أية حياة كالحياة التي كان يموج هذا الوادي ذلك اليوم بها؟! لقد ارتسمت صورته في هذه الساعة أمام خيالي فعج الوادي بمن فيه من الناس وما فيه من الإبل والشاء، وخلتني أراهم جميعا، ترهق الذلة وجوه الأسرى، وتبدو العزة على وجوه المسلمين في حالي الغضب والرضا، وخلت التاريخ مطلا من عليائه على هذا المشهد وكأنما قرأ في لوح القدر ما ستتجه الأمة العربية إليه بعد أن مهدت هذه الغزوة لتوحيد صفوفها، وما ستقوم به من فتح العالم ونشر الإسلام في ربوعه، ثم ما سيكون بعد ذلك من ثورات وتقلبات ومن انحلال وبعث، حتى ينصر الله كلمته، ويعود الدين كله لله.
وناداني صاحبي فعدنا إلى السيارة فارتدت بنا صوب مكة، فلما بلغنا حراء كان الليل قد أرخى سدوله، وكان القمر يحبو من ناحية المشرق، وكان النسيم صفوا عليلا، وقضينا ساعة نتحدث ثم تواعدنا أن نزور وادي نعمان عصر اليوم التالي.
ووادي نعمان يقع بعد عرفة، والذاهب إليه يسلك طريق منى إلى المزدلفة فعرفات، وكذلك فعلنا، فلما جاوزت السيارة بنا قصر الملك قال صاحبي: هلم بنا نقف عند مسجد البيعة فإني لأظن العقبة الكبرى كانت عنده ولم تكن عند جمرة العقبة، ووقفت بنا السيارة إلى يسار الطريق قبالة المسجد، فسرنا بضع عشرات من الأمتار حتى بلغناه، وألفيناه مقفلا، فدرنا حوله، فدلتنا جدرانه على أنه مسقوف كله أو أكثره على خلاف مساجد مكة، ورأينا شيئا يشبه الكتابة بظاهر محرابه، فحاولنا عبثا أن نقرأه، ويقع المسجد الآن في فسيح من الأرض، تحيط الجبال بكل نواحيه إلا ناحية الطريق، مما يدل على أن هذه الجبال نسفت نسفا، أو دكت دكا، لينكشف المسجد لمن يريد زيارته؛ لذلك يتعذر على الإنسان أن يجد الشعب الذي تسلل إليه الأنصار جوف الليل من أيام التشريق حين بايعوا النبي بحضرة عمه العباس بيعة العقبة الكبرى، وأغلب الظن أن يكون هذا الشعب قد نسف فيما نسف من الجبال، وأن مسجد البيعة قام مكانه.
يرجح هذا الرأي ذهاب المسجد في القدم إلى القرن الثاني للهجرة؛ فقد ذكره الأزرقي في كتابه «تاريخ مكة» وإن لم يصفه، وفي كتاب قطب الدين النهرواني «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» ذكر لمسجد البيعة وبنائه، قال:
مسجد البيعة مسجد على يسار الذاهب إلى منى، بينه وبين العقبة التي هي حد منى غلوة أو أكثر، وهو مسجد متهدم فيه حجران مكتوب فيهما ما يدل على ذلك؛ في أحدهما: «أمر عبد الله أمير المؤمنين - أكرمه الله تعالى - ببناء هذا المسجد، مسجد البيعة التي كانت أول بيعة بايع بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعقدها العباس بن عبد المطلب، وأنه بني في سنة 144ه.» والمشار إليه أبو جعفر المنصور العباسي، وعمره أيضا المستنصر العباسي، كما في حجر آخر: «بناه في سنة 639.» وتلك الأحجار ملقاة بهذا المحل الخراب يخشى عليها الضياع فيندثر هذا المسجد، وكان المرحوم إبراهيم دفتردار مصر سابقا أمين عرفات - رحمه الله - شرع في تجديد هذا المسجد وأسسه وبنى بعض طاقاته وجدرانه، وتوفي إلى رحمة الله قبل أن يتمه، وما وفق أحد بعده إلى الآن لإتمامه.
وهذا الذي ذكره النهرواني وذكره غيره ممن أرخوا مكة هو حجة القائلين بأن هذا المسجد يقوم حيث كانت البيعة، وأن جمرة العقبة لا تؤرخ العقبة الكبرى، وإن أمكن أن تؤرخ العقبة الصغرى أو العقبة الأولى، يؤيد ذلك أن البيعة الكبرى وقعت في أواسط أيام التشريق بمنى حيث يجتمع الناس من مختلف بلاد شبه الجزيرة وهم لما يؤمنوا برسالة محمد، ويرون مثل هذه البيعة حلفا لحربهم، ولقد حدث بالفعل بعد أن تمت هذه البيعة أن سمع المسلمون صائحا يصيح بقريش: «إن محمدا والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.» وفي رواية أخرى: «إن الأوس والخزرج بايعوا محمدا على أن ينصروه.» وقد فزعت قريش لما بلغها من ذلك، وفزعها هو الذي جعلها تحسب لهجرة محمد من مكة ألف حساب، فمن الحق إذن أن تكون البيعة قد تمت بعيدا عن مجتمع الناس بمنى، وذلك حيث يقوم اليوم مسجد البيعة.
تقوم مساكن منى بعد هذا المسجد، ولقد تابعنا السير إليها ونحن نعلم أنها لم يبق بها من ضجة الحج كثير ولا قليل، لكنني لم أكن أحسبها موحشة بمقدار ما رأيتها حين دخلناها، لقد خلتها بلدا أثريا كمدينة «حابو» وما إليها من مدن الآثار بالأقصر، خيم عليها سكون عميق كسكون البادية حيث لا حياة ولا أنيس، لا تسير فيها الإبل كما تسير في طريق الجعرانة، فليس فيها للإبل مرعى، ولا تؤنسها القوافل إيناسها طريق المدينة، فلم يبق للقوافل بعد أيام التشريق بها من حاجة، وكل ما بقي من أثر أيام النحر بعض مناضد معدودة في مكان كان مقهى في الأيام المذكورة، وهو اليوم صفصف لا ترى فيه إنسا.
وقفت السيارة أمام هذا المكان، ونادى صاحبي نداء من يطلب المعونة، وجاء غلام لا أدري من أين خرج؟ فطلب إليه أن يجيئنا بمحمد علي، وانطلق الغلام، فذكر لي صاحبي أن محمدا عليا هذا من أهل منى، وأن نسبه يرجع إلى قريش أجداد النبي، وأن قبيلته تقيم ها هنا، ولعلها البقية الباقية حول مكة من هؤلاء العرب الأقدمين، وأضاف: وتقيم قبائل بالطائف وبغير الطائف من أرض الحجاز تتسمى باسم قريش، ولست أدري مبلغ الصحة في انتسابها إلى أجداد الرسول.
ناپیژندل شوی مخ