عجوزا إذا تزوجها؟ •••
من هؤلاء الأجنبيات العجائز؟
بوجه عام (ولا مفر من التعميم في ظل غياب الدراسات الأنثروبولوجية الدقيقة)، كثيرات من هؤلاء اللاتي التقيت بهن أثناء مرات إقامتي في الأقصر، وكثير من الحكايات التي سمعتها عنهن من مصريين آخرين بعد حديثي مع علاء تشير إلى أن معظمهن مطلقات إنجليزيات في الخمسينات أو الستينات من أعمارهن يتمتعن بقدر من الجمال، وحاصلات على التعليم الأساسي فقط. وفي حين أنهن موسرات وفق المعايير المحلية، فهن يعشن على أدنى حد من المدخرات (على سبيل المثال، أرباح مبلغ بعن به شقة في إنجلترا) ومعاش حكومي إذا كانت أعمارهن (كما هو الحال دائما) تسمح لهن بالحصول على المعاش. وقد تقبلت النساء اللاتي صدمني رضاهن الكامل منذ البداية فكرة أنه لا مكان للحب مع رجال المدينة، وأن العلاقة في جوهرها نوع من البغاء يرتدي ثوب الشرف. فهن يبسطن سيطرتهن - إذا جاز التعبير - ويحصلن على أعلى قدر من المتعة الجنسية مع شباب وسام الخلقة لن يعيروهن اهتماما (بل لن يبالون بهن مطلقا) عند الذهاب إلى إنجلترا.
تحدثت مع امرأة إنجليزية - تمتلك مشروعا تجاريا في البر الغربي - من هؤلاء، وعرفت أنها ما زالت مندهشة من كونها محط الأنظار هكذا بعد مضي ثلاث سنوات على إقامتها في الأقصر.
ظلت تكرر وهي تدير عينيها في ضجر وتطقطق بفمها على نحو مبتذل: «زوجي أصغر مني بكثير.»
لم يكن من الصعب فهم السبب وراء إعجابها بنفسها إلى هذا الحد؛ والحقيقة أنها كانت شمطاء كأن حافلة دهستها. كان زوجها المصري متزوجا من أخرى مصرية، ومن ثم كان يزور هذه الزوجة البريطانية بضع مرات قليلة كل أسبوع، حيث يؤدي المهمة المحددة التي تحتاجه من أجلها ويتقاضى في مقابل ذلك حسنة من المال.
أضافت وهي تدير عينيها وتطقطق بفمها مجددا: «زوجي يغار علي كثيرا.» لكن هذه المرأة كانت استثناء.
الغالبية العظمى منهن يتورطن في علاقات مشينة يغلب عليها طابع الاستغلال المتبادل مع محتالين متمرسين يبغون من ورائهن ما هو أكثر من المتعة الجنسية فقط. والتطابق الكبير بين الحكايات التي يروينها - أو التي تروى عنهن - يدلل على وقوعهن في الشرك نفسه (بل إن الرجل الواحد قد يكون بطلا مشتركا في عدة روايات). ليس من الأخلاق أن نتحدث عن أمثلة بعينها، كي لا نكشف الحياة الخاصة للنساء على الملأ، لذا سوف أزعم أن القصة تشبه النموذج التالي.
في البداية تبتهج المرأة بالاهتمام الذي يبديه نحوها شاب مصري يتحدث الإنجليزية ويجلس مصادفة - على ما يبدو - بجوار طاولتها في أحد المطاعم أو يسير بجوارها في الشارع. وبعد محادثة قصيرة، توافق على الخروج معه لتناول مشروب في الليلة التالية، وفي إحدى النزهات على الكورنيش، تنخدع بإعلانه عن مشاعر حبه المتأججة. وخلال ما تبقى من إجازتها توازن بين الفرص المتاحة أمامها هنا (طقس جميل، ومتعة جنسية، وفيلا فاخرة، ونفقات معيشية ضئيلة) وبين حياتها إذا عادت إلى موطنها (عدد أقل من الأصدقاء بعد الطلاق، وشقة صغيرة، ونفقات هائلة، وطقس بغيض). تعود مرة أخرى إلى مصر لقضاء عطلة ممتدة - ربما شهرا أو شهرين - وتتزوج الرجل الذي سيساعدها في بدء حياة جديدة (لا يستلزم عقد الزواج العرفي أكثر من ورقة موقعة). تعطيه أموالا كثيرة ليشتري قطعة أرض ويبني عليها منزلا لهما، لكن بعد أن تتعرف على أسرته المعدمة - التي تعيش في قرية فقيرة أكواخها من الطوب اللبن في البر الغربي - يبدأ ابتزازها عاطفيا بسرد روايات مفجعة عن حاجة أخيه الصغير إلى المال من أجل التعليم ، أو حاجة أمه الماسة إلى المال لإجراء عملية جراحية تتوقف عليها حياتها. ومع إدمانها للجنس، وتشتتها وسط ثقافة لا خبرة لها بها، وتخليها عن أصدقائها من أبناء جلدتها (وربما تكون قد باعت شقتها في إنجلترا أيضا)، فإنها ترضخ مرارا وتكرارا. وتقول لنفسها إن المبالغ التي تطلب منها على أي حال ضئيلة نسبيا مقارنة بما قد تضطر لدفعه في ظروف مشابهة في إنجلترا، علاوة على أنها سعيدة بتقديم يد العون لأسرة مضيافة تستحق المساعدة. لكن مع مرور الشهور تتزايد الأموال التي تدفعها أكثر فأكثر، دون أن يكون هناك حد لما يطلب منها. وفي نهاية الأمر، تتخذ موقفا حازما بعد اكتشافها أنها تتعرض للخديعة، وكثيرا ما يكون ذلك بعد لقائها بمغتربات أخريات (بذل زوجها قصارى جهده كي يبقيها بعيدا عنهن) وسماعها منهن حكايات عن أنها الزوجة الأجنبية العاشرة التي «يقع هذا الشاب في حبها» في السنوات الأخيرة، وجميعهن قد استنزفت مواردهن أيضا. عندئذ تخبره بأن هذا يكفي. وفي غضون دقائق تطرد من البيت ومعها حقيبة سفرها فحسب؛ لا أحد في بيت زوجها أو في القرية التي اعتبرتها نموذجا لحسن الضيافة قبل بضعة أشهر سيتحدث إليها بعد الآن. يصلها نبأ طلاقها، وتقيم في فندق متواضع هو كل ما تقوى على تحمل نفقته بعد أن فقدت كل ما اشترته (الأرض والمنزل والسيارة والمشروع التجاري) لأنه خدعها ووقع على كافة العقود باسمه. وحتى إن كانت العقود باسمها، فإن المنظومة القضائية الهزلية تعني أنها ستقضي سنوات إن لم يكن عقودا في محاولة الحصول على حكم إذا أقامت ضده دعوى؛ وإذا حصلت على حكم لمصلحتها فستكون قد أنفقت أكثر مما ستحصل عليه في تقديم الرشا للمسئولين ودفع أتعاب محاماة باهظة، لأن جهلها باللغة العربية يجعلها لا تفهم شيئا مما يجري أثناء نظر الدعوى القضائية. وحينها تتخذ قرارا بأن إيقاف الخسائر أفضل لها. وبعد بضعة أسابيع من تضميد جراحها تخرج في رحلة البحث عن عاشق مصري آخر، وتبدأ القصة الهزلية من جديد. وربما ترى زوجها السابق في أحد المطاعم يتحدث مع عجوز أجنبية أخرى وقد وضع يده فوق ركبتها ورماها بنظرة هيام عميقة ...
الواقع أن مثل هذه الزيجات لا تنتهي في بعض الأحيان تلك النهاية المسالمة، وهو ما يؤكد على صحته إبراهيم السيد موسى المرشد السياحي بالأقصر الذي يقضي حاليا عقوبة السجن مدة خمسة عشر عاما؛ فقد تزوج من ألمانية، وأنجبا ثلاثة أطفال، لكن عندما لم ينجح الزواج غادرت زوجته مصر فجأة عام 2001، واصطحبت معها أبناءها. وعندما اكتشف الزوج أنهم في ألمانيا، حاول اللحاق بهم، لكن السفارة الألمانية رفضت منحه تأشيرة السفر. وفي نوبة جنون اختطف أربعة سياح ألمان في الأقصر، وحاول أن يقايض إطلاق سراحهم باستعادة أبنائه. وفي النهاية أطلق سراح الرهائن، ونقل هو إلى السجن.
بالطبع لا تبوء كل الزيجات التي تجمع بين ثقافتين في الأقصر بالفشل الذريع، لكن الروايات تشير أن الكثير منها كذلك. ومن الصعب تصور استمرار أي من هذه الزيجات على المدى الطويل؛ فإذا كان عمر الرجل خمسة وعشرين عاما وعمر المرأة خمسة وستين عند الزواج، فمن يظن جديا أنهما سيكونان معا بعد خمسة عشر عاما، أي عندما يكون عمره أربعين عاما وعمرها ثمانين؟ •••
تكن الأجنبيات العزباوات اللائي يسافرن إلى مصر أو يدرسن فيها وأولئك اللاتي تزوجن من مصريين في ظروف عادية (كأن كانوا على سبيل المثال زملاء دراسة أو زملاء عمل في مكان واحد) احتقارا بالغا للعجائز الإنجليزيات اللائي يجبن شوارع الأقصر وشرم الشيخ والغردقة والأماكن السياحية الأخرى باحثات عن المتعة. وسبب هذا الشعور أنهن يسئن إلى سمعة كل الأجنبيات، بحيث ينظر إليهن على أنهن لقمة سائغة، على الرغم من أن الرجال المصريين هم من يمارسون البغاء لأنهم هم الذين يحصلون على المال مقابل خدماتهم.
لكن العواقب الوخيمة الأبعد من هذا تبدأ من هنا؛ فحتى الأجانب الذين يصطحبون زوجاتهم الأجنبيات إلى مصر يتملكهم الغضب بسبب الاهتمام الزائد بزوجاتهم، وهذا ليس قاصرا على الأقصر وحدها. فالمصريون من كل مكان في مصر يسافرون للعمل في المنتجعات السياحية، وقد بلغت سمعة الأجنبيات العجائز الحضيض في جميع أنحاء مصر. لذا صارت المشاحنات مشهدا مألوفا، وفي بعض الأحيان، تكون العواقب مهلكة.
في انعكاس غريب لنظرية «تلويث الثقافة»، حكم على بريطاني بالسجن مدى الحياة عام 2007 بعد أن ارتكب ما يمكن أن نسميه «جريمة شرف» بأن ضرب زوجته البريطانية ضربا أفضى إلى وفاتها. والسبب في ذلك علاقتها برجل أصغر التقت به عندما كانا يقضيان العطلة معا في مصر. وفقا لما ذكرته صحيفة «ذا ديلي إكسبريس» فإن رون جونسون البالغ من العمر ثلاثة وخمسين عاما استشاط غضبا لأن زوجته سو البالغة من العمر تسعة وأربعين عاما وقعت في حب سائق سيارة أجرة مصري يصغرها بخمسة عشر عاما. استمعت هيئة المحلفين كيف أن الزوجين حجزا رحلة تستغرق أسبوعين إلى مصر، للتسرية عن نفسيهما وتجديد علاقتهما الزوجية التي مضى عليها اثنان وثلاثون عاما بعد أن فشلت خططهما في الانتقال إلى قبرص. استأجر الزوجان مصريا يدعى سعد الإمبابي ليرافقهما في رحلتهما، وسرعان ما ثارت ثائرة جونسون عندما رأى الرجل يغازل زوجته. قال إنهما كانا «يتواريان خلف المعالم الأثرية ليختلسا القبلات». وعندما ركب الثلاثة الخيول فوق رمال الصحراء، «بدا الاستياء» على جونسون الذي قال في التحقيقات إن سعد «كان يحاول دائما التقرب من زوجته سو، وملامستها علانية. ظللت أقول: «ما هذا! إنها زوجتي.» فأجابني مازحا إنه سيذبحني.» كانت الزوجة تمر بما يسمى أزمة منتصف العمر، ورأت في سلوك المصري «اهتماما زائدا». وبعد انتهاء العطلة، تبادل الاثنان الرسائل الهاتفية والإلكترونية، وعادت السيدة جونسون بعدها بفترة قصيرة إلى مصر بعد أن أخبرت زوجها أنها شعرت ب«صعقة كهربية» عندما لمسها الإمبابي. وبعد عودة الزوجة إلى منزل الأسرة في نوتينجامشاير، هشم جونسون رأسها بمطرقة أثناء نومها، ثم طعنها بسكين. بعدها أقدم على الانتحار بابتلاع كمية كبيرة من المسكنات وشنق نفسه بطوق الكلب وطعن عنقه بمثقاب كهربائي، لكنه نجا بعد كل تلك المحاولات، وحكم عليه بالسجن.
لهذه المشكلة تأثير على الطرفين إذن. فالأجنبيات العجائز اللاتي يجهلن التقاليد المصرية أو لا يعرنها اهتماما كبيرا يظهرن بمظهر من يدمر النسيج المجتمعي للثقافة القبلية المتحفظة في صعيد مصر. لكن حري في الوقت نفسه بالمصريين أن يتعلموا ضرورة معاملة الآخرين بمثل ما يحبون أن يعاملوا هم به. ذلك أن الكثيرين منهم أيضا غارقون في الجهل عندما يتعلق الأمر بالسلوك الذي تسلكه الأجنبيات العجائز في المعتاد، وذلك بسبب التعميم، في ضوء أن فئة قليلة نسبيا من هؤلاء يبحثن عن «التودد الصريح».
ولنتحدث عن الرياء الأكثر سماجة؛ فسائق سيارة الأجرة المصري الذي أغوى السيدة جونسون ما كان ليمزح قطعا عند الحديث عن «ذبح» أي رجل يكاد يلمح برغبته في إقامة علاقة مع زوجته المصرية. •••
وإذا كانت المسافرات الأجنبيات العزباوات يقضين وقتا عصيبا في الأقصر، فهذا لا يقارن بما يعانيه الأجانب الذين يسافرون بمفردهم إليها.
اكتشفت أعداد كبيرة من السياح الغربيين المثليين أن المواقع الإلكترونية المخصصة للحديث عن المثلية تصنف الأقصر على أنها مرتع للمثليين. وتركز هذه المواقع على تقديم أحدث المعلومات التي تهم المثليين الأجانب الذين يبحثون عن علاقات جنسية مدفوعة الأجر مع أبناء المدينة، فيما يبدو أنه تشجيع للمفهوم الغربي الدخيل عن «حقوق المثليين» في دولة تضم نخبة ضئيلة من «المثليين» المتحضرين الذين يرتدون عباءة الغرب الذين يستطيعون أو يرغبون في الحديث عن تلك الحقوق.
حرصت الأجنبيات العجائز اللاتي علقن في المواقع الإلكترونية التي تتحدث عن مدينة الأقصر والتي أعادت طبع مقال صحيفة الشرق الأوسط - حسبما اكتشفت مؤخرا من تصفح تلك التعليقات - على الإشارة إلى أنهن لسن الوحيدات اللاتي يلقى باللوم عليهن في مسألة انتشار البغاء بين الرجال في المدينة. وتساءلن لماذا لا يسلط الضوء أيضا على المثليين الغربيين الذين يتدفقون إلى الأقصر؟ الجواب بالطبع هو أنه لما كان الموضوع من المحظورات في المنتديات العامة الناطقة باللغة العربية فإن الصحفي الذي كتب المقال في الشرق الأوسط لم يجد بدا من تلافي الحديث عنه. ويا للأسف، عندما يطرح هذا الموضوع ذو الصلة للنقاش تتجاوز العديد من الأجنبيات حدود النقاش العقلاني وتستخدمن لغة مقززة يصببن من خلالها جام غضبهن دون تحفظ على من يشيرون إليهم بأنهم مثليين أجانب «متعددي العلاقات» يمارسون الجنس مع شباب المدينة أثناء عطلاتهم القصيرة و«يفسدون» الشباب و«يدمرون التقاليد المتعارف عليها في المدينة» على نحو لا يتهمن هن بفعله مطلقا. وبالتأكيد وجدت هيستيريا ممارسة الجنس مع الأطفال التي تدفع الطبقات العاملة في بريطانيا نحو الجنون مكانا لها على ساحة النقاش. بل إن بعض المشاركات اقترحن ضرورة البدء في تعيين حراسة على الشقق المعروف أن لدى مستأجريها ميولا جنسية نحو صغار السن، على الرغم من عدم تقديم أي دليل يثبت صحة ذلك. فكرت أن هذه المبالغة في رد الفعل هي نموذج متوقع من فئة مجتمعية مهمشة لديها مشاعر غضب شديد من الاتجاه العام السائد، ومن ثم تبعد الاهتمام عن نفسها عن طريق محاولة تجسيد مجموعة أخرى أقل عددا بل وأسوأ وضعا على أنهم شياطين.
