وجئنا نحن، ونقلنا ما كتبه فلاسفة الغرب في التاريخ الحديث والمعاصر، لكن ماذا عسانا أن نصنع به إذا كانت الفلسفة عندهم دائرة - في الأعم الأغلب - على محور رئيسي هو «العلم» وكيف نضبط حقيقة بنيته وخطوات منهجه؟ إننا لا نشارك في العطاء العلمي لا بكبيرة ولا بصغيرة، فكل العلم الذي بين أيدينا هو علم الغرب، وليست جهود علمائنا في ميادينهما المختلفة إلا تفريعات على فروع من البحوث العلمية، لقد زرع أسلافنا المسلمون فلسفة الغرب في تربتهم الثقافية فانزرعت؛ لأن في تلك التربة ما يصلح لازدهار البذرة المنقولة، وأما نحن اليوم فقد أردنا أن نزرع الفلسفة الحديثة في أرضنا فلم تنزرع؛ لأن أرضنا تخلو من المشاركة في الإبداع العلمي، فإذا كانت فلسفة العصر قائمة على جذور المعرفة العلمية، فلن تجد لها مناخا تنمو فيه على أرضنا.
ولعل هذا الموقف القلق هو الذي أوحى إلى المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق، في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، أن يقول ما قاله، وخلاصته أن نزن الفكر الفلسفي بموازين الدين، ومعنى ذلك أن تتحول الفلسفة بين أيدينا إلى فقه الشريعة الإسلامية، على أن نجعل الاجتهاد بالرأي أساسا لمنهاجنا. يقول في ذلك: «هذا الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب الدين، ونشأت منه المذاهب الفقهية، وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم «أصول الفقه» ... إلخ.» (راجع صفحة 123 من الكتاب المذكور) وتعقيب كاتب هذه السطور على وقفة الشيخ مصطفى عبد الرازق هذه هو أنها وقفة من يئس من أن تكون لنا مشاركة حقيقية في فلسفة العصر التي هي - كما قلنا - فلسفة قائمة أساسا على العلم في صورته الحديثة والمعاصرة من حيث البنية والمنهج؛ لأنه إذا كانت فلسفتنا نحن لا تكون إلا شيئا كعلم أصول الفقه، فلماذا لا تسمى الأشياء بأسمائها الصحيحة؟ لماذا نريد تسميتها باسم «فلسفة» (وهي كلمة أخذناها عن الغرب) ولا نسميها «علم أصول الدين»؟
ونعود إلى ما بدأنا به من حديث عن عبارة «النقط فوق الحروف» التي رأينا فيها رمزا يدل على نقلنا عن الغرب كلامه نقلا أعمى، والصحيح هو أن ننقل ما ننقله (ولا بد لنا أن ننقل العصر إلينا من كلام أصحابه) لنجعله يتكيف لظروفنا، فإن كانت لنا أيضا نقط تحت الحروف، وجب أن نغير في الصيغة المنقولة لتتسق مع ما هو قائم عندنا، وما دام المثل الذي طرحناه أخيرا هو الدراسة الفلسفية، فإننا حين ننقل عن القوم فلسفتهم ينبغي أن نحاول نقل الشجرة كلها: العلم، ثم الفلسفة، أما إذا رفضنا النقل من الأساس فلنرفض العنوان أيضا، حتى لا نقول عن بحث نقيمه في أصول الفقه إنه فلسفة.
كثيرة جدا هي مواقفنا التي يشوبها كثير أو قليل من الخلط الفكري، فأحيانا نأخذ عن الغرب أسماء لننزع عنها مضمونها، ثم نطلقها على شيء عندنا مما قد يشبه ذلك المضمون لكنه ليس إياه، وذلك خلط في التفكير، أو أن ننقل مضمونا فكريا ثم نعطيه من عندنا اسما يوهمنا بأن المضمون المنقول هو من غرسنا؛ وذلك نفاق فكري، وثالثة الأثافي أن ننقل شيئا ما نقلا أعمى، لا نراعي فيه ما يوجب تعديله عندنا، كما فعلنا في «وضع النقط فوق الحروف».
