وقد جعل كتاب الله حرم مكة من البيت العتيق إلى هذه الأعلام مثابة للناس وأمنا، وحرم التعرض لصيده ولنباته وحيوانه، فلما أزمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فتح مكة جعل كل همه أن يدخلها من غير أن يسفك دما، ولقد تم له ذلك، إلا ما سفك دفعا لاعتداء جماعة من قريش على جيش خالد بن الوليد، فلما كانت الغداة من يوم الفتح قتلت خزاعة رجلا من قريش وهو مشرك، فقام الرسول في الناس خطيبا، وقال: «يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد فيها شجرا، لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها، ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب ...»
كان حرم مكة إذن أمنا من قبل إلى عهود بعيدة، يذكر بعضهم أنها ترجع إلى أيام إبراهيم وإسماعيل كما قدمنا، وكان شأن الحل في أشهر الحج كشأن الحرم مدى السنة جميعا، وما روي عن سرية عبد الله بن جحش يصور هذا الأمر خير تصوير، فقد بعثه رسول الله في رجب من السنة الثانية للهجرة على رأس جماعة من المهاجرين، ودفع إليه كتابا وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدا، وفتح عبد الله الكتاب بعد يومين فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم.» وما لبث عبد الله ومن معه حين نزلوا نخلة أن مرت بهم عير لقريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي، وكان يومئذ آخر رجب، ورجب من الأشهر الحرم، وتشاور المسلمون وقال بعضهم لبعض: «والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام.» وترددوا ثم شجعوا أنفسهم وأغاروا على المشركين وقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا رجلين وعادوا إلى المدينة بالعير والأسيرين، فلما رآهم الرسول وعرف خبرهم قال لهم: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام.» ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، وانتهزت قريش الفرصة فنادت في كل مكان: إن محمدا وأصحابه استحلوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدماء وأخذوا فيه الأموال وأسروا الرجال، ولقد ظل المسلمون في حيرة من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه حتى نزل قوله - تعالى:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .
الفرق بين الحرم والحل والآفاق إذن فيما خلا أمر الإحرام والمناسك، أن الحرم يحرم فيه القتل والغزو والأسر طيلة العام، وأن الحل لا يحرم ذلك فيه إلا في الأشهر الحرم، في حين لا يحرم في الآفاق دم لم يحرم الله سفكه إلا بالحق، وحرم مكة فسيح كما رأيت؛ لذلك لا تشغل عمارة مكة منه إلا أقله، فأما ما وراء عمارة مكة إلى أعلام الحرم فذلك ظاهر مكة، ويعتبر أكثره من ضواحيها، وهو بعد بادية تتداول فيها الجبال والأودية تداولها في كثير من جهات البادية، وقل أن تترامى فيه الصحراء تراميها في سائر أرض تهامة مما يلي البحر.
وهذا التداول بين الجبال والأودية وما يكون أحيانا من ترامي الصحراء يجعل ظاهر مكة متغيرة ألوانه بتغير اتجاهه إلى الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، أضف إلى ذلك أن به من الأماكن الأثرية على التاريخ ما جعلني أحرص على أن أجوس خلاله وعلى أن أقف على أسراره، وما وقفت عليه من مظاهره وأنبائه المتصلة بسيرة الرسول وبتاريخ الأيام الأولى التي سبقت الإسلام والتي عاصرته هو الذي أدى بي إلى كتابة هذا الفصل، كما أدى بي إلى كتابته ما أدركته من وحي البادية إلى العرب الأولين فيما خلفوا لنا من صور الشعر وأخيلته.
أقرب أعلام الحرم إلى مكة علما التنعيم، ويخرج الإنسان إلى التنعيم من مكة في طريق القوافل إلى المدينة، وقد أطلق على هذا المكان اسم التنعيم لاعتبارات تاريخية يسوقها واضعو تاريخ مكة ويختلفون عليها، وأشهرها أنه يقع بواد يقال له: نعمان محصور بين جبلين اسم أيمنهما ناعم واسم الأيسر نعيم.
ولعل أشهر حادث في تاريخ جهاد المسلمين على عهد النبي وقع عند التنعيم مقتل خبيب بن عدي، وخبيب أحد المسلمين الستة الذين بعثهم النبي من المدينة في السنة الثالثة من الهجرة إجابة لطلب رهط من هذيل ليعلموهم شرائع الإسلام ويقرئوهم القرآن ، وسار خبيب مع الرهط حتى بلغوا ماء لهذيل بالحجاز بناحية تدعى الرجيع، هنالك خرج عليهم من هذيل رجال بأيديهم السيوف وأرادوا أن يذهبوا بهم إلى مكة أسرى، فأبى المسلمون وقاتلوا هذيلا حتى قتل أربعة منهم وأسر الرجلان الباقيان، وأحدهما خبيب بن عدي، وذهبت هذيل بهما فباعتهما من قريش، إذ كانت لا تزال في نشوتها بيوم أحد.
أما صاحب خبيب فقتل بمكة، وأما خبيب فخرج به القوم إلى التنعيم ليصلبوه، وصلى ركعتين ثم رفعوه إلى خشبة وأوثقوه إليها، فنظر إليهم بعين فيها الغضب وصاح: «اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا.» وأخذت القوم الرهبة من صيحته، فاستلقوا إلى جنوبهم حذر أن تصيبهم لعنته ثم أنهضهم البغي فقتلوه وهو موثق مكانه.
ناپیژندل شوی مخ