وعلى أي حال، الحقيقة هي أن العلاقات الجنسية بين الشباب - على عكس العلاقات بين الشباب والعجائز - تمثل جزءا من النسيج المجتمعي في الأقصر، وهذا وضع قائم منذ قديم الأزل. التقاليد والأعراف القبلية هي التي تحظى بالأولوية في صعيد مصر: فحتى نموذج الإسلام الصوفي المتبع في المنطقة يأتي في مرتبة أدنى من تأثير القبلية. ويمكنك عد مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين في الأقصر على أصابع اليد الواحدة. لم يراود القائمين على صحيفة الشرق الأوسط الممولة من السعودية - التي تروج الفكر الوهابي الذي يرعاه آل سعود - أنهم ملزمون بالإشارة ولو من بعيد إلى أن السياحة الجنسية من شأنها أن «تقوض الإسلام» في المنطقة.
تحتم التقاليد القبلية ضرورة صيانة شرف المرأة مهما كلف الأمر، وفي ظل غياب الفرص الأخرى لممارسة الجنس قبل الزواج، ينظر إلى الشذوذ على أنه بديل مقبول. لكن أهم ما في الأمر ألا يكون موضع نقاش أو يؤدى على نحو يلفت الانتباه، ومن ثم يؤدي إلى القيل والقال، وأن يحرص الفتى على ألا يشتهر باستمتاعه بممارسة الدور السلبي في العلاقة؛ لأنه إن فعل ذلك ، فسيعتبر داعرا، وسيفقد كرامته، ويعاني مما سيترتب على ذلك من تفكير أصدقائه في أن لهم الحق في مضاجعته وقتما شاءوا. وليس معنى هذا - عند الحديث عن تداعيات تدفق المثليين الأجانب - أن ظاهرة بغاء المثليين ليست لغز «الدجاجة والبيضة». أثناء تصفحي لتعليقات الأجنبيات العجائز التي غلبت عليها فوبيا الشذوذ الجنسي، تذكرت حوارا طريفا سمعته مصادفة بين يمني وأمريكي في السعودية. وصف الأمريكي اليمنيين القبليين متهكما أنهم مشتهرون بلواط الأطفال.
قال اليمني مازحا: «نعم، تعلمنا ذلك من الإنجليز.»
رد عليه الأمريكي بسرعة: «كلا، لقد قرر الإنجليز البقاء في اليمن واستعمارها فقط بعدما اكتشفوا انتشار تلك الظاهرة لديكم!» •••
ذات يوم في السوق حيث المكان الذي اعتدت التجول فيه عندما أكون في الأقصر، أطل فتى طويل القامة وسيم الخلقة عمره نحو ستة عشر عاما يرتدي ملابس جديدة ويستعرض بتباه قصة شعره الجديدة، ويستمع إلى أغاني مطربه المفضل على مشغل الموسيقى الجديد (في الوقت الذي لا يتحدث فيه مع أحد أصدقائه عبر هاتف نوكيا الأحدث طرازا). بعد أن قضى الفتى بعض الوقت في التأنق أمام مرآة نافذة أحد المحلات، جلس في المقهى على طاولة قريبة مني، ودعا رفاقه لتناول مشروب بارد، ثم استعدوا للعب الطاولة.
مازحه أحدهم بعد مرور بضع دقائق: «من يكون يا ترى؟»
أجاب الفتى: «إنه من إنجلترا.»
سأل آخر: «كم سيقضي من الوقت هنا؟» - «أسبوعين. انقضى منهما أسبوع، وسيغادر بعد أسبوع.»
سأل فتى ثالت: «وهل جاء إلى هنا من قبل؟» - «نعم، هذه زيارته الثانية. إنه يقيم في الإسكندرية، لكنه يفكر في الانتقال إلى هنا العام المقبل.»
ألح عليه أحدهم: «هل سيشتري لك دراجة بخارية؟»
أجاب دون اكتراث: «بإذن الله، لكني لم أطلبها منه بعد.»
رشفت الشاي، وواصلت قراءة الجريدة. سمعت هذا الحوار مرات عديدة شأني في ذلك شأن أهل المدينة الذين كانوا يستمعون إليه أيضا. قد يبدو إجراء حوار كهذا على الملأ في نظر الكثيرين في الغرب أمرا غريبا - وهذا أقل ما يوصف به - لأن هناك اعتقادا سائدا بانتشار فوبيا الشذوذ الجنسي في العالم العربي وفي مصر على وجه الخصوص. لكن نظرا لأن الفتى يفترض أنه الطرف الفاعل في علاقته مع الأجنبي «المثلي» - أو على الأقل ليس الطرف السلبي - فإنه لا يخجل من الاعتراف بالعلاقة، وباعتبار الأجنبي غريبا فلا يتوقع منه الالتزام بالأعراف والقيم المحلية. وصل الأمر إلى حد إشارة أهل البلد إلى الأجنبيات العجائز بكلمة «مثليات» لأن الاسم في نظرهم يشار به فقط إلى أي فرد - ذكرا كان أم أنثى - يلعب الدور السلبي في العلاقة.
وهكذا فلا يوجد هنا تقريع المثليين على غرار ما يحدث في الغرب، ولا اضطهاد منظم ضدهم، لأن أهل المدينة لا يعرفون مفهوم «المثلية» السائد في الغرب بمعنى اختيار الشخص أن «يحيا حياة المثليين»؛ وهو أمر بغيض كلية حتى في نظر أكثر فتيان البلد حماسا، لأنه يهدد التسلسل الهرمي القبلي ذي الأهمية البالغة. وما دام صديق الفتى الغربي المسن موجودا في المدينة، فإن الضغط الوحيد الذي قد يواجهه هذا الفتى هو إلحاح أصدقائه المستمر لاصطحابهم إلى شقة الأجنبي، أو إغداق الثروة التي وجدها مؤخرا عليهم.
في حين تتخذ علاقات الأجنبيات العجائز مع الشباب من مسمى الزواج العرفي غطاء قانونيا، يتخذ المثليون الغربيون من مسمى «الصداقة» غطاء اجتماعيا في تلك البيئة الذكورية لتبرير علاقته مع الشاب. وليس معنى هذا أن أحدا سيطلب منه هذا التبرير؛ فما يفعلانه خلف الأبواب المغلقة ليس من شأن أحد. وما دام الطرف المصري في العلاقة ليس طفلا - إذ يحاط الأطفال ببالغ الحب والحماية - فسيكون من المشين (والمحظور) أن يتحدث أحد من أهل المدينة عنها، وإن أصر على ذلك، فسوف يخلق على الأرجح عداوة دائمة بينه وبين عائلة الشاب. حسن التمييز إذن هو اسم اللعبة. وصحيح أن الفتى قد يكون من عائلة فقيرة، لكن الأقصر تخلو من الأطفال الذين يتضورون جوعا ويعانون التشرد وإدمان الكلة (لصق الأحذية) كهؤلاء الذين يتعرضون مع الأسف لاستغلال سائحي الجنس في البلاد العربية الأخرى مثل المغرب وتونس. وهكذا، ما لم يكن ذهاب الشاب إلى شقة الأجنبي نابعا من رغبته هو، فالنتيجة الأكيدة أنه لن يذهب، وأفضل ما يمكنه فعله عندها هو الكف عند هذا القدر من التورط في العلاقة، وترك مسألة الإنفاق المادي على أسرته.
عادة ما يقدم هؤلاء الرجال من الغرب - المعروفين تاريخيا بانجذابهم نحو العالم العربي لأنهم يرون عهد تحرر المثليين في الغرب مختزلا وكابتا - إلى أسرة الشاب المصري حيث يشار إليهم باسم «عمه». وقد دامت بعض علاقات الصداقة هذه في الأقصر سنوات عديدة، بل استمرت بعد بلوغ الفتى أشده وزواجه.
إذا كانت الأمور تسير على هذا المنوال الهادئ دائما، فإني أجد رغبة في الثناء على تحررية وتساهل هذه العلاقات، خصوصا أنه كثيرا ما يصور العرب في الغرب على أنهم متكلفو الحياء ومكبوتون فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية. لكن إن كان إحساس المصريين بالكبرياء هبة عبد الناصر لهم، فإن لعنة مبارك عليهم أنه خلق مناخا ثقافيا صارت فيه الانتهازية الصفيقة وانعدام الكرامة هي الطبائع الوحيدة المميزة للشخصية. ففي بلد ينهب ذوو النفوذ فيه خيراته ونسمع فيها كل يوم عن فضائح تهريب الوزراء لعشرات الملايين من الدولارات إلى بنوك أجنبية، أصبح ينظر إلى السرقة والاحتيال على أنهما السبيل الوحيد للتقدم.
في مدينة الأقصر هذه الأيام، أصبح الحديث عن ظاهرة الشذوذ الجنسي مع الفتية - التي كان يستلذ بممارستها قبل ذلك في الخفاء لكن على نطاق واسع - جهارا نهارا، وتحولت إلى تجارة نتيجة تدفق المثليين الأجانب إلى المدينة. فأي غربي أعزب الآن - سواء أكان يحب الفتيان أم لا - سرعان ما سيكتشف أن حياته على نحو طبيعي تكاد تكون مستحيلة. فنصف فتية البلد على الأقل على استعداد لبيع جسدهم بلا أدنى تفكير لأي غربي، وهذا ما يفعله الكثيرون منهم عادة شريطة ألا ينتظر منه أن يكون الطرف السلبي في العلاقة. •••
اجلس في أحد المقاهي التي لا يعرفك فيها أحد، وفي غضون دقائق ستجد نفسك محاطا بفتية من أبناء البلد يريدون أن يعرفوا هل أنت متزوج أم لا، وإن اكتشفوا أنك لست متزوجا فسيسألونك هل تود اصطحاب أحدهم إلى شقتك. اذهب إلى حمام السباحة العام في المدينة وسوف يشير المراهقون المارون بك إلى الجزء السفلي من جسدهم بابتسامة متكلفة دنيئة؛ وهي دعوة لممارسة الجنس الفموي في مقابل الأجر المناسب. جميعهم يتابعون أحدث صيحات السياحة ويعرفون بأمر المواقع التي تتحدث عن المثلية والأماكن التي تحددها هذه المواقع على نحو يثير السخرية على أنها «أماكن تجول المثليين» (كأن في الأقصر مكانا لا يندرج في هذه الفئة). إذا حدث ومررت بأحد هذه الأماكن، فسيفترض على الفور أنك تبحث عن صيد. حتى وإن طلبت من الفتية العابثين ذوي النظرات الشهوانية أن يغربوا عن وجهك، فسيتبعك واحد على الأقل (أو أكثر في كثير من الأحيان) وقتا يبدو طويلا جدا على أمل أنك ستلتفت إليه عاجلا أم آجلا وتتحدث معه. وإذا استأجرت شقة، فمن الأفضل أن تطلب من البواب في اليوم الأول ألا يسمح بدخول أي شخص يزعم أنه صديقك تحت أي ظرف، وإلا لن يتوقف دوي الطرقات على الباب من شباب يجربون حظهم واحدا تلو الآخر.
يبدو أن السلطات المصرية لا تخرج عن سكونها إلا عندما يصل الأمر إلى حد الصور الإباحية لما فيها من تهديد فعلي بأنها «تشوه صورة مصر في الخارج». غير أني أذكر واقعتين فحسب تدخلت فيهما الشرطة. الواقعة الأولى تورط فيها غربي رسا بيخته على ضفاف نهر النيل، ثم أقام علاقات جنسية مع عشرات الشباب داخل اليخت مصحوبة بالتقاط الصور. تسرب عدد من الصور إلى يدي أحد أفراد شرطة السياحة (إضافة إلى بقية أهل البلدة؛ جميع من ذكرت لهم تلك الواقعة بعد سماعي عنها للمرة الأولى كادوا يزعمون رؤيتها، بل إن أحدهم عرض أن يحضر لي نسخة منها مقابل الحصول على المال). أما بطل الواقعة الثانية فكان غربيا التقط له أحد الفتيان صورا دون معرفته باستخدام كاميرا هاتفه المحمول وهو يمارس الجنس مع عدد من أصدقاء الفتى الذي حاول بعدها ابتزازه مهددا إياه بنشرها على الإنترنت. المثير للدهشة أن الرجل تقدم بشكوى إلى شرطة السياحة التي ألقت القبض على الفتية، وطلبت من الأجنبي مغادرة البلاد على متن أول طائرة. (جدير بالذكر أيضا أن الشرطة طلبت من صاحب اليخت أن يبحر من البلد أو من المدينة على الأقل.) لم يعرف أي شخص تحدثت معه عن الواقعة نوع العقاب - إن كان هناك عقاب من الأساس - الذي وقع على هؤلاء الفتية. أجمع الكل على أنهم على الأرجح تعرضوا للضرب، ثم أطلق سراحهم.
تلك إذن هي المدينة «الصديقة للمثليين» التي تروج لها المواقع الإلكترونية التي جذبت حتى الآن مئات - وربما آلاف - المثليين الغربيين إلى الأقصر كل عام. وعندما ننظر لتلك الأرقام الهائلة نجد مع الأسف أن عددا كبيرا من هؤلاء يتصرفون بصفاقة شأنهم في ذلك شأن أبناء البلدة (وإلا فلماذا يتوقع أبناء البلدة الأسوأ دائما؟) في يوليو/تموز 2007، صار السلوك الغريب الذي أتى به أحد الأفراد حديث المدينة؛ فسلوكه يوضح كيف أن انتشار البغاء بين المثليين الذكور قد يكون له تبعات وخيمة حقا على الجيل القادم في الأقصر. كان الكهل الإنجليزي - الذي اعتاد زيارة مصر منذ سنوات - مصابا بمرض الإيدز، وأخبره طبيبه مؤخرا أن أيامه في الحياة صارت معدودة. رأى الرجل رغبة في ممارسة الجنس قبل وفاته، واختار الأقصر لتكون مثواه الأخير. وطوال الأسابيع الأخيرة من حياته كان قواده يأتيه باثني عشر فتى على الأقل كل يوم. أقام هؤلاء الفتية علاقات مع الرجل - واحدا تلو الآخر - دون استخدام واق ذكري. وعندما بلغت تلك الأنباء مسامع أحد أصدقاء هذا الرجل - الذي كان مثليا هو الآخر لكن على علاقة طويلة مع أحد أبناء المدينة - هدده بإبلاغ الشرطة؛ لكن الرجل طمأنه في البداية إلى أنه يمارس الجنس الآمن. ولما لم يقتنع الصديق، سأل القواد الذي أخبره أن شباب المدينة لا يستخدمون الواقي الذكري أبدا سواء بعضهم مع بعض أو مع الأجانب (ما لم يصر الأجنبي على ذلك)، وفي تلك الحالة لم يصر الأجنبي على شيء. ثارت ثائرة الرجل، وقرر تسليم صديقه إلى الشرطة، لكن لم تتح له الفرصة لذلك؛ فقد أخبر مريض الإيدز قواده أنه يرغب في النوم بعد مضاجعة عشرة شباب ذلك اليوم، ووافته المنية أثناء نومه.