إننا إذ ننادي بمبدأ «الأصالة والمعاصرة» ليكون محورا لنشاطنا الفكري بكل اتجاهاته وفروعه؛ ابتغاء أن ننتهي بأنفسنا إلى مجتمع يحقق ذاته التاريخية وليساير عصره في وقت واحد، فلسنا نعني بذلك أن نظل نردد هذا الكلام بغير تطبيق، بل إن تطبيقه ليتسع مداه حتى يشمل الكبيرة والصغيرة من تفصيلات حياتنا، بادئين من الصورة المجازية الواحدة، إذا وجدناها عند غيرنا، فأعجبتنا فنقلناها إلى العربية وعندئذ لا بد أن نحور فيها حتى تطابق ظروفنا، إذا نحن وجدناها مختلفة عن تلك الظروف، كالمثل الذي سقناه وجعلناه محور هذا الحديث، وهو قولهم: «نضع النقط فوق الحروف»، أقول إن مبدأ الأصالة والمعاصرة يبدأ تطبيقه من تفصيلة جزئية كهذه ثم يصعد بنا ونصعد به إلى كبريات القضايا الفكرية، فإذا نقلنا مذهبا سياسيا معينا؛ وجب تحويره حتى يطابق ظروفنا، وكذلك إذا نقلنا أشكالا أدبية كالرواية والقصة والمسرحية والشعر المرسل، وأيضا إذا أردنا أن نسهم بقسط في الفكر الفلسفي لعصرنا فلنأخذ إطاره العام - وإطاره العام في عصرنا هو الدوران حول «العلوم» منطقيا وبنية وأسلوبا وهدفا - ثم نملأ ذلك الإطار العام بحشو من حياتنا نحن، على نحو ما صنع الفلاسفة المسلمون الأولون، حين استغلوا الأفلاطونية والأرسطية في النظر إلى العقيدة الإسلامية، إنهم لم يرفضوا فلسفة اليونان، ليقولوا شيئا كالذي قاله المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق، حين قال ما خلاصته: إن الفلسفة عند المسلمين ينبغي أن تكون فقها للشريعة الإسلامية. لا، إنهم لم يقولوا ذلك، بل جعلوا الفلسفة الإسلامية «فلسفة» لا «فقها» لأصول الشريعة؛ وكل ما في الأمر أنهم عرفوا كيف يخلصون إلى صيغة جديدة تجمع لهم ولسائر الدنيا معهم فلسفة اليونان وأصول الدين الإسلامي.
إن فكر العصر، وأدبه وفنه، ونظمه، وعلومه، وصناعاته وكل شيء عنده، ليس محرما علينا، بل هو حلال بلال على أن نملأ أطره بمضمون من حياتنا، بل وأن نحور تلك الأطر ذاتها إذا احتاجت منا إلى تحوير، وكل ذلك يتم على غرار النموذج البسيط الذي عرضناه، وهو أنه إذا كان أبناء الغرب قد قالوا عن عملية توضيح الكلام إنها كوضع النقط فوق الحروف، إذ ليس في أبجديتهم من الحروف المنقوطة إلا حروف نقطتها تجيء في أعلاها، فواجبنا - ما دامت هذه الصورة المجازية قد أعجبتنا - أن ننقلها ثم نحورها تحويرا يتناسب مع حالة حروفنا، التي تجعل الحروف المنقوطة بالنقطة فوق الحروف أحيانا، وتحت الحروف أحيانا أخرى، إنه مثل بسيط وتافه، لكنه يصلح لتوضيح المبدأ العام والمهم معا.
