أدنى أعلام الحرم إلى مكة بعد التنعيم علما الحديبية وعلما الجعرانة، وقد مررت بعلمي الحديبية ليلا حين مجيئنا من جدة إلى مكة أول ما وصلنا الحجاز محرمين، ثم مررنا بهما بعد ذلك نهارا في طريقنا من مكة إلى جدة لنتخذ طريقنا منها إلى المدينة، والطريق بين مكة وجدة عامر بالمارة أكثر مما سواه من الطرق؛ لكثرة المتنقلين بين البلدين من أهل الحجاز، بله الحجاج؛ لذلك يمر الإنسان في الطريق من مكة إلى الحديبية بمشرب قهوة يقف عنده بعضهم إذ يخرجون من مكة يستنشقون هواء الصحراء، فأما ما بعد مشرب القهوة فالرمال والهضاب حتى نصل الحديبية، هنالك يجد الإنسان فندقا من الفنادق التي أقامتها حكومة الحجاز لينزل بها من شاء، واسم الفندق أدنى هنا إلى المجاز منه إلى الحقيقة، فتلك منازل قائمة في الصحراء بها غرف ضيقة، في بعضها فرش لمن أراد النوم، ولعل فندق الحديبية من خيرها، ومن بعد الفندق وعلى مسافة غير قليلة منه يجد الإنسان مسجد الرضوان، وهو مربع مكشوف نصفه إلى السماء، مسقوف نصفه الآخر بعقود الحجر تقوم على ثلاثة عمد، وقد كتبت بأعلى محرابه هذه العبارة: «هذا مسجد بيعة الرضوان، مأثرة من مآثر حبيب المنان، عمره الفقير إلى رحمة الرحمن، المغفور له السلطان محمود خان سنة 1254ه.»
وتجري الرواية بأن هذا المسجد أقيم في الموضع الذي كانت تقوم فيه الشجرة التي بايع المسلمون رسول الله تحتها بيعة الرضوان، وقد أمر عمر بن الخطاب بقطع هذه الشجرة من خوف أن يفتتن المسلمون بها لورود ذكرها في القرآن فيتخذوا منها منسكا من المناسك يحجون إليه، وكان عمر - رضي الله عنه - حريصا غاية الحرص على أن يظل التوحيد في صفائه لا تشوبه شائبة، ولا يرضى أن يسبغ المسلمون على هذه الأماكن من التقديس ما يخاف معه الشرك، ولا يرضى أن يكون التقديس لمكان غير بيت الله، وألا يحج المسلمون إلا إياه.
ولقد وقفت عند مسجد الرضوان هذا، وجعلت أصور لنفسي موقف المسلمين الذين صحبوا محمدا قاصدين العمرة، ثم بايعوه في هذا المكان على جهاد المشركين، وأذكر ما كان من سياسة محمد مع ذلك وحرصه على السلم حتى كان عهد الحديبية فتحا مبينا، فقد جاء المسلمون معه يريدون الطواف بالبيت معتمرين، فلما سمعت قريش بمسيرهم قررت أن تحول دون دخولهم مكة، حتى لا يقال: دخلها محمد عليهم عنوة، وعقدت لخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل على جيش يبلغ عدد فرسانه وحدهم مائتين، وتراءى الجمعان، وأبدى المسلمون استعدادهم للقتال، ولكن النبي لم يخرج غازيا بل خرج حاجا، وهو قد خرج مسالما لا يريد حربا؛ لذلك انحرف بمن معه عن طريق مكة وساروا حتى بلغوا الحديبية وهنالك نزلوا، وأوفدت إليه قريش من يسأله: ما الذي جاء به؟ ولم يعجب قريشا أن اقتنع رسلها بأنه جاء حاجا لا يريد حربا، بل أوفدت غيرهم ثم غيرهم.