أقام «أصدقاء» الرجل المصريون حفلة على شرفه ، واتضح أنه ترك ثروته الضخمة للقواد. وما زاد الطين بلة أن أخته - التي كانت ترافقه في رحلاته إلى الأقصر منذ سنوات - نثرت رماد جثته فيما بعد في مياه النيل.
يقول إدجار في مسرحية «الملك لير»:
الأسوأ ليس هو الأسوأ حقيقة
ما دام بإمكاننا أن نقول: «هذا هو الأسوأ.»
حري أن تكتب هذه المقولة على المدخل الرئيسي لمدينة الأقصر. فالأسوأ من الواقعة نفسها أن الجميع كانوا على علم بما يحدث قبل وفاة الرجل؛ ليس المواطنون فحسب وإنما رجال الشرطة أيضا. فالشرطة على علم بكل ما يجري في المدينة - بفضل شبكة مخبريها السريين المنتشرين في مناطق شتى - خاصة مع مستأجري الشقق، لأن مخبري الشرطة الرئيسيين يعملون حراسا لمداخل العقارات. بل إني عرفت حكاية الرجل قبل وفاته بيومين أو ثلاثة أيام عندما كنت أتناول مشروبا مع أحد الأصدقاء.
قال لي: «في كل مرة أراه يسير في الشارع أقول بصوت عال: «اللهم أرحنا من هذا الرجل! اللهم أهلك من يقتل شبابنا.»»
فقد صديقي هذا صوابه عندما أشرت عليه بإبلاغ شرطة السياحة.
نهرني بلهجة فجة ليست من عادته قائلا: «أأنت غبي إلى هذا الحد؟ سوف يلقون القبض علي بتهمة إثارة القلاقل! وسوف يقول الفتية إنهم أصدقاؤه، وينكرون علاقتهم الجنسية معه. ماذا سأفعل وقتها؟ سوف يتحزب الفتية ضدي ويؤذونني. أضف إلى ذلك أن جميع أفراد الشرطة يحصلون على رشا من القواد؛ كعلبة سجائر هنا وبضعة جنيهات هناك. لا يمكن لأحد هنا أن يشكو مما يفعله أي أجنبي. فلو أوسعتني ضربا الآن وبلا سبب، سوف تلقي الشرطة القبض علي، ويسألونك إن كنت بخير أم لا. فأنتم أيها الأجانب تتمتعون بالحصانة.»
كان هذا الرجل استثناء في غضبه؛ فكل شباب البلد الذين تحدثت معهم عما حدث بعد وفاة الأجنبي كادوا يضحكون، ويصفون الفتية الذين ذهبوا إلى الرجل بأنهم «حمير»، وقالوا إنهم يستحقون مصيرهم لو أنهم كانوا يعلمون أنه مريض بالإيدز. •••
لم أستطع تفهم رد الفعل الشعبي إزاء إلقاء القبض على سفاح أطفال في ديسمبر/كانون الأول عام 2006 إلا بعد رؤية تلك الأفئدة المتحجرة بأم عيني. ارتكب رمضان عبد الرحمن منصور - زعيم عصابة يبلغ من العمر ستة وعشرين عاما من إحدى المدن شمال القاهرة - جرائم قتل بحق أكثر من ثلاثين طفلا من أطفال الشوارع، واتهم أيضا باختطافهم والاعتداء عليهم جنسيا وتعذيبهم. انتشرت عصابة التوربيني المكونة من أربعة أشخاص التي بدأ نشاطها منذ سبع سنوات في محافظات مختلفة، واعترف بارتكاب جرائمه قبل التعرف على صور اثنتي عشرة ضحية من ضحاياه. اكتسب رمضان اسم شهرته «التوربيني» من القطارات السريعة المكيفة التي تربط القاهرة مع ثاني أكبر المدن المصرية الإسكندرية، إذ كانت أسطح تلك القطارات المكان المفضل لارتكاب جرائمه. ذكرت الشرطة أنه كان يعتدي جنسيا على ضحاياه، ويعذبهم، ويقطعهم إربا قبل أن يلقي بهم على شريط القطار إما موتى أو يلفظون أنفاسهم الأخيرة.
الأمر الذي أثار دهشتي أن صحيفة الأهرام - الصحيفة القومية الرئيسية - ذكرت فيما بعد أن منتجات مصرية تسمى الآن باسم التوربيني. وأضافت أيضا أن مطاعم في مدينة طنطا في دلتا النيل تقدم نوعا جديدا من الساندويتشات أطلقت عليه اسم التوربيني وأنه «يحظى بإقبال كبير»، «بينما تجار الخراف يستخدمون الاسم كعلامة على ندرة السلالة.» أضافت الأهرام أن «أغرب هذه الحيل التسويقية» هي إعادة أصحاب مراكز الاتصالات والمحال التجارية في الغربية تسمية محلاتهم باسم «التوربيني: سفاح الغربية». ويكاد رد الفعل هذا يكون عصيا على الفهم، لكنه يشير بجلاء إلى أن ثمة خللا خطيرا يحيق بالمجتمع المصري في الوقت الراهن.
لكننا لن نعجز عن فهم السبب وراء تدليل الحكومة للأجانب إذ استقبلت مصر 9,7 ملايين سائح عامي 2006-2007، أي بزيادة قدرها 13 بالمائة عن أعداد السياح في العام السابق الذي بلغ 8,6 ملايين سائح، وأن هؤلاء أنفقوا 8,2 مليار دولار (أي بزيادة قدرها 14 بالمائة عن النفقات التي بلغت 7,2 مليار دولار في العام السابق). •••
في حين أن الدين ليس عنصرا أساسيا بالغ الأهمية في حياة معظم المصريين الذين يعيشون في الأقصر، فإن الإسلاميين ينظرون إلى المدينة وإلى قطاع السياحة بوجه عام من منظور محاولتهم تطهير مصر من التأثيرات الثقافية الأجنبية . ولم يكن من قبيل المصادفة أن معبد حتشبسوت في البر الغربي لمدينة الأقصر قد شهد أعنف الهجمات الإرهابية وأشدها تأثيرا في تاريخ الدولة الحديث، إذ ذبح عشرات المصريين والسياح في المكان عام 1997. ولكن في وقت مبكر عن هذا عام 1990، ألقى أحد الموظفين قنبلة مولوتوف على أحد المطاعم المطلة على البحر الأحمر ما أدى إلى مقتل ألماني وفرنسية وإصابة آخرين بحروق خطيرة. وادعى منفذ الهجوم أن سلوك السياح كان «مسيئا إلى الإسلام». أيضا تعرض السياح لإلقاء القنابل عليهم في الأقصر عام 1992 في ظروف مشابهة، وحينها صرح أحد قادة الجماعة الإرهابية المسئولة عن هذا الهجوم وعن سلسلة هجمات أخرى أنه «لا بد من تدمير السياحة لأنها مفسدة» و«تؤدي إلى نشر عادات وسلوكيات غريبة تخالف الإسلام».
الفصل الثامن
مصر بعد مبارك
الأقصر مدينة تبعث على الابتهاج والاكتئاب الشديد في آن واحد؛ فعظمة الآثار والحضارة التي تشهد عليها تلك الآثار تتعارض مع المتاجرة الصفيقة - من أعلى المستويات إلى أدناها - التي باتت عالة طفيلية على الماضي ومفسدة للحاضر. يفخر المصريون فخرا طبيعيا لا يثير العجب بتراثهم، ويقرون في اعتزاز أنه يتيح لهم فرصة التفكير في المستقبل. لكن لا بد أن نقر أنه قد لا يكون هناك مستقبل - أمام النظام الحالي على الأقل - إن لم تعالج القضايا المهمة والملحة في الحاضر. اتضحت أمارات التخبط الحاصل في الوقت الحاضر في سبتمبر/أيلول 2007 عندما راجت الشائعات في القاهرة عن تدهور حالة مبارك الصحية، وربما وفاته. وسرعان ما تصدرت روايات مبهمة المصدر الصفحات الأولى من صحف المعارضة، وكادت لهجتها تفصح عن رغبة في ألا تكون هذه مجرد شائعات. ولم يكن في ذلك ما يدعو إلى الدهشة؛ فمنذ خروج وسائل إعلام المعارضة الجديدة من قوقعتها عام 2003 في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق - عندما تعهدت إدارة بوش بتدعيم الديمقراطية في العالم العربي، وما تلاه من تنعم الليبراليين في مصر بحقبة «ربيع القاهرة» - لم يكد يمر يوم دون صدور الصفحات الأولى من صحف المعارضة وهي تكيل الإهانات لكل من مبارك وابنه جمال . بدا واضحا أيضا أن غالبية المصريين - باستثناء المنتفعين من النظام - يحلمون بيوم الخلاص من الأسرة المباركية. وفي الوقت الذي شن فيه النظام حملة قمع استهدفت المعارضة، لم يعبر واحد ممن التقيت بهم خلال الأسابيع التي قيل فيها إن مبارك يرقد على فراش الموت عن أدنى درجات التعاطف معه. كان لاستمرار الشائعات التي لا تستند إلى دليل من جانب، ونفي الحكومة لها من جانب آخر؛ دلالة واضحة على أن مزيجا من الأمل والخوف وتحديدا الريبة يسيطر على المصريين. ففي ظل غياب حكومة شرعية وآلية منظمة تكفل عملية انتقال السلطة، يصبح التخمين والحزر جوهر اللعبة.
على الرغم من كم البغضاء التي يكنها المصريون لمبارك ونظامه، فإن احتمال رحيله عن المشهد لم يولد لديهم أي شعور بالابتهاج، أو مجرد الارتياح. بل على العكس، ارتبطت مشاعر بغض نظامه بين المصريين بحالة من التسليم والاستكانة لما سيحدث بعد رحيله، وهكذا بات الكل على يقين أن جمالا سيتولى الرئاسة بأي وسيلة كانت. وما زاد من التسليم بصحة هذا التخمين على الرغم من نفي الحكومة له مرارا وتكرارا أن سيناريو التوريث قد حدث في سوريا والمغرب وتلوح بوادره في ليبيا. ويرى معظم المصريين أن جمالا غير مؤهل على الإطلاق لتولي السلطة - إما بسبب نقاط ضعفه الملحوظة وإما لفشل النظام في إعداده كما ينبغي - وهو ما زاد قلق المصريين من أن التخبط في تسليم السلطة سوف يزعزع الاستقرار، ما قد يسفر عن عواقب وخيمة. وتأكدت الفكرة القائلة إن الشيطان الذي نعرفه ربما يكون أفضل من الشيطان الذي لا نعرفه عندما اتضح أن مرض مبارك ليس سوى شائعة سرعان ما تحرك النظام في أعقابها لتكميم أفواه معارضيه.
استهدفت حملة القمع التي شنها النظام ضد المعارضة عقب هذه الواقعة رؤساء تحرير الصحف التي نشرت أخبارا عن صحة مبارك، والمجموعات الحقوقية التي كانت توالي نشر تقارير جريئة حول التعذيب والفساد، وفصائل المعارضة السياسية مثل جماعة الإخوان المسلمين (كان العشرات من أعضائها - من بينهم قيادي بارز - يخضعون وقتها لمحاكمات عسكرية بتهم ملفقة من بينها الإرهاب وغسيل الأموال). بعدها أيضا حكم على أربعة صحفيين بالسجن بتهمة تشويه صورة الرئيس، وقدم أحد رؤساء التحرير للمحاكمة بتهمة ترويج شائعات عن صحة مبارك، ومنع الإخوان المسلمون لأول مرة من إقامة حفل إفطارهم الرمضاني السنوي. أما أيمن نور - الذي خاض الانتخابات الرئاسية أمام مبارك، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات بعدها بوقت قصير - فكان قاب قوسين أو أدنى من الموت في زنزانته داخل السجن، بينما أعلن الإصلاحي الديمقراطي سعد الدين إبراهيم عن خشيته من التعرض للتعذيب والقتل إذا وطأت قدماه أرض مصر بعد مطالبته أثناء إقامته في الخارج بمزيد من المساءلة والديمقراطية، بل وصل الأمر إلى حد قوله في أحد اللقاءات إن النظام خصص فرقة اغتيال لتصفية خصومه (وهو زعم لم يأت أحد بدليل عليه). وضع النظام حدا للحديث عن صحة مبارك عندما تحرك ضد معارضيه على هذا النحو. والأهم من ذلك أن حالة الترقب والقلق التي سادت تلك الفترة ربما تكون قد أظهرت للنظام أن الأوان لم يحن بعد لتسليم السلطة إلى جمال. •••
أسفر الانشغال بالحديث عن صحة مبارك ودور جمال المستقبلي عن نتيجة أخرى تبعث على السخرية وهي تشتيت الانتباه بعيدا عن حقيقة السلطة في مصر، وقد كانت المعارضة متورطة - ربما عن غير قصد - شأنها شأن النظام في ذلك. الرئيس ليس سوى رئيس صوري يدير شئون البلاد اليومية التي تعج بالفوضى، بينما السلطة الفعلية - أو المؤسسة العسكرية - تحكم من وراء ستار. وحسبما أشار ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية فإن القوات المسلحة المصرية «أعلنت عن حظر خصخصة العديد من القطاعات الاقتصادية التي تقع تحت سيطرتها، والتي لا تقتصر على الإنتاج العسكري.» ويضيف كوك أن المؤسسة العسكرية في مصر «تمتلك شركات مثل شركة «صافي» للمياه المعدنية، وشركات الطيران والأمن والسياحة، ومصانع الأحذية، وأدوات المطبخ.» وربما يكون قد ذكر شيئا عن الأراضي ومراكز التسوق أيضا.
تعاملت المؤسسة العسكرية مع الموقف بحنكة بالغة، فهي تحكم دون أن تتولى مقاليد الحكم؛ فلا شيء يحدث في مصر دون أن تكون الأجهزة العسكرية والأمنية على علم به على الأقل، وفي كثير من الأحيان يحصلون على نصيبهم من الكعكة؛ فضلا عن أنهم لا يسمحون بحدوث أي شيء من شأنه تهديد وضعهم. قطعا لم تعد المؤسسة العسكرية تتمتع بالهيمنة المطلقة كما كان الحال في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، علاوة على أن التزايد الهائل في قوات الأمن الداخلي يجعلها الآن ثقلا موازنا لنفوذ المؤسسة العسكرية؛ لكن تظل القوات المسلحة ركيزة أساسية - وربما يقول الكثيرون إنها الركيزة الأساسية المنفردة - للنظام. يحتل ضباط جيش سابقون مناصب في الحكومة: وزراء، ورؤساء لشركات القطاع العام، ومحافظين. ولو أن وسائل الإعلام المعارضة ركزت اهتمامها حيثما ينبغي حقا، وسلطت الضوء على الفساد داخل المؤسسة العسكرية التي تختفي خلف شخص الرئيس، لظهرت حملة القمع التي شنت في أعقاب الحديث عن الحالة الصحية للرئيس على أنها مجرد استعراض جانبي مقارنة بحملة القمع التي كانت ستترتب على كشف هذا الفساد. فمن المعروف في مصر أن النقد مباح، ولكن في حدود؛ فالرئيس - حتى وقت قريب جدا - كان فوق مستوى النقد، أما انتقاد المؤسسة العسكرية فهو أمر محظور كليا.