العقل الحر ما هو؟
أستطيع أن أتصور الزاهد كيف يقنع من الزاد بما يطعمه من جوع، ومن الثياب بما يستره ويرد عنه البرد، ومن المال بما يوفر له ذلك القليل من الزاد والثياب، لكنني لا أستطيع أن أتصور زاهدا يقنع بقليل من حرية عقله إذا كان الكثير متاحا، وحتى حرية الأجساد تأتي في درجات الضرورة، في منزلة دون حرية العقول، بمعنى أنه إذا تهددت الإنسان قوة غاشمة، مطالبة إياه إما بالكف عن التفكير الحر، وإما بالزج بجسده في غيابة سجن، فإنه لا يتردد في أن يصون لنفسه حرية عقله، حتى لو كان حرمان البدن من حرية الحركة ثمنا لذلك، فالإنسان إنسان بفكره قبل أن يكون إنسانا بجسده، فإذا كنت أفكر كنت موجودا - كما قال ديكارت - لكن قيام الجسد وحده، بكل أجزائه وجوارحه، لا يضمن لصاحبه وجودا إنسانيا، إذا لم يكن مصحوبا بعقل يفكر. إن فاقد عقله لا يحسب ذا وجود إنساني، لا في شريعة السماء ولا في شرائع الناس، ففي حرمانه من عقله المفكر حرمان من آدميته؛ إذ لا يبقى فيه إلا مقومات الحيوان والنبات، وليس ثمة من فارق كبير بين عقل مفقود، وعقل موجود ولكنه معطل عن أداء وظيفته بما يفرضه على نفسه من معوقات التفكير، وذلك أن تضيف إلى كلمة «التفكير» صفة كونه حرا أو ألا تضيفها، لأن الحرية متضمنة في معنى عملية التفكير، كما تتضمن الزيتونة زيتها، والوردة أريجها.
قال رفيقي الذي يتسقط لي الأخطاء وعثرات القلم: ولكن هل يكون العقل عقلا إلا وهو مقيد بقيوده؟ فأجبته قائلا: تمهل يا صديقي فذلك هو نفسه ما أردت أن أضع له الضوابط والحدود، وانظر إلى عبقرية اللغة العربية حين أطلقت عليه اسم «العقل» التي هي كلمة معناها في اللغة «قيد»، وأظن أن جميعنا قد سمع بكلمة «اعتقال» أو «معتقل» وما يعنيان من تقييد، فالعقل عقل بما يفرضه على نفسه من قيود تضبط له حركة سيره، لكن تلك القيود إنما تنبثق من طبيعته، ولا تفرض عليه من سواه؛ لا، بل إن تلك القيود التي يفرضها العقل على نفسه، بحكم فطرته إذ هو يؤدي عملية التفكير، إنما هي نفسها شرط لقيام الحرية العقلية التي تقول إن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بها، وماذا يكون اختلال العقل عند المجنون إلا أن يكون تخلخلا في «الصواميل» المقيدة لخطوات التفكير عنده، تقييدا يجعل كل خطوة لاحقة مرتبطة بالخطوة السابقة ارتباط النتيجة بالسبب، لكن هذا القول يريد منا شرحا وتفصيلا، حتى نتبين آخر الأمر في جلاء، بماذا نطالب حين نطالب للإنسان بحرية عقله حرية يذهب بها إلى آخر حدودها.
وقبل أن أخط حرفا واحدا فيما أنوي القيام به، أريد أن يكون واضحا للقارئ، وضوح الشمس في سماء لا سحابة فيها، بأن «العقل» ليس وسيلة الإدراك الوحيدة عند الإنسان، فهناك وسائل غير العقل، لكل وسيلة منها ميدانها الخاص، وحديثي هنا مقصور فقط على «العقل» وهو يعمل في ميدانه، غير متعرض لغيره من الوسائل، ولا لغير ميدان التفكير العقلي من سائر الميادين، ولقد وضعت هذا التحذير هنا، لعلي أنجو من اعتراضات تثار عن غير فهم، نحن في غنى عن إثارتها، بل إني لم أهم بالكتابة عن العقل وتفكيره، إلا لأصل إلى النتيجة التي أريدها، وهي الدعوة إلى حرية التفكير، حرية يكون لها معناها الصحيح، وذلك لأني على يقين من أننا، عامدين متعمدين، نعمل على حرمان أنفسنا من جانب كبير جدا من تلك الحرية العقلية التي هي لب الآدمية وصميمها، ونحن في ذلك الحرمان المتعمد، لا نصدر عن نية سيئة، بل نصدر عن فهم منقوص والله أعلم.
ناپیژندل شوی مخ