ورأى رسل قريش تحفز المسلمين للحرب لولا حرص النبي على السلم، لكنهم لم يستطيعوا إقناع أهل مكة بما رأوا، هنالك أرسل النبي عثمان بن عفان سفيرا إلى أهل مكة، وغاب عثمان عندهم حتى ظن المسلمون وظن النبي أنه قتل، وعظم عليه هذا الغدر من قريش، فدعا أصحابه إليه وقد وقف تحت شجرة في الوادي فبايعوه جميعا على ألا يفروا حتى الموت، وهنا كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، ولما أتم القوم البيعة ضرب - عليه السلام - بإحدى يديه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم بيعة الرضوان، وإن المسلمين لينتظرون يوم الظفر أو يوم الاستشهاد إذ علموا أن عثمان لم يقتل، ثم جاءهم عثمان يروي نبأ قريش وأنهم أيقنوا أن النبي وأصحابه إنما جاءوا حاجين معظمين للبيت، لكنهم وقد تأهبوا للقتال لا يستطيعون أن يدعوه يدخل مكة أو تتحدث العرب بأنه دخلها عنوة بعد أن هزمهم، وبذلك تسقط في نظر العرب مكانتهم؛ لذلك هم يصرون على موقفهم منه، موقف الخصومة إلى أن يجدوا من خوف العار مخرجا، وتفاوض رسل قريش مع الرسول وانتهوا إلى عهد الحديبية أن تتهادن قريش والمسلمون، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة هذا العام على أن يعودوا إليها في العام الذي يليه فيدخلوها ويقيموا بها ثلاثة أيام.
جعلت وأنا بموقفي من مسجد الرضوان أصور لنفسي هذا الموقف من مواقف رسول الله، فيبلغ مني الإعجاب بالحكمة السياسية التي أملت عليه خطته، والتي جعلته يرغب عن القتال ويحرص على السلم، ويبلغ من ذلك حتى يغضب عمر بن الخطاب - على قوة إسلامه وعظيم إيمانه، ثم تشهد الحوادث بأن خطته كانت الحكمة حقا، وأن ما أغضب عمر وكثيرين من أصحاب الرسول من طول أناته، وعظيم صبره، وجميل محاسنته لخصمه، إنما كان الفتح المبين الذي مهد للإسلام أن يزداد انتشارا وللمسلمين أن يفتحوا مكة بعد عامين اثنين من صلحهم، وكذلك كان عهد الحديبية حجرا لا ينقض في سياسة الإسلام والمسلمين.
وتقع الجعرانة إلى الشمال الشرقي من مكة، على حين تقوم الحديبية إلى الغرب المنحرف شمالا منها، ويقع طريق التنعيم وسرف ووادي فاطمة وما وراء ذلك فيما بين الحديبية والجعرانة، والذاهب إلى الجعرانة ينحرف عن طريق السيارة إلى الطائف مغربا إلى الشمال بعد أن يبلغ من طريق الطائف منتصف ما بين حراء والشرائع، ولا يشير كثيرون إلى الجعرانة على أنها من أعلام الحرم؛ لأنها لا تقع على طريق متصل بما وراء الحجاز من بلاد يقام لأهلها ميقات الحل؛ كي يحرموا عنده حين مجيئهم إلى مكة معتمرين، لكن ما بقي للجعرانة على التاريخ من ذكر، وما كان من إحرام الرسول
صلى الله عليه وسلم
منها عام حنين إحرام العمرة، قد جعلها أفضل مكان في حرم مكة للإحرام بالعمرة؛ من ثم كان الحديث عن حرم مكة وأعلامه لا يتم إلا إذا تناول الجعرانة، وكان المؤرخ الذي يسير في أثر الرسول وينسى الجعرانة قد نسي موقعا في تاريخ الإسلام مذكورا، وهذا ما استحثني للذهاب إليها والوقوف عندها والشرب من مياه بئرها، والتصعيد في الهضاب المحيطة بها.
روى الأزرقي في «تاريخ مكة» أن النبي لما غزا حنينا وحاصر الطائف ثم رجع منها انثنى في طريقه نحو مكة إلى الجعرانة، «فقسم بها مغانم حنين في ذي القعدة ثم دخل مكة ليلا معتمرا فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة من ليلته، ومضى إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فأنشأ الخروج منها راجعا إلى المدينة، فهبط من الجعرانة في بطن سرف»، حتى لقي طريق المدينة من سرف، وذكر الفاسي في «شفاء الغرام» أن النبي أحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالجعرانة، ولم يجز الوادي إلا محرما، وذلك لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، وأن أهل مكة يحرمون كل عام من الجعرانة ليلة سبع عشرة من ذي القعدة، وربما أحرموا منها العشي في السابع عشر إذا خافوا من الإقامة بها إلى الليل.
وبالجعرانة مسجد يقابل البئر، وهو مسجد من طراز مساجد مكة، وقد ذكره الأزرقي في تاريخه، فدل بذلك على قدمه، وأضاف أن عمرة النبي قد كانت من المكان الذي يقوم المسجد اليوم به، وأنه خرج في عمرته هذه إلى مكة ليلا وأصبح بالجعرانة كبائت؛ لذلك خفيت هذه العمرة على كثير من الناس.
ناپیژندل شوی مخ