زعم البعض أن بزوغ نجم جمال - الذي كان القوة الدافعة وراء خصخصة الاقتصاد باعتباره أمين لجنة السياسات صاحبة النفوذ الطاغي - ينبئ بعهد جديد حيث عصرنة الاقتصاد وانفتاحه. وفي مقابل تلك الآمال، ظهرت مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى إحداث حالة من الشقاق لا يمكن التنبؤ بعواقبها بين صفوف النظام. ويرى أكثر المراقبين تفاؤلا أن نظاما اقتصاديا أكثر تنافسية في مصر سوف يحدث انقسامات كبيرة بين أفراد الطبقة الرأسمالية، ومن ثم يؤدي إلى تعددية سياسية أكبر تمثل المصالح الاقتصادية المختلفة بما فيها مصالح العمال. لكن ذلك لا يعدو أن يكون تفكيرا رغبويا، وعلينا أن ننعم النظر في الآمال المشابهة - التي تحطمت على صخرة الواقع فيما بعد - بعد أن خلف حافظ الأسد ابنه بشار صاحب العقلية العصرية المتفتحة الذي تلقى تعليمه في الغرب. فبعد سنوات، صار النظام السوري أشد عزلة من ذي قبل، واتهم بدعم الإرهاب واغتيال رئيس الوزراء اللبناني، وأن علاقات قوية تربطه بإيران، وأنه يضيق ذرعا بالخلاف في وجهات النظر على الصعيد الداخلي كما هو الحال دائما. أعادت القوى التي تحكم من وراء ستار في سوريا فرض نفسها من جديد، وأيا كانت نزعات بشار الشخصية، فإن قدرته على المناورة تضاءلت كثيرا في أعقاب ذلك. ولو أن جمالا تسلم السلطة من أبيه، فسيكرر التجربة نفسها لكن بموافقة المؤسسة العسكرية بعدما تضمن أن طموحاته بشأن الخصخصة تحديدا لن تؤثر على كم الامتيازات الهائلة التي يحصلون عليها، وأنهم سيواصلون اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية، حيث يعملون عن قرب مع الولايات المتحدة، ومن ثم يستمر حصولهم على 2 مليار دولار في صورة مساعدات عسكرية سنويا. والسبب الوحيد الذي قد يؤدي إلى تمزق العلاقات هو أن يتخذ مبارك قرارا بدفع جمال نحو السلطة على الرغم من اعتراض المؤسسة العسكرية. وأسباب اعتراض المؤسسة العسكرية أن جمالا - على العكس من عبد الناصر والسادات ومبارك - ليس واحدا من أبناء المؤسسة. ويشير البعض إلى إمكانية حدوث انقلاب عسكري في مثل هذه الظروف. وعلى الرغم من ذلك فإن الأفرع المختلفة للطبقة التي ينتمي إليها الديكتاتور المصري متشابكة للغاية كما أشرنا، وبقاؤهم أولا وقبل كل شيء هو ما يشغل بالهم جميعا. ولذا فإن كفة التسوية أرجح من كفة المواجهة - خاصة في وقت يشهد غليانا داخليا - عندما تكون هناك حاجة ماسة لتجنب الظهور بمظهر الضعف أو الهشاشة مهما كان الثمن.
إن كل الآمال بل والمخاوف الملقاة على عاتق جمال الغض تدعو للاستغراب حقا، في ضوء ضآلة ما حققه، على الرغم من أن ضآلة إنجازاته تجعله أقرب إلى صفر على اليسار: ويرى الناس فيه ما يتفق وأهواءهم. سلطت الأضواء على إنجازات جمال الرمزية المتواضعة، على نحو يتسق مع عادة قديمة هي وضع الإسهاب في الحديث موضع تحقيق الإنجازات معيارا للقيادة. ومن أمثلة ذلك أن جمالا فجر مفاجأة من العيار الثقيل في مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي عام 2006 عندما أعلن أن مصر تسعى لتطوير الطاقة النووية - كمثال على الحداثة ومواكبة العصر - وهو الأمر الذي الذي إذا نفذ سيكون مكلفا، وسيستغرق وقتا طويلا، ويثير غضب الأمريكيين (بسبب مخاوفهم من انتشار الأسلحة النووية في المنطقة). وبحسب حوار تليفزيوني تحدث فيه جمال - الذي يشغل أيضا منصب الأمين العام المساعد للحزب الوطني - فإن المجلس الأعلى للطاقة شكل لجنة من خمسة وزراء - من بينهم وزراء الكهرباء والطاقة، والبترول، والدفاع - لبحث الخيار النووي. اجتمعت اللجنة حينها للمرة الأولى منذ إعلان مبارك رسميا تخلي مصر عن برنامجها النووي عام 1986 في أعقاب حادث مفاعل تشيرنوبل في الاتحاد السوفييتي. وحظي هذا الاهتمام الجديد بالطاقة النووية بدعم الرئيس نفسه خلال كلمته في ختام المؤتمر التي أعلن فيها أن مصر «لا بد أن تستفيد من مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة ومن بينها الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.» وقد بات مؤكدا أن هذا التصريح لا يعدو أن يكون استعراضا ووعودا كاذبة في لقاء آخر على هامش مؤتمر الحزب الوطني عندما صرح جمال أمام الصحفيين الأجانب أن مصر ليست مضطرة من الآن فصاعدا إلى الالتزام بمبادرات الديمقراطية التي يتبناها بوش في الشرق الأوسط. اعتبر هذا التصريح بمنزلة جهد مدروس لزيادة رصيد مبارك الابن، وإظهار تحديه للولايات المتحدة. صرح جمال أيضا بأن السياسات الأمريكية في المنطقة وفرت مرتعا خصبا للتطرف، وقال: «نرفض الرؤى الخارجية التي تسعى إلى تقويض الكيان العربي والجهود العربية المشتركة.» وفي رسالة واضحة للبيت الأبيض، ضم «مبادرة الشرق الأوسط الكبير» التي تتبناها واشنطن إلى تلك الرؤى. أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن تحديه لواشنطن وسعيه لاستئناف البرنامج النووي إنما يهدفان إلى التغلب على اثنتين من نقاط الضعف الملموسة في مبارك الابن بوصفه وريثا لأبيه؛ وهما كونه الرئيس الأول الذي سيأتي من خارج المؤسسة العسكرية منذ إطاحة الانقلاب العسكري بالملكية، وكونه هو وأبوه في نظر الكثيرين أداتين تحركهما واشنطن كيفما شاءت. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن البرنامج النووي ربما يعود عليه بدعم المؤسسة العسكرية، في حين أن انتقاده لواشنطن قد يكسبه مصداقية في الشارع المصري. كانت كلتا الخطوتين تهدف على الأرجح إلى تبني سياسة رأت الحكومة أنها ستلقى قبولا لدى الشارع، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى إحداث توافق شعبي حول ابن الرئيس، لكنهم كانوا يقبضون على الهواء. إن كان الهدف منح جمال مصداقية أكبر، فلا شك أن خطتهم باءت بالفشل. فكما أشارت الملابسات التي أحاطت بمرض الرئيس المزعوم، فإن شيئا لم يتغير فيما يتعلق بكراهية المصريين لجمال، وبالتزام مصر أمام الولايات المتحدة. من ناحية أخرى لم يجد جديد على البرنامج النووي المقترح؛ وكان من الدهاء إعلان واشنطن تأييدها للبرنامج النووي على جناح السرعة، ومن ثم وأد مساعي جمال للمواجهة الزائفة في مهدها. •••
لا يعني هذا أن جمالا ضئيل الشأن تماما؛ فمن الواضح أنه مدرك لضرورة التغيير وللتحديات التي تفرضها المعارضة - خاصة الإخوان المسلمين - وقادر أيضا على الاستفادة من أصحاب الخبرات الذين يستطيعون وضع خطة للتغيير بل وتطبيقها أيضا؛ وإن كان ذلك في نطاق الإطار المحدود للسلطة الرئاسية التي تدير ولا تحكم. ومن هذه الشخصيات التي أحاط جمال نفسه بها حسام بدراوي؛ وهو رجل أعمال وأحد كاتمي أسراره المقربين. يشغل بدراوي منصب رئيس لجنة التعليم والبحث العليي بأمانة السياسات التي يرأسها جمال، وقيل إنه سيتولى حقيبة الصحة أو التعليم حال فوز جمال بالرئاسة. تلقى بدراوي تعليمه في الولايات المتحدة، وهو أيضا عضو في المجلس الأعلى للسياسات الذي يعد ثمرة المقترحات التشريعية والإصلاحات التي تبناها الحزب الوطني. علاوة على ذلك فهو يشغل منصب رئيس مجلس إدارة مستشفى «النيل بدراوي» الخاصة ومؤسسة «ميدي كير الشرق الأوسط»، وهي المؤسسة الأولى والوحيدة حتى الآن للرعاية الصحية في مصر. تضم هذه المؤسسة أربعين مستشفى خاصا، وتوفر من الخدمات ما عجزت الدولة عن توفيره، وبصورة ما تقف في مواجهة محاولات الإخوان المسلمين المماثلة لكسب التأييد عن طريق توفير الخدمات التي عجزت الدولة عن توفيرها. يحتل بدراوي مكانة متميزة بين أعضاء الحزب الوطني نظرا لشعبيته الصادقة، لأنه معروف بتصديه للفساد، ولأنه أيضا صاحب شخصية متواضعة. وقد كانت شعبيته وراء اتخاذ أصحاب النفوذ العظيم في الحزب الوطني قرارا بإقصائه عن دائرة قصر النيل بالقاهرة في الانتخابات التي أجريت عام 2005. ويمكن القول إن قرار إقصاء بدراوي من البرلمان عبر عن نفوذ الحزب، في حين عبر احتفاظه بكافة مناصبه في لجان الحزب الوطني عن نفوذ جمال. فخبراته وآراؤه في العديد من المجالات تمثل الوسطية التي يحتاج جمال ومؤيدوه اتباعها.
التقيت ببدراوي في أكتوبر/تشرين الأول عام 2006 في مكتبه بالطابق الأخير داخل مشفاه الرئيسي بحي المعادي في القاهرة، وهو مستشفى يدار بكفاءة، ومصمم على أحدث طراز كأي مستشفى في الغرب. وبالنظر إلى ما يقوم به من أنشطة، يبدو واضحا أنه على دراية بما يلزم فعله للأخذ بيد مصر نحو القرن الحادي والعشرين. فتعليم النشء على سبيل المثال واحدة من أهم القضايا الملحة في مصر. كانت المؤسسة التعليمية على مر التاريخ مثالا للتضخم وانعدام الكفاءة، حيث الاعتماد على التلقين والمحاكاة بدلا من البحث وحب الاستطلاع. ولا غرو في هذا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى الطبيعة الاستبدادية للنظام، وأن هؤلاء الذين تمكنوا من مسايرة الظروف المحيطة أثناء الحقبة الناصرية كانوا على علم بأنهم سيكافئون على إذعانهم بوظيفة حكومية لا تحتاج إلى روح المبادرة. والواقع أن الأجور كانت متدنية، وأن الحكومة حصلت في مقابل ذلك على انعدام الكفاءة والبيروقراطية والفساد. لكن البيروقراطية المترهلة صارت عبئا في النهاية، ولم يعد هناك وجود للوظيفة المضمونة. ولا تزال المنظومة التعليمية بحاجة إلى التنظيم. كان بدراوي معنيا بدراسات الحزب الوطني الديمقراطي حول التعليم، لكنه وجد أن «أيا من التوصيات التي اقترحت كسياسات لم ينفذ على المستوى التفصيلي.» بدراوي واحد من أهم الداعمين لمؤسسة «التعليم من أجل التوظيف» التي تهدف إلى خفض نسب البطالة في العالم الإسلامي عن طريق إنشاء مراكز للتدريب الوظيفي بالتعاون مع الشركات المحلية، ويتلخص الفرق بينها وبين مثيلتها التابعة للدولة في قوله: «إحدى أهم السياسات في التعليم هي سياسة ربط الأفراد بالوظيفة» في القطاع الخاص؛ بمعنى حاجة الطلاب لاكتساب المهارات والأطر العقلية التي ستتجلى فائدتها في بيئة تنافسية. وأضاف أن أهمية التدريب أكبر بكثير من خلق فرص العمل «لأن الوظائف كانت متاحة؛ المشكلة تكمن في قابلية الخارجين من المنظومة التعليمية للتوظيف. فهنا حشد من الأشخاص لا يجدون عملا وغير مؤهلين في الوقت نفسه للعمل. لم ينل هؤلاء في دراستهم المعرفة الكافية، فضلا عن افتقارهم إلى روح المنافسة وحس المغامرة التجارية. كل واحد منهم ينتظر شخصا يساعده في إيجاد وظيفة.»
ومع الأسف تفشت نزعة السلبية هذه والرغبة في أن تأتي المساعدة من الآخرين - بل وانتظار تلك المساعدة - في مصر كافة. فمن موروثات اشتراكية عبد الناصر التحقير من قيمة المنافسة، ومن موروثات سياسة الانفتاح التي تبناها السادات أن المنافسة لا تعني الابتكار والإبداع، وإنما كسب تأييد الدولة. وهناك طرفة مصرية شهيرة تقول: في كل مفترق طرق كان عبد الناصر يتجه يسارا، والسادات يتجه يمينا، أما مبارك فيقول: «الزم مكانك.» والنتيجة أن عهد مبارك جمع بين أسوأ ما في الحقبتين، وذاك منشأ الجمود الذي أصاب البلاد. لا شك أن هناك مجموعة من المنتفعين حول النظام، وهؤلاء يسعون إلى الوقوف في طريق أصحاب الفكر التجديدي مثل بدراوي الذي علل خسارته في الانتخابات البرلمانية بقوله «حزبي وقف ضدي، لأنهم ضد الإصلاح.» ولو تأملنا ما حدث، فسنجد أن إيمانه بأن الإصلاح يمكن أن يأتي من الداخل غريب حقا، وهذا أقل ما يوصف به. لكنه - حسبما ذكر - يسعى إلى «تكوين ما يسمى بالكتلة الحرجة للقوى السياسة داخل الحزب والتي تضغط حقيقة من أجل الإصلاح.» ودليل النجاح إلى الآن ينبع - على حد قوله - من «تغيير لغة الجميع. قد لا يقصدون ما يقولون، لكنهم جميعا يتحدثون عن المساواة، والمعايير، والديمقراطية، والشفافية، والأداء، والتقييم ... وهذا في الوقت نفسه زاد من صعوبة الوضع، لأنك عندما تجلس مع أحد الأشخاص ويقول إنه يوافق على جميع المبادئ، ثم تناقض أفعاله أقواله، فسوف تقع في حيرة من أمرك. إننا نخوض الآن حربا ضد الفساد والرياء في آن واحد!»
أيا كانت طبيعة العلاقة بين بدراوي وجمال فقد ذكر أنه على الرغم من تأييده له فالأولوية هي «تركيز جهودنا على نزاهة الانتخابات بدلا من الحديث عن الأفراد . إذا أجرينا انتخابات حرة فسيكون لكل حزب الحق في ترشيح من يشاء. وإذا كان جمال مرشحا عن الحزب الوطني فلن يختلف عن الآخرين - وأنا من بينهم - في شيء.» ومن الواضح لبدراوي أن جمالا إصلاحي، وأنه كفل الرعاية والحماية للإصلاحيين حسبما تشير تجربته الشخصية. لكنه لن يتمكن من الاحتفاظ بمنصبه من دون بعض الحماية خصوصا في ظل استعداده للتحاور مع المعارضة بما فيها جماعة الإخوان المسلمين. صحيح أن دعوته لإجراء انتخابات حرة تبعث الأمل، لكن لا بد أن نتساءل عن رد فعل رفاقه داخل الحزب على قوله «أنا أعرف - وهم يعرفون - أن الإصلاح يستتبع فقدانا للنفوذ. أود أن أقول للحزب إن فقد قدر من النفوذ هو في الواقع جزء من عملية الإصلاح.»
وعندما نتعمق في جميع التصريحات والكلام المرسل والوعود وتأجيج مشاعر الخوف من اعتلاء الإسلاميين للسلطة، سوف نضع أيدينا على المعضلة، وهي أنه لا أحد من ذوي النفوذ يريد التخلي عنه. إذا كنت ذا نفوذ، فالتخلي عن جزء منه قد يعرضك لخطر تدهور الوضع على نحو يصعب السيطرة عليه. وصل النظام المصري إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب، وفي ذروة حالة من الاضطراب كان من الممكن أن تخرج عن نطاق السيطرة؛ ربما إلى حد وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة. وأيا كان السبب فقد أرغم قادة الانقلاب الملك فاروق على النزول عن العرش، وسمحوا له بالذهاب إلى المنفى ليصير في طي التاريخ إلى أن ساءت الأوضاع في مصر لدرجة جعلت اسمه مرتبطا بالحنين إلى الماضي. وليس كل الزعماء المخلوعين عن عروشهم سعداء الحظ هكذا. وهنا تكمن المعضلة التي لا حل لها؛ فالسماح بحرية الرأي والمنافسة يهددان بفقدان السيطرة، بينما يهدد قمع المعارضة بتوليد مشاعر إحباط مكبوتة إما أن ينتهي بها الحال بضرورة شن حملة قمع جماعية أو حدوث انفجار يخرج عن نطاق السيطرة وربما ينتهي بكارثة على النظام والشعب على حد سواء. أخبرني بدراوي صراحة أنه «لا توجد ثقة بين الحكومة والشعب»، وأن الواقع ينذر بعواقب وخيمة. فذوو النفوذ الذين يستحبون الوضع الراهن لا يثقون في الشعب، ويعتبرون السخط والعنف دليلا على خطر كامن متربص سيظهر لو غابت القبضة الصارمة.
تتسم مثل هذه الأفكار بمقاومتها للتغيير، وتقيم الحجة بسهولة على غليان الشارع المصري. وربما تكون الأحداث الأخيرة خير شاهد على هذا الرأي. فأثناء ربيع وصيف 2007، اندلعت مئات الإضرابات العشوائية في العديد من القطاعات وذلك في موجة احتجاجات عمالية تضمنت مئات الآلاف من العمال على نطاق لم تشهده مصر منذ السنوات التي أدت إلى انقلاب 1952. وأعني بكلمة عشوائية هنا أنها غير مرخصة من قبل نقابات العمال الرسمية والحكومية. ونقابة العمال نفسها نتاج الحقبة الناصرية عندما كانت الصناعة الخاضعة لرقابة الدولة محمية من المنافسة الخارجية عبر مجموعة مختلفة من السبل؛ وغني عن القول إن هذا أسفر عن انعدام الكفاءات على نطاق واسع، وإهدار الموارد، وانتشار البطالة المقنعة، وكلها أساليب تهدف إلى ربط الشعب بالحكومة. وقد ظهر الحديث عن إطلاق الحريات والخصخصة منذ وقت طويل؛ والواقع أنهما عصبا خطط الإصلاحيين بالفعل. لكن النتيجة النهائية هي تهديد العمال، الذين يفرضون بدورهم تهديدا على النظام أكبر بكثير من تهديد نشطاء المعارضة الليبراليين مكتوفي الأيدي الذين يلتفون حول صحف (لا يقرأها سوى قلة من النخبة) وأحزاب سياسية تعاني من تضييق حكومي ونزاعات داخلية مستمرة تنشأ بسبب أمور تافهة في كثير من الأحيان.
ولا غرو في أن العمال لم يعودوا قادرين على تحمل الأجور الثابتة التي تتآكل بفعل التضخم فضلا عن احتمال فقدانهم لوظائفهم. نفد صبر العمال في نهاية الأمر بعد أن ذاعت الأقاويل عن تواطؤ مسئولي «نقاباتهم» مع النظام. وبالرغم من أن مظاهرات العمال كانت متفرقة ومحلية وتفتقر إلى التنسيق، فقد ظلت تثير قلق النظام. ومن وجهة نظر المؤيدين للنظام، كانت تلك الاحتجاجات بمثابة فرصة؛ فقد أمكنهم الإشارة إلى المظاهرات باعتبارها مؤشر على خطر التمرد البالغ، إذا ما انتشرت على نطاق أوسع وصارت أكثر تنظيما وتعدى سقف مطالبها المطالب الاقتصادية العاجلة، وفي الوقت نفسه استطاعوا القول إن الإصلاحيين يتحملون المسئولية مضاعفة؛ أولا بسبب دعوتهم إلى الخصخصة (التي تثير غضب العمال)، وثانيا بسبب دعوتهم إلى الإصلاح السياسي (الذي منح العمال الثقة وحرية التغطية الإعلامية لوسائل الإعلام المعارضة). ويرى هؤلاء الأوفياء للنظام أن أيا من الخيارين لا يصلح؛ فالوضع الراهن المتمثل في حماية الأفراد مع قمعهم في الوقت نفسه أفضل من المخاطرة بإجراء إصلاح سياسي أو اقتصادي، ناهيك عن إجرائهما معا في آن واحد. ولا شك أنه يمكننا تفهم هذا الوضع، بالرغم من أنه خاطئ على نحو واضح. •••
مصر ليست الدولة الأولى - ولن تكون الأخيرة - في مواجهة تلك المعضلة. فثمة نموذجان ظهرا منذ العقد الأخير من القرن العشرين؛ وهما الاتحاد السوفييتي والصين. حاول النموذج السوفييتي فتح الباب أمام الإصلاح السياسي والاقتصادي في الوقت نفسه مع تقديم الإصلاح السياسي على الاقتصادي. وجاءت النتيجة على عكس ما ترتضيه الأنظمة الاستبدادية؛ فتفكك الاتحاد السوفييتي، وفقدت النخبة الحاكمة نفوذها. ويبدو النموذج الصيني أكثر نجاحا على الجانب الآخر؛ حيث شجعت الدولة الانفتاح الاقتصادي مع تقييد الانفتاح السياسي، فلم يكن الحزب الحاكم يتورع عن سحق المعارضة عندما يشعر بأي تهديد من شأنه أن يؤدي إلى ضياع نفوذه. لكن يبقى السؤال الذي ينتظر الإجابة هو: هل ستصلح تلك السياسة على المدى البعيد، بمعنى أن يظل الحزب الحاكم محتفظا بالسلطة؟
لكن هناك عدد من الفروق الجوهرية بين مصر من جانب وبين الاتحاد السوفييتي سابقا أو الصين من جانب آخر. بادئ ذي بدء، استند نظام الحكم في الاتحاد السوفييتي والصين على أيديولوجية فيها من العقلانية والمنطقية ما يجعل الشعب يؤمن بها بصورة أو بأخرى. كان للحزب الشيوعي السوفييتي والصيني قدم راسخة داخل المجتمع، وكانت المكافآت الضخمة جزاء الامتثال بينما العقاب الأليم جزاء المعارضة. استطاع السوفييت والصينيون الحديث عما يتحقق من إنجازات مهمة في الوقت نفسه الذي يحجب فيه كل نظام ما يرتكب من أعمال وحشية بمرور الزمن عن الشعب؛ رسميا على الأقل. ويمكننا الحديث عن نقطتين من بين النقاط العديدة التي تميز النموذجين السوفييتي والصيني. النقطة الأولى أن النخبة في الاتحاد السوفييتي بدأت دون مبرر واضح تفقد إيمانها بعقيدتها، وتقطع أمرهم بينهم، وهو ما أتاح الفرصة أمام الدخلاء لتصعيد الوقوف في وجه النظام والإطاحة به أخيرا. والنقطة الثانية أن الصينيين كانوا أكثر قدرة على تغيير طبيعة العلاقة مع الشعب عن طريق الإسراع في توفير مزايا اقتصادية وأمل في التحسن.
أبشع ما في نظام مبارك هو حالة الإفلاس التي وصل إليها حتى صار يتخبط على غير هدى؛ فلا هو يقدم أساسا منطقيا أيديولوجيا، ولا هو يملك المبادئ التي يمكن حشد الشعب حولها. تخلى النظام عن حلم الوحدة العربية منذ زمن بعيد؛ وصار الإسلام حلا تطرحه المعارضة. وعلى الرغم من تحقيق نمو اقتصادي، لم يكن التوزيع عادلا بالمرة، ورجحت كفة المنتسبين للنظام ما أدى إلى تزايد مشاعر السخط والإذعان أيضا. ويفتقر الحزب السياسي الحاكم إلى الصلة الحقيقية بالشعب، ويكاد يغيب عن الساحة خارج المدن الرئيسية. باختصار، يفتقر نظام مبارك إلى أي من المقومات التي أبقت على الأحزاب الشيوعية السوفييتية أو الصينية في السلطة. فلا سبب وراء بقاء هذا النظام سوى تشبثه بالسلطة.
الخوف إذن هو الذي يبقي على النظام في السلطة في ظل غياب كافة مظاهر الشرعية. فأعمال العنف اليومية التي تجتاح المجتمع على أيدي زبانية التعذيب في مراكز الشرطة والأجهزة الأمنية هي صورة أساسية من صور ترويع المواطنين. فعندما يلقى القبض عشوائيا على مواطن بريء في الشارع ويلزم الصمت خوفا من التعرض للإيذاء الجسدي، وعندما يلقى القبض على طفل بتهمة سرقة عبوة شاي وينتهي به الحال جثة هامدة، وعندما يحتجز باحث معروف يحظى بتقدير دولي مثل سعد الدين إبراهيم، وبعدها يخشى العودة إلى بلاده؛ فذاك ترويع للمجتمع يطول كافة فئاته. وهؤلاء هم من لا يستفيدون من النظام. أما المستفيدون من النظام فإنهم يذوقون لونا آخر من ألوان الخوف؛ وهو فقدان دعم النظام لهم فلا يملكون بعدها الوصول إلى ذوي النفوذ وموارد الكسب التي تعود عليهم بامتيازات مالية هائلة وغيرها من الامتيازات الأخرى. الخوف من فقدان السيطرة يمنع الزمرة المهيمنة على النظام من السماح بوصول المناقشات الداخلية بين الإصلاحيين والمحافظين إلى آفاق بعيدة، إما في صورة لجوء الإصلاحيين إلى شرائح أخرى من النخبة السياسية والاقتصادية طلبا للدعم - وليس معنى ذلك أن هذه النخبة ذات بأس شديد بعد ما مارسه النظام ضدها من قمع - وإما مناداتهم بانفتاح أكبر على الصعيدين السياسي والاقتصادي والتصدي الحقيقي لداء الفساد على نحو يتخطى المحاكمات الشكلية العارضة. الخلاف مباح، وقطع الوعود مشروع ما دامت لن تدخل حيز التنفيذ. لكن لا ينبغي للاختلافات أن تتحول إلى انقسامات. فضلا عن ذلك فإن الأجهزة العسكرية والأمنية على استعداد دائم لسحق من يصدقون تلك الوعود ويمتعضون حال اكتشاف سرابها. وفي الخلفية دائما نراهم يلعبون على وتر فزاعة الإخوان المسلمين. •••
للمصريين قدرة على تحمل المعاناة تثير الإعجاب والاكتئاب في الوقت نفسه، لكن مسألة استعدادهم لمواصلة هذه المعاناة ليست محسومة على الإطلاق. أسفرت قوى العولمة عن العديد من الآثار بدءا من السياح الأجانب الذين يقضون أوقاتهم في التنقل من فندق إلى متحف إلى معلم أثري، إلى المهاجرين الأفارقة الذين يعتبرون القاهرة مثالا للتقدم مقارنة ببلادهم، إلى رأس المال الدولي المستثمر في مصر. وللأثر الأخير بعض الثمار المفيدة، لكنه قد يؤدي أيضا إلى تراجع فرص الحياة أمام من يفتقدون التعليم أو المهارات - والواسطة، الأهم منهما في كثير من الحالات - اللازمة للمنافسة.
الوضع المضطرب الذي يسود المجتمع المصري يدق ناقوس الخطر. فالغضب المنصب على جهاز الشرطة السري، والتعذيب والفساد المتوطنين في المجتمع، والنخب التي تلبس عباءة الغرب وتنهب البلاد بدعوى تحرير اقتصادها وفتح آفاق جديدة أمام المستثمرين الأجانب؛ كل هذا يذكرنا بإيران أثناء الأيام الأخيرة من حكم الشاه. ومثلما كانت إيران تحت حكم الشاه - وعلى عكس كل من الاتحاد السوفييتي والصين - فإن القوى المحركة للوضع في مصر ليست داخلية فحسب. وبعبارة أخرى، تلعب الولايات المتحدة دورا فعالا في السياسات التي تتبناها الحكومة المصرية.
لا شك أن هذا الوضع يختلف تمام الاختلاف عن عصور الاستعمار قديما عندما فرض البريطانيون سطوتهم على خزانة الدولة، وتدخلوا دائما في القرارات التي تتخذها الحكومة، وتحكموا في قناة السويس وشركتها ، إلى جانب الإبقاء على وجود عسكري قوي. ولت أيام السيطرة الاستعمارية المباشرة هذه. لكن في ظل السعي نحو الانفتاح السياسي والاقتصادي المتنامي تارة والسعي بعيدا عنه تارة أخرى، تأخذ الحكومة والشعب على السواء رؤى واشنطن بعين الاعتبار. ولا عجب في هذا إذا نظرنا إلى الأموال الطائلة التي تقدمها واشنطن إلى مصر. فهذا الجزء من الصفقة يكاد يكون مقدسا، وحتى في ظل السلام البارد في أحسن الظروف تبقى مصر محورا رئيسيا في تطبيق سياسة واشنطن متمثلة في حفظ الاستقرار داخل المنطقة. لكن هذا لا يعني أن العلاقة تخلو من التوترات، أو أن النظام سيسعى إلى إرضاء واشنطن على حساب المجازفة بتقويض نفوذه، وهذا أمر يدركه صناع السياسة في الولايات المتحدة جيدا.
إذن فنحن نرقب المناوشات والمشاحنات التي تحدث بين الحين والحين بعين ثاقبة؛ فإذا لم يكن هذا مسرحا صامتا فإنه يكاد يكون أقل مما يبدو عليه للوهلة الأولى بالقطع. ومن هنا كان الانفتاح المحدود للنظام عندما كانت إدارة بوش مولعة بالحديث عن الديمقراطية في نفس الوقت الذي يدور فيه الحديث عن تطوير برنامج نووي، وهو ما يبدو للوهلة الأولى مفيدا في الدعاية الداخلية باعتباره دليلا على استقلال النظام عن الولايات المتحدة، لكنه كلام فارغ في حقيقته. ومن هنا أيضا كان قمع المعارضة الليبرالية والعلمانية في الوقت الذي انصب فيه اهتمام واشنطن في اتجاه آخر. وبالرغم من أن هذا غير محتمل، ففي حالة زيادة الضغط الأمريكي من أجل الديمقراطية وتحرير الاقتصاد - وهو ما يعني الضغط من أجل المساءلة والشفافية فضلا عن الخصخصة الكاملة - يمكن لنظام مبارك أن يلعب على فزاعة الخوف مرة أخرى؛ فهم يقولون إن الانفتاح ينطوي على مخاطرة وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، مستشهدين بتجربة حماس في الأراضي الفلسطينية وحزب الله في لبنان، وبالطبع بالكابوس الذي آلت إليه دولة إيران الثيوقراطية. وقد ظلت إيران فترة طويلة الورقة الرابحة الكبرى بين تلك الأمثلة، قبل أن يكشف تقييم استخباري قومي جديد في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2007 أن إيران تخلت عن هدف امتلاك الأسلحة النووية عام 2003، وهو ما هدأ المخاوف من اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وإيران. وعلى الرغم من ذلك، واصلت واشنطن دعم حلفائها من الأنظمة العربية السنية «المعتدلة» مثل مصر من أجل كسب الدعم لتقييد إيران، ومن أجل إحكام السيطرة على الاستياء الشعبي من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على هذه الدولة. •••
لطالما أبدى المصريون اهتماما بالغا بالسياسة الإقليمية على مر التاريخ. لكن الحقيقة أنهم صاروا أكثر اهتماما هذه الأيام بما تتعرض له ثروات بلادهم من نهب جهارا نهارا على أيدي القطط السمان من أبنائها والمستثمرين الأجانب على حد سواء، وكل هذا تحت غطاء ما يسميه البعض عجائب العولمة بكل الآثار المشينة المترتبة عليها في المستقبل البعيد، (لكن لاحظ كيف أن القطط السمان أنفسهم يبدو دائما أنهم يفضلون نوع الإشباع الفوري)، وتحت غطاء ما يدينه الآخرون على أنه «عقيدة الصدمة»، بحسب التعبير الشهير للصحفية الكندية نعومي كلين. وأيا كان الجانب الذي ننحاز إليه في هذه المسألة، فإن ثورة 1952 تبدو حاضرة في عقول الجميع في مصر؛ في عقل النظام وهو يحاول عزل نفسه عن تركة عبد الناصر وفي الوقت نفسه يستغلها من أجل الشرعية، وفي عقل المعارضة وهي تقول إن مبادئ الثورة تعرضت للخيانة منذ زمن بعيد وأن مصر عادت من حيث بدأت تماما.
بدا هذا الانقسام شديد الوضوح عندما أعلنت الحكومة عن بيع بنك القاهرة لمستثمرين أجانب وهو ما أثار حالة غليان داخل الأوساط السياسية. ذكر جودة عبد الخالق أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة وعضو في حزب التجمع اليساري أنه يظن أن توقيت الإعلان عن البيع تزامن عن قصد مع العيد الخامس والخمسين للاحتفال بالثورة. صرح عبد الخالق أمام مؤتمر عقد تحت شعار «لا لبيع مصر» داخل مقر نقابة الصحفيين في الأسبوع الذي تلا الإعلان عن البيع قائلا: «في عام 1952، أقرت ثورة يوليو/تموز ستة مبادئ تضمنت القضاء على الاستعمار والقضاء على هيمنة رأس المال الأجنبي . وفي يوليو/تموز 2007، يقولون لنا إن هذه كلمات جوفاء، ورأس المال لا يعرف الحدود والمصلحة العامة تقتضي بيع البنك.» وحذر أيضا أن الحكومة ربما تعرض الأمن القومي للخطر ببيعها ذلك العدد الكبير من أصول مصر. ونقلت صحيفة الأهرام ويكلي عنه قوله أمام الحضور: «حتى في أكثر النظم الاقتصادية الحديثة تحررا - مثل الولايات المتحدة - ثمة خط أحمر لا يمكن تجاوزه.» واستطرد مذكرا إياهم كيف أن الساسة الأمريكيين أعاقوا خطط شركة موانئ دبي العالمية التي كانت تسعى لإدارة ستة موانئ أمريكية قبل عام؛ لأنهم رأوا فيها تهديدا قوميا. زاد بيع البنك من المخاوف الموجودة منذ وقت طويل بأن الخصخصة تنذر بعودة الاستعمار. وقال النائب البرلماني المستقل مصطفى بكري في اجتماع اللجنة المصرفية في البرلمان: «سيؤدي بيع هذا البنك إلى عودة عهد الامتيازات الأجنبية.» امتلأت الصحف بإدانات من جانب اتحادات العمال وحكايات حول المودعين الذين أصابهم الذعر فسارعوا بسحب أموالهم من فروع البنك. حدث كل هذا الارتباك في أعقاب اندلاع مظاهرات حاشدة هي الأولى من نوعها في ست محافظات مصرية كانت تعاني من نقص حاد في المياه، وهو ما ألقى الضوء على الحقيقة المفزعة التي تقول إن آلاف المصريين يموتون كل عام لأنهم لا يجدون الماء النظيف، بينما تشهد المشروعات الاستثمارية الكبرى بناء أحدث شبكات الصرف الصحي والمياه من أجل القرى السياحية الجديدة والمجمعات السكنية الفاخرة على أطراف المدن، وكلها لخدمة السياح وذوي الثراء من المصريين. وعلى الرغم من أن عهد الحكم الاستعماري المباشر قد ولى، فإن خنوع النظام أمام واشنطن إنما هو تذكرة أليمة بالماضي. ومع اقتراب صعود جمال إلى السلطة، تصبح المقارنة بين آخر أيام الملكية في عهد فاروق وبين أيام النظام الحالي أكثر ملازمة للفكر.
في خضم هذا كله، يهدد السعي وراء المزيد من الخصخصة بناء على أوامر المؤسسات المالية الدولية باندلاع احتجاجات عمالية أوسع نطاقا، وربما يقع العمال - طوعا أوكرها - في قبضة الإخوان المسلمين في ظل غياب فصائل المعارضة البديلة. ولا شك أن الإخوان المسلمين تصدروا الحملة التي شنت ضد بيع البنك - عندما وصف المتحدث الرسمي باسمهم عملية البيع بإيجاز فقال: «هذه ليست خصخصة؛ إنما هي سرقة.» - وجعلوا تطهير مصر من النفوذ والاستغلال الخارجي منذ زمن بعيد بندا رئيسيا من بنود برنامجهم السياسي. وإذا تشكل هذا التحالف، فثمة خياران لا ثالث لهما؛ إما حملة قمع هائلة أو سقوط النظام، وكلا السيناريوهين محتمل. تبدو هذه الصورة في مصر شبيهة على نحو يثير الاستغراب بمثيلتها في إيران؛ وهي دولة أخرى استحوذ عليها هاجس التدخل والهيمنة الخارجية على مدى قرون، في الوقت نفسه الذي شهد ميلاد الثورة في سبعينيات القرن العشرين. وحري أن نذكر أن وصول الإسلاميين المتشددين بقيادة الخوميني إلى سدة الحكم لم يكن أمرا مقدرا. فهؤلاء لم يكونوا سوى مجموعة واحدة من عدة مجموعات وقفت في وجه الشاه، ويقال إنهم لم يكونوا الأكثر زعامة أو الأكثر شعبية. فقبل الثورة كانت جماعات المعارضة ضد حكم الشاه متنوعة تضم طلابا وعلمانيين ودعاة للمساواة بين الرجال والنساء وماركسيين وإسلاميين ومناهضين لفكرة الاستعمار. أضف إلى هذا أن الثورة اندلعت بإضرابات عشوائية تفتقر إلى التنظيم والتلاحم، تراكم أحدها فوق الآخر، وانضمت إليها مجموعات أكثر تنظيما ذات أهداف سياسية أكثر وضوحا، ثم فوجئت بحكومة ثرثارة لا تريد التخلي عن السلطة وتعجز عن قمع المعارضة بالعنف الذي يتطلبه الموقف. ارتبكت واشنطن في الوقت الذي اشتعلت فيه طهران؛ تلك الدولة الفوضوية التي صنعتها بنفسها، والتي ربما يقول البعض إنه عقاب استحقته على مساندتها المشينة لحاكم فاسد يكن له شعبه كل هذه الكراهية. وانتصر الإسلاميون في الأشهر التي تلت ثورة 1979 بعد أن أثبتوا أنهم القوة الأكثر تنظيما وحزما. أما الشاه فقد انتهى به الحال إلى المنفى الذي صادف كونه في مصر؛ وكانت إشادة السادات بالشاه الفاسد أحد أسباب اغتيال الإسلاميين له. ففي الشرق الأوسط، يكون الجزاء من جنس العمل على نحو مؤلم. لكن لا بد أن نتساءل هل استفادت واشنطن من الدرس؟ •••
الخطر الأكبر الذي يحيق بالنظام المصري أن الإضرابات تؤثر على مجريات الأحداث يوما بعد يوم، وبعض العمال - لم يتبين عددهم بعد - بدءوا «يربطون بين رواتبهم المتدنية وبين الظروف السياسية والاقتصادية من توطن الاستبداد، وعدم أهلية الحكومة وفسادها المنتشر على نطاق واسع، وخنوع النظام للولايات المتحدة وعجزه عن تقديم - أو حتى إبداء اهتمام بتقديم - دعم حقيقي للشعب الفلسطيني أو الاعتراض الجاد على الحرب في العراق، وارتفاع نسبة البطالة، وتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء»، حسبما ورد في تحليل لمجلة ميدل إيست ريبورت في مايو/أيار عام 2007. بدأت أعداد كبيرة من المصريين الحديث صراحة عن الحاجة إلى حدوث تغيير حقيقي. يحتل موظفو القطاع العام موقعا مهما يمكنهم من أداء دور حاسم إذا استطاعوا تنظيم أنفسهم، ولا يحتاج عدد المضربين عن العمل إلا لزيادة قدرها عشرة أضعاف العدد الحالي ليصلوا إلى الأرقام التي أشعلت الانتفاضات الشعبية في الماضي. فالثورة الإيرانية كانت أكثر الثورات شعبية في التاريخ، لكن لم يشارك فيها مشاركة فعلية سوى 2 بالمائة من إجمالي عدد السكان، وثاني أكثر الثورات شعبية في التاريخ اندلعت في روسيا عام 1917 ولم يشارك فيها مشاركة فعالة سوى 1,5 بالمائة من إجمالي السكان.
لا ينبغي للنظام المصري أو الإدارة الأمريكية أن يركنا إلى ما يشار إليه بوجه عام - ازدراء أو تمنيا - بالطبيعة اللامبالية للشعب المصري. فقد ذهبت النظرة الاستشراقية للتاريخ المصري إلى أن المصريين لانت شوكتهم نتيجة حكم الفراعنة لهم قديما، ومن ثم اعتادوا ألا يفكروا في شكل وطبيعة الحكم في الدولة، وسلموا بفكرة أن الفرعون فوق مستوى المساءلة. وهكذا يواصل المصريون حياتهم عبر تجاهل الدولة، وعيش حياتهم على إيقاع النيل. من اليسير أن نعقد المقارنات بين الماضي والحاضر، خاصة تلك التي تشبه مبارك بالفرعون؛ فهو ثالث أطول الحكام المصريين بقاء في السلطة على مدار الأربعة آلاف سنة الماضية. لكن هذا التحليل يحيد عن إنصاف الأمة المصرية المتشعبة النابضة بالحياة كما نراها في القرن الحادي والعشرين. أصبح الفيضان السنوي لنهر النيل ذكرى من الماضي بفضل بناء السد العالي. أيضا تدلل المائة عام الماضية على أن المصريين أبعد ما يكونون عن الاستكانة وعدم الاكتراث بمن يحكمهم أو كيف يحكمهم، ولنا في ثورات المصريين عبرة؛ فقد اندلعت ثورة شعبية ضد الإنجليز (1919)، وانتفاضة جماهيرية احترق على إثرها نصف القاهرة (يناير/كانون الثاني 1952) تلاها الانقلاب العسكري (يوليو/تموز 1952)، ومظاهرات حاشدة أرغمت السادات على الاعتراف المخزي بخطأ القرار الذي اتخذته الحكومة بتخفيض الدعم على السلع الغذائية الأساسية (1977)؛ فضلا عن سلسلة متواصلة من الاغتيالات والمظاهرات الشعبية والهجمات الإرهابية. لا يمكن لشعب بهذا التاريخ إذن أن يوصف باللامبالاة؛ ولكن الأكثر إثارة لقلق النظام، والأكثر إلهاما لهؤلاء الذين يسعون للإطاحة به، هو أن الفارق الزمني بين ثورتي 1919 و1952 وبين ثورتي 1952 و1977 يقدر بنحو ثلاثة عقود، وهي الفترة التي تفصل عام 1977 عن الوقت الحاضر. وتشير تلك القراءة للتاريخ إلى أن مصر ربما كانت على موعد مع واحدة من ثوراتها الشعبية المتكررة. •••
هل فكرت واشنطن في ذلك؟ مما يتراءى لنا الآن من أدلة، الجواب هو لا. ولهذا السبب يجد الأمريكيون أنفسهم في عدد من المآزق؛ أهمها الرغبة في تحقيق الاستقرار إلى جانب الإصلاح الاقتصادي والسياسي في الوقت نفسه. ربما يكون الهدفان متناغمين على المدى البعيد، بل وربما يعزز كل منهما الآخر. غير أن السياسيين وصناع القرار في أمريكا نادرا ما يخططون للمدى البعيد؛ ومن باب الإنصاف أن نقول إن هذا الأمر لا يقتصر على الأمريكيين وحدهم. وعلى المدى القريب، لا تفتقر الرغبات إلى التناغم فيما بينها فحسب، بل تعمل إحداها ضد الأخرى داخل المجتمع المصري. فالحفاظ على الاستقرار يعني الاستمرار في دعم مبارك والمقربين منه مع غض الطرف عن القوى الأساسية التي تهيمن على السياسة المصرية وهي الأجهزة العسكرية والأمنية. فتلك المجموعات ليس لديها ما يحفزها على الإصلاح، لأنها تستفيد من الوضع الراهن بما في ذلك المساعدات الأمريكية. أعضاء الحزب الوطني أنفسهم يعون جيدا أن الإصلاح يعني التخلي عن شيء من السلطة - كما أشار بدراوي - ويخافون على نحو مبرر ومفهوم من أن يؤدي فقد السلطة إلى تضاؤل سيطرتهم. تلك هي ركائز الاستقرار التي بمقدورها وأد التغيير واستخدام القوة لمنع الاحتجاج الشعبي من الخروج عن نطاق السيطرة . ولا شك أنهم يستطيعون قمع المعارضة بل وقمع انتفاضة شعبية، لكن شيئا كهذا لن يخلص النظام من مأزقه، لأن ركائز استراتيجية الإصلاح لديه - متمثلة في الخصخصة والاستثمار الأجنبي - تعتمد في نجاحها على الاستقرار الداخلي أيضا.
على الجانب الآخر فإن الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة من أجل تنفيذ إصلاح اقتصادي وسياسي حقيقي يحمل في طياته منافع مرتقبة من النمو الاقتصادي لا يقتصر نفعها على النخبة المتسلقة وحدها، بل يمتد إلى عموم المصريين الذين يعتمدون حاليا إلى جانب وظائفهم (إن كانوا يعملون) على الدعم الذي يستنزف ميزانية الحكومة. ولو كان الاقتصاد المصري أقوى مما هو عليه، فلن نرى مطاردي السياح في المناطق الأثرية وممارسي البغاء من الذكور في الأقصر عدوانيين أو مستغلين ومستغلين هكذا. يوفر الإصلاح السياسي - بمعنى زيادة الديمقراطية والشفافية - فرصة أمام الأصوات المختلفة في المجتمع المصري المعروف بتعدديته للمشاركة وتحقيق المصالح. وسيكون ذلك بمنزلة تغيير جذري عن الوضع الراهن الذي تزعم فيه الحكومة أن الوحدة مبدأ أساسي، وهذا ما يدفعها إلى التكشير عن أنيابها عندما يتحدث أحد عن وجود أقليات، وما يجعلها تزعم أنها تحقق مصالح الشعب على أفضل وجه، في الوقت نفسه الذي ترفض فيه اختبار صدق هذا الادعاء عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
ظهرت حقيقة تلك الأهداف المتضاربة في تجربة شديدة الغرابة تعرض لها هشام قاسم، الناشط المصري في مجال حقوق الإنسان، الذي وقع عليه الاختيار ضمن أربعة نشطاء دوليين في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007 لنيل جائزة الديمقراطية الصادرة عن هيئة «المنحة الوطنية للديمقراطية». وجد قاسم أن التجربة محزنة للغاية، إذ صرح لوكالة رويترز بعد تسلم الجائزة قائلا: «رؤية رئيس الولايات المتحدة بشخصه والإحساس بعدم اكتراثه لما يجري على الصعيد السياسي في مصر جعلتني أتيقن من أن برنامج الديمقراطية هذا قد انتهى بلا رجعة.» وقال قاسم إن بوش سأله عن الإصلاحيين في الحزب الوطني الحاكم (وهو ما أجاب عليه بقوله: «آسف، لا يوجد إصلاحيون في الحزب الوطني.»)، لكن اهتمامه كان منصبا في الأساس على وضع الإسلاميين في مصر. أوضح قاسم أن الحكومة جعلت من المستحيل على الحركات السياسية العلمانية ممارسة عملها مفسحة المجال بذلك أمام الإسلاميين: «لا بديل الآن أمام الشعب، خصوصا وأن الإسلاميين يعملون خارج المساجد بينما الأحزاب السياسية العلمانية لا يسمح لها بالعمل على الإطلاق.» وأضاف أنه يخشى في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم «أن مصر ستصبح دولة دينية بحلول عام 2010.» وكان واضحا أن هذا التعليق الأخير استحوذ على اهتمام بوش الكامل، وبدت عليه حيرة شديدة لأن السياسة الأمريكية لا تحقق أهدافها، فقال: «نحن نعطي بلادكم ملياري دولار كل عام لتحفظوا استقرارها وتحولوا دون تحولها إلى دولة دينية.» قال قاسم إن بوش بدا مصدوما ومرتعبا.
قد يقول البعض إن قاسم لم يسد لنفسه صنيعا عند لقائه بوش وكبار مستشاريه. والحقيقة المؤسفة هي أن الضغط الأمريكي من أجل الديمقراطية أصبح ينظر له الآن على أنه غير صادق على أفضل تقدير، ومنافق على أسوأ تقدير. ولا عجب في ذلك عندما يكون غرض الرئيس مما يدفعه لنظام مبارك هو الحفاظ على الاستقرار وليس السعي وراء الإصلاح. وقد ترتب على هذا التضارب في السياسة الأمريكية أن أي محاولة لمساعدة الأفراد والحركات الداعية إلى الديمقراطية تسفر عن نتيجة سلبية وهي الحد من تأييدهم داخل دائرة أنصارهم. وبعبارة أخرى، يتهم هؤلاء الأفراد بالعمالة. وقد كانت هناك فرصة كبيرة أمام قاسم لكسب التأييد لقضيته داخل مصر نفسها لو أنه رفض مقابلة بوش من الأساس، لأن الكثيرين من الإصلاحيين العلمانيين ليسوا مفتونين بالأمريكيين، وهو ما اتضح لي - في أوج «ربيع القاهرة» أوائل عام 2004 - عندما التقيت بمجموعة منهم من بينهم أحمد سيف الإسلام وهو رئيس هيئة حقوقية مصرية تدعى «مركز هشام مبارك للقانون». كان من المفترض أن يشعر أحمد بالقوة بسبب الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة من أجل تحقيق ما يحاول هو إلقاء الضوء عليه منذ عقد من الزمان؛ وهو الحاجة إلى مزيد من الديمقراطية والحرية والمساءلة. ولكنه بدلا من ذلك أخبرني أنه وغيره من الإصلاحيين متشككون إلى أقصى درجة في دور أمريكا في المنطقة ، إن لم يكونوا يشعرون بالعداء الصريح تجاهه. قال لي ونحن في منزله الذي يقع على مرمى حجر من جامعة القاهرة: «الحرب على الإرهاب تقوض دور المدافعين عن الديمقراطية، في حين تقوي شوكة الديكتاتوريين العرب الذين يستخدمونها عائقا أمام الإصلاح، وذريعة بأن تأييد الإصلاح يعني الوقوف في صف أعداء الدولة.» وهناك أدلة كثيرة تؤيد وجهة نظر أحمد سيف الإسلام. ففي الأسبوع الذي التقيت به فيه، نشرت صحيفة الأسبوع - القريبة من الحزب الحاكم - مقالا تحت عنوان «خطة واشنطن لمصر» جاء فيه أن أمريكا تسعى إلى تعيين قبطي كنائب للرئيس وإلغاء المادة الثانية من الدستور (التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع). وفي الوقت نفسه، وجهت صحيفة روز اليوسف الأسبوعية الموالية للنظام اتهاما لسعد الدين إبراهيم ب«التعاون مع أمريكا وإسرائيل لتشوية صورة مصر.» وقد ساعد المناخ العام المناهض للسياسة الأمريكية في فتح الباب أمام ردود الفعل العنيفة والمنسقة. أخبرني هاني شكر الله - الذي كان يرأس تحرير جريدة الأهرام ويكلي وقتها - أن «الحرب على العراق أعاقت أجندة الإصلاح بطرق شتى، وأثارت نوعا من البغضاء تجاه الولايات المتحدة امتدت لتتحول إلى بغضاء تجاه الغرب بأسره. وفي ظل الحديث عن «قانون الوطنية» الأمريكي، وخليج جوانتانامو، وسجن أبو غريب، وتدمير الفالوجة، ليس هناك في العالم العربي من يأخذ كلام الأمريكيين عن تأييد الديمقراطية على محمل الجد.» والمفارقة الأكبر هي أنه حتى التحركات الجديدة نحو الإصلاح تكاد تسلك اتجاها يعترض المصالح الأمريكية؛ فتعزيز الديمقراطية في العالم العربي - حتى وإن كان بكلمات موجزة - يعني دائما أن العرب سيعبرون في الأغلب عن انتقادهم الشديد لسياسات إسرائيل وأمريكا فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي دعمه لتقرير التنمية البشرية العربي لعام 2003 بشأن الحوكمة في العالم العربي، على الرغم من الاعتراضات الأمريكية على أجزاء من النص. أخبرني المعد الرئيسي للتقرير - وهو المفكر المصري نادر فرجاني - في مكتبه بالقاهرة أن التقرير أثار سخط الأنظمة العربية والولايات المتحدة بالقدر نفسه. قال: «أحد الأسباب أنه يوجه نقدا لاذعا للاحتلال الأمريكي للعراق، وأنه أشار إلى أن الطريقة التي شنت بها ما تسمى بالحرب على الإرهاب أسفرت بالقطع عن مزيد من تقييد الحريات في الدول العربية.» وأضاف أنه كان لا بد لهذا التقرير أن يصيب مركز الهدف، وقال: «كان من الطبيعي ألا يلقى استحسانا لدى الأنظمة ذات الحوكمة السيئة ومن بينها الولايات المتحدة التي تعد نموذجا واضحا لنظام الحوكمة السيئة الذي لا يدعم الحريات.» ويكاد يبدو غريبا الآن أن إدارة بوش استخدمت تقرير التنمية البشرية العربي 2002 كأساس لأولى مقترحاتها التفصيلية بشأن الإصلاح في العالم العربي. من الواضح أن الولايات المتحدة ليست واقعة بين مطرقة المعارضة الإسلامية وسندان النظام فحسب، ولكن أيضا بين مطرقة المعارضة العلمانية (أو ما تبقى منها) وسندان النظام.
تحدوني رغبة متواضعة في أن أسدي نصيحة إلى واشنطن في هذا المقام، خاصة أن الرئيس الأمريكي سيترك منصبه في يناير/كانون الثاني 2009، ونصيحتي هي أن أي تصويت للشعب الأمريكي في انتخابات قريبة سينزل هزيمة منكرة بمن تبقى من المستشارين المحيطين بالرئيس بوش من المحافظين الجدد. ومع هذا، لا يوجد في المرحلة الحالية ما يشير إلى أن الرئيس الذي سيخلف بوش - سواء أكان من الحزب الديمقراطي أم الجمهوري - سيخرج من جعبته شيئا جديدا أو مبتكرا يسهم به في السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، أو ستكون لديه الرغبة في الاستماع إلى الأصوات المختلفة. في الوقت نفسه لا بد أن يكون واضحا وضوح الشمس الآن أمام جميع المرشحين أن التدخل العسكري غير المبرر - سواء أكان إجراء استباقيا أم غير ذلك - ما هو إلا وصفة لوقوع كارثة في المنطقة، وأن الضربة الارتدادية لن تكون مقبولة؛ ليس فقط فيما يتعلق بالمصابين والضحايا المدنيين من أبناء البلد (فضلا عن الضحايا والمصابين من الجنود الأمريكيين)، وإنما فيما يتعلق بالضغينة التي تولدها تلك الحروب بين الشعوب العربية، والفرص الملازمة التي يتيحها مثل هذا التدخل أمام الجماعات الإسلامية الموجودة ضمن التيار الرئيسي مثل الإخوان المسلمين لكسب المزيد من التأييد.
وإذا دنونا من المجتمع المصري من منظور مختلف، فسنجد جانبا مشرقا يتمثل في حقيقة أن تأثير الإخوان المسلمين على التيار الرئيسي محدود منذ عشرينيات القرن العشرين ؛ وأن الإسلام الذي يمارسه معظم المصريين هو في الأساس إسلام صوفي في طبيعته، لذا فإنهم تلقائيا لا يحتملون المذهب السني المتشدد (ناهيك عن العنف الذي يمارسه تنظيم القاعدة)؛ وأن المسلمين والمسيحيين في مصر فخورون إلى حد بعيد بتاريخهم المشترك، ويعيشون حياتهم ككيان واحد يشارك كل منهم الآخر في الاحتفالات والمناسبات الدينية؛ وأنه على الرغم من دعاية النظام المناهضة لإسرائيل فإن المصريين على استعداد للعمل مع الإسرائيليين ما دامت بنود الاتفاق عادلة ومنصفة (بدليل «المناطق الصناعية المؤهلة» الإسرائيلية المقامة في مصر) وما دام التعامل مع محنة أشقائهم العرب في فلسطين يتخذ شكلا جديا؛ وأنه ما زالت هناك حالة من الإعجاب الشديد بالحرية السائدة في أمريكا وأوروبا - بعيدا عن السياسية - حتى إن كثيرين من المصريين كل عام يقدمون على المجازفة بحريتهم بل وبحياتهم من أجل أي فرصة يذوقون معها هذه الحرية بأنفسهم.
مفتاح الحل بالطبع في الملياري دولار التي تدفعها الولايات المتحدة لمصر سنويا في صورة مساعدات، والمرهونة على نحو قاطع بالتقدم على طريق الإصلاح في ظل تهديد واضح بتوجيه الأموال إلى المشروعات الأساسية التي من شأنها تعزيز الديمقراطية في مصر ما لم يكن يتحقق فعليا وليس فقط يعزز شفهيا. لا بد لواشنطن أن تتلقى مقابلا عن الأموال التي تدفعها، وما الذي سيضير واشنطن حقا لو سلكت هذا الاتجاه؟ ليس واردا أن يسلم نظام مبارك السلطة إلى الإخوان المسلمين، أو أن يؤجج الغضب الشعبي إلى الحد الذي يخرجه عن نطاق السيطرة. من من المصريين لن يبتهج عندما يتلقى النظام صفعة مجازية على وجهه إذا وضعنا في الاعتبار ما يتلقاه الكثيرون منهم من صفعات حقيقية وما هو أسوأ منها من زبانية النظام؟ في هذه الأثناء، نجد أن إسرائيل متفوقة عسكريا على مصر حتى إن أي هجوم لمصر عليها سيكون أشبه بالانتحار. وعلى الصعيد الإقليمي تضاءل تأثير مصر كثيرا؛ فمن فلسطين إلى العراق، ومن لبنان إلى سوريا، والأهم إيران، باتت الكلمة العليا الآن للملكة العربية السعودية، ولا يوجد حليف تعتمد عليه واشنطن في العالم العربي أكثر من آل سعود، فضلا عن أن السعودية تكاد لا تتأثر بضغوط واشنطن في ظل الارتفاع التاريخي غير المسبوق في أسعار النفط. وفي ظل هذا الضغط الذي يتعرض له النظام المصري، لن يجد خيارا سوى تقديم إصلاحات جادة وإن كانت بطيئة؛ فالتحرك ببطء أفضل من عدم التحرك على الإطلاق.
على مدار مائتي عام، اختارت مصر الاتجاه الذي ستسلكه بين قطبي الشرق والغرب. فعامة المصريين حلفاء طبيعيون لواشنطن إذا رأوا أن فائدة حقيقية ستعود عليهم من وراء هذا التحالف. فتخلي واشنطن عن الشعب المصري عن طريق سماحها للوضع بمزيد من التدهور - وما سيترتب عليه من خطر وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم - وكأن الشعب المصري لا يستحق أفضل من ذلك ولا يريد أكثر من ذلك، على حد قول المحللين السياسيين في واشنطن سيكون أكثر من مجرد خيانة لأكثر ثقافات العالم العربي حيوية وتنوعا؛ وسوف يؤذن أيضا بموت الديمقراطية والتعددية في كل مكان في المنطقة. وبإيجاز، تحتاج واشنطن إلى نظرة بعيدة المدى وإعادة تقييم متأنية لدعمها للديكتاتور إلى جانب بذل قصارى جهدها من أجل حل القضية الفلسطينية التي يستغلها بهدف تشتيت الانتباه عن مواطن ضعفه الهائلة. وعلى الولايات المتحدة أن تحث على الإصلاحات الاقتصادية التي تستهدف مصالح الشعب المصري.
الولايات المتحدة صاحبة تاريخ طويل من التورط في منطقة الشرق الأوسط، ونادرا ما كانت سياسات واشنطن تتخذ المسار الذي أرادته لها؛ حتى وإن افترضنا حسن نيتها. يعد برج القاهرة واحدا من أشهر المباني في سماء القاهرة، وهو إحدى التركات التي خلفتها الجهود الأمريكية الرامية لكسب تأييد عبد الناصر. تقول إحدى الروايات إنه بني بأموال دفعها - على سبيل الرشوة في الواقع - كيرميت (كيم) روزفلت رجل المخابرات المركزية الأمريكية الأسطورة (الذي لعب - بالمصادفة - دورا محوريا في إعادة الشاه عام 1953). ويعرف برج القاهرة باسم «وخزة عبد الناصر»، لأن عبد الناصر أخذ الأموال ومضى جذلا يواصل سياساته الخاصة. ونوعا ما تكرر الحكومة الحالية الفعلة ذاتها مع الأمريكيين، وقد أوجز بوش حقيقة الصفقة بإتقان أثناء لقائه مع قاسم في واشنطن. وفي ظل تضاؤل مكانة أمريكا في المنطقة - بسبب فشلها الذريع في العراق وعدم إحرازها تقدما في مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين - يرى مبارك محدودية الخيارات المتاحة أمام الأمريكيين على المدى القريب وتضاؤل الرغبة في ممارسة المزيد من الضغوط. وهذا من شأنه أن يقنع النظام بأن جميع الأسباب متوفرة أمام استمرار الوضع الراهن. •••
في خريف عام 2007، أجرى الحزب الوطني الديمقراطي انتخابات اختيار رئيس للحزب، وأثناء الإعداد للانتخابات كان هناك إجماع على أن مبارك سيفوز بسهولة؛ وفي نبؤة دقيقة على عكس عنوان «ديوي يهزم ترومان» الخاطئ الشهير الذي خرجت به صحيفة شيكاغو تريبيون قبل حسم نتيجة الانتخابات الأمريكية عام 1948 لصالح ترومان، أوردت صحيفة «الجمهورية» القومية مقالا تحت عنوان «مبارك سينتخب بالإجماع». وهو ما حدث بالفعل، بينما ترقى جمال إلى منصب أعلى داخل الحزب ما جعله - وفقا للوائح الرسمية الروتينية - قادرا في النهاية على ترشيح نفسه في الانتخابات. ربما تكون الأنظمة المستبدة رتيبة، لكن على الأقل يسهل التنبؤ بما سيحدث فيها. ويبدو مع الأسف أن هذا ما تريده واشنطن. لكن المشكلة تكمن في أنه قلما يمكن التنبؤ بما سيحدث في عالم السياسة خاصة في الشرق الأوسط. ومع أنه لا ينبغي الاستخفاف بقدرة نظام مبارك على الاستمرار على نحو متخبط، فإن الاهتياج المستتر الذي يسود أوساط العمال وغيرهم لا يدعو للتفاؤل. أيضا لا يرسي النظام أساسا لزيادة الانفتاح عن طريق تبني سياسات من المرجح أن تسفر عن زيادة تأييد الشعب، حتى وإن لم يكن هذا التأييد بالإجماع. وبسبب افتقار النظام إلى الأفكار أو الأيديولوجية أو الرموز التي تحظى بالقبول لدى الشعب، فإنه ينصرف عن وضع حلول للمشكلات على نحو يؤدي إلى تفاقمها.
ومن سيكون هناك للاستفادة من هذا الوضع؟ إنهم الإخوان المسلمون. لا أقصد بذلك أن الإخوان يتمتعون بشعبية كبيرة، ناهيك عن امتلاكهم لحلول عملية (أو صالحة للتطبيق)؛ وإنما أقصد أنه باعتبارهم كتلة المعارضة الوحيدة المنظمة، فإنهم الأقوى تلقائيا. حدد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين استراتيجية قائمة على الصبر تمر بثلاث مراحل حتى الوصول إلى السلطة؛ مرحلة الدعاية (الإعداد)، ومرحلة التنظيم (التي تهدف إلى توعية الشعب)، وأخيرا مرحلة الفعل (امتلاك السلطة). وبالرغم من أن هذا المخطط ربما كان عاما ومبهما - كحال معظم تحليلات الإخوان المسلمين في الواقع - فإنه يشير ضمنيا إلى وجود إجراءات عملية، ويمكن القول إن الإخوان المسلمين وصلوا إلى المرحلة الثانية الآن بدليل تركيزهم على التعليم والثقافة، أو - على الأصح - بدليل اجتثاثهم لكافة أشكال التعليم والثقافة التي لا تتفق وعقيدتهم الإسلامية.
يتجلى بوضوح أيضا أن الإخوان المسلمين يستفيدون من تجارب غيرهم. ففي خريف عام 2007، أشارت صفحتهم الإلكترونية الرسمية بإيجاب إلى مقال صادر عن هيئة الإذاعة البريطانية تناول الظروف التي تؤدي في الأغلب إلى انتفاضة شعبية والإطاحة بالحكومة، مستعينة بتجربة لم يحالفها الحظ في ميانمار (بورما) الواقعة تحت الحكم العسكري كمثال على ذلك. ومن بين العوامل الرئيسية التي ذكر أنها تؤدي على الأرجح إلى إحداث تغيير في نظام الحكم: الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق التي تؤدي إلى ظهور عدة تكتلات اجتماعية واقتصادية مختلفة؛ وظهور قيادة معارضة لديها أفكار واضحة يمكن حشد الشعب حولها؛ والقدرة على استخدام وسائل الإعلام بصورة ما لنقل رسالة معينة؛ ووجود آلية لتقويض النظام القائم سواء عن طريق انقلاب داخلي في حالة الحكم العسكري، أو ظهور الإصلاحيين، أو إنهاك النظام الحالي بما يؤدي إلى انهياره. وطرح الناشط الإخواني المتحمس الذي لفت الانتباه إلى المقال سؤالا على أقرانه الإسلاميين على موقعهم الإلكتروني هو: «هل يمكن تنفيذ هذا في مصر؟» ويخيل إلي أن هذا السؤال كان أكثر من مجرد سؤال بلاغي.
خاتمة
أصاب الإضراب العام الذي شهدته مصر يوم 6 أبريل/نيسان عام 2008 - ذلك الشهر الذي نشرت فيه الطبعة الأولى من كتاب «في قلب مصر» - معظم أنحاء البلاد بالشلل التام. اندلعت المظاهرات في مدينة المحلة بدلتا النيل على مدار يومين. وتزامنت «انتفاضة المحلة» - كما أطلق عليها - مع إضراب في المصنع الرئيسي في المدينة الذي أصبح بؤرة اهتمام مئات من العمال المضربين في جميع أنحاء البلاد. أسفرت مظاهرات المحلة عن وفاة ثلاثة مواطنين وإصابة المئات في أسوأ موجة اضطرابات شهدتها البلاد منذ عام 1977، مما أسفر عن تصعيد أكبر موجة احتجاجات عمالية منذ ثورة 1952 التي جاءت بجمال عبد الناصر إلى سدة الحكم.
أثار نجاح الإضراب من دون مشاركة الإخوان المسلمين دهشة كثير من المراقبين، لكن الجماعة أعلنت في وقت متأخر ودون مراوغة عن تضامنها مع الدعوة إلى إضراب عام ثان يوم 4 مايو/أيار، بعدما نالت ما نالته من انتقاد من جانب صحف المعارضة بسبب تخلفها عن المشاركة في الإضراب الأول. لكن كان إخفاق الجولة الثانية من الإضراب العام مدويا على قدر ما كان من نجاح الإضراب الأول. ففي يوم 4 مايو/أيار، اكتظت شوارع القاهرة بالزحام المروري كالمعتاد، ولم تغلق أبواب المحال التجارية، وخلت الشوارع من مظاهرات الطلاب والعمال والإسلاميين أيضا.
تتفق الروايتان المتضاربتان حول هذين الإضرابين تمام الاتفاق مع الطرح الرئيسي الذي يدور حوله هذا الكتاب؛ فقد ظهر بجلاء أن المجتمع المصري على شفا الانفجار، في حين ثبت أن تأثير الإخوان المسلمين - مثلما أشرت في الفصل الثاني - فيه الكثير من المبالغة. بل الواقع أن إعلان الجماعة عن تضامنها كان عاملا رئيسيا في إحباط الموجة الثانية من الإضرابات؛ بل وصل الأمر إلى حد أن الجماعة لم تتمكن من إلزام أعضائها بالمشاركة يوم الإضراب. •••
في غضون ذلك، استمرت الدعاية الجوفاء للحزب الوطني الديمقراطي برئاسة مبارك في فرض هيمنتها على الخطاب السياسي الداخلي في مصر. وبدلا من الحوار العلني المثمر، توالت النكبات الحافلة بالمعاني الرمزية على مصر؛ وأبرزها على وجه التحديد حادثان وقعا عام 2008. فقد شب حريق في شهر أغسطس/آب التهم مبنى مجلس الشورى أعقبه في الشهر التالي حريق آخر أتى على المسرح القومي في القاهرة. وفي حين وصفت السلطات كلا الحريقين بالقضاء والقدر، فإن عجز الحكومة عن حماية منشآتها القومية البارزة أكد للعديد من المصريين فساد النظام وعدم أهليته.
كتبت رئيسة تحرير صحيفة ديلي نيوز - الصحيفة الرسمية الناطقة بالإنجليزية في مصر - عن حريق البرلمان محذرة أن تلك الكارثة ليست سوى «مقدمة لسلسلة حرائق مستقبلية». وقد تكررت الإيحاءات التي تنذر بثورة شعبية وشيكة على نحو مثير للقلق منذ أن نشرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب؛ ولأسباب وجيهة. •••
في الوقت الذي سحق فيه النظام انتفاضة المحلة، وألقى القبض على من دعوا إليها، فإنه لم يفعل أي شيء لمعرفة الأسباب الكامنة وراء اندلاعها. قطعت الحكومة وعدا بزيادة 30 بالمائة في رواتب الموظفين (وهو مؤشر على مدى زعزعة الاحتجاجات العمالية للنظام)، لكنها رفعت أسعار السلع الأساسية بالقدر نفسه لاحقا. وارتفع المعدل الرسمي للتضخم في الحضر في الوقت نفسه إلى 26 بالمائة ليزيد من معاناة المواطنين البسطاء. كل هذا ولا تلوح في الأفق بادرة انفراج. تسببت أزمة الائتمان العالمية في هبوط سوق المال المصري بنسبة 20 بالمائة بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2008 بالتزامن مع انسحاب المستثمرين الأجانب من الاقتصادات الناشئة. وامتلأت الصحف المحلية بقصص عن حوادث انتحار المصريين بعد ضياع مدخراتهم؛ وكانت تلك المرحلة الأخيرة لاستئصال الطبقة الوسطى من المجتمع، وتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛ وهي عملية بدأت في عهد السادات في سبعينيات القرن العشرين.
وقفت الأزمة الاقتصادية العالمية عائقا في طريق البرنامج الاقتصادي المتعثر بالفعل الذي يتبناه النظام. كان جذب الاستثمارات الأجنبية - عن طريق الخصخصة في المقام الأول - العامل المحوري الذي ترتكز عليه السياسة الاقتصادية للحكومة طوال العقدين الماضيين. لكن الجهود المبذولة لم تكن منتظمة، ولم تعد بالنفع على رجل الشارع المصري البسيط. مع هذا ظل رئيس الوزراء أحمد نظيف واثقا ثقة عمياء في هذا المنهج على الرغم من تقييم صدر آنفا عن رئيس البنك الدولي ذكر فيه أن المصريين العاديين بحاجة إلى أن ينتظروا «جيلا» كاملا حتى يشعروا بأي فائدة تعود عليهم من النمو الاقتصادي للدولة وفق نظرية الانسياب (وهي نظرية قائمة على فكرة أن المزايا والفوائد الممنوحة للأغنياء تنساب لأسفل مع الوقت حتى تصل إلى الفقراء). •••
لكن هل سينتظر المصريون «جيلا» كاملا حتى ينساب إليهم عائد النمو الاقتصادي؟ ربما يكون الإعلان عن ترشح جمال مبارك للرئاسة هو شرارة انطلاق الانتفاضة الشعبية التالية. فالاعتراض على توريث السلطة لجمال هو ما يوحد كافة صفوف المعارضة المصرية، فضلا عن أن محاولات النظام لتقديمه على أنه الأقرب إلى الشعب المصري قد باءت بالفشل. وربما يكون المسمار الأخير في نعش علاقات جمال تلك المحاكمة المثيرة الجارية (وقت كتابة هذه الخاتمة) للملياردير المصري هشام طلعت مصطفى. وجهت إلى هشام طلعت - وهو العضو البارز في الحزب الحاكم ويقال إنه على علاقة وطيدة بابن الرئيس - تهمة التحريض على قتل مطربة لبنانية في دبي كانت تجمعه بها علاقة سابقة. وعلى الرغم من إصرار مصطفى على براءته من التهمة المنسوبة إليه، فإن هذه الفضيحة قد عضدت المفاهيم السلبية عن ابن الرئيس والزمرة المحيطة به ودائرة معارفه المشينة. ولا عجب في القرار الذي اتخذه النظام بمنع تغطية وقائع المحاكمة في وسائل الإعلام المحلية.
غير أن السخط الشعبي على محاولة تدعيم جمال مبارك بوصفه وريثا لأبيه هو واحد من بين البلايا العديدة التي تؤجج غضب الشارع، والتي ربما تخرج به عن نطاق السيطرة. ويتزايد الغضب من ممارسات جهاز مباحث أمن الدولة، ولجوء النظام إلى التعذيب، والفساد المستشري، والإحساس بأن النخب المصرية التي ترتدي عباءة الغرب تنهب البلاد تحت غطاء تحرير اقتصادها وفتح آفاق جديدة أمام المستثمرين الأجانب. •••
عندما نشر الكتاب، منعت السلطات المصرية تداوله داخل البلاد، وهي المرة الأولى التي يمنع فيها كتاب سياسي من التداول في مصر طوال العقود الثلاثة التي قضاها نظام مبارك في الحكم. انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم في عشرات المدونات، ووكالات الأنباء، وإذاعة بي بي سي العالمية، وقناة بي بي سي العربية، ومجلة ذا بوك سيلر البريطانية، وصحف المعارضة المصرية الرائجة، ووسائل الإعلام العربية.
وتراجعت وزارة الإعلام المصري فجأة عن موقفها بعد أن ذاع صيت الكتاب على هذا النحو في الصحف العالمية، وأصدرت بيانا مطولا زعمت فيه أن الكتاب لم يمنع، وإنما نال الموافقة الرسمية على توزيعه. وتصدر هذا النفي الصفحات الأولى من جميع الصحف اليومية المصرية. وفي اليوم التالي ، نشرت صحيفتا «المصري اليوم» اليومية المستقلة و«الدستور» الأسبوعية المعارضة عرضا للكتاب في صفحة كاملة، وتصدرت مقتطفات من هذا العرض الصفحتين الأوليين في كلتا الصحيفتين. وفي الوقت نفسه، نشرت وكالة أسوشيتد بريس خبرا أكدت فيه أن الكتاب كان قد منع من النشر بالفعل في البداية، لكن أجاز جهاز الرقابة على الكتب والمطبوعات نشره في أعقاب التغطية الإعلامية التي تلت قرار الحظر.
إنني أعتبر هذا التحول انتصارا صغيرا لحرية التعبير في مصر وفي العالم العربي كله. فحظر كتاب «في قلب مصر» خلده في الذاكرة الحية باعتباره أكثر الكتب التي طرحت للنقاش عن الأوضاع في مصر. وأظن أن تحذيره من اندلاع ثورة سياسية واجتماعية وشيكة يظل وثيق الصلة أكثر من ذي قبل، وحري بالإدارة الجديدة للبيت الأبيض أن تنظر إليه بعين الاعتبار. ففي الوقت الذي ركزت فيه حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية التي أسفرت عن فوز باراك أوباما في نوفمبر/تشرين الثاني 2008 على الجدل المحتدم بشأن السياسة الأمريكية تجاه العراق وإيران وباكستان وأفغانستان، ظلت مصر - وهي دعامة السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط منذ زمن طويل - بعيدة عن النقاش تماما، وهو ما أثار مشاعر القلق، إذ يبدو واضحا الآن أكثر من أي وقت مضى أن أكثر الدول العربية من حيث تعداد السكان سوف تفرض تحديا مخيفا على الرئيس القادم. مرت ثمانية وعشرون عاما منذ أن تولى الرئيس حسني مبارك السلطة في مصر عقب اغتيال أنور السادات عام 1981. وكما أوضحت في هذا الكتاب، فإن تركته تتمثل في القمع السياسي والركود الاقتصادي وغليان الشعب المصري؛ وهو غضب جماعي لا تنفس عنه فصائل المعارضة المنظمة، لكنه يبدو دائما على شفا الانفجار. لا بد لإدارة أوباما أن تحقق أقصى استفادة من الضعف الحالي لنظام مبارك، وخاصة الفرص الجديدة التي ستلوح في المستقبل القريب تزامنا مع تسليم السلطة، وذلك من أجل الحث على تحريك العملية السياسية في مصر وإفساح المجال أمام الدولة لمواجهة الأسباب الكامنة وراء عدم الاستقرار. لكن على واشنطن أن تتحرك سريعا قبل أن يفوت الأوان ، ولا يصبح أمامها سوى الوقوف في موضع المتفرج بينما القاهرة تشتعل.
ملحوظة عن مراجع الكتاب
هذا الكتاب موجه في المقام الأول إلى القارئ العادي، ومن ثم لم ألجأ إلى استخدام الحواشي السفلية أو أي حشو أكاديمي آخر، بل اعتمدت على ذكر المرجع في مكانه داخل النص. لكن هذا لا يمنع من الإعراب عن تقديري لبعض المصادر الثانوية التي استفدت منها عظيم الفائدة. فعند وصف تاريخ مصر الحديث في الفترة ما بين غزو نابليون عام 1798 وثورة الضباط الأحرار عام 1952، اعتمدت اعتمادا أساسيا على كتاب «العصر الذهبي لمصر» (1989) لمؤلفه تريفور موستين، وكتاب «مصر الحديثة: نشأة أمة» (2004) لآرثر جولدشميدت، و«مصر: لمحة تاريخية» (2000) لجيمس جانكويسكي. والمقولة التي وردت على لسان عوض المر في الفصل الأول مأخوذة من كتاب مي قاسم «السياسة المصرية: آليات الحكم الاستبدادي» (2004). وفي الفصل الرابع، استقيت بعض المواد من مقال كاش سيل بعنوان «توطين البدو: الرضا بالكثير أم بالقليل» الذي نشر في صحيفة إيجيبت توداي في عددها الصادر في يونيو/حزيران 2006، وأيضا تقارير تسفي بارئيل من صحيفة هاآرتس. أيضا وجدت كتاب «الأصولية الإسلامية في السياسة المصرية» (في طبعته المنقحة عام 2002) لباري روبين أفضل مرجع لتاريخ الجماعات الإسلامية وتطورها في مصر. وقد استفدت كثيرا من تقرير منظمة العفو الدولية الذي صدر عام 2007 بعنوان: «مصر: انتهاكات منهجية باسم الأمن»، والتقرير الذي أصدرته حركة المعارضة كفاية عام 2006 بعنوان «الفساد في مصر: سحابة سوداء لا تزول»، والتقرير السنوي للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان عام 2007.
ناپیژندل شوی